الفصل الأول

(المرسَح يمثل داخل الفندق: طاولات، كراسي، بنك … إلخ.)

المشهد الأول

(لورادان وجرار (جالسان أمام المرسَح) – وصاحب الفندق (وراءَهما))
جرار : يا صاحب الفندق.

(صاحب الفندق يتقدَّم.)

جرار : ما هذا القصر القديم الذي أراه، وتكاد جدرانه تسقط على فندقك؟
صاحب الفندق : إنَّ هذا القصرَ يخص الأمير فلافي، وهو من أمنع قصور بلادنا.
جرار : ليس هذا الاسمُ بمشتهر بين جماعة الفرسان.
صاحب الفندق : يملك الأمير هذا القصر من نحو اثنتي عشْرة سنة، وقد اتصل إليه من الأمير ليزينيه.
جرار : أما هو ذاك الذي توفي في إحدى الحروب المقدَّسة؟
صاحب الفندق : بلى سيدي.
جرار : أما يريد الأمير أنْ يذهب إلى سورية مع الزحفة التي سيتولى أمرَها ملوكُنا العظام: فيليب، وريكاردوس، وفريدريك بارباروس؟١
صاحب الفندق : لا أعلم، وهل لبائع حقير مثلي أنْ يطَّلع على أسرار الأمير؟!
لورادان (ينهض واقفًا) : إنَّ الأمير، يا حضرة الفارس، يجد ما يكفيه من الأعداء ضمن بلده، فلا يحتاج أنْ يبحث عنهم في الخارج.
صاحب الفندق : ذلك عين الحقيقة.
لورادان : أنت إذنْ عازمٌ على السفر مع الصليبيين (جرار يُظهِر صليبه) وفق الله مسعاكم الكريم.
جرار : آمين! وأنت، يا من تَلوح عليه علائم أبطال الوغى، أما تريد أنْ تذهب إلى الأراضي المقدَّسة، وتخوضَ مَعامِعَ الجهاد؟
لورادان (يكشف صدره ويُري صليبه) : لقد أتممت عملي يا سيدي.
جرار : إذنْ يضمني وإياك إخاء الجنديَّة، إليك فؤادي وذراعي!
لورادان : إليك فؤادي وذراعي (يتصافحان).
جرار : يا صاحب الفندق، هاتِ لنا كراسيَّ، وقدِّم لنا من أجود خمر بورغونيا.٢
صاحب الفندق : أمركم سيدي (ويقدم الخمر).
جرار : ما الاسم الكريم، يا حضرة الفارس؟
لورادان : اسمي لورادان.
جرار : وما هو اسم موطنك؟
لورادان : موطني بلد كيان الجميلة.
جرار : وأنا أيضًا موطني بلد كيان الجميلة. (يصب الخمر في الكأس) فلنشرب على ذكر كيان بلد الخمر الجيدة والفرسان الأبطال.
لورادان : أعفِني يا سيدي؛ فلست أشرب الخمر مطلقًا؟
جرار : أتخيب رجاء صديقك وأخيك؟!
لورادان : إنَّ نذرًا يمنعني من إجابة طلبك.
جرار : نذرٌ …؟!
لورادان : نعم سيدي، ولقد عدت من الأراضي المقدَّسة قاصدًا إيفاءه.
جرار : لا أتعرض لكشف أسرارك. هل أقمتَ طويلًا في الأراضي المقدَّسة؟
لورادان : عشر سنوات كاملة، ولقد حضرت مواقع جمَّة، جرَت بها الدماء كالأنهُر، وشاهدت مدنًا زاهرة التهمها لهيب النار، فأمست قاعًا صفصفًا،٣ عرَض لي عواصف هائلة، والموت لبث أصمَّ عن طلباتي، وبقيت حيًّا.
جرار : لقد حفظ الله حياتك حتى تدافع عن الأماكن المقدَّسة.
لورادان : وا أسفاه على الأراضي المقدَّسة! ما عاد يحق لها أنْ تُدعى بهذا الاسم الشريف.
أمَّا سكَّانها فقد باتوا يئنون تحت نِير الظلم والاستعباد.
جرار : وماذا يصنع أولياء الأمور؟
لورادان : لا يُجمِعون كلمتهم، بل يفضلون منافعهم الشخصيَّة على المدافعة عن حقوق دينهم.
جرار : إنَّ قلبي يتفطَّر حزنًا ويتميَّز غيظًا عند سماعي مثل هذه الأمور المنكرة.
لورادان : لقد مضى عليَّ، أيها الفارس الشهم، اثنتا عشرة سنة وأنا متَّقدٌ مثلك بنار الحمية، ومع ذلك فقد زايَلتُ٤ تلك الأراضيَ المقدَّسة التي كنت أقسمت أنْ أدافع عنها حتى الموت.
جرار : ولماذا زايلتَها؟
لورادان : اضطرني الأمرُ لذلك.
جرار : ومن الذي دعاك إلى فرنسا؟
لورادان : أتبتغي أن أبوح لك بذلك؟
جرار : نعم، أوَلست أنا صديقَك وأخاك؟
لورادان : آه، إنما عدت من الأراضي المقدَّسة قصد التكفير عن ذنوب سلَفَت مني، أنَظرتَ هذا القصر أمامك؟ قد سمعت أنه يخص الأمير فلافي، وإنْ كنتَ على ريب من ذلك فدموع المنكودي الحظ شواهدُ بيناتٌ تنبئك بالحقيقة. إنما لم تعلم كيف توصل الأمير فلافي للتسلط عليه، عندما أخبرتك عن اختلاف النصارى في فلسطين كاد الشرر يتطاير من عينيك، والآن لو كنت تعلم ما هو مُخبَّأ وراء تلك الجدران المنيعة من الفظائع والشرور آه …

