الفصل الثالث

لم يحتج أمين إلى أي استهواء لاجتذاب بثينة إلى المنحل الرئيسي، وقد تعاهدا على أن يخصصا يوم الجمعة لزيارته، وحان موعد الزيارة الثانية فوجد بثينة على استعداد تام قبل حضوره لمبارحة المنزل، فغادراه وهي مرحة متهللة.

قال أمين في الطريق، وهو حريص على ألا يسرع بسيارته إرضاء لها: لقد أمتعتني يا بثينة بهداياك متعة عظيمة، وقد طالعتُ الكتابين خلال الأسبوع فاستفدت فوائد جمة، وزاد تقديري للنحلة؛ بل للإنسانية ذاتها التي مجدت النحلة من قديم العصور، واعترفت بذهنيتها التي ارتفعت فوق مستوى الغريزة، وحيرت علماء الحشرات.

– إني لسعيدة بإسعادك يا أمين … وقد نظرت قبلك في هذين الكتابين فأعجبت بهما، ولم يدهشني — وأنت من أنت بروحك الشاعرة — أنك أحببت النحل كل هذا الحب؛ فحياة النحل وصحبته من صميم الشعر، وقد ترنم بحياته شعرًا منظومًا ومنثورًا كل من خبر النحل من فرجيل إلى ماترلنك، ولم يفُت شكسبير إلى جانب التغني بالنحل أن ينوه بنظام مملكتها الرائع.

– سأغار منكِ يا بثينة وأنا أراكِ تنافسيني في محبة النحل.

– حسبتك تقول إننا شخص واحد، وأنت على أي حال المذنب؛ لأنك تؤثر النحل علي.

– أنت المنتصرة دائمًا.

وبلغا المنحل، وكأنما كل زهرة وعشب فيه وكل نبت حوله قد استعد لاستقبالها في بسمة مرحبة، وتهيآ للعمل مبكرين، فقال أمين: حظنا عظيم مع الجو يا بثينة، ففي مثل هذا الجو المعتدل تكون النحل وديعة لطيفة، فلا نسيء إلى النحل ولا نسيء إلى أنفسنا بالكشف عنها، وإن من الخطأ أن يحاول النحال — إلا لضرورة قصوى مما سأبينها لك فيما بعد — فتح الخلايا إبان الجو البارد أو الجو الحار، وسأبدأ أولًا بفتح خلية نموذجية خالية من النحل لدراسة تركيبها وأجزائها، ثم بعد ذلك نفتح إحدى الخلايا المأهولة.

وتَوَجَّهَا إلى الخلية النموذجية فشرح لها أمين كيف تطورت تربية النحل من حالتها الآبدة في جذوع الأشجار المجوفة وفي تجاويف الصخور وما إليها مما أشار إليه (القرآن الكريم) في سورة النحل، إلى استعمال الإنسان الأنابيب من خزفية وفخارية وطينية خلايا لها، ثم إلى استعمال الصناديق المقفلة ما عدا أبوابها، ثم إلى استعمال المراجين المصنوعة من القش المضفور، ثم إلى استعمال الخلية الخشبية ذات الغرف والإطارات المتحركة، ثم إلى اهتمامه بصناعة خلية قياسية دولية للاستعمال الموحد في شتى الممالك.

