«تيري»، «الكا»، وأشياء أخرى

أشياء أخرى.

المغنية الجميلة كريبا، زوجها عازف الإيقاع «أكو»، وهو أشهر من يصنع الآلة الإيقاعية من البامبو وأشهر من يعزفها، جدها والد أمها المحارب بوشا أورثها روح الغناء، منذ صغره كان بوشا يحمل ربابته ذات الوتر الواحد يتجول بها بين القرى المجاورة يغني:

الطريق إلى «الكا»
خطيرة
وأنا أريد فتيات «الكا» الجميلات
والطريق إلى «الكا»
تؤدي إلى الموت …

فيكافئه المستمعون بهدايا من الكراواوا والتبر وبعض العاج، أما كواكيرو الكا عندما سمع به أرسل إليه فتاة جميلة اسمها «واني» أي الجنة، واني الساحرة هذه جدة كريبا، من المتعارف عليه أن لفتيات قبيلة «الكا» أعذب الأصوات، وإذا غنَّيْن تخالهن نفرًا من الجنيات يمرحن، وإذا سمع الرجل صوتهن ولو من على بعد شاسع تتبَّع نغمات الغناء إلى حيث فتيات «الكا»، واللائي لا يتأخرن في اصطياده لعشاء القبيلة، كريبا وريثة هذا الصوت الساحر، الذي ثمنه الحياة، وكما يقول المثل: «النار تلد الرماد».

وأيضًا «وينو» صاحب الصوت الأجش الأشتر هو ابن كريبا، أكو يعمل في صناعة البطاطين الثقيلة من لحاء الحبحب وألياف الرافيا، ويقوم بمقايضتها بالتبر أو العاج، أحيانًا بجلود النمر الأزرق وحتى الكراواوا، وربما كان لأكو باع كبير في تطوير صناعة فساتين قصب البابيت، منه انتقل إلى بقية قرى الدغل الشمالي والأوسط، نعم، لم يوجده أكو، فقد اشتهرت صناعة الفساتين من البابيت منذ أمد بعيد في الدغل، وأنها وفدت إلى الدغل من الدول المجاورة، ولكن أكو استطاع أن يستفيد من تدرج الألوان بأقصاب البابيت وفقًا لعمر القصبة وحجمها، استطاع أن يصنع تشكيلات مختلفة من الفساتين لها ألوان متميزة وتصلح لمناسبات متباينة؛ الأعياد تتطلب ألوانًا زاهية وصارخة، أيضًا احتفالات الموت تلبس لها الفتيات البابيت الأبيض ذا اللمعة التي تحاكي بريق نصل حربة القدر التي تؤخذ بها الأرواح، وهكذا الأعراس، الصيد، الرقص، الرحلات للقرى المجاورة، الذهاب إلى المدينة. استطاع أكو أن يجعل البابيت لباس كل المناسبات وموضوعًا للمفاخرة، بل يصح أن يقال فيه: جعله إيقاع الدغل الصامت.