(صاحب الفندق يُصْغي جيدًا.)

جرار : قل، قل، ماذا …؟
لورادان : لا، لا، لو عرفت ذلك لابتعدتَ عني كما يُبتعَد عمَّن بُلِي بالبرَص.٥
جرار : أأنا أبتعد عنك؟! لا واسْمِ الحق، إني لا أبتعد عنك مدى الحياة، ولا يفرقنا سوى الموت.
لورادان : لا أدري ما الذي يدفعني رغمًا عني لأنْ أبُثَّك سرًّا طالما كتمتُه بين ضلوعي، ولم أبُح به لغير معلم الاعتراف، ولكني أخاف هنا الرقباء ومتجسسي الأخبار.
جرار : وهل تخاف من هذا البايع الحقير؟!
لورادان : إنَّ نفسي قلقة، تجزع من كل شيء! ها إنَّ الشمس قد قاربت المغيب، فلنخرج من هنا؛ لنستنشق الهواء.
صاحب الفندق (بسرعة) : أتريدون السفر يا سادتي؟
جرار : لا، سنعود إليك عندما يُرخي الليل سُدولَه، هيئ لنا حُجَر المنامة؛ فسنقضي الليل هنا.

المشهد الثاني

(صاحب الفندق وحده)

ظهر لي أنَّ على أحدهما نذرًا يريد وفاءه، وآثامًا يَرغب التكفير عنها، ولكنْ رابَتْني نظراتُه الخفيفة نحو القصر، وخوفُه من كشفه الأسرارَ إلى رفيقه، فوالله إنَّ وراء ذلك أمورًا سريَّة ومؤامراتٍ خبيثةً، فيا لهما من جاهلَين غبيَّين! أيجهلان أنَّ هذا الفندق هو فخ مهيَّأ لكل زعماء القلاقل مثلِهما؟! فكم من الفرسان الأبطال الذين يفوقونهما شجاعةً ودهاءً قد صبَغَت دماؤهم بلاطه! فلنذهب حالًا ننبهُ أفكار الأمير … أسمع وقْعَ أقدام … ها قد أقبل يصحَبه خادمُه.

