أزولوما الحرب

أبنائي، الأرض التي تمشون عليها هي أمكم،

فخفوا في مشيكم وقدروا،

والشجرة التي تسكنون وتأكلون وتشربون هي أختكم،

فخفوا في سكناكم وأكلكم وشربكم وقدروا،

والهواء الذي تتنفسون والشمس،

والقمر،

والمطر، والصاعقة، والمرأة حين تعشق،

والذئب، فلا تشعلوا نارًا وأنتم تخشون الحريق،

فقط مدوا يدكم لله، وسيملؤها بالكراواوا الدنبا؛ باللذة.

أمي هي أنتم؛ لأنني عندما أطعمكم، أشبع،

أنتم، كلاكما رب نفسه فاشكرا الله لأنه بارك يدكم.

يدكم.

شجرة.

أنا برم بجيل، أنجبتني امرأة واحدة وأبي الريح.

أبي.

يدكم.

سلام عليك وأنت ترفع حربتك عاليًا، عندما تقرصك نملة الموت، تحيا.

وعندما رفع الكواكيرو كف الذئب، أخذ المحاربون ينشدون أوزو لوما الحرب، عدهم الكواكيرو بنفسه في الليلة الماضية وكانوا سبعمائة مقاتل، عدهم الكواكيرو الآن بعد أن قسمهم إلى فرق حربية متخصصة: الساهمون. وسمى الفرقة ﺑ «مزاكي» تيمنًا بقدراته غير المحدودة في استخدام السهام، حيث كان يرسلها للرب ويقوم بتصويبها على صدور الأعداء؛ فلتكن روحه الآن هي بصيرتكم، الفأسيون بقيادة ساسو القط، الشهير بالقط، ومن يستخدم الفأس مثله في خفة كف القط الحرابيون.

حملة الماء والطعام والدنبا على ظهور حمر الوحش أوزو لوما باييخي.

وإذا اشتعلت الحرب لا بد ممن لهم صلة بالرب المستضيف لأرواح الأسلاف، من يطلبون النصرة لجيش «لالا»، بقلب وأكف وصوت برم بجيل الصالح.

شاوندو، المائحين،

الحرب شر، ولكن أن تستسلم للعدو شران.

قالت له فلوباندو: والرجل خُلق لكي يموت في حرب ضروس.

– أما أنا، ما علاقتي بكل ذلك؟! لست مع الكواكيرو، لست مع العائدين، ولا مصلحة لي في الحرب التي ستشتعل الآن، ولا أعتقد أن الرجل ولا المرأة خُلقا لكي يموتا في الحرب.

– إذن هي فرصتك كي تحدد موقفًا، فبدلًا من أن يكون لك عدوان فليكن لك عدو واحد، الكواكيرو أو العائدون، أنت في حاجة لمن يقف خلفك ويرد عنك سهمًا قد يصيبك من الخلف.

من على شجرة الحبحب العملاقة بدا ميدان المعركة مكشوفًا على جانبي أرض حرام أوجدتها الصدفة، على الجانب الشرقي الدبابات العشر التي تمثل الدفعة الأولى، حضرت مبكرة لأغراض التدريب ومعها خبيران أجنبيان أسودان.

– هل سيطلقون نار الدبابات على المحاربين؟

– إنهم لن يفعلوا، وإلا عادوا إلى مهاجرهم خائبين، فقط سيقومون باستعراضٍ عسكري.

– وإذا هاجمهم المحاربون؟

– لا أدري إذا كانوا سيهربون، أو يبقون داخل دباباتهم المصفحة؟

كانت فلوباندو واثقة مما تقول.

في الجانب الآخر، الشرقي، المحاربون في جلود النمر والرافيا يشكلون فرقًا ميدانية يَطلُون أوجههم بالرماد والجير وينشدون أوزو لوما الحرب، يستعرضون أسلحتهم في الهواء، يقتلون أعداء وهميين، يعتقلون آخرين يربطونهم بحبال الرافيا والسَّعَف، يقتلونهم يمثلون بجثثهم، هكذا يستدعون روح السلف لتنصرهم، هكذا يخيفون العدو.

جسداهما ملتصقان وهما على شجرة الحبحب العملاقة، كانت لدية رغبة واحدة: العودة، وبأي ثمن.

كانت لا تعرف ماذا تريد، وعندما سألها عن سنيلا كان لا يعني له السؤال شيئًا ولم يعلق هو أملًا ما على الإجابة؛ العودة، ولا شيء.

