لا، لا، لا

لا، لا، لا،

لا.

السماء الآن صافية، الريح الثقيلة المشبعة ببخار الماء التي تهب من الجنوب لا معنى لها، عرف ذلك من طائر مالك الحزين، يقف في هدوء تامٍّ وسط بركة ماء صغيرة مطمئنًّا: لن أعود للكهف مرة أخرى، لن أعود، وليتصرف الكواكيرو القَرَنْفَش كما يحلو له، في المرة السابقة عدت لا لشيء إلا من أجل سنيلا، لا أريدها أن تتهمني بالجبن وتفهمني خطأ، أنا رجل شجاع، نعم لست فارسًا بطلًا، ولا محاربًا جسورًا، ولكني شجاع بما يكفي للحفاظ على حقائق رجولية فيَّ يجب ألا تمس، هي أو فلوباندو، فليكن الكواكيرو نفسه في مكاني، في كهف معزول في مرتفع في وسط غابة، لا جار ولا صديق، وفوق ذلك كله يخرج لك أشخاص من الجدار يجادلونك، يهددونك، ثم يطاردك كلبهم، هل … وفوق ذلك كله ذئب، أينما صوبت وجهك ذئب، أنت، هل …

أنا أحبُّ سنيلا، سنيلا تحبني، فلأجلها أفضل المستحيل، أول المستحيلات امرأة هي فلوباندو الخبيثة.

وليست لك تجربة، فأنت ضعيف، فلوباندو قوية، مجربة، وفوق ذلك كله امرأة وأنت رجل.

مجرد رجل.

أريد الصادق الكدراوي الآن، أريده هنا تحت هذه الشجرة، أنت تعرف كيف تقرأ النساء، اقرأ مأساتي، البحيرة، نعم، فلأذهب إلى البحيرة، قالت له ذات مرة فلوباندو إن البحيرة هذه دموع امرأة فقدت طفلاتها الثلاث، ابتلعهن الدغل، هو الآن يحس بالفقدان، فقدان ما أعطته البحيرة، بحيرة الدموع، جلس تحت ذات الشجرة التي كان يجلس عليها يوم أن رقصت سنيلا على شاطئ البحيرة الرملي، لو استطعت إرجاع عجلة الزمن للوراء، ليس الزمن فحسب بل المكان، الصورة، الكائن، الهواء أيضًا، أنت لا تستطيع أن تعيد اللون والإيقاع، الرقصة، الرقصة ذاتها، أنت لا.

لساعة الكاسيوس مم! دائمًا وفية، في رأس كل ساعة من الزمن تصدر شارات موسيقية متتابعة: شارتان، وهو كالعادة لا ينظر ليرى كم الساعة، يكتفي بأن ساعة من الزمن مضت، ساعة أضيفت إلى ساعات كسولة باردة مرت، ساعات كثيرة لا حصر لها.

ولم يهتم، لم يهتم، فيمَ! ولكن خارج وعي سلطان تيه تشير إلى الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وخارج وعيه أيضًا الريح خفيفة ناعمة دافئة دغلية تحمل صراخ قردة العوا من مسافات بعيدة، وربما من غابات الموز الواقعة خلف غابة المهوقني والنخيل المتسلق. أما في وعيه وأمام عينيه وعلى الطبيعة حدث ما يلي: على عجل هبط قردان الماء، وعلى عجل دارا دورة في الرمل وعادا للغابة، يعرف أن لا حيوان أو إنسان يشرب من ماء البحيرة، يعرف أيضًا أن ليس كل ماء الدغل يشرب؛ بعضه سام قاتل، بعضه يحتوي على نسبة كبريت عالية، والبعض ثقيل كالزيت؛ لذا يشرب المواطنون في أغلب الأحيان من الآبار أو الأنهار الكبيرة الجارية، كان قلقًا كأنف فأر، تطوف بمخيلته أطياف وظلال شتَّى، كان وحيدًا ومكتظًّا بالأشباح. حينما وقفت على رمل الشط للحظة قبل أن تحرر نفسها من فستانها البابيت البهيج وتلقي به على عشب قريب على الشاطئ، لم يصدق نفسه بأنه يراها حقيقة، هل لعينين بائستين، ساقطتين، أرهقهما السهر أن تريا سنيلا، سنيلا أيضًا؟! وعندما أشهرت عُريًا أسطوريًّا قبل أن تقفز به في الماء، وعندما تطاير الماء في كل صوبٍ وجهةٍ مندهشًا؛ ما كان ليؤمن بما يرى، من أدهش البحيرة أهو الجسد الفعلي للجِنَّة سنيلا؟!