المشهد الثالث

(فلافي – رينالدي – صاحب الفندق)
فلافي (من وراء الحجاب) : يا صاحب الفندق.
صاحب الفندق : أمرك، سيدي.
فلافي : هل أنت وحدك؟
صاحب الفندق : نعم، سيدي.
فلافي : لقد نظرتُ رجلين باللباس الأسود يتجوَّلان حول القصر.
صاحب الفندق : هل هما متقلدان سلاحًا؟
فلافي : نعم.
صاحب الفندق : لقد خرجا منذ هُنيهةٍ من الفندق.
فلافي : وهل يعودان إلى هنا؟
صاحب الفندق : نعم، عمَّا قليل.
فلافي : حسَنٌ.
صاحب الفندق : وهل ندَعهما يخرجان؟
فلافي : كلَّا.
صاحب الفندق : فهمتُ ما تريد.
فلافي : هل عرَفْتَ اسميهما؟
صاحب الفندق : إنَّ الأكبر سنًّا يُدعى لورادان، وأمَّا الآخر فما عرَفتُ اسمهُ، وكلاهما من بلد كيان.
فلافي : لورادان … ما سمعت بكل حياتي مثل هذا الاسم.
صاحب الفندق : ظهر لي أنَّ الأصغر سنًّا عازمٌ على الذهاب إلى الأماكن المقدَّسة، وأمَّا الآخر فقد زايلها منذ قليل؛ قصْدَ إيفاء نذر عليه.
فلافي : وهل عرفتَ ما هو هذا النذر؟
صاحب الفندق : لا، ولكنهُ يعلق عليه أهمية كبرى، وقد تكلَّم ملمِّحًا إلى وجوب التكفير عن بعض ذنوب وفظايع مستترة، ثمَّ خرج هو ورفيقه؛ مخافة أن يطَّلِع أحدٌ على سره.
فلافي : وعند ذلك نظرته يبكي ويقرع صدره، ثمَّ يختلس النظر إلى الأماكن غير المحصَّنة في القصر، ولما نظرتهُ على هذه الحال اعتراني رعبٌ شديد لم أدرِ له سببًا؛ لأن كل ملامح هذا الفارس تشير إلى أنه عدوٌّ وزعيمُ مؤامرة.

(يخرج صاحب الفندق حسب إشارة رينالدي.)

