الفصل السابع

قال أمين بعد استمتاعهما بغداء هنيء: أظنكِ لاحظتِ بنفسِك عند دراسة تشريح النحلة أنها، خلافًا للشفافير والزنابير، ليس فكاهًا من القوة التي تمكنها من إتلاف الفاكهة، مع أن الطبيعة على أي حال لم تخلقها لذلك، بل لها وظيفة صريحة، وهي تلقيح صديقاتها الأزهار الإناث بطلع الأزهار الذكور بعد جمعها لهذا الطلع في أثناء تنقلها من زهرة إلى زهرة أخرى، ولذلك حرصت الطبيعة على أن تجعل من عادة النحل الاقتصار على زيارة نوع واحد من الأزهار في وقت واحد، وقد عملت تجارب شتى فأثبتت أن النحل لا يمكن أن تمس أية فاكهة سليمة، وإن جاز أن تمص عصير الفاكهة المعطوبة، وإذن فهي المؤتمنة على الفاكهة التي هي ثمرة تلقيحها شأنها شأن البذور، ولولا إدخال النحل في زيلاندا الجديدة التي كانت خالية من النحل لما تيسر لها إنتاج بذور البرسيم، ولولا النحل لما نشأت محاصيل الفاكهة الهائلة في كاليفورنيا، وأما عن أمراض النحل الوبائية فلا وجود لها في مصر فيما أعلم، وبغض النظر عن هذه الحقيقة فأمراض النحل لا تصيب الإنسان … فهذه دعاية عجيبة أساسها الجهل المطبق، وربما كان مصدرها أولئك الجهلة من النحالين القدامى الذي يربون النحل المصري في الكوارات الطينية ولا يريدون أن ينافسهم أحد فتدفعهم الأنانية إلى اختراع أسباب التنفير من النحالة، ولو كان ولاة الأمور عنوا باستئصال أسباب تأخرهم، وسنُّوا التشريع الواجب لإصلاح حالهم، كما فعلت ممالك أخرى، لما بقيت هذه النحالة القذرة العتيقة قذى في العيون، ومصدرًا من مصادر الدعايات الفاسدة.

– ومع ذلك فهم يكسبون!

– إن مكسبهم نسبيًّا صغير، وكواراتهم، أي خلاياهم الطينية، عبارة عن مصانع لتربية الحشرة الشمعية، وهي مجردة عن النظافة، قليلة الإنتاج، لا يمكن الكشف التام عنها، بل هي كالصندوق المغلق غالبًا، ولذلك لا يمكن ضبط الانثيال منها؛ إذ محال ضبط تهويتها أو تربية الذكور والملكات فيها، ولا يمكن تغذية طوائفها تغذية فردية في يُسر، وهي بالإجمال تمثل التعب والقذارة، ولذلك حرصت جميع الممالك التي تعنى بالنحالة المنتجة باستبدال أمثال هذه الكوارات والصناديق المقفلة بخلايا ذات إطارات متحركة، كما عنيت بترقية النحل الشائع في مناحلها، وأظن أنه آن لنا يا بثينة أن نلقي اليوم نظرة فاحصة على ضروب النحل التي لدينا، وأن نتحدث عن نظام العمل في الخلية قبل أن نشغل في المرة الآتية بفرز العسل.

وتوجها يتأملان تباعًا أبواب الخلايا، وعلى كل منها كان يبدي أمين ملاحظته، وكان يجتهد في أن يعود بثينة التشخيص المبدئي لحالة كل طائفة من النظر إلى باب الخلية، ووقفا عند خلية نحلها سنجابي اللون كبير الحجم نسبيًّا وقال: هذا مثال للنحل الكرنيولي المربى في مصر في محطة معزولة، وهي خلية عامرة جدًّا كما ترين، فهي تشغل ثلاثة أدوار، وربما بلغ عدد سكانها خمسين ألفًا ومائة ألف نحلة، وهذا الضرب من النحل مشهور جدًّا بوداعته فهو النحل الذي يصلح لنشز النحالة في ضواحي المدن، وإذن ففي وسعنا أن ندرس على هذه الطائفة القوية الوديعة — ولو أن هذه دراسة مكررة بعد مشاهداتك السابقة — كل ما تهمنا معرفته عن نظام العمل في الخلية، وتقسيمه بين طبقات النحل المختلفة، وكيفية نشوء النحلة متطورة من البيضة، وسأدعك أنتِ تتولين الفتح وإن شئت فلك أن تتولي الحديث، وسأكتفي بأن أكون خادمك المساعد الأمين، وهو شرف يكفيني …

وفتحت بثينة الخلية بمساعدة أمين، وهي فخورة بالترويح عن معلوماتها في هذه المحاضرة الأولى، قالت وقد بلغت أحد الأقراص الوسط من أقراص التربية: ها هي ذي الملكة يا أمين، معلَّمة وجميلة! وها هو ذا البيض الجديد في عيون القرص! لقد وضَعَتْ اليوم؛ لأنه قائم غير مائل … ولكني سأعيد هذا القرص، وسأنظر في غيره … ها هو ذا بيض عمره يومان لأنه مائل قليلًا إلى جانبه، وها هو ذا بيض عمره ثلاثة أيام لأنه راقد على قواعد البيوت، وها هي ذي يرقات ذات أعمار شتى: انظر هنا بدقة تجد يرقة لعلها فقست الساعة من البيضة لأنها راقدة في هيئة خط مستقيم وطولها لا يتجاوز خمس قطر البيت الراقدة فيه، وانظر ثمة تجد يرقة عمرها يومان، راقدة في هيئة نصف دائرة وقد لمس رأسها ذنبها وهي تشغل تقريبًا نصف قطر البيت الراقدة فيه، وعلى مقربة منها في بيت آخر توجد يرقة أخرى عمرها ثلاثة أيام تشغل خمسة أسباع قطره، أما اليرقة التي أوجه لها المؤشر فهي تشغل قطر بيتها جميعه وعمرها أربعة أيام.