الجسد الفعلي للجنة سنيلا!

انتظر يا سلطان تيه، ربما كتب الله لك رقصة، لا شيء كثير عند الله، سيكتب لك رقصة، كيف ضيعت هذا الجسد ذات مرة؟! لن تضيع الرقصة، فقط الزم مكانك ساكنًا مسكونًا متمسكًا بالأمل، اليأس شرك بالله، الأمل صلاة صامتة، الأمل حجٌّ.

كان ينظر إليها في رهبة كأنه موسى ينظر إلى نار الله، تغطس في المياه، تخرج مندفعة إلى أعلى كدُلْفين مسحور، تقف على رمل الشاطئ، يرقص الشاطئ، ترقص الصورة الظل على تموجات الماء، هل كان ذلك النهد، القد …

اصبر، اصبر، اصبر يا سلطان.

ولكنه فجأة صرخ: سنيلا.

انطلاق الصوت عبر الغابة، محاكاة الماء والضفة الصخرية المواجهة.

لا

لا

لا

لا

لا

لا.

هل هو الذي صرخ؟ متى وقفت على رجليَّ؟ متى قفزت في الهواء صارخًا؟!

الذي يعيه تمامًا ويعرفه أن سنيلا التفتت يمنة ويسرة باحثة عن مصدر النداء، ثم في برق ارتدت تمائمها واختفت بين الأشجار، وكأنها طيف لا أكثر، مجرد طيف …

بكل هدوء جلس، أسند ظهره على ساق شجرة المانجو، وأخذت تطوف بمخيلته أطياف شتى وظلال داكنة لا حصر لها، على التنبيهات المتزامنة مع نعيق غراب على صفصافة بالشط، نهض، أخذ يبحث عنها، قبل لحظات كانت هنا، وقبل لحظات لم تكن هنا، على هذا الرمل أثر أقدامها، لا شك فيه، هنا وضعت قصبها وقلائدها، خاض في الماء إلى أن ابتلعه تمامًا، كان يبحث عن دفء جسمها، عن ذرات الماء التي عانقت خصرها، وعندما أحس بنفَسه يختنق خرج في خطوات بطيئات هادئات، ثم اختفى بين الأشجار والماء يقطر من ملابسه، اختفى.

هذا الجزء من الغابة لم يره من قبل، ولكنه في الحقيقة ليس سوى تكرار ممل لذات الجزء الشرقي حيث كهفه، نفسها عينة الأشجار والأعشاب، التربة الصخرية، واكتشف أن المسافة ما بين البحيرة والقرية ليست بالشاسعة كما كان يخيل إليه. بعد مسيرة نصف الساعة هبوطًا، عبورًا، صعودًا، تعثرًا، رأى القرية تنام تحته، أكواخها المتفرقة المبنية من البامبو، أخشاب المهوقني والتك، أزقتها الضيقة ثعبان أسطوري يتلوى بين الأكواخ حاضنًا إياها في أبد ساكن.

هبط الجبل، بمجرد دخوله القرية تجمع حوله الصبية عراة، حول خصورهم نظم من الخرز، ومن أعناقهم تتدلى التمائم حامية إياهم من الأرواح الشريرة والعوارض، تجري خلفه الكلاب مهوهوة، خلفه أعناق النساء من أعلى زرائب الإنجيل وسياج البامبو، كان يمشي دون هدى، يشق الأزقة حيثما اتفق … اتفق …

أين سنيلا؟

كانت في البحيرة قبل لحظات رأيتها بأم عيني، وكانت سترقص لولا أنني هتفت مناديًا باسمها، أو هتف أحدهم بصوتي وإحساسي، لا علم لي إلا ما علمني الله، كيف لي أن أعرف؟