المشهد الرابع

(فلافي – رينالدي)
رينالدي : لِمَ هذا الاضطراب سيدي؟ … يخيَّل لي أنَّ مخاوفك لا داعٍ لها.
فلافي (يقاطعه) : لا، لا، إنَّ مخاوفي لَفي موقعها.
رينالدي : وما ترى يستطيع فِعلَه أعداءٌ بهذا الضعف.
فلافي : إنهم يقدرون على أكثرَ مما تظن.
رينالدي : مولاي، ممَّن تخاف؟ أنت مسلَّط على هذا القصر منذ اثنتي عشرة سنة.
فلافي : نعم، ولكن هل تعلم كيف توصلتُ إلى ذلك؟
رينالدي : لقد ساعدك الحظ.
فلافي (مضطربًا) : لا وأبيك، لا إنما توصلتُ إلى ذلك بارتكاب الشرور الفظيعة التي ترتعد لها الفرائص،٦ وما زلت أقترف الجرائم لأحفظ ما ملكتُه بالظلم، أفتترجى بعد ذلك أنْ تراني مطمئن البال خاليًا من الهموم؟! آه يا رينالدي، ثمَّ آه! ماذا كنت تصنع لو كنت مثلي رجلًا شقيًّا يسمع شعبًا بأسره يلعنه ويقبح أعماله؟!
رينالدي : ألست أنا مثلك؟
فلافي : لا، لست أنت سوى آلةٍ أستخدمها لفعل الشر واقتراف الجرائم؛ فاللعنة تسقط عليَّ وحدي.
رينالدي : دع عنك، سيدي، هذه الأفكار.
فلافي : لا تظن أنها ترعبني، ولكن من كان متوليًا الأحكامَ على شعب كبير يخافه، يجب عليه أن يخاف الشعبَ كثيرًا. والآن أرى أنَّ أمرًا جديدًا أتى يعكر صفو حياتي.
رينالدي : وما هو؟
فلافي : أما تذكر ذلك المحبوسَ الصغير؟
رينالدي : هل تخاف أن يطَّلع أحدٌ على أسرارك العميقة؟! ليس مَن يعلم بها إلَّا أنت وأنا، أمَّا الشعب فيعتقد أنَّ وريث أمراء ليزينيه قد قضى نحبه منذ اثنتي عشرة سنة، ويخال له أنه حضَر دفنه، وأمَّا هذا الولد المسكين فهو منقطع عن العالم في حبسه الشديد الظلام، وأنا آخذ له سرًّا ما هو ضروري لقيام حياته، وفي كل القصر ليس من يعلم أنه باق بقيد الحياة.
فلافي : أفهم ذلك جيدًا، ولكنني لا أتمالك من الخوف منه، إني أخافه أكثر من الفلاحين، وأكثر من ملك فرنسا ذاته.
رينالدي : ولماذا إذنْ لا ترضى بما عرَضتُه عليك مرارًا؛ فتستريحَ منه.
فلافي : أأذعن لما تقول؟
رينالدي : نعم، بدون إبطاء.
فلافي : فهمت ما تريد، ولكن هل أقدر على ذلك؟! أمَا نظرتَ ذلك الخيال السري، ذلك الشبح الأبيض الذي يظهر بصورة سيدةٍ بيضاء جليلة المطلع، فتحرسه من كل شر، وكلما أردت أنْ أرتكب جرمًا جديدًا لأتخلص من قلقي الشديد، ينتصب هذا الشبح أمامي، ويرفع ذراعيه متهددًا، ثمَّ يزمزم بعض كلمات لا يمكنني فهمها؟! آه يا رينالدي! إنَّ بغض البشر لا يهمني، ولا يخيفني، نظيرَ ما تهمني وتخيفني رؤيتي الأشباح خارجة من القبور قاصدة افتراسي، ويلاه! إنَّ ذلك عذاب لا يُطاق احتماله.
رينالدي : لا ترفع صوتك بهذا المقدار؛ لئلا يسمعنا أحد.
فلافي : هل درى أحد بما نقول؟ انظر جيدًا. الويل لمن سمع كلمة واحدة من كلامي!
رينالدي (يعود) : إننا وحدنا، كن مطمئنًّا، ولكن لماذا تسلم ذاتك إلى ندمٍ لا فائدة منه؟
فلافي : لا تظن أنَّ قلبي نادم، وما أقولهُ ما هو سوى ثمرة الحنق والغيظ. إني أتعذب كمن يحترق بنار الجحيم. (يسمع قرع جرس) ما هذا الصوت؟
رينالدي : لقد دنا الظلام.
فلافي : قد قرب الوقت الذي يعود فيه الفرسان، أستودعك الله وأنا ملقٍ على همتك المحافظة علَيَّ.
رينالدي : كن هادئ البال من هذا القبيل.