– برافو يا بثينة، هكذا العلم والتدريس وإلا فلا.

– هل أخطأت في ملاحظاتي؟

– كلا يا عزيزتي، لقد أجدتِ وأحسنتِ، ولكن لي ملاحظة عارضة في هذا المقام: إن نظرتك الفاحصة التي هدتك إلى اكتشاف أعمار اليرقات وأناملك الدقيقة كفيلة ببراعتك في تربية الملكات صناعيًّا حينما أمرِّنك على هذه التربية التي تقوم على محاكاة الطبيعة واستغلال العوامل التي تحت تأثيرها تربي النحل ملكات جديدة، وأهمها النزوع إلى الانثيال وفقدان الملكة، وفي هذه الحالة متى كانت النحل متريثة تختار أصغر اليرقات الفاقسة من بيضة ملقحة لتغذيتها بالغذاء الغددي الفاخر الذي نسميه «الفالوذج الملكي»، والمتخصص في تربية الملكات يدقق فلا يختار يرقة يتجاوز عمرها ٣٦ ساعة؛ بل يؤثر أصغر اليرقات التي عمرها يوم فحسب، ولن أثقل عليك الآن بشرح هذه العملية البديعة التي لها أوانها فيما بعد، وقد نؤجلها إلى الربيع الآتي، ويكفي من آياتها أن أذكر أن المربي يقلد الطبيعة أولًا بحرمان طائفة قوية من ملكتها، وبعد أن تحس اليتم وتشرع في تربية ملكات يقطع هذه البيوت حينما يكون قد أعد لها إطارًا مثبتة عليه أسس شمعية صناعية لبيوت ملكات على قواعد صغيرة خشبية بحجمها مغروزة في الإطار الذي يمكن تقسيمه في وسطه بقطعة مستعرضة من الخشب، وتثبيت عدد من هذه القواعد تحتها زيادة على المثبت تحت القضيب الأعلى للإطار، وهكذا يمكن أن يحمل مثل هذا الإطار عددًا وافرًا من هذه القواعد التي يطعمها الفالوذج الملكي المخفف بالماء، ثم يقوم عليه في كل بيت يرقة واحدة صغيرة ثم يعطيه النحل، وبعد ٢٤ ساعة يراجع ما صنع، وقد يعيد هذه العملية أو بعضها إذا وجد النحل لم تستجب إليه واكتفت بمص الفالوذج الملكي وأهملت اليرقات، ومتى عنيت النحل بتكملة هذه البيوت وبتربية اليرقات حتى تنمو وتشرنق وتختم، فإن النحال ينقل حينئذ هذه البيوت إلى إطار آخر ويحميها داخل أقفاص سلكية واقية كلًّا منها في قفص خاص، ويعهد بها إلى طائفة أخرى يتيمة لتتولى حضانتها، حتى إذا ما فقست تولت النحل تغذيتها من عيون السلك دون أن تسيء إليها ودون أن تسيء هذه الملكات العذارى بعضها إلى بعض، ولو أن من المناسب أيضًا أن يحتوي القفص وتحت غطاء فتحته قليلًا من السكر الناعم المعقود بالعسل لتلجأ إليه الملكة العذراء عند الحاجة، وهكذا يستطيع النحال المربي أن يستعين بهذه الملكات في تكوين نويات جديدة من طوائفه، أو يستطيع بعد إدخالها على نويات صغيرة من النحل مخصصة لها لكي تستضيفها حتى تتلقح، أن يبيع الملكات الملقحة بعد اختبارها — أي بعد التأكد من فحص حضنتها أنها ملقحة — بثمن يجزل عليه الربح.

– إن وصفك يا أمين لهذه العملية مشوق، ويبدو لي أنها سهلة، فلماذا نؤجلها إلى الربيع؟

– لقد تعمدت تبسيطها لك، وهي في الواقع عملية غير شاقة للمتدرب، ولكن فيها نقطًا عملية دقيقة تحتاج إلى التمرين، وليس أهونها كيفية نقل اليرقة الدقيقة بالإبرة المخصصة لذلك من القرص إلى البيت الصناعي، ولا أدري إذا كان يحق لي أن أسميه بيتًا صناعيًّا؛ إذ كل ما هو صناعي فيه أساسه المشبه الكستبان الصغير أو قمع الخياطة، وفيما عداه فالنحل هي التي تبني البيت من أوله إلى آخره، وبهذه المناسبة أؤكد لكِ أن بيوت الملكات الطبيعية متى فقست منها الملكات هدمتها النحل ولا تعيد استعمالها خلافًا لبيوت العاملات والذكور المعتادة في القرص فإن النحل بعد تنظيفها وتلميعها بالمادة الصمغية (العلك) التي تجمعها من براعيم الأشجار وتحملها على أرجلها الخلفية كما تحمل الطلع تهيئها للملكة للبيض فيها مرة أخرى أو تستعملها لخزن العسل أو لخزن الطلع.