قال أمين: هذه هي (خلية لانجستروث) الدولية يا بثينة، وقد دعا إليها العلامة لانجستروث “Langstroth” وما أحسبني مخالفًا أي قانون لحماية الألقاب في زمن سيطرت عليه الفوضى إذا لقبته «بالعلامة».
كان لانجستروث قسيسًا فهوِي النحالة — شأن كثيرين من رجال الدين، وابتدع في منتصف القرن الماضي (سنة ١٨٥١م) الخلية الموسومة باسمه، وقد أصبحت الخلية القياسية المنتشرة في المناحل العصرية بمصر كما انتشرت في جميع الممالك الراقية التي تعرف استغلال النحالة الاستغلال الاقتصادي الواجب، وأكبر ميزة لهذه الخلية كما ترين نظام الإطارات المتحركة — وإن سبق إليه في صورة ما العالم السويسري هيوبر “Huber” في أوائل القرن الماضي — وتنسيقها مجاورًا بعضها بعضًا على مسافة معينة هي ما نسميه «مسافة النحلية» وهي ربع بوصة ما بين كل إطار وآخر مما يسمح للنحل بالتحول بينها، وقد كشف الأب لانجستروث هذه الحقيقة واستغلها في تنظيم أثاث الخلية العصرية، فهو أولًا: زودنا بالإطارات المتحركة التي يمكن بناء أقراص النحل داخلها، وهكذا يمكن رفعها من الخلية وفحصها وإعادتها أو نقلها من خلية إلى أخرى أو إلى جهة نائية، إلى غير ذلك من التصرفات العملية. وهو ثانيًا: عرف مقياس الفراغ الواجب بين الأقراص لتتحرك فيه النحل دون أن تلجأ إلى لصق هذه الأقراص بعضها ببعض أو إلى سد هذا الفراغ، فاتخذه قاعدة للمسافات ما بين الإطارات والأقراص في هذه الخلية العصرية، وخلية لانجستروث بسيطة التركيب، يسيرة الأجزاء: فهي مصنوعة في جملتها من الخشب الجيد الذي يحتمل تقلبات الجو، ومدهونة بدهان زيتي ذي لون واقٍ من حرارة الشمس كالأزرق السماوي أو الأبيض، ومغطى سقفها بلوحٍ من الزنك المتين أو من الألومنيوم؛ ليحول دون تسرب المطر إلى داخلها، وهي مؤلفة من حامل لرفعها عن مستوى الأرض تجنبًا للضفادع والسحالي والنمل وما إليها من أعداء النحل، وقد توضع أرجل هذا الحامل (في المناطق التي يكثر فيها النمل وتشتد هجماته) في أطباق ذات ماء لوقايتها من النمل المتسلق، ولكن لا حاجة بنا إلى مثل هذه الحيطة في المناطق الزراعية، ويوضع فوق الحامل ما يسمى باللوح الأرضي، ثم غرفة تسمى غرفة التربية وأخرى تسمى العاسلة، ثم لوح حابس يسمى بالغطاء الداخلي، وأخيرًا الغطاء الخارجي المكسو باللوح المعدني للوقاية من المطر، ولا تفوتنا قطعة الخشب المثقوبة التي توضع فوق اللوح الأرضي أمام غرفة التربية؛ ليتألف منها باب الخلية، ولتُكمل لنا حائطها الأمامي … هذه هي خلية لانجستروث على بساطتها كما تُستعمل في مصر، وهي خفيفة الوزن نسبيًّا، سهلة التركيب، عملية إلى أقصى حد.

فقالت بثينة: ولماذا تُصنع من الخشب؟

– لأنه واقٍ من التقلبات الجوية. بيد أنه من الجائز أن تُصنع الخلية مستقبلًا من المواد العجينية المقاربة للخشب بل المتفوقة عليه في وقاية النحل من الحرارة والبرودة والرطوبة معًا، ويمكن بيع أجزائها ألواحًا أو قطعًا؛ ليسهل شحنها ثم تركيبها في المنحل، والمقدر أن مثل هذه الخلية قد تكون أصلح للنحال وللنحل وأطول عمرًا من الخلية الخشبية.

– ولكن العجيب ألا ترتفع إلى أكثر من طابقين أو غرفتين كما تسميهما؟

– ومن قال لك ذلك يا عزيزتي؟ … إن خلية لانجستروث قابلة للارتفاع أدوارًا إبان موسم العسل حسب قوة الطائفة التي تشغلها، وحسب قوة الفيض الذي تجلبه النحل من رحيق الأزهار، وفي المناطق الغنية بالرحيق قد يضطر النحال إلى إضافة الأدوار على خليته حتى لترتفع وترتفع حتى لتستحق أن تُنعت حينئذ بالقياس إلى غيرها من الخلايا «بناطحة السماء» “Skysraper” فلا يبلغ أعلاها إلا بسلم.

– وما هي قوة الطائفة التي يمكن أن تنتهي إلى هذه الغاية؟

– سأشرح لك هذا يا عزيزتي في أوانه، فصبرًا قليلًا، ولنبدأ الآن بفتح إحدى الخلايا العامرة.

– لا يا أمين! هذا الدرس يكفيني ولو إلى حين.

– حسبتك متشوقة يا عزيزتي ومتسائلة.

– ولكنك تريد أن تطرق موضوعًا جديدًا وستطيل حتمًا، فلنسترح قليلًا.

– لن أطيل في شرحي يا صغيرتي المدللة التي تتحدى جلد الرجال، فلماذا إذن كان استعدادنا للعمل، ولبسنا القناع وإشعالنا المدخن؟

– الحق يا أمين أني أغار من معشوقاتك، وهذا ما يثبط همتي وربما أدى إلى هجراني لك.