إذا كان باستطاعة سلطان تيه أن يرى فستان البابيت الذي كانت ترتديه سنيلا يوم عرسها الذبيح، لرأى فيه كيف أنها كانت فرحة وسعيدة ومشحونة بالأمل، فقد استخدم أكو لصناعة هذا الفستان نوعًا نادرًا من قصب البابيت وهو القصب الأسود، الذي ينمو بِخُور البجعات، على بعد ميلين من القرية، وميلان في الدغل تساوي مائة ميل على الأرض الفضاء، كما يعلم لسنيلا مكانة خاصة في قلب أسرة أكو، فهي أعظم راقصة في تاريخ الدغل، أكو أعظم صانع إيقاع بامبو وأعظم من عزف عليه، كريبا زوجته هي مغنية الدغل الأولى، إذن العلاقة يمكن أن يقال عنها «فنية بحتة»، ولكن في الحقيقة لم تكن كذلك، فسنيلا وأخوها بانا يقيمان جوار أسرة أكو، وأكو ليس لديه بنات، له ولدان وينو ودينو، وينو محارب يقضي وقته عند إبط الشيطان مع رفاقه المحاربين، يصطادون، يجمعون الكراواوا ويغازلون الفتيات اللائي يتعمدن مصادفة المحاربين في الدغل بعيدًا عن القرية، كانت سنيلا تقوم بطحن الذرة وسَحْن جوز الأرض وتحضيره لطعام أسرة أكو، ولها وأخيها يوميًّا ودون كلل أو ملل، وكانت كريبا تعاملها كابنتها تمامًا وذلك منذ صغرها، حيث تركها أهلها هي وأخاها وذهبوا إلى حيث لا يعلم أحد، وعندما أخبرتها فلوباندو عن رغبة الغريب في اتخاذ سنيلا زوجة له سعدت أيما سعادة، وذهبت هي وزوجها أكو إلى خور البجعات وجلبا البابيت الأسود النادر، ثم أعدتها للعرس في صمت، ولم تخبر أحدًا من جيرانها خوفًا من السخرية والحسد أيضًا، فلا أحد كان يتخيل أن يأتي من يطلب سنيلا البرصاء زوجة، وكريبا نفسها كان يقلقها أن تظل سنيلا عذراء عمرها كله، فهي لا تستطيع أن تذهب مع الفتيات إلى إبط الشيطان حيث يتاح لها الاختلاء بمحارب، مكتفية بتجربة واحدة مريرة، وكان ذلك عندما بدأت تظهر عليها أعراض البلوغ وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ذهبت مع صديقتيها لاوتبار وشيتا، وعند خور صغير وجدن المحاربين الشباب يصطادون الخنزير البري، وكالعادة حاولن الهرب مدعيات أنهن فوجئن بالمحاربين، ولكن استطاع المحاربون اللحاق بهن، قدموا لهن عصير الكراواوا وغنَّوْا معًا ورقصوا ثم اختلى محاربان بالفتاتين وتركوها وحيدة تجلس بين الأعشاب تحاول ألا تبكى، تحاول ألا تحزن، كانت دموعها تسيل دافئة على خديها وهي تنتظر لاوتبار وشيتا اللتين تصلها ضحكاتهما المتغنِّجة، و… هما، فلم تذهب مرة أخرى أبدًا.

كانت كريبا تجلس قرب زوجها العجوز أكو وهو يصب صبغة النيلا على ألياف الرافية منهيًا المرحلة الأخيرة في صنع ثوب غطاء سنيلا، كانت كريبا تعالج أغنية رائعة تتشكل في ذهنها، تحاول أن تقبض على الكلمات الملعونة المراوغة المتقافزة في دائرة مسحورة في مخيلتها، دائرة هلامية، لا بد أن تمهر هذا الحدث العرس السعيد بأغنية ترددها الأجيال تلو الأجيال، وعندما بدأت الكلمة الأولى الملعونة تنزل حيث اللغة والمادة، أُش! إذا بمحاربين يدخلان وسنيلا الحزينة بينهما يسندانها، كانت صامتة وعيناها مغمضتان، يلتف حول خصرها بابيت العرس حزينًا، فأكملت كريبا الأغنية:

أُش!
دع الحزن ينام
لا توقظهُ
أش، أش، أش.

تيري.

أنزيرا والد فلوباندو له زوجتان فقط، يعني أنه فقير، ويعني أنه كسول لا يجدُّ في زراعة جوز الأرض، أو يتعب نفسه في جمع الكراواوا الغالي الثمن ولو أنه كان صيادًا ماهرًا، ولكنه لكي يحصل على صيد وفير لا بد أن يجهد نفسه في هجرة طويلة وهو لا يفعل، وزوجته الثانية تيري حصل عليها في ظروف غامضة ومنشطة لخيال الأقاويل والشبهات.

واوايامو هي الزوجة الأكبر عمرًا، وهي الأجمل أيضًا، والأكثر تحملًا للمسئولية، الصانعة للطعام، المائحة، هي أم الأطفال، بذور لأشجار الغد الكبيرة، ولكن ليست هي المرأة الأكثر قربًا إلى قلب أنزيرا، كان يتوجه بكل ما حباه خالق الدغل من عاطفة نحو تيري التي كان حظها من الجمال متواضعًا؛ لونها أصفر كقرد الطلح، نحيفة، لها عجيزة هزيلة، وكأنها لم تأكل في حياتها كراواوا، فوق ذلك كله كانت كسولة مدللة، تحتاج لساعتين لجلب قربة ماء واحدة من البئر، ربما جمالها فقط في عينيها، حيث إنهما تمتازان ببريق غريب؛ لمعان مكسور مدهش، يجبر كل من ينظر إليها أن يفكر قليلًا فيما رأى، عيناها ساحرتان، ولكن لا أحد هنا يهتم بمسألة العينين، فإنهما لا تصنعان خبزًا ولا تطبخان جوزًا أو تجلبان ماءً من البئر البعيدة أو تصنعان كراواوا.