– ما رأيك في أني لم أكمل بعد محاضرتي، وطبعًا لن تجيز امتحاني دون تكملتها؟

– عفوًا يا معلمتي … صحيح، عليك أن تشرحي كيفية تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة، ثم وظيفة هذه الحشرة في أدوار حياتها، وما يتبع ذلك من تقسيم العمل بين أفراد الطائفة.

– سؤال ضخم، أستحق بلا ريب درجة الدكتوراه العلمية على إجابتي عنه، وعلى أي حال فلن أدعك تضحك مني … اسمع يا تلميذي النجيب: إن تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة هو من غرائب أعمال الطبيعة نظرًا للتفاوت في التشكيل بين طور وطور، فإن التأمل في استحالة دودة إلى حشرة مجنحة لها أعضاء ووظائف مختلفة كل الاختلاف عن أعضاء الأولى ووظائفها لمِن الأمور المحيرة للعقل، وقد شرحت كيف أن البيضة تعمر ثلاثة أيام قبل أن تفقس مع اختلاف وضعها خلال تلك الأيام الثلاثة، ثم كيف تتجلى اليرقة في نموها وفي وضعها بعد ذلك، ولكني لم أستكمل هذا الشرح، كما أنه ينبغي أن أبين أنه يوجد تباين بين نمو الحضنة في الملكة والعاملة والذكر، ولعل خير وسيلة للمقارنة أن أعرض الجدول الآتي للتأمل فيه وللمقارنة:
طور النمو الملكة العاملة الذكر
مجموع المدة من يوم وضع البيضة إلى خروج النحلة من بيتها ١٥ يومًا ٢١ يومًا ٢٤ يومًا
البيضة ٣ أيام ٣ أيام ٣ أيام
تغذية وغرفة اليرقة ٥ أيام ٥ أيام ٦ أيام
نسيج اليرقة للشرنقة ١ يوم ٢ يوم ٣ أيام
فترة الاستقرار ٢ يوم ٣ أيام ٤ أيام
تحول اليرقة إلى عذراء ١ يوم ١ يوم ١ يوم
تحول العذراء إلى حشرة كاملة ٣ أيام ٧ أيام ٧ أيام

وقد تختلف هذه المدة بالنسبة للملكة على الأخص، فقد تهبط في الجو الحار إلى ١٤ يومًا وقد ترتفع في الجو البارد إلى ١٦ يومًا، وتكون الزيادة أو النقص أولًا في مدة تغذية اليرقة ونموها فقد تطول إلى خمسة أيام وربما هبطت إلى أربعة أيام ونصف، ولعل لسخاء التغذية إلى جانب حرارة الجو أثرًا في ذلك، كذلك فترة تحول العذراء إلى حشرة كاملة — وهي فترة استقرار — قد تطول إلى ثلاثة أيام ونصف يوم وقد تهبط إلى يومين ونصف يوم تبعًا لدرجة حرارة الجو، أي أن هذا الاقتضاب النسبي في مدة الحضانة قلما يسري على الممالك الباردة الجو، وقد يكون لبعض ضروب النحل بل لبعض سلالاته أثر بيولوجي في مدة التطور هذه وفي اختلافها، أما عن تعمير النحل بعد ولادتها — إذا جاز لي هذا التعبير — فالملكة قد تعيش نظريًّا خمس سنوات وربما أكثر، ولكن الواقع أن النحل قبل النحال قلما يسمح لها بأن تعيش أكثر من ثلاث سنوات؛ إذ سرعان ما يدركها الكلال أو الشيخوخة نتيجة جهدها العنيف في وضع البيض فلا يبقى النحل عليها، وكثير من المناحل العصرية تبدل ملكاتها في كل عام من محطات التربية الممتازة، والمعتاد أن يحتفظ النحال بالملكة عامين فقط إلا إذا كانت فذة متفوقة، وذلك لأن الملكة هي أساس الحياة في الطائفة فيجب على النحال الحصيف ألا يبخل بثمنها، وبتكاليف استبدالها؛ لأنه سيغنم أضعاف ما ينفق في النهاية إذا ما رزقته بطائفة جيدة منتجة، وأما عن العاملات فيختلف حياة كل منها باختلاف زمن ولادتها، فإن عمر النحلة العاملة — كما يقال عن الإنسان بل عن كل كائن حي — هو عمر غددها التي تترتب عليها صحة أعضائها. فالنحلة والعاملة التي تولد في الخريف ولا جهد عليها تؤديه تستطيع أن تعيش ستة أشهر، في حين أن النحلة التي تولَد في الربيع وعليها واجبات جمة متتابعة قد لا تعمر أكثر من ستة أسابيع، وأما الذكور فتستطيع أن تعمر شهورًا لو أن النحل العاملات تتركها وشأنها، ولكن يندر أن يحدث هذا إلا في المناطق الدافئة الجو المتوالية المراعي الوفيرة الرحيق، وأما الغالب فقضاء العاملات عليها حينما يقبل الخريف وينقطع الرحيق ويبرد الجو ولا تبقى لها وظيفة مرعية — حينئذ تطردها العاملات شر طرد، وتعض أجنحتها وأرجلها تشويهًا لها وتعجيزًا، وعلى أي حال لا تسمح لها بالبقاء في الخلية فتموت في خارجها جوعًا، ومن عادة النحل ألا تقبل في خليتها غير أفرادها في العائلات وإن سمحت لبعض جيرانها بالدخول في خليتها إذا جاء ذلك عفوًا وكانت محملة بالعكبر على أرجلها الخلفية ومنتفخة مزهوة بما تحمله من الرحيق في كيس العسل، أما الذكور فلديها جواز مرور من أي طائفة إلى أخرى ومن أي منحل إلى آخر، إلا إذا استقر رأي النحل على التضحية بها، وحينئذ لا يكون حظها غير الفناء، وقد تتكدس أمام أبواب الخلايا حتى لينعت ما يصيبها بمذبحة الذكور.