جاءه المحاربون، طردوا الأطفال، اقتيد إلى منزل الكواكيرو الذي أمر بإعادته إلى الكهف، إنه ضل الطريق، قال الكواكيرو، الرأس العجوز يفكر: لماذا لا أفيد منه في تعليم الأطفال شيئًا يفيدهم؟ لماذا لا نفتح له بيتًا للتعليم ونغريه بالذهب؟ قيل إنه يريد سنيلا، تلك القبيحة البرصاء، لماذا لا نعطيها له زوجة؟

في هذا العام يبلغ الكواكيرو ثمانينه، أي عشرين عامًا منذ أن اختفى مستر ومسز جين، عشرة أعوام منذ أن أرسل آخر طالب رسالة، كان كهلًا مهمومًا بالتقدم، مأمولًا بالمستقبل، ولكنه دائمًا مفجع بالنتائج السيئة.

أرسلت حتى الآن ما يقارب مائة طالب للعلم، من خيرة أبناء القبيلة، أنفقت عليهم من التبر والبقر الكثير يكفيهم ليعيشوا عمرهم كله، لكنك تعرف الآن أن أكثرهم أصبح تاجرًا بالشرق، ولو أن البعض واصل تعليمه في بلاد ما وراء البحار كلها وأصبح ذا شأن، ولكنهم أقاموا هناك أيضًا، وما زلت كلما لاعبك حَرَقان الأمل أرسلت آخرين.

لم يعد إخوانكم، عودوا أنتم، القرية دائمًا في انتظاركم.

وحملتهم بالتبر ودعوات ذويهم بأن يرجعوا …

سأحضر يا أمي سنويًّا إلى أن أكمل تعليمي، بعد ذلك سآتي لأقيم بالقرية وأعلم الأطفال، وسأنشئ بيتًا للتداوي من الجذام والجدري والسل والملاريا، أنا لست مثل الآخرين، سأعود.

وعندما عمل الآباء على عصيانك، منعوك أطفالهم، أغريتهم بالتبر وزوجتهم مزيدًا من النساء وشجعتهم على الإنجاب.

قلت في ذاتك: حتمًا سيولد الولد الذي يعود.

حسنًا، أحضروا لي قاتل الذئب، سلطان تيه أريده الليلة هنا، اذهبي معهم يا فلوباندو، انقلي له أوامري …

•••

ومنذ أن عين محاربًا يحرسه، أي منذ اليوم الذي شك الكواكيرو أن سلطان تيه سيهرب، قلل من تجواله في الدغل، ولو أن وجود المحارب الذي يحاول — ورغم جهله بلغة سلطان تيه — أن يخلق تواصلًا إلا أنه بدأ يحس باليأس القاتل يأكل قلبه، يقرضه قرضًا.

عندما رأى فلوباندو انتابته حالة عصبية إلا أنه تمكن من أن يسيطر على نفسه؛ لأنه على الأقل قدر أنها في مهمة رسمية ما دام صاحبها المحاربون، وهذا لا يمنعه أن يَخَالَها بسرية تشككية أنها في سبيل القيام بلعبة خبيثة.

هل تدبرين مؤامرة جديدة؟

قالت وهي تتجاهل سؤاله تمامًا: أرسَلَنا إليك الكواكيرو، إنه يطلبك الآن في بيته …

فجأة راوده أملٌ ولكنه بعد لحظات أحس أنه أمل كاذب.

هل سيطلق سراحي؟

قالت في خبث: إنك لم تأتِ على الذئب كله بعد، هنالك أرطال كثيرة منه مجففة، وأرطال أخرى من الشحوم، قتلت ذئبًا شَحِمًا رغم …

– نعم، كان ضخمًا.

وفهم أنها تريد أن تقول له: رغم جبنك. نعم، سأنتقم منها، سأثأر منها لكرامتي ولا يُسلم الشرف، أنا أعرف أنها، أنها غيرة، غيرة فحسب، سأحب سنيلا أكثر وأكثر، وسأحبها، ولن أضاجعك ولو انطبقت السماء على الأرض وفاض شبقُك محيطًا من الوسخ والدم!

وكأنها قرأت ما برأسه، إذ فاجأته قائلة: إنك لم تستطع أن تعاشر سنيلا، هنالك كثير من الرجال يعجزون عن مفاعلة النساء، عاجزون، لست وحدك، إنها ظاهرة موجودة في الشرق كما يقولون.