جاءت تيري وحدها إلى منزل أنزيرا، أقامت معه، في الأصل من «شاري»، هذا ليس مؤكدًا، قابلها صدفة ذات مرة وهو عائد من رحلة صيد الماعز البري، سبيت، رآها تنام تحت شجرة موز كبيرة تغطيها بعض صفقات من شجرة تك مجاورة، تتوسد ثمرة دليب، خاف في بادئ الأمر؛ لأنه ظنها فتاة من قبيلة «كا» في وضع اصطياد، ومعروف أن «الكا» يستخدمون صباياهم الجميلات في اصطياد الذكور من البشر والحيوانات على حد سواء، بينما هو يحاول الهرب إذ تعثر قدمه بعشبة فتحدث كشكشة توقظها فتناديه بلهجة «شاري»؛ فيطمئن لأن «الكا» لا يتحدثون بلهجة «شاري» بالذات فهي لهجة الصالح برم بجيل، وقد حرَّمها عليهم يستحيل أن ينطق بها لسانهم.

لا تخف.

أنا اسمي تيري، تيري من قبيلة «شاري».

ماذا تفعلين هنا؟

أنا أعيش هكذا بين الأشجار، بيتي المكان كله.

ثم ابتسمت وهي تضيف فأكملت بغنج بناتي مُشْبِق: ألا تستريح قليلًا؟

وضع أنزيرا المعزة البرية التي اصطادها على الأعشاب وجلس قبالتها، أنزيرا لم يتحدث كثيرًا، قيل إنه راودها عن نفسها وإنه فاعلها، فاعلها كثيرًا؛ لأنه أحس فأكملت ذاته بأن تيري تهبه متعة الشيء أكثر من زوجته واوايامو، وأكثر من أي امرأة أخرى أصابها، ولكنه خاف أن يطلب منها أن تتزوجه لأنه لا يملك مهرها، وليس بإمكانه إعطاء والدها مالًا مقابل أخذها زوجة له ثانية. مهما يكن، هنالك أسرة لكل إنسان؛ لذا تركها نائمة تحت شجرة الموز مبقيًا صيده من المعز البري قربها، امتنانًا وعرفانًا، وأيضًا عربونًا لعلاقة قد يسمح بها القدر مرة أخرى …

ومضى …

وهو يمشي نحو القرية كان يحن إلى تيري حنينًا طاغيًا، إلا أنه يزجر نفسه بين حين وحين؛ لأنه لا يستطيع أن يتزوجها، بالتالي عليه ألا يضيع ماءه هدرًا، إبقاء المتعة.

عندما استيقظت تيري كان الوقت ليلًا، والغابة مصخوبة بصراخ طيور الليل وعواء الذئب وكلاب السمع وغيرها من الهوام، تيري لا تخشى شيئًا، ثلاثة عشر عامًا في الحياة البرية لم يصبها سوء ولو لمرة واحدة بين الوحوش، تحت المطر، في العاصفة، لا تخاف شيئًا، دائمًا وحدها، كسولة وماكرة.

تلفتت حولها فلم تجد أنزيرا!

أين أنت يا أنزيرا؟

انتبهت تيري إلى وجود المعزة البرية، ربها على العشب مذبوحة باردة، ربما ذهب لقضاء الحاجة …!

أنزيرا، أنزيرا.

في الحق — ولأول مرة — تحنُّ إلى شخص ما، ففي كسلها هذا مر بها رجال كُثر من شتى قبائل الدغل، بعضهم هرب عندما رآها ظانًّا أنها فتاة «كا»، أو جِنَّة، أو ما أوحت به له مخيلته، البعض تبادل معها الحديث، البعض فاعلها، ومضى جميعهم دون أن تبخع نفسها على آثارهم، ولكن في شأن أنزيرا فالأمر اختلف، وضعت المعزة البرية على كتفها وذهبت في طلبه، تشمم الهواء كالكلب المتوحش.