فلافي : أنا واثق بغيرتك ودهائك، موعدنا نصف الليل.
رينالدي : نعم، نصف الليل (يخرج من بابٍ سرِّي).
أعددت ألفَيْ فلاح، وهم متقلدون السلاح ينتظرون إشارة مني حتى يهاجموا القصر.
جرار : أما ترى مفيدًا أن تتفق مع أحد ساكني القصر، فيكونَ لك أقوى عضد وقت الهجوم!
لورادان : بلى، وقد علمت أكيدًا أنَّ بابيو – أحدَ جنودي القدماء – قائم الآن بخدمة الأمير فلافي؛ فهذا يكون لنا أكبر مساعد؛ لأنه شجاع باسل، وخادم أمين، ولكنه يجهل مجيئي إلى هنا.
جرار : ومتى عزمت على تتميم مقصدك؟
لورادان : إني أنتظر الفرصة المناسبة.
جرار : إنَّ بسالتك، أيها الفارس الخطير، وتضحيتك ذاتك لجديرة بالمدح الجزيل والثناء الجميل.
لورادان : لا، لا، قد قلت لك: إنَّ ما أعمله ما هو إلَّا كفارة عمَّا سلف مني من الآثام.
جرار : إني أشتهي كثيرًا الاطلاع على حقيقة أسرارك، يلوح لي أنه قد جرى لك من الأمور أشدها، ومن العذابات أمَرُّها.
لورادان : نعم، طبع ذلك على جبيني، وليس بوُسعي إنكاره. إنما ما الفائدة وأي لذَّة تجد بمعرفة مصائب رجل مجهول الاسم مثلي؟
جرار : آه يا لورادان! لقد أهنتني ولم تدر؛ فهل أنت على ريبٍ من خلوص مودتي وصدق إخائي؟!
لورادان (يمد إليه يده) : لا، لا، يا سيدي، لقد وعدتك أن أبوح لك بسرٍّ مرعب، كدَّر صفو حياتي منذ اثنتي عشرة سنة، وعذَّب نفسي عذابات فادحة كادت تذهب بي إلى القبر! الأوفق أنْ أخبرك أوَّلًا عمَّا جرى لي في سِنِي حداثتي فأصغ إليَّ؛ في الخامسةَ عشْرةَ من عمري خرَجتُ من بيت أبي، وخدمت جنديًّا عند الأمير دي ليزينيه، وهناك تصادقت مع فلافي؛ ذلك الخائن الشرير. وفي الخامسةِ والعشرين من عمري لبست ثوب الفرسان وصحبت الأمير إلى مواقع عديدة، فاتفق في بعض الأيام أن خرجت مع فلافي وخادم يدعى رينالدي للتنزه في الحقل، فصادفنا رجلًا يدعي معرفة الغيب، فمددت إليه يدي؛ ليطلعني على ما يحدث لي في مقبل حياتي، ولا أعلم إن كنتُ فعلت ذلك استهزاءً به أم اعتقادًا بخزعبلاته، وكذلك صنع رفيقاي، فتبصَّر الرجل قليلًا، ثمَّ قال: إنَّ أحدكم سوف يكون أميرًا والثاني جلادًا، فسألته فورًا: والثالث ماذا يكون؟ ففاه ببعض كلمات لم نستطع فهمها، ثمَّ وجه نحو فلافي نظرةَ أسف وتوارى حالًا، لا ريب أن هاته الحادثة تظهر لك عديمة الأهمية ولا علاقة لها بحديثي.
جرار : لا، يا سيدي، إنَّ كل ما هو متعلق بك يهمني كثيرًا، فكمل حديثك.
لورادان : ومنذ ذاك الوقت تغيَّرت أخلاق فلافي تغيرًا تامًّا، وأصبح حائرًا حزينًا، وما لبث أن بثني في أحد الأيام مكنونات صدره؛ وذلك أنه كان عازمًا أن يقتل الأمير ويحبس زوجته وولده في إحدى الصوامع، فتميَّزتُ غضبًا لما سمعت منه هذا الكلام، ورفضت رفضًا مطلقًا الاشتراك معه بهذا العمل الجهنَّمي، أمَّا هو فلم يقنط من انقيادي لأقواله، وعاوَدني مستجيرًا بالوعد والوعيد، ولكن مساعيه ذهبت أدراج الرياح، فعزم حينئذ أنْ يسعى بضرري عند الأمير، فاتهمني بالخيانة وبذل جهده حتى طردت من القصر.
جرار : يا للدَّناءة!
لورادان : أمَّا أنا فلم أطلع على دسائس هذا الشرير إلَّا متأخرًا؛ لأنه كان يشي بي وهو يُظهر لي الصداقة والحب، ويعرض عليَّ المساعدة.