– أنت إنسانة حقيرة كالعقرب، دينك ودَيْدَنُك الأذى.

ضحكت بصوت أجش مشحون بالانفعال: هل تظنني كذلك؟ إذا كنت حقًّا كالعقرب لما كلفت نفسي عناء التقريب بينك وبين سنيلا، وعندما فُجِعت سنيلا بك وبهروبك منها حينما كانت مهيأة للعرس، لَمَا كنت لازمتها فراش المرض أيامًا كثيرة أغسل إسهالها، شارفت المسكينة على الموت وأنت السبب، فمَنْ منا العقرب يا سلطان تيه؟ دعنا من نقاش لا طائل منه، فالكواكيرو يطلبك.

قال بخشونة: ماذا يريد مني؟

– لم يقل لي.

قال بشكل قاطع ومفاجئ: قولي له رفض سلطان تيه المجيء إليك.

قالت ببرود دغلوي: ربما تنبأ هو بذلك، إنه شيخ حكيم، أرسل معي هذين المحاربين القويين واللذين لا يعصيان الكواكيرو أمرًا.

كنت رجلًا يا سلطان تيه، قررت شيئًا، قررت المقاومة، فهل تتراجع وتشمت بك فلوباندو تلك الهرة الشريرة؟ أتخاف المحاربين؟ نعم، لم يأمر الله بالتهلكة، هؤلاء قوم متوحشون، مثلهم مثل حيوان دغلهم لا أخلاق لهم، لا مُثُل، لا مستقبل يخشون عليه من الضياع، لا ماضي يحاولون إبقاءه نظيفًا، لا أمم متحدة، لا حقوق إنسان، ولا منظمة عفو دولية، ولا إنسان.

أين الإنسان؟

– كن رجلًا عاقلًا كما كنت دائمًا، هذان المحاربان شرسان فحكِّم عقلك.

إنها تقصد كن رجلًا جبانًا كما كنت دائمًا، إنها تعني ذلك، هذه اللبوءة الحائل.

لن أضاجعك ولو انطبقت الأرض على السماء، وسأحب سنيلا أكثر وأكثر.

– أين سنيلا الجميلة ذات الشعر الذهبي؟ إنها أجمل منك بكثير ولها قلب طيب كقلب قديسة، إنها جميلة، أين سنيلا حبيبة قلبي؟

قالت ببرود: ماذا تريد منها بعد أن حطمت قلبها وحلمها؟ ماذا تريد منها وأنت عِنِّين ولا مقدرة لك على فعل شيء؟

هاج سلطان تيه وصرخت شياطين في صدره كانت خرساء، قال لها: إذا دخلت معي الكهف سأثبت لك رجولتي.

قالت ضاحكة: ولماذا داخل الكهف؟

قال، نَشف ريقه فجأة: في الكهف سنكون وحدنا.

قالت بذكاء بارد: كنا وحدنا من قبل، وكنت باردًا ولا حيلة لك، أتذكر يوم كلاب السُّمع؟

كانت تحت شجرة الحبحب التي لا تبعد كثيرًا عن باب الكهف، واثقة، تقف كنحت لمايكل أنجلو، كانت مكمَّلة، جسدها رياضي في أنثوية بُدائية، جامع، أغاظته بلفظ مكشوف واصفة إياه بالعُنَّة والجبن.

يقبل الرجل بأن يُقال له جبان، ولكن أن تُسلب رجولته وأن يوصف بأن لا حيلة له وأنه بارد وأنه عنين …

سأبرهن لها الآن أنني رجل.

وعندها هجم عليها بوحشية غابوية محاولًا حملها إلى داخل الكهف، ولكنه لم يستطع أن يحركها قِيدَ أَنْمُلة، طويلة شَحِمة، ذات عظم غابوي أصم. ضحك المحاربان اللذان لا يفهمان ما يجري الآن …

حاول مرة أخرى.

فشل مرة أخرى.

رطنت فلوباندو للمحاربَيْن فانصرفا وهما مندهشان.

– تمهل، فلنذهب للداخل.