بيت أنزيرا كبيوت أهل القرية جميعًا عبارة عن معسكر صغير تُحيط به أشجار النجيل، وعليها تنمو المتسلقات، في الداخل ثلاث قطيات: قطية قرب المدخل وهي لأنزيرا، قطية زوجته تبعد قليلًا للداخل، ثم قطية الأطفال كبار السن، وكالعادة لم تسأله واوايامو لماذا عاد من دون صيد ودماء العنزة جفَّ على كتفه؛ لأن السؤال عن الرزق يجرُّ سوء الطالع، جلبت له الطعام والماء، ثم أرسلت إليه البنت الصغيرة، التي كان يحبها جدًّا ويناديها «ني» باسم أمه، أرسلتها لكي تروِّح عنه ولكنه — وليس كعادته — طلب منها أن تعود لأمها لأنه يريد أن يبقى وحده لبعض الوقت.

وعندما دخلت إليه في الظلام ظنَّها زوجه واوايامو، فطلب منها أن تعود لقطيتها لأنه سينام وحده هذه الليلة ولكنها لم تبرح مكانها، وليس هذا من طبيعة واوايامو؛ إنها لا تعصيه أبدًا، وضعت تيري الصيد على الأرض ورقدت قربه، عرفها فلقد كان لجسدها رائحة الذئب. قالت له: لقد نسيت عنزتك، فخفت عليها أن تفسد إذا تركتها للصباح، أو تأكلها الضباع والكلاب البرية، لذا، أحضرتها لك.

أيقظ واوايامو، طَلَب منها أن تُوقظَ فلوباندو وودي وأن يقوموا بسلخ المعزة ووضع العشاء.

معي امرأة، أريد أن أتخذها زوجةً لي.

تيري.

سعدنا جدًّا أن والدنا اتخذ امرأة أخرى إلى جانب أمنا واوايامو، تقوِّي مكانتنا الاجتماعية، ولا أحد سوف يعير أبى بأن له امرأة واحدة. من ناحية أخرى فهي ستقوم بحمل كثير من الأعباء عن أمي؛ إدارة شئون المنزل، الطهو، جلب الكراواوا، طحن الذرة، حلب المعزات البرية المستأنسة، ويمكن أن يجيء منها الكثير والكثير إذا كانت امرأة فاضلة، بالإضافة إلى أسرة جديدة ستضاف إلى أسرتنا، امرأة أخرى شيء رائع، ما كنا نحلم به، نعم، أمي ستتنازل لهما عن نصف مبيت الشهر، وهذا ليس بالشيء المثير للقلق، فأمي امرأة كبيرة العمر، كما لو أننا قارنَّا حالها ببقية نساء القرية فلا تزال لها ميزة عليهن، فبعض الرجال في القرية يمتلك قرابة العشرين امرأة. ولكن لسوء طالع أمي، وسوء طالعنا جميعًا أن زوجة أبي الجديدة ليس بالمستطاع بأن يُرجى من ورائها خيرٌ، بل أضحت عبئًا أُضيفَ إلى كاهل أمي؛ كانت امرأة كسولًا تنام اليوم بطوله، وإذا ذهبت لجلب الماء من البئر جلست تحت شجرة جوز أو حبحب، وأخذت تغني وتلاعب القرود، التي لا تخاف منها وكأنها قردة منهم، ومن الغريب في الأمر أن الطيور تركُّ على كتفيها ورأسها وهي مطمئنة، وإذا أحضرت الماء للمنزل استحمت به، وإذا عجزت عن إحضاره استحمت بالماء الذي نحضره نحن أو تحضره أمي، وأصبح الشجار اليومي بين تيري وأمي ظاهره الماء وباطنه استحواذ تيري التَّام على أبي، وقد تأكد لنا جميعًا وللجيران أن تيري استخدمت السحر في ذلك، وما يغضب تيري — ولو أنها إطلاقًا لا تظهر غضبها أو تبدو منزعجة — أن تقول لها: أندل. وأندل قبيلة سكانها يعيشون الآن في مائة عام مضت، وهنا في «لالا» يُضرب بهم المثل في التخلف، وتعتبر إهانة بالغة إذ يُقال لأحدهم: أندل. ولكن تيري تغضب في برود ودون مبالاة، متفهمة محاولة أمي لإغاظتها، وذلك يزيد توتر أمي ويُشعل فيها عيدان الانتقام.