المشهد الخامس

(رينالدي – صاحب الفندق)
رينالدي (لذاته) : فلنتفكر كيف نتمم أوامر الأمير (يدق جرسًا، يدخل صاحب الفندق فيسأله) هل هيأتَ رجالك؟
صاحب الفندق : نعم، سيدي.
رينالدي : أدخلهم إلى هنا. (لذاته) كم ينبغي للإنسان من العناء واقتراف الكبائر؛ ليحفظ مالًا اقتناه بالظلم.

(يدخل رينالدي ويتبعه رجلان تلوح عليهما علامات الإجرام.)

رينالدي : أعددتما ما يلزم؟
القاتل : نعم.
رينالدي : في هذا الليل يلزم أن تفتكوا فتكًا ذريعًا.
القاتل الأول : بمن؟
رينالدي : بفارسين غريبين.
القاتل الأول : في أي موضع هما؟
رينالدي : هنا في هذه القاعة.
القاتل الأول : وأيَّ وقت؟
رينالدي : نصف الليل (يخرج القاتلان).
رينالدي : لا ريب بأننا سنحظى بالفوز! يلزم أنْ تعطي هاته الحجرة إلى الفارس الأصغر سنًّا، وتلك إلى الأكبر سنًّا، وعند منتصف الليل إذ يكونان نائمين وعاريين من السلاح نهجم عليهما بوقت واحد؛ فلا يمكنهما أنْ يبديا أدنى مقاومة. أسمع طرقًا على الباب، ها هما قد أقبلا ليقعا في أشراكنا، أهلًا وسهلًا بهما (يخرج، يدخل لورادان وجرار).

المشهد السادس

(لورادان – جرار – صاحب الفندق)
لورادان : يا صاحب الفندق هل أعددت لنا الأسرَّة؟
صاحب الفندق : نعم، سادتي، ها هي حجرتك، يا سيدي لورادان.
جرار : وأنا؟
صاحب الفندق : ها هي حجرتك.
لورادان : حسن …
صاحب الفندق : تصبحون على خير، يا حضرة الفرسان (يخرج).

(يخرج صاحب الفندق ويترك لورادان وجرار جالسين.)