فاستثارت بثينة ضحكه وذهبا يدًا بيد إلى مقعديهما للاستراحة بعد أن خلعا قناعيهما، وهناك تابعت بثينة حديثها: لك أن تضحك يا عزيزي ضحكة الواثق من نفسه … فأنت تعلم أنك وُلدت معلمًا كما وُلدت شاعرًا …

– والشعراء يتبعهم الغاوون.

– لا أرمي إلى هذا، ولكنك يا شاعري العزيز الذي تترنم بالحب لا تتورع عن المحاضرة الجامعية فتصدمني بها صدمًا ولا تنثر خلالها شيئًا من أزهاره وألحانه.

– حسبتك تتململين يا معبودتي.

– لو كان عندي مسجل لحوارنا لألزمتك الحجة.

– وأخشى أيضًا أن أعتاد ذلك في أثناء الدرس فيزل لساني أمام تلميذاتي وتلاميذي في مواقف أخرى.

– لا يا أمين، هذه مغالطة شاعر غاوٍ … إن الحب غذاء روحي، ولكنه الحب الذي عده جورج ساند “George Sand” تشوق الجانب الأثيري من الروح إلى «المجهول».
– وأي نصيب لي في هذا «المجهول»؟ … لا شيء يا ناقدتي العزيزة، … إن الحب الذي أومن به هو الذي قال فيه ليبنتز “Leibnitz” الفيلسوف الألماني الكبير «إنه الشعور بالسرور لسعادة الغير، وإلا فجعل سعادة الغير سعادتك الذاتية» … وأنا لا آلو جهدًا يا بثينة في محاولة إسعادك، فما هو ذنبي بعد ذلك؟

– أراك يا أمين تحمل دعابتي على محل الجد … ومهما يكن من شيء فسأسامحك هذه المرة، وإياك أن تدع حديثك العلمي مجردًا عن روح الفن وإلا أنكرت صدوره عنك …

– سمعًا وطاعة يا مولاتي.

وجلسا يتأملان الخضرة الناضرة المنبثة فيها الأزاهير، وينصتان إلى أناشيد النحل أحدهما بأذن صديقة عارفة والأخرى بأذن متوددة مستطلعة.

فقال أمين: إذا كان مايو قد هيأ فيه العمال عيدًا لهم، فإن عاملات النحل قد وجدت فيه عيدها.

– ونحن أيضًا يا أمين قد أحببنا فيه عيدًا جديدًا هو عيد حبنا المستنير في رعاية أمنا الطبيعة.

– تسعدني ملاحظاتك هذه يا بثينة، ولعل هذه الأم الكريمة توحي إليك بعواطف جديدة أكرم وأسخى إلي.

– أحسب أني بلغت الغاية يا ناكر الحب.

– إن من يتذوق الحب كما تذوقته لا يقنع بما يشرب من خمره ولا يثمل منها ولا يتوقف عن طلب المزيد، ومعلماتي النحل في دأبهن شعارهن مثل شعاري وطموحهن عين طموحي ومثاليتهن رائد مثاليتي … لولا تأخر الموسم يا بثينة لامتلأت الخلايا الآن بالرحيق، ولكن استمرار المطر والبرد طويلًا أخر الربيع فتأخر زهر البرسيم، وأزهاره تمثل المصدر الرئيسي للرحيق في منطقة الإسكندرية، ولولا تأخره لكانت جميع الطوائف مهيأة خلاياها لاستقبال الرحيق الجديد، وعلي الآن أن أقوم بالاستعداد لذلك في حين أني كنت في أعوام سابقة أقوم به في شهر أبريل، وأما في هذا العام فقد اضطررت إلى تغذية النحل بالشراب السكري في الشهرين الماضيين تعويضًا عن إمحال المصادر الطبيعية حتى تستعين النحل بهذا الشراب، وبما تجمعه من دقيق الأزهار على تغذية يرقاتها النامية وتغذية أنفسها معًا …

– ولكن ألا يوجد الآن في الحقول ما يكفي من الأزهار لإفراز الرحيق وتغذية النحل وإسعاد النحال مع أني أرى اليوم أزهار البرسيم وافرة.