وذات مرة، وبينما كان أبي في رحلة صيد، أرادت تيري الاستحمام، واستخدمت لهذا الغرض ماءً جلبته أمي، وبينما هي تستحم خلف قطية أبي تحت ستار من المتسلقات الخضراء على نبات النجيل الكثيف، دخلت عليها أمي وأخذت جرة الماء، فضحكت تيري بصورة أغاظت أمي، فأخذت أمي ملء كفيها ترابًا وأفرغتهما على رأس تيري، أخذت تيري تسحي التراب عن رأسها ووجهها وهي تضحك بسخرية وخبث، ثم تغني أغنية:

العجوز الشمطاء
وآو وآو.

فحملت أمي عصًا غليظة تستخدم لقتل الضباع ودخلت بها إلى تيري، التي لم تبرح مكانها خلف قطية أبى تغني وسط المتسلقات والنجيل، ولكن لدهشة أمي لم تجدها وقررت البحث عنها في الكوخ، سمعت ضحكتها الخبيثة مرة أخرى من خلف الكوخ، وعندما عادت إليها هنالك لم تجدها أيضًا، وهكذا، أخذت أمي تجري ما بين الكوخ والحمام، هاجت وماجت وأخذت تضرب بقتَّالة الضباع كل شيء يقع في عينها؛ السياج، الكوخ، الأشجار، الآنية، حتى حطمت جرار الماء غالية الثمن، وكلما هدأت سمعت ضحكة تيري مرة أخرى من مكان قريب بل وكأنها خلفها، فتثور.

إلى أن جاء جارنا تيتي وأخذها بالقوة إلى داخل كوخها وحبسها هنالك إلى أن حضر أبي، أُخبر بالقصة كلها، لم يفعل شيئًا، دخل كوخه ووجد تيري نائمة في هدوء تام، نام قربها ولم يسمع لهما صوت، وكان عليه أن يفعل غير ذلك، عندما هدأت والدتي أعلنت بصوتٍ جَهْوَرِيٍّ أنها سوف تذهب إلى بيت والدها ولن تعود مرة أخرى وليأكل أنزيرا وتيري التراب. وسمعت تيري وسمع أنزيرا قول أمي وظلَّا ساكنين. قالت أمي إنها لن تحمل نيرو وودي معها، وليموتا بالجوع هنا في هذا البيت المشئوم.

وسمعت تيري، وسمع أنزيرا أبي، وظلَّا ساكنين بالكوخ. قالت أمي إن أباها لن يعيد لأبي مهرها.

وسمعت تيري، وسمع أبي، وظلَّا. قالت أمي إنها قبل أن تذهب إلى بيت أبيها ستشعل الكوخ واللذين هما بداخله الآن نارًا …

وسمعت تيري، وسمع أبي، وبعد لحظات خرجا، خرجا من الكوخ دون أن يقولا شيئًا.

من فناء الدار، خرجا من القرية، خرجا للأبد، إلى الآن لا ندري أين ذهبت تيري بوالدنا؛ لأن تيري روح من الجن، عادت إلى وادي الأرواح الشريرة حيث جاءت.

كلوا بابو.

المرتدون للأمام والمتقدِّمون للخلف.

بدأ الصراع فعليًّا بين جين والدغليين في اللحظة التي تخلى فيها عن كل ممتلكاته للقرويين، بدأ من ملابسه، مرورًا بآنية المطبخ، انتهاءً بالجيب، الذي أهدى إلى الكواكيرو، بدأ الصراع عندما عاد الجين إلى بيتهم عراةً يلتفون بالجلود التي أعطاها إياهم الكواكيرو، بدأ الصراع عندما ترك الجين بيتهم وأقاموا بالكهف جنوب البحيرة، بدأ الصراع عندما مشوا عراة كما لو أنهم نزلوا لتوهم من السماء، بدأ الصراع عندما تأكد للقرويين أن الجين هم رُسُل تخلف وليسوا رسل حضارة.

ميلاد سنيلا أولًا.

هي سعيدة بأنها حبلت، ولكن كلما قرب وقت الولادة أصابها القلق، قالت لي: تبقَّى لي أسبوعان لكي أضع حبلي، كيف تلد النساء هنا؟ أنا عن نفسي لم أرَ امرأة تلد، ولكن أراهم يغلون الماء وعليه ورق شجرة النيم، ويطلبون العرَّافة لكي تبارك الجنين وتسميه، أليست هنالك امرأة تساعد النساء على الولادة؟

هنالك دائمًا الجيران والأهل، ولكن باستطاعة النساء أن يلدن دون مساعدة أحد، إنها مسألة — كما يقولون — ليست شاقة، وهكذا كل المخلوقات تلد وحدها، حتى الأفيال.