جرار : إذنْ أنت ثابتٌ على ما عزمت؟
لورادان : نعم، ثابت مثل ذلك الصخر الذي كنَّا نتأمله منذ هنيهة، ولن تتزحزح أفكاري أبدًا.
جرار : ومن تراه يعضدك بهذه المهمة؟
لورادان : إنَّ الله — عزَّ وجل — هو عون كل المظلومين، وأنت، يا حضرة الفارس، ستَمُد إليَّ يد المساعدة.
جرار : نعم، وعدتك بذلك، وأنا قائمٌ بوعدي إن شاء الله.
لورادان : جازاك الله عني خيرًا (يخفض صوته) ثمَّ أخبرك أيضًا أني خرجت من القصر والحنق ورغبة الانتقام يغليان في صدري. ومن سوء الطالع أني التقيت بالأمير في صباح اليوم الثاني بينما كنتُ ذاهبًا إلى الحقل، آه! ترتعد فرائصي كلما ذكرت ذلك اليوم المشئوم! فهجمت على الأمير وفتكت به سافكًا دمَ بريء، ويا ليته كان سفك دمي أنا الشقي … لقد علا وجهك الاصفرار، أيها الفارس الشهم، ولا عجب في ذلك، إنَّ ذكر قبائحي أفسد الهواء الذي نستنشقه! الْعَن العن هذا الشقي الذي يخاطبك، واهرب من رفقته هرَبَك من الشيطان الرجيم.
جرار : لا تقنط يا عزيزي؛ لأن الندامة الصادقة تمحو أقبح الذنوب وأكبر الجرائم.
لورادان : أمَّا فلافي فبلَغ حينئذٍ متمنَّاه، وأسرع فقتل الأميرة، ووضع يده على القصر.
جرار : تبًّا له من خائن!
لورادان : ولم يبقَ حيًّا من أصحاب القصر سوى ولد يبلغ من العمر خمس سنوات، وفي الغد قرعت الأجراس حزنًا؛ داعية الناس إلى دفنه، فأصبح فلافي المالك الوحيد للقصر.
جرار : ويل لهذا الشرير الأثيم! إنَّ الدم البريء سوف يسقط على رأسه، ويُجازى على ما قدمَت يداه، وأنت ماذا صنع بك بعد ذلك؟
لورادان : كما كان ينبغي لي أنْ أنتظر من رجل مثله تمرَّغ بحمأة المآثم؛ رجعت إلى القصر، ولكن تنجُّس الضمير أعدمَني الراحة؛ فكل شيء كان يذكرني جرمي الفظيع، وأصبحت كمن يتقلَّبُ على الجمر، ففي أحد الأيام دعاني فلافي للتنزه في محل منفرد، فذهبنا سويَّةً إلى ضفة نهر الدورا الذي يجري قرب أسوار القصر، وكانت قد فاضت مياهه في ذلك الفصل … لماذا ظهرت عليك علائم الحزن؟
جرار : إنَّ اسم هذا النهر يثير في قلبي شعائر الحزن ويوقظ في ذهني تذكرات مؤلمة؛ لأن أخي قد هلك في مياهه المشئومة.
لورادان : رحم الله نفسه، ولنرجع إلى حديثنا: ومن ثمَّ ركبتُ أنا وفلافي زورقًا، ولم نكَدْ نصل إلى منتصف النهر حتى استل خنجرًا وطعنني به ثلاث مرات، فغُشِي عليَّ، وظنَّ أني متُّ فطرحني في النهر، ولكن الله حفظ حياتي بمعجزة من رحمته، وعقيب ذلك ببضع ساعات أفقتُ من غشيتي، فإذا أنا في خيمة حقيرة يقطنها بعض الفلاحين، فاعتنَوا بي مثل أخ لهم، ولما شفيت جراحاتي ذهبتُ توًّا إلى الأراضي المقدَّسة.
جرار : يا لهُ من اتفاق غريب، منذ كم سنة جرت هاته الحادثة؟
لورادان : منذ عشر سنوات يا سيدي.
جرار : وما هو اسمك؟
لورادان : قد قلت لك إنَّ اسمي لورادان …
جرار : يا خيبة الأمل!
لورادان : إنما هذا الاسم قد انتحلته منذ زمن يسير، أمَّا اسمي الحقيقي فهو جان دي زاردوان.
جرار : جان دي زاردوان! أخي وحبيب قلبي، أنا أخوك جرار دي زاردوان.
لورادان : أخي حبيبي! (يعانقه) أنت أخي جرار! شيء سري كان يجذبني نحوك! أخي الحبيب، هل والدنا باقٍ بقيد الحياة؟
جرار : نعم، فقد حفظ الله حياته حتى يراك ويمنحك بركته الأخيرة.
لورادان : آه، يا أخي الحبيب! لست أهلًا لذلك.
جرار : بلى، يجب أنْ نذهب سريعًا ولنطلب من الله ألَّا يموت والدنا فرحًا لما يراك.
لورادان : لقد أقسمت، يا عزيزي، بأني لا أعانق والدي ولا أترك سلاحي ولا أذوق خمرًا ولا مسكرًا، قبل أنْ أفي نذري وأكفِّر عن ذنوبي.
جرار : لماذا تتأخر إذنْ عن إيفائه؟! غدًا إنْ شئت أو هذا اليوم، وأنا بانتظار إشارتك، ولست أسألك إلَّا أن ترسلني إلى المكان الأشد خطرًا.
لورادان : لا، إنَّ ذلك المكان أستبقيه لذاتي.

(يصرخ المنادي في الخارج):

قد دنت الساعة الحادية عشرة، السماء صاحية والليل صافٍ.
يا أهالي مانبرن، ارقدوا بسلام.
لورادان : يلزمنا أنْ ننهض في الغد باكرًا وعندنا من القوة والنشاط ما يخوِّلنا تتميم رغائبنا، فلنرقد إذنْ حتى نريح جسمَيْنا؛ لأنه قد مضى الآن هزيع٧ من الليل.
أستودعك الله يا أخي العزيز.
جرار : أستودعك الله.

المشهد السابع

(يُظلِم المرسَح. لورادان واقفًا على حافة المرسَح)
لورادان : ربَّاه، سألتك أنْ تهبني فرصةً مناسبةً؛ لأفي نذري، فها قد فاضت رحمتك عليَّ وردَدت لي أخي. ليكن اسمك مباركًا! ساعدني اللهم ووفق مساعيَّ؛ علني أجد باقيًا بقيد الحياة أحدَ ورثة الأمير ليزينيه …

(يظهر شبح أبيض في داخل المرسَح، ويقترب من الطاولة، ويكتب قليلًا ثمَّ يتوارى.)