– ملاحظاتك سديدة يا بثينة، وأعتقد أننا بعد أسبوع أو عشرة أيام سنشهد بداية فيض العسل، وعلى الأخص بعد أن توقف ري البرسيم بأمر الحكومة في سبيل المقاومة لدودة القطن؛ إذ إن نتيجة ذلك أن أزهار البرسيم التي حرمت أشجارها الري ستتهافت على الفرز الرحيقي لتجتذب الحشرات وفي طليعتها النحل كي تقوم بوظيفة تلقيحها فتنجم عن ذلك البذور التي هي وسيلة التكاثر لهذه النباتات، وهذا من آيات الطبيعة.

– ولكن ألا توجد أزهار أخرى مغنية للنحل في هذا الأوان عن أزهار البرسيم؟

– نعم، توجد أزهار أخرى متعددة كانت أيضًا متحلية في الشهر الماضي، ولكنها غير كافية ولا تغني، فلا تمنحنا فيضًا رحيقيًّا، وها هي اللبا والعليق والخلة من الأزهار الريفية البرية الماثلة أمامنا ولكن في قلة نسبية، وبين ما تزهر من الفواكه في هذا الشهر الفراولة وعنب الديب والجوافة والتين الشوكي والعجور والبطيخ والشمام، وبين ما تزهر من الخضر الكوسة والقرع والخيار والرجلة والباميا والخس والبصل والمقدونس والاسبرجس إلى جانب أشجار الزينة ونباتاتها المزهرة كعباد الشمس والزينيا والبرتولاكا أو أرجلة الزهور، وإلى جانب أشجار الظل كاللبخ والكافور والبونسيانا والاستركوليا والحكوراندا … وما هذه إلا أمثلة من كثير، وما دام الجو مشجعًا للنحل على السرح ودافئًا منبهًا للإفراز الرحيقي فلن تجوع النحل في هذا الشهر؛ بل ستستطيع التكاثر بتنبيه ملكتها إلى البيض الوافر وبحسن تغذية يرقاتها وصغارها، وقد تجمع وتخزن الرحيق في اعتدال ما لم تكن الخلايا وسط منطقة غنية غنًى ظاهرًا بمثل تلك الأزهار. أما الفيض الحقيقي فيعتمد على سخاء البرسيم وعلى تجاوبه مع النحل وإلى جانب الاستعداد بالأقراص الخالية لهذا الفيض لا بد من منع انثيال النحل نتيجة تكاثره البالغ عادة، ولا بد لي إذن يا عزيزتي من الكشف عن جميع الطوائف مرة كل أسبوع، ومن حيث إني لا أملك من الوقت والهمة — رغم مساعدتك المرتقبة يا تلميذتي الغيور — ما يكفي للكشف عن هذه الطوائف في يوم واحد، فلا بد لي من التردد على هذا المنحل ثلاث مرات أسبوعيًّا إلى أن يزول خطر الانثيال … وقد عهدت إلى مساعدي بالكشف عن المناحل الأخرى وإن كان لا غنى لنا عن التردد عليها أيضًا للإشراف على ما يجري فيها. فهل لنا الآن أن نستأنف العمل؟

– ما رأيك إذا اعتصبت عن العمل؟ لقد أشبعتني يا أستاذي غذاء حلوًا بهذا الحديث الشهي، ومثل هذا الغذاء الفكري كالغذاء البدني يورث شيئًا من البلادة نتيجة التخمة.

– هذه تحية لطيفة منك يا عزيزتي، وإيذان بصمتي.

– وهذه تحية أخرى مني مؤذنة لك بالكلام …

وطبعت بثينة قبلة لطيفة على فمه أشرقت لها أساريره وشجعته فعاد يطالبها باستئناف العمل.

– إذن هلمي بنا يا معبودتي لتحية النحل ومحادثتها وتلقي أسرارها …

– أعدك بهذا، ولكن من الغد يا أمين، ولنحضر يوميًّا إذا شئت حتى تنجز جميع أعمالنا كما نود، أما اليوم فعلينا أن نشغل بمناجاتنا العاطفية، وسأطالع في المساء بعض كتاباتك عن أوليات النحالة حتى أتابع من الغد أحاديثك في يقظة ترضيك.

– رضيت أمرك ومعاهدتك، فهل هي مبرمة؟ أم هي من قبيل المعاهدات التي قد تثير الحروب فيما بيننا؟

– هي معاهدة سلام، ولكن أتكره أن تثار الحرب بيننا؟

– الحرب بيننا لم تنتهِ بعد، وإنما نحن في هدنة.

وفي ظلال هذه الهدنة غنما يومًا لا تجود به الحياة إلا في رعاية الحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