قال بصوت مبحوح وهو يبعد عنها ماضيًا نحو الكهف: حسنًا، فلنذهب نحو الداخل.

في ذاتها الحقيقية كانت تريد أن تحطمه تمامًا، تهُدُّ آخر حصن هَشٍّ لديه.

كنت أرغب فيه بحق وحقيقة ومنذ رأيته مثل الفأر يحيط نفسه بأغصان الشوك، ولكنه كان دائمًا ما يفضل سنيلا عليَّ، لا أحقد على سنيلا فلا ذنب لها.

كانت تعرف أنه سيفشل.

سيفشل.

سيفشل.

ضحكت في ذاتها وهما يَلِجان الكهف الدافئ، بناره بصيص، وفي لحظات أصبح جاهزًا وهي أيضًا، وعندما أعطت وجهها للحائط حيث ينام أهل الكهف في أبدية قلقة واضعة ركبتيها على الأرض رافعة رِدْفَيها للأعلى، كانت تكتم ضحكة سافرة ستطلقها بعد قليل: تحية لفشلك الأخير، أيها الشرقي العِنِّين …

لم يهتم إطلاقًا سلطان تيه لهتافات أهل الكهف الذين استيقظوا في لحظة واحدة وأخذوا ينشدون منفستو موسى — عليه السلام — ذي العشر نقاط، ما عدا فليستطيونس، كان وبصوته القديم الأجشِّ يغني: طوبى لرجلٍ سيصبح أبًا لنبي يثأر لبني إسرائيل!

طوبى لرجل سيصبح أبًا لنبي يثأر لبني إسرائيل!

طوبى!

طوب …

سأثأر لنفسي الآن.

طوبى لرجل يثأر لنفسه بابنٍ سيغدو نبيًّا لينقذ بني إسرائيل!

لا، لا، لا، لا تزنِ، لا تزنِ.

هو، هو، هو، هو.

يُؤتَى إليك يوم القيامة بفرج …

عندما اخترقها الشيء حارًّا ارتجفت قليلًا، وقفزت للأعلى، ولكنه توغل …

أكثر، وأكثر، وأكثر، وكلما حاولت التملص منه توغل أكثر.

رَطَنَتْ بلغة اﻟ «لالا» بما يعني: نجحت هذه المرة، لعنة الرب عليك!

واستسلمت، سيطر عليها شبق دغلي مفاجئ، اشتهاء بذيء، ولذة وحشية نادرة. عندما خرجا في طريقهما إلى الكواكيرو وتحت شجرة الحبحب كان ينتظره فليستطيونس، كانت أدمعه تسيل على خده، قال له والعبرة جرح برئتيه عميق وخَنِق: طوبى لك! خلد ذكرك …

قال له الكواكيرو بعد أن أكمل ضيافته وأجلسه قربه: نريدك أن تبقى معنا هنا، تصبح مواطنًا مثلك مثل أي شخص من القبيلة، وبإمكانك زيارة أهلك متى شئت ذلك، فقط نطلب منك أن تعلم أولادنا القراءة والكتابة بالطريقة التي توجد في الشرق أو بلاد البونا أو أي مكان آخر.

ثم أضاف: وإذا شئت زوجناك سنيلا، وأعفيت من أكل ما تبقى من الذئب.

– نعم، سنيلا …

عندما يتذكر سنيلا يسكت عن البدائل، وتهون في سبيل سنيلا المصاعب كلها، وتُسْتأمن جميع المخافات.

أول زيارة لنا للمدينة لن نعود مرة أخرى أبدًا، تزوج سنيلا، علِّم الأطفال شهرًا علِّمهم شهرين، ثم اطلب زيارة أهلك أنت وزوجك بالتأكيد، وحينها فليرحم الله مشروعك الحضاري يا الكواكيرو الطموح، سيركب الكواكيرو الطواحين الهوائية ويلوِّح إلى دون كيخوته بلسانه. أما أنا لم يخلقني الله للعيش في الأحراش، أنا ابن المدينة، ابن جامعاتها، ابن التكنولوجيا وعصر الاتصالات، أنا مشروع بروفيسور، هل يعلم الكواكيرو ماذا يعني البروف؟ أعلم الأطفال! أي أطفال؟! مثلي، وهذا حق، يحتاج إلى زوجة جميلة بيضاء البشرة، متفردة، فلتكن من البونا أو كما يسمونهم، فلتكن سنيلا، فليمت الصادق الكدراوي بغيظه، أين تجاربك؟ أين نظرياتك؟ إن لم تقدك إلى صدر فتاة جميلة ما تفيد. أين علم استمالة النساء؟

أيها الكارما بهارتا المزيف.