– ما هذا الإبداع يا بثينة؟! إني أراك تتفنين في وصف ما لم تشاهدي اعتمادًا على مطالعتك، فانتظري حتى تري هذه المذبحة المزعومة … ولا شك أن تتحدثين بروح من التشفي فهل من جنسي أو شخصي؟ … إن أخوف ما أخافه أن تعامليني يا عزيزتي مثلما تعامل صاحباتك العاملات زملائي اليماخير.

فقهقهت بثينة ضاحكة، وقالت: يظهر يا أمين أنك شاعر بذنوبك الكثيرة، وليس أقلها أنك تقاطعني، ولا تريد أن أكمل محاضرتي، وهذه هي غيرة الرجال المأثورة … إن العاملات فعلًا مصدر السلطات في الطائفة، وهن يكوِّن جمهورية متوجة، وهن المثل الأعلى لحياة العمل ولنظام العمل ولتوزيع الاختصاص وللدأب المتواصل ولمحاربة البطالة، وهاك بيانًا بواجبات النحلة العاملة من أول يوم بعد الفقس إلى حين وفاتها:
العمر الواجبات
الأيام الثلاثة بعد الفقس تشتغل بتنظيف عيون الأقراص وبالحضانة.
اليوم الرابع تكمل قدرتها على اللسع فتتهيأ للدفاع عن وطنها.
اليوم السادس إلى العاشر وأحيانًا إلى الخامس عشر. تغذي اليرقات الصغيرة.
اليوم السابع أول طيران لها لترويض أجنحتها إذا سمح الجو بذلك، وربما حدث هذا الطيران في اليوم الثالث في أثناء الصيف، وقد يتأخر إلى اليوم العاشر.
اليوم الثامن إلى السادس عشر تبدأ من تناول الرحيق والعكبر والعلك (المادة الصمغية) التي تجلبها النحل السارحة لإيداعها في الخلية.
اليوم التاسع إلى الثامن عشر تمتنع عن تناول الرحيق والعكبر والعلك (المادة الصمغية) التي تجلبها النحل السارحة لإيداعها في الخلية.
اليوم الثاني عشر إلى الثامن عشر تشتغل ببناء الشمع.
اليوم الرابع عشر إلى العشرين تبدأ بحراسة باب الخلية، وبالسرح لجمع الرحيق والعكبر والماء … إلخ، وتستمر على ذلك حتى وفاتها.
اليوم الخامس والعشرون تبدأ بجمع العلك.

وبالرغم من بعض الاختلاف في تاريخ البداية بهذه الوظائف، وفي مدة القيام بها، فالمهم أن بين النحل العاملات توزيعًا محكمًا للعمل وتقسيمًا دقيقًا له وتقديسًا مستمرًّا لروح العمل، وها هي ذي نظرة إلى باب أي خلية عارمة — فضلًا عن مراقبة «خلية الرصد» — ترينا كيف تقسم النحل العمل فيما بينها: فها هي ذي النحل المروحة عند الباب، وها هي ذي غيرها تبدو على أرضية الخلية وعند الباب أيضًا مشغولة بتنظيفها لفكوكها، وها هي ذي بعض النحل تنقل إلى الخارج ما تساقط من قشر الشمع وأي أدران على قاعة الخلية وأي نحل ماتت داخلها، وها هي ذي نحل أخرى مزدحمة عند حافة الغدير حول العشب تجمع الماء لتستعين به في تهيئة غذائها ولتساعد بوضعه في الخلية على عملية التبخر المائي التي يترتب عليها ضبط درجة الحرارة في الخلية، هذا إلى أفواج النحل المشغولة بجمع الرحيق والطلع والعلك وإلى جماعاتها المشغولة ببناء الأقراص أو بتغطية عيونها سواء بالشمع الخالص كما يحدث لعيون العسل أو بالشمع الممزوج بالطلع كما يحدث لأغطية بيوت الحضنة ولبيوت الملكات؛ لأن هذا المزيج يهيئ للبيت ثقوبًا دقيقة تساعد على تنفس الحشرة داخلها، وتبدو هذه الأغطية قاتمة بالنسبة لأغطية بيوت العسل، وأغطية بيوت الذكور تتميز بأنها محدبة كالقبة، وهكذا ترى أن اسم «العاملات» هو اسم على مسميات حقًّا. فلقد يبلغ ببعض العاملات التوق إلى أداء الواجب، بل إلى ما هو أكثر من الواجب، أنه عند افتقاد ملكة الطائفة لحادثة من الحوادث أن تهرع في لهفتها — وقد تنبهت مبايضها الضئيلة الأثرية — إلى البيض رغبة في التعويض عن فقدان الملكة، ولكن هذا البيض الذي تجود به إناث غير كاملات أو خناث لا ينتج سوى ذكور هزيلة، وقد يعاني النحال من هذا الوفاء الغاشم من هذه «العاملات البياضة» التي قد تدل من البداية على لهفتها بتهافتها على وضع عدد من البيض — بدل بيضة واحدة كما هو شأن الملكة — في كل عين تحت تأثير عامل الأمومة الجديدة والغيرة على حياة الطائفة، ولذلك تنعت أحيانًا هذه العاملات البياضة «بالأمهات الكاذبة»، ويضطر النحال بأساليب شتى إلى التخلص منها أو إلى إضاعة نفوذها تمهيدًا لإعطاء الطائفة ملكة جديدة أو بيت ملكة على وشك الخروج منه نقلًا من طائفة أخرى، وربما كان من أيسر الوسائل المهيئة لذلك إعطاء هذه الطائفة التي تظهر فيها العاملات البياضة أقراصًا من الحضنة المختومة من طوائف أخرى قوية؛ لأن هذه الحضنة متى خرجت من بيوتنا المختومة خلقت جوًّا جديدًا وعقلية جديدة في الطائفة، وأرجعتها إلى حالتها الطبيعية في نفسيتها فتقبل الملكة الجديدة أو بيت الملكة التي على وشك الخروج.