لورادان (يصرخ) : هل أنا في حلم؟! لا … ما هذا الشبح الذي نظَرته اقترب من الطاولة؟! فقد نظرتهُ يكتب …
(يركض نحو الطاولة، يأخذ ورقة ويقرأ):

«إنَّ ولد الأمير ليزينيه الذي تظنه مات لم يزل باقيًا بقيد الحياة، وهو يئنُّ مكبَّلًا بالحديد في أحد سجون القصر المظلمة، عليك أنْ تنجيَه؛ إذ بإنقاذك الابنَ تُكفِّر عن قتلك أباه.»

ابن الأمير باق بقيد الحياة! فدفنُه إذنْ لم يكن سوى حيلةٍ من فلافي … جرار! جرار!

المشهد الثامن

(لورادان – جرار)
لورادان : أخي، أخي، أما نظرت شيئًا؟
جرار (منذهلًا) : أخي، ماذا جرى لك؟!
لورادان : اقرأ.
جرار : من أين أتتك هذه الورقة؟

(يقرأ سرًّا.)

لورادان : ثوبًا ناصع البياض، ولا أعلم فيما إذا كان ملاكه الحارس أم أحد القديسين شفعائه؟
جرار (يرفع صوته) : أنتم محاطون بأناس قتلة! أسرعوا بالهرب.
لورادان (ينظر الورقة) : ما قرأت هذا السطر، ولا وقعَت عيني عليه!
جرار : ذلك وحي من الله.
لورادان : فلنسرع بالهرب، غير أنَّ الأبواب مقفلة.
جرار : إذنْ لنستعد للدفاع … يا صاحب الفندق.
صاحب الفندق : ماذا تأمرون، سادتي؟
جرار : نريد السفر، افتح لنا الباب.
صاحب الفندق : أتسافرون بهذا الليل المظلم بعد قرع جرس المساء؟
جرار : أسرع، افتح الباب.
صاحب الفندق : ولكن، سيدي.
جرار (يستل سيفه) : افتحهُ وإلَّا … (يذهب صاحب الفندق يفتح الباب) خذ أجرتك (يخرج جرار ولورادان).
صاحب الفندق (لذاته) : خابَت مَساعينا.
لقد نجَيا، ولكنهما لا يَسلمان طويلًا، فلنذهب ونخبر رينالدي بما جرى.
١  ثلاثة من قادة الحملات الصليبيَّة إلى الشرق، ساهموا في قيادة الحملة الثالثة: (أ) فيليب أوغُست (١١٦٥–١٢٢٣) ملك فرنسا، اشترك في الحملة الثالثة ١١٨٩، واستردَّ من العرب عود الصليب الذي كان وقع في أيديهم بعد معركة حطين. (ب) ريكاردوس ملك إنجلترا (١١٨٩–١١٩٩)، وهو الملقَّب بقلب الأسد لشجاعته. (ﺟ) فريدريك بارباروس (١١٢١–١١٩٠) إمبراطور ألمانيا، شارك في الحملة الثالثة، مات غريقًا في قيليقية.
٢  بورغونيا: مقاطعة فرنسيَّة — في القسم الشرقي من فرنسا — مشهورة بكرومها وبجودة خمورها.
٣  القاع الصفصف: المستوى المطمئن من الأرض. والمعنى: باتت المدن بعد خرابها كأنها أرض مستوية لا عمران فيها.
٤  زايل: فارق.
٥  البرص: الجُذام، وهو مرضٌ جلدي مُعْدٍ، كان أصحابه يُعزَلون عن الأصحَّاء؛ اتِّقاءً للعَدْوى، وقد كانت تُبْنى للمصابين به مستشفيات خاصَّة.
٦  الفرائص: المفرد فريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد وترتجف عند الفزع.
٧  الهزيع: جزء من الليل اختُلف في تحديده؛ بعضهم يقول: هو نصف الليل، وبعضهم: ثلثه، وبعضهم الثالث: ربعه، بل أقل، وبعضهم الخامس: ساعة واحدة من الليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