نعم، نعم.

لكنها كانت خائفة خوفًا حقيقيًّا، فهي أول مرة في حياتها تدخل تجربة كهذه، وكانت تقول لي: كلما كبرت المرأة تعسرت في الولادة، وقد تنجب طفلًا مختل العقل، وأنا الآن أبلغ الأربعين، أي قدر عمرك ثلاث مرات.

والوقت الذي كنتُ سأنجب فيه بسلام قضَيْته بين جدران المعامل، حدثيني، كم تبعد مدينة نيلو الحدودية من هنا، عبر طريق «شاري»؟ ولكن هل بإمكاني السفر؟ نعم، بإمكان جين أن يحضر لي قابلة من المدينة، نعم، بإمكانه ذلك، حتى ولو يستلف عربة الجيب من الكواكيرو.

وطلبت من جين أن يأتيها بقابلة، وأجابها فيما يعني أنه سيحضر لها الطبيب عندما يحين الوقت، ثم أصبح موضوع الطبيب والقابلة موضوع الشجار اليومي بين ماريانا وجين، وكلما قرب ميعاد الولادة اشتدت الخصومة واحتدَّ الشجار، كانت ماريانا تتهم جين بعدم المبالاة، وأنه يعرض حياتها للخطر، ولكن مستر جين دائمًا ما يطلب منها ألا تستعجل قدوم الطبيب، وأنه سيحضر حالما يحين وقت الولادة.

– بل قل وقت الموت.

وقتَ يحين وقتُ تخلصك مني، أنا أفهم جيدًا نواياك، ولكن أليس من الإمكان أن تحقق هذا الحلم وأنا على قيد الحياة؟

قبل المخاض بيوم عاد مستر جين من رحلة الصيد التي يقوم بها عادةً على عربة الكارو التي يجرها حمار الوحش، والمفاجأة أنه عاد جين وفي صندوق العربة امرأة شمطاء تلبس جلد ذئب وفي صحبتها سبعة أطفال: بنتان وخمسة أولاد، ينشدون أمام الكوخ بإيقاعٍ حلو ونغم ساحرٍ نشيد:

أمنا المطرة
شجرة الباباي
ترن، ترن
ترنترنترنترنترنترنترنترنترنترن.

ولو أن مسز جين كانت في قمة أشجار يأسها المخوف، إلا أن النشيد أيقظ فيها روحًا حلوة، وجعل عينيها تبرقان ذهولًا وأسئلة: من هؤلاء؟

هل هم الملائكة؟

إنهم، إنهم الملائكة.

وعندما هبطوا الأرض، كانت نقَّارتهم الجميلة مزينة بأنياب الفهد والعاج المنظوم في حلقات صغيرة معلقة على جوانب الطبل، ومع دقات الطبل الهادئة العميقة غنى الأطفال:

لابينا
هبا، هبا
لا
لا بيناهبا
لابينا
لابينا
هبا، هبا، لا
لابينا هبا
لابينا
لابينا، تلو، تلو، تلو
لو، لو
لووووووو.

كان جين يقف قرب حمار الوحش وفي فمه ابتسامة رحبة ثرية، مشت ماريانا متثاقلة إليه، أمسكت كلتا يديه في حنان قائلة: من أين جئت بهم؟ هل أرسلت إلى روح القديسة سانت ماريا؟ لقد سميت عليها، وهي دائمًا في قلبي، قل لي، يا يسوعي الصغير.

الساحرة ذات الأطفال طقس دغلي متجذر في قدمه، ولكن للأسف قد أُهمل تمامًا ونُسي في كلِّ قرى الدغل، ولكن كيف عرف جين الطريق إليهم والمجيء بساحرتهم وأطفالها؟ فهذا ما لا أعرفه، ولكنه في رحلات صيده دائمًا ما يطرق سفرًا شاسعًا. الساحرة، التي يجب ألا يعرف أحد اسمها لأنه مجرد معرفة اسمها يؤدي إلى مسخها إلى طائر هدهد شرير ومسخ المنادي إلى دودة شهية، يقوم الهدهد بابتلاعها لكي يعود إلى ساحرة ذات أطفال مرة أخرى.