– برافو يا بثينة، … هل من عجب بعد ذلك إذا تعلقنا بحب نحلتنا العزيزة، وهي التي بلغت نفس منزلتها الحاضرة قبل أن تعرف الكرة الأرضية الإنسان الأول؟ وهل من عجب إذا قدسها أجدادنا المصريون فنقشوها على معابدهم وعلى توابيت ملوكهم؟

– وهل من عجب يا أمين إذا كان فرجيل Virgil — وكان شاعرًا نحالًا مثلك — قد تغنى بالنحل في كتبه اللاتينية وأشاد بها، وقد أعطت الإنسان غذاء شهيًّا ومصدرًا كريمًا لإضاءته، فإلى القرن السادس عشر الميلادي لم يكن الإنسان يعرف سوى عسل النحل معينًا على تحلية غذائه، ولم يكن يجد أفضل من شمعها لصناعة شمع الإضاءة وعلى الأخص في كنائسه. لقد اكتشف الإنسان قصب السكر حول القرن الأول الميلادي، وقد ذكر الكاتب العالم استرابو “Strabs” كيف أن أمير البحر لأسطول الإسكندر المقدوني أبلغه بإعجاب عن اكتشاف هذا «القصب العسلي» في طريقه إلى الهند، ولكن لم يفكر أحد قبل الأسبانيين في القرن الخامس عشر في استخراج العصير من القصب وفي صناعة السكر المتجمد حيث أقاموا مصنعًا له في ماديرا، وحتى في ذلك الوقت كان السكر من الكماليات فلم يكن في متناول عامة الناس، وبقيت النحل ترعى الجماهير وأطفالها الصغار كما رعتهم من قبل …
– ولكن الآية انقلبت الآن يا بثينة، فقد كاد عسل النحل يعد من الكماليات، وبعد أن أثبت علم التغذية فائدته لأطفالنا ولمرضانا، فضلًا عن أصحائنا حتى إن الدكتور بك “Dr. Beck” في أمريكا ألف كتابًا عن ذلك سماه «العسل والصحة» “Honey and Health” جمع فيه آراء العلماء الثقات من شتى الأمم وآراء الهيئات الطبية المحترمة، أصبح لا غنى للنحالين ولهيئاتهم العاملة عن السعي لنشر النحالة الحديثة المنتجة حتى يصير عسل النحل شائع الاستعمال بسعر مقبول يستطيع أن يدفعه كل إنسان، فشتان بين القيمة الغذائية، فضلًا عن المذاق والخواص الطبية التي لعسل النحل السهل الهضم الشهي الطعم الزكي الرائحة وبين المحضرات السكرية المغشوشة التي يخدع بها الجمهور وتسمى عسلًا في حين أن الأزهار والنحل تتبرأ منها ولا تتبناها إلا آلات المصانع الحديدية، ولا يمكن أن يقر هذا الغش إلا جاهل أو مغرض، ولن تكون عاقبته إلا الإساءة للصحة العامة … لقد صدق القدماء حينما سموا عسل النحل «شراب الآلهة».

وبينما هم في هذا الحديث الحلو وقفت سيارت بجوار المنحل ونزل منها شاب أنيق، وأقبل على المنحل وفي يديه علبة صغيرة، وهو يهتف: «لقد وصلت الأمانة يا أمين».

– أهلًا وسهلًا، أي أمانة يا فريد؟

– إحدى لعبك يا عزيزي، وقد وصلت بالبريد العاجل من المنحل التعاوني في السويس، فتفضل يا حبيبي، وافرح بها …

لقد ذهبت إلى منزلك زائرًا فلم أجدك، وأصرت والدتك على أن أحضر لك هذه اللعبة فورًا، فانظر كيف تستبدان بي؟

كان فريد طالبًا في السنة النهائية بكلية الطب بجامعة فؤاد، وقد حضر إلى الإسكندرية لتمضية إجازته الصيفية، وكانت بينه وبين أسرة أمين وشائج قرابة فكان يعرف بثينة ولكن دون اختلاط، بل لعله لم يرَها منذ سنوات كما أنه لم يتبينها في قناعها وفي ملبسها الرجالي … وكانت أسرته موسرة فبدت عليه علائم الثروة والترف، وبعد تبادل التحايا، وبعد الاعتذار إلى بثينة لتقصيره في تحيتها، قال أمين: لقد جئت لي بخير هدية يا فريد، بل بهديتين، فقد أوحشني بُعدك عنا في القاهرة، فجاءت زيارتك أول هدية نفيسة من صداقتك الباقية، وجاءت هذه الملكة الكرنيولية النقية الهدية النفيسة الثانية. فما رأيك وأنت في إجازتك السنوية لو أمضيت أيامًا معنا في المنحل مؤنِسًا ومؤنَسًا ومتعلمًا؟ ألا تزال تخاف النحل؟ … فقال فريد وقد شجعه وأدهشه مرأى بثينة التي لم تستثنِ أنوثتها أحدًا من جاذبيتها: أخشى أن أكون تلميذًا بليدًا ويخيب أملك في، بل وأكون باعثًا لتعطيل أعمالكما.