ولكن هل كان الكواكيرو غبيًّا؟

قال له الكواكيرو بصوت هادئ تجلى بجعة الأناناس: عندما تخرج أول جيل من الطلاب، في ذات اليوم نشوِّنك بالتبر ونحملك بعربة البونا في زيارة لأهلك بالمدينة أنت وزوجك سنيلا.

لا، لا، ذلك من تخبيث الحاقدة فلوباندو، ربما ترجمت خطأ، أُخرج جيلًا من الطلاب ثم أذهب! كم يوم كم شهر كم سنة! هذا تخبيث شخص خبيث …

لا تتعجل الأمور يا سلطان تيه، ففي التأني السلامة، كن صبورًا فالصبر قطار الأمان وإن وصل متأخرًا إلا أنه سيصل في سلام، في العجلة الندامة وهي التي هربت سنيلا يوم أن تعجلت الصراخ، العن الشيطان يا سلطان، قل إنك تزوجت سنيلا، اقضِ حاجتك منها واهرب بها أو بغيرها، ليلة ليلتين من المراقدة الفاعلة ويخبو بريقها وتصبح عندك شيئًا عاديًّا.

لا غموض، لا تشوق، لا رقصات، ولا …

ولكن هل كان الكواكيرو غبيًّا؟

قال له الكواكيرو وهو يدخن التباكو مخلوطًا بمادة الدَّرْم المخدرة: في اليوم الذي نتفق فيه تصبح سنيلا خطيبتك، أي في انتظارك، وذات يوم الاحتفال بتخريج أول جيل من الطلاب سيكون يوم فرحتك وفرحة الدغل الكبرى …

– لا، لا …

إنه تخبيث شخص خبيث، إنه خيانة مدسوسة في الترجمة، لن أدرس الأطفال، أنا خلقت لأصبح أستاذًا جامعيًّا ولا أقبل بغير ذلك، فلتذهب سنيلا وفلوباندو وأية عفريتة أخرى للجحيم.

لا تتعجل الأمور، أنت تعشق سنيلا، إن العشق يؤذي كما يقول الصادق، لا تكن أحمق، كن شجاعًا في حكمةٍ، ومن أجل الحكمة ذاتها كن جبانًا.

حكى لي الكواكيرو عن خِذلان مستر جين لقبيلة اﻟ «لالا» منذ أكثر من عشرين عامًا، وكيف أن الحال تردَّى بمستر ومسز جين وأخذا يمشيان عاريَيْن، عاريَيْن تمامًا كما ولدتهما أمهاتهما، يمشيان هنا في شوارع القرية وعوراتهما يركُّ عليهما الذباب ونحل العرق، مدعيَيْن أنهما أكثر سعادة، انظر أي سعادة في العري؟!

إنه حقد البونا القديم وبخلهم بما يعلمون، وفوق ذلك كله يودون تخلفنا أكثر وأكثر، فطردناهما مثل قطين شريدين، تركا طفليهما، وذهبا، إلى عهد قريب كان الناس يصادفون مستر ومسز جين في الأحراش، نما الصوف على جسديهما. رأى، وهذا وفقًا لشهادة رجل لا يكذب، هو أبريا، ذلك الشيخ الذي نحترمه جميعًا، كان أبْريا يجمع الكراواوا في دغل عشيب، وبينما هو يخترق العشب الكثيف إذا به يجد نفسه وجهًا لوجه أمام شخصين أبيضين مشعرين كقردين من فصيلة العوا، لهما ما يشبه الذيل، هربا بعيدًا، يصرخان، هي لعنة الجد برم بجيل التي أصابتهما.

قال سلطان تيه، استقر الصراع النفسي به إلى لا شيء: سأدرِّس الأطفال.

ثم أضاف في عمق سحيق من مأساته: ولا نامت أعين الجبناء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