إذن من الأفيد للمنادي إذا طلبها أن يقول: الساحرة ذات الأطفال. والطريف في أمر هؤلاء الأطفال — الذين في عمر واحد — عندما يبلغون الثامنة يُستبدل أطفال جدد بهم، يتم اختيارهم في الحلم أثناء النوم، يحلم بذلك آباؤهم أو أقاربهم أو تحلم بهم الساحرة كثيرة الكلام، كثيرة الأوامر، التي تلقي بها هنا وهنالك جزافًا.

عجوز ما فوق الخمسين، وهذا خطأ حين لا يجب تقدير عمرها، في الحق أنه لا يمكن تقدير عمرها؛ لأنها تجدده كلما بلغ أطفالها سن التاسعة، أي كل ثلاث سنوات. الأطفال أجمل عند الفجر، استيقظوا، تبولوا خلف أشجار الموز، شربوا لبن العنز البري، تشاجروا قليلًا عندما عضَّ جيرو منوا في مكان بنهدها الذي لم ينم بعد، جلبوا أوراق الموز الأكثر نعومة من القلب، شربوا اللبن مرة أخرى ثم أخذوا ينشدون وحدهم، كانت الساحرة ذات الأطفال بالكهف مع مسز جين التي ترقد على الأوراق وهي تئنُّ بين حين وحين. أعد أنا قدر الماء المغلية فيه أوراق النيم عند باب الكهف، خلفي الأطفال، طلبت الساحرة ذات الأطفال جين، سألته: أتريده ولدًا أم بنتًا؟

قال وهو يحاول أن يكون دقيقًا في تعبيره عن رغبته مع أنه في ذاته يعلم أن ليس باستطاعة الساحرة تغيير ما ستنجب ماريانا وفقًا لمشيئته هو أو مشيئة الساحرة ذات الأطفال: أريده ولدًا.

قالت الساحرة ذات الأطفال ضاحكة في شمط قديم بائل: ستلد بنتًا لأنك قلت تريده ولدًا، لا فرق، كلهم أرواح أسلافنا، يأتوننا أطفالًا، إنهم لا يذهبون بعيدًا.

ثم طلبت من الأطفال أداء رقصة أهلًا، بروح نوا، وكانت أجمل رقصة يمكن لإنسان أن يراها؛ الطفلتان تهزَّان بطنيهما مع الاحتفاظ بركبتيهما في وضع السكون، في ذات اللحظة التي يهز فيها الأطفال صدورهم وأقدامهم وهم يعزفون بأفواههم طبلًا هادئًا حلوًا. وفي هذه الأثناء كانت ماريانا ترى القديسة سانت ماريا تسحب البنت سنيلا من بين نهريها كما تنساب موسيقى هادئة.

المشكلة الأولى مشكلة إرضاع سنيلا، ماريانا لها مكان للثديين ولكن لا ثديين لها، فلوباندو في الثانية عشرة وثدياها في حجم برتقالتين ناضجتين من صنف ليمون القرد الأخضر، ولو أن ما أكلته ماريانا بإمكانه أن ينتجها فيلة صغيرة شحيمة، إلا أن الأمر كما تقول ماريانا: المشكلة مدى مقدرة الجسد على تمثيل الطعام، بالإضافة إلى الاستعداد الوراثي للسمنة، في البدء حاولنا سقيها لبن المعز البرِّي، ولكن الطفلة لا تستطيع غير ابتلاع قطرات قليلات منه، وعندما فكَّر جين في إحضار مرضعةٍ لها من القرية اعترضت ماريانا على الفكرة؛ إن بالقرية أمراضًا لا حصر لها، وعلى أثر صراخ سنيلا من الجوع فكَّر مستر جين سريعًا، قال لي: آتني بالمعزة …

غسلنا أثداءها، غسلناها جيدًا.

بالحيوان أيضًا أمراض قد تنتقل للإنسان، اغسليها جيدًا،

في البدء، أي في الأيام الأولى، كانت المعزات تقوم بالرَّفس أو النَّطح، ولا تُذْعِن لفم سنيلا الصغير إلا بعد ربط وشد وزجر، ولكن مع مرور الأيام أصبحت المعزات مسالمات طيعات، تستسلم بهدوء لسنيلا الصغيرة، وعندما بلغت سنيلا الشهر التاسع كانت تجري بنفسها خلف المعزات وتقوم برضاعتها، وكبرت بسرعة، ويرجع الفضل إليَّ لأنني كنت أطعمها يرقات النحل ودود الباشين بكميات كبيرة، ومسز جين لا تدري بذلك، جين يعلم ويشجعني، ودائمًا ما ينصحني بتجنب نهاية ذيل الباشين الحادة، ماريانا تحذرني من ثلاثة أشياء: لا تتحدثي معها إلا بلغة «لالا» فقط.