فقاطعته بثينة كما قاطعه أمين بعبارات التشجيع والترحيب، واتفقوا على أن يحضروا معًا بانتظام إلى المنحل، كما وعدهما فريد بأن يُحضر شقيقته صفية إلى المنحل في الأسبوع التالي للمعاونة على فرز العسل للمرة الأولى، أو على جمع «القطفة» الأولى كما سماها أمين، وجاء لفريد بقبعة وقناع فلبسهما ووقف معهما يستمع ويتأمل معجبًا. قال أمين: أتدري لماذا فرحت بهذه الملكة الكرنيولية يا فريد؟

– سمعت كثيرًا يا سيدي عن مزايا هذا النحل الذي قيل إنه لا يلسع.

– لا يا فريد، ليس هذا هو السبب، وعلى الهامش يجب أن تعرف أن جميع نحل العسل المستعمل في مصر يلسع فعلًا، ولكن النحل الكرنيولي (نسبة إلى كرنيولة موطنه، وهي إحدى مقاطعات يوغوسلافيا) يمتاز مثل قريبه النحل القوقازي بالوداعة المتناهية نحو صديقه الإنسان، وإن كان أبعد ما يكون عن الوداعة إزاء أعدائه الطبيعيين كالشفافير والزنابير، ولكن فرحتي بهذه الملكة؛ لأنها من أول ما أنتجته محطة التربية التعاونية في السويس، وإني رجل أومن بالتعاون، وأعتقد أن الحركة التعاونية كفيلة بحل جميع متاعبنا الاقتصادية وغيرها، وأنها مدرسة الشعب البرلمانية، وها هي ذي تسعف النحالين المصريين بملكات هذا النحل الممتاز الشحيح في العالم، إن النحل الكرنيولي كما ترى سنجابي اللون كبير الحجم، بل لعله أكبر نحل الخلايا حجمًا، وملكته كبيرة الحجم كذلك ولونها البني أميَل إلى القتامة، وإذا نظرتما إلى داخل هذا الصندوق بعد رفعي الغطاء الورق الذي كان عليه العنوان من فوق الغطاء السلكي فإنكما ستريان الملكة وحولها بعض العاملات الصبية لتعهدها بالتغذية في أثناء سفرها في البريد، ولو أن في نهاية الصندوق مستودعًا صغيرًا يحتوي قَنْدًا مكونًا من العسل المعجون بدقيق السكر، وهذه العجينة لا هي بالجافة التي لا تستطيع النحل التناول منها ولا هي بالمائعة التي تغرق النحل فيها، فلو اتفق أن ماتت النحل المرافقة للملكة لأي سبب وبقيت الملكة حية فإن الملكة تستطيع تغذية نفسها من هذا القند مؤقتًا حتى ينتهي سفرها ما دام مقصورًا على يوم أو يومين. أما عن كيفية إدخال الملكة على النحل فلها مراسيمها وهي تختلف حسب طرائق الإدخال، ولكنها تشترك في اعتبار واحد وهو ضرورة شعور النحل أولًا بفقد ملكتها، ثم إبداؤها الألفة نحو الملكة الجديدة قبل أن نسمح لأنفسنا بالإفراج عنها واختلاطها بالنحل، ومن الجائز إزاء النحل الكرنيولي أو النحل القوقازي — وكلاهما بعيد عن العصبية أو الشراسة — أن نُدخل الملكة عليه فورًا، ولكن لا بد قبل الإفراج عنها من تعود النحل عليها، والوقت الحاضر ملائم جدًّا لإدخال الملكات، فالحقول ما تزال سخية بالرحيق، وفي ذلك ملهاة لها عن تتبع استبدال ملكة بأخرى، ولكني على أي حال سأريكما كيفية إدخال هذه الملكة بطريقة هينة لا أقول إنها الطريقة المثلى، فطُرق إدخال الملكات توحيها الظروف وأحوال الطوائف والنويات، ولكن حسبي أن أقول إنها من أمثل الطرق.