لا تتركيها تغيب عن عينيك لحظة واحدة.

لا تسمحي بالاختلاط مع الدغليين، خاصة الذين تظهر عليهم دلائل الأمراض.

التزمت فقط بالتحذير الأول، أما الآخران فتجاوزتهما، عن قصد أحيانًا وأحيانًا أخرى بغير قصد، والسبب الأساسي في ذلك سنيلا نفسها، هي طفلة نزقة مزعجة متمردة لا يمكن قَوْلَبتُها، خاصة وهي في أواسط السنة الثانية، كانت تهرب مني في الأعشاب الكثيفة، أظلُّ أبحث عنها، أناديها وهي تسمع ولا تجيب لأنها ترضع المعزات، أو تحفر الأرض بحثًا عن الطين الرطب الأحمر لتأكله، أما إذا رأت طفلًا من القرية جرت نحوه ورطنت بأن يأتي معها للكهف، أو قدمت إليه ما بيدها من طعام، وإذا حاولت إبعادها عنه عضَّتني في أناملي أو صرخت كالملسوعة، تحبُّ الأطفال والطِّين ودود الباشين ثم المعزات ثم أمها ماريانا، أما أنا فعندها لست سوى سجن يتبعها بجدرانه وعساكره حيثما أرادت أن تنطلق حرَّةً منفكَّة.

الساحرة ذات الأطفال مرة ثانية «تعتِّب» الكهف، كانوا ينشدون:

أمنا المطرة
الباباي.

ناموا، استيقظوا، تبولوا تحت الموزات الكبيرات، وردوا البئر، تشاجروا، اصطفوا وهم يهتفون:

أهلًا بروح نوا
نوا التي تصحو قبل الديك
نوا
الجدة
طفلة ماما، نوا.

سألت الساحرة ذات الأطفال مستر جين: أتريده ولدًا أم تريدها بنتًا؟

ضحك جين في ذاته، لقد اكتشف اللعبة الآن: أريدها بنتًا

قالت الساحرة ذات الأطفال الشمطاء: إذن ستلد ولدًا، ولدًا هذه المرة …

قال محاولًا فضح الحيلة: ماذا لو قلت ولدًا؟

قالت الساحرة ذات الأطفال في شمط بائل: أيضًا ستنجب ولدًا …

قال محاصرًا شمط الساحرة ذات الأطفال: وأين حكمة قولك في المرة السابقة بأنها ما أنجبت بنتًا إلا لأنني قلت أريده ولدًا؟

قالت الساحرة ذات الأطفال: كل شيء في هذه الدنيا في تغير، حتى المقاييس والمكاييل والصخور التي تبدو أبدية وصماء وعنيدة، كل شيء …

لقد كان ذلك قبل عامين كاملين، وكانت الشمس في ذلك اليوم — أي عند ميلاد سنيلا — عند الغزالات الثلاث، تتجه نحو عين الحية ذات الرءوس السبعة، فبأي حكمة تنجب زوجك ولدًا؟ قل لي.

أما الآن، فالشمس عند رأس الأسد خارجة من إبط التمساح، بصدرها نسر وبصدرها ضبع.

فقل بالله، بأي حكمة تنجب زوجك بنتًا في هذا الوقت بالذات والجنيات تمشط الأسد …؟

وأسماه والده بانارودنا، أي الولد الذي أتى به البرق، لقد هطَلت الأمطار في ذلك اليوم معلنةً بداية الفصل ذي الأمطار التي تهطل نهارًا وبكثرة. كان أبيض، عيناه خضراوان، ولكن عندما تفحصت الساحرة ذات الأطفال قدمه اليسرى قالت: إنه محارب صبور …

ولكن حظًّا تعيسًا سيصاحبه طوال حياته ما لم يتزوج تلك المرأة ذات الصدر، الفرجاء ذات السحر، التي تكبره بأعوام كثيرة.

الجميلة السوداء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