واتجه أمين معهما إلى طائفة كرنيولية قوية ففتح خليتها وأخذ منها ثلاثة أقراص من الحضنة المختومة وقرصين من العسل والطلع وعليها جميعًا نحلها المعطى لها ولكن دون الملكة، فقد حرص على تركها في الخلية ووضعها في صندوق يسع ستة أقراص، وهو على شكل خلية صغيرة على حامل، وله غطاءان: غطاء داخلي من الخشب والسلك بمقبض في الوسط وغطاء خارجي مغطى بالصاج، وأحل محل تلك الأقراص إطارات بأساساتها الشمعية بعد أن وزعها ما بين أقراص الحضنة الباقية في غرفة التربية للخلية التي فتحها، مبينًا أن هذا إجراء مباح في هذا الوقت؛ لأن الفيض من العسل الذي لم ينتهِ بعد سيسمح للنحل ببناء أقراصها الجديدة على تلك الأساسات كما سيسمح للملكة بالبيض فيها، وأما عن ذلك الصندوق الذي وضع فيه تلك الأقراص الخمسة وعليها نحلها فقد قال عنه إنه يسمى «صندوق نواة» — والنواة عبارة عن طائفة صغيرة — وأنه سيُدخل الملكة الجديدة فيه (وكان قد وضعها في مكان ظليل حتى لا تسيء أشعة الشمس إلى الملكة، ولو أن الوقت كان أصيلًا والجو لطيفًا)، وأنه ترك محل القرص السادس خاليًا زيادة في التهوية داخله إلى أن ينقل النواة فيما بعد متى ترعرعت إلى خلية كبيرة حيث يزودها بأقراص شمعية خالية أو بإطارات ذات أساسات؛ ليعطيها الفرصة لاستكمال قوتها حتى تصبح طائفة كاملة، وقال أمين إنه سيقفل هذا الصندوق مؤقتًا مسافة نصف ساعة قبل إدخال الملكة الجديدة، وذلك حتى يلاحظا تصرف النحل حينما تكتشف فقدان ملكتها، وكذلك تصرف النحل البالغة بهرعها عائدة إلى خليتها الأصلية، وفي أثناء مرور هذا الوقت شرح لهما أمين أن سبب اختياره لأقراص الحضنة المختومة هو تعويض النواة عما تفقده من النحل السارحة العائدة إلى خليتها الأصلية؛ لأن النحل التي ستخرج من البيوت المقفلة ستحل محل النحل الهاجرة بل ستزيد، وستكون خير رفيقة للملكة الجديدة حينما يحين وقت بيضها فترعى حضنتها وتشجع الملكة على البيض، وسرعان ما يحين وقت سرحها مع أخواتها السابقات، وسرعان ما تصبح النواة جديرة بالحلول في خلية كبيرة وأهلًا لأن تعد طائفة، وقال: إن صندوق النواة هذا قابل لأن يكون صندوق سفر لإرسال النواة به في قطار المساء إلى أي عنوان في القطر بحيث يصل النحل في أول النهار أي قبل اشتداد الحر، وما على النحال إلا أن يسمر أطراف الإطارات داخل الصندوق، ويُحكم قفل غطائه الداخلي المؤلف من السلك والخشب، ويسد بابه بعد أن تأوي النحل السارحة إليه — إذا كانت النواة قديمة فيه — وينزع الغطاء الخارجي محتفظًا به في مخزنه إلى أن يعاد إليه الصندوق فارغًا فيُعيد استعماله، أو يمكن استعمال صناديق سفر أبسط وأخف وأرخص فتباع مع النحل دون احتياج المربي النحال إلى إعادتها إليه، ويجب أن يلصق أعلى صندوق السفر تحذير من وضعه في الشمس أو بالقرب من النار أو في مكان حار ساكن الهواء أو من تعريضه للمطر أو لأي إصابة أو رجة عنيفة، ويجب أن يبقى قائمًا هكذا في أثناء السفر بمعنى أنه لا يجوز قلبه أو وضعه على جانبه.

وأخذ أمين يشرح لهما في إسهاب ضروب النحل الرئيسية المستعملة تجاريًّا لإنتاج العسل. وخلاصة قوله: إن ثمة ثلاثة ضروب من النحل تُنعت بالنحل القياسي. ألا وهي النحل الكرنيولي والنحل القوقازي والنحل الإيطالي، وقد نُعتت هكذا لأنها ثابتة في صفاتها قابلة للتأقلم، كما أنها كبيرة الطوائف منتجة للعسل، وقد جربت جميعًا في المناطق الباردة والمعتدلة والاستوائية، فكانت تتأقلم وتعيش وتنتج خيرًا من إنتاج النحل الأصيل في تلك المناطق، وهذه أمريكا كان نحلها الأصلي أسمر أو بني اللون ولم يكن منتجًا إنتاجًا مذكورًا، فجلبت من إيطاليا ملكات إيطالية جيدة حولت بها وبما ربَّته محليًّا من ملكات إيطالية في محطات معزولة لطوائف ذلك النحل الهزيل إلى طوائف إيطالية على مر السنين، وأخيرًا أدخلت النحل الكرنيولي والنحل القوقاسي؛ لما ثبت لهما من مزايا خاصة لا بالنسبة للوداعة فقط بل في إنتاج العسل الشمعي الفاخر، ولما اتصفت به ملكاتها من الخصوبة، ولطول عمر هذا النحل السنجابي نسبيًّا، ولتعففه عن السرقة من الطوائف الأخرى، ولعزوفه عن جمع المادة الصمغية المفسدة لقطاعات العسل الشمعي، ولسهولة إدخال الملكات عليه، ولسهولة الاشتغال به عامة، وقد دلت تجربة النحل الكرنيولي في مصر على أنه حري بالتقدير، واستفدنا فائدة إضافية من إنتاج الهجين الأول ما بين الكرنيولي السنجابي والمصري الأصفر، أي من تلقيح الملكات الكرنيولية العذارى بذكور مصرية، أو من تلقيح ملكات مصرية عذارى بذكور كرنيولية؛ إذ جاء هذا النحل الهجين الأول منتجًا أحسن إنتاج مستطاع مقبول الطباع (وإن لم يكن في وداعة الكرنيولي الأصيل)، وكان لنا بمثابة نحلة مصرية جديدة نافعة. أما النحل القوقاسي فكثير الشبه به ولكنه أصغر منه حجمًا، ولذلك كانت مصلحتنا في الاكتفاء بالضرب الأول، بل لا شك أن مصلحتنا القومية تدعو إلى جعل مصر محطة قومية عالمية لتربية النحل الكرنيولي استغلالًا لما فيها من جهات معزولة متعددة في الواحات وفي منطقة القنال وفي الفيوم وفي دمياط وفي جهات أخرى، وانتفاعًا بظروف مصر الخاصة من اعتدال الجو وسبق الربيع فيها وانعدام أمراض النحل الوبائية وقلة تكاليف الإنتاج وحسن مواصلاتها الجوية مع ممالك شتى مما ييسر لها إنتاج ملكات هذا النحل الممتاز إنتاجًا مبكرًا، وتوزيعها على شتى الممالك توزيعًا سريعًا، وبأثمان اقتصادية هي في الوقت ذاته غنم لنا نظرًا لقلة تكاليف الإنتاج نسبيًّا عندنا، وسيكون من الميسور لنا إذا ما أخذنا جديًّا بسياسة إنشائية إصلاحية أن ننتج الآلاف العديدة من الملكات الكرنيولية العذارى، ونوزعها بأسعار يسيرة على شتى المناحل المصرية؛ لنحقق في النهاية إبدال نحلها العصبي الهزيل بهجين الكرنيولي الأول المتفوق. هذا، والملحوظ أن جميع النحل الأصفر كالمصري والسوري والقبرصي والإيطالي عصبي المزاج وإن يكن على درجات متفاوتة، ولا شك أن النحل الإيطالي أهدأ هذه الضروب وأوفرها إنتاجًا وأصلحها للتأقلم، ولذلك عد أحد ضروب النحل القياسية الثلاثة، ولكنه أقل صلاحية لنا في مصر من النحل السنجابي بنوعيه (أي الكرنيولي والقوقازي) إلا إذا كان نقيًّا؛ لأنه متى تهجن فإن هجينه مع الدم المصري سيكون عصبيًّا، وقد يحتمل هجينه الأول، وربما جاء في مثل هدوء هجين الكرنيولي الأول، ولكن الهجين الثاني وما بعده لا يمكن أن توصف طباعه بكلمة خير، ولذلك ليست لنا مصلحة في تشجيع التوالد بين الضروب الصفراء، التي كثيرًا ما يحدث الغش في بيعها بعكس النحل الكرنيولي النقي فلا مجال للغش في لونه السنجابي الواضح.

ولما بلغ أمين بحديثه هذا المبلغ كان قد مر نصف ساعة على تكوين تلك النواة، فتطلع مع صاحبيه إلى باب صندوقها حيث رأوا النحل قلعة حائرة ما بين طائرة ومتمشية مسرعة تفتش حول بابه داخلة خارجة كأنما منها استوحى شكسبير وصفه لطائفة النحل الغاضبة في روايته (هنري السادس)، وحينئذ ذهب أمين وأحضر دلوًا صغيرًا من الماء، والعلبة الصغيرة التي وردت فيها الملكة ووصيفاتها وقفصًا مستديرًا من السلك والمعدن في هيئة قبة، وقال لهما: الآن يمكننا إدخال هذه الملكة على النواة، وطريقتي أن لا أستعمل هذه العلبة التي جاء فيها لحبسها في أثناء فترة الإدخال خصوصًا؛ لأن النحل الوصيفات غريبات عن النواة، ففي وجود هذه الوصيفات إثارة إضافية لبغضاء النحل، وإنما طريقتي هي أن أغمس هذه العلبة كما هي في الماء نحو عشرين ثانية هكذا، ثم أصفي ما فيها من الماء وأرفع الغطاء السلكي وعيني على الملكة واضعًا القلب على غطاء إحدى الخلايا المجاورة كأنه منضدة، وفي سرعة أستدرج الملكة للدخول في قفص الإدخال هذا، وحينما تصعد إلى أعلاه أضعه وفتحته إلى أسفل، وفي سرعة أفتح صندوق السفر أو صندوق النواة وأستخرج منه أحد قرصي العسل والطلع، وأزيح النحل عن أحد أركانه العليا، وبعد تجريح غطاء العيون العسلية تجريحًا خفيفًا بالشوكة، وحينما ألحظ الملكة في أعلا قبة قفص الإدخال السلكي كما هو الحال الآن، أنقل القفص سريعًا إلى المكان الذي أعددته؛ لتثبيته عليه من القرص حتى يصل إلى أساسه الشمعي، وهكذا أعيده إلى محله وأقفل الصندوق دون أن تفوتني كتابة المذكرة الواجبة عن النواة وما جرى لها ووضعها تحت الغطاء الخارجي للصندوق، وبهذه العملية سيتاح لنحل النواة الاطمئنان إلى وجود ملكة جديدة، وسيتعرف إليها عن كثب، ثلاثة أيام مثلًا، حتى تكتسب رائحة النواة قبل الإفراج عنها في هدوء وأمان، وهي في أثناء حبسها تبقى في مأمن من الجوع، وبديهي أنه ممكن إجراء هذه العملية — بعد نفض النحل داخل الصندوق — في إحدى غرف المنحل بعد قفل بابها. حتى إذا ما طارت الملكة مصادفة (والغرض من غمسها في الماء تعطيلها عن ذلك) لم تقع في يد النحال.

سُرت بثينة وفريد من هذه المشاهدة ومن شرحها، ولكن فريد استأذن في الانصراف؛ لارتباطه بمواعيد أخرى، وتركهما على وعد من تكرار الزيارة لهما وللمنحل — تركهما وقد أكملا يومهما في حبور، ولكن بثينة بدا عليها اهتمام جديد لم يلحظه أمين في البداية، وقد أخذت تفكر وتفكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