– سنيلا هي الأخرى مندهشة لما يحدث، ويقال إن الفتية العائدين يرونها فتاة بالغة الجمال، تمامًا كما تراها أنت، هؤلاء الفتية — كما يقول الكواكيرو — مسختهم الغربة، إنهم لا ينتمون إلى هذا المكان أبدًا. هل ما زلت ترغب في سنيلا؟ بالمناسبة، لقد وجدت صديقتي سوما بالأمس وهي عائدة من قرية مو مع عمتها العجوز على حمر الوحش، وجدتا والدَي سنيلا وبانارودنا، كانا مشعرين وكأنهما قردان عجوزان، مسز جين أصبحت امرأة ضخمة الجثة لها أثداء كبيرة مكتنزة، أصبحت ذات بشرة سمراء كالتراب، هكذا وصفها كثير ممن رآها في السنين الأخيرة، بحث عنهما الكواكيرو بنفسه في الدغل المجاور، بل ذهب إلى ساحل بحيرة التماسيح وسفح جبل «الكا» ولم يعثر عليهما، كان يريد أن يتحقق من أحد قولين: هل صارا بأذيال وآذان كالقردة، أم أنهما لا يزالان بشرًا ولكن يكسو جسديهما شعر كثيف؟ وجد أبي مرة، وكذلك وجد أبريا وكاب بوغو، وجدوه مع امرأته الشيطان، وقالوا إنه سعيد ومرح …

فجأة دوى صوت انفجار مقذوف الدبابة وهو يخترق الهواء، ثم تبعه آخر.

دن، دن.

دن، دن.

دن، دن.

دن.

دن، دن.

دن، دن.

دن.

كانت الأرض تهتز، والأشجار، العصافير شكلت سحابة ضخمة في سماء الغابة، الوحوش ارتبكت وهربت في كل الاتجاهات.

إنها الحرب.

إنهم يستعرضون قوتهم …

ارتبك المحاربون قليلًا ولكنهم ثبتوا في أماكنهم، أما الصبية والنساء الصغيرات فهربوا للمنازل، النساء كبيرات السن كن دائمًا يفضلن الموت مع أبنائهن المحاربين. عرف الكواكيرو بينه وبين نفسه أن الفتيان أيضًا يحاربون عدوًّا وهميًّا في الفضاء، يطلقون نارًا حقيقية عليه. قال له أبريا، الذي لا تقع كلماته على العشب أبدًا: اطلب من المحاربين أن يذهبوا إلى منازلهم ونذهب نحن، وبذلك نكون قد كسبنا المعركة.

وفهم الكواكيرو ما يرمي إليه أبريا، كان القادمون ينظرون إلى المحاربين في استغراب لأنهم يعرفون أن الكواكيرو لا ترعبه مقذوفتان أو ثلاث في الهواء، ولا حتى على صدر جيشه.

لقد كسب الكواكيرو المعركة، وأصبحوا هم شيئًا، أصبحت القرية وساكنوها أهلهم وقبيلتهم، شيئًا آخر؛ الهزيمة.

•••

عندما خلا بنفسه فكر في الهرب، ويعرف أنه لا يستطيع؛ لأن دورية المحاربين التي أبقاها الكواكيرو حول الكهف لا تهمله طرفة عين، تأخذه في حراسة مشددة للبسنتا، يعلِّم الأطفال ما يريد أن يعلمهم، تأخذه للكهف. عندما سأل الكواكيرو لماذا لم يفِ بوعده بشأن سنيلا، قال له: أنت باقٍ معنا رغمًا عن أنفك، ولم تقبل ما عرضته عليك، أنت تعمل الآن خارج الاتفاق.

•••

أول من التحق بالعائدين وينو.

ذلك الشرس، ويقال إن تيم وعده بأن يصبح سائقًا لإحدى الدبابات، سيعلمه قيادة الجيب، وينو يكره الكواكيرو لأنه أهداه لقب «تنقا»، و«تنقا» بلغة اﻟ «لالا» تعني ذا الأذن الواحدة، وذلك شيء لا يمكن أن يغفر، وكان حديث كل بيت وشارع وغابة، رحلة صيد، ورود ماء، جلب أحطاب، الذهاب إلى قضاء الحاجات، شواء الدجاج، مطاردة الأرانب، جلسات الدنبا، جلب الأناناس، حصد الذرة، تخمير القشدة، صيد الكراواوا، رحلة نكاح بنات «الكا» والهرب منهن، وهي رحلة طريفة يتسلى بها المحاربون؛ تمضي جماعة من المحاربين أصدقاءً إلى عمق الدغل، حيث الأشجار عالية وتكثر الخنازير البرية، هنالك بنات «الكا»، هن مصائد القبيلة، يصاد بواسطتهن رجال القبائل الأخرى، يتبعون كل ما هو معتاد إثر الرائحة التي تفرزها أفواه وفروج فتيات «الكا» وهي رائحة مثيرة، رائعة قاتلة.

يجدون فتاة «الكا» تفترش فيء شجرة عرد عملاقة، دائمًا عرد، على مرقد من أوراق الموز تدعي النوم، تلمع بشرتها السوداء المدهونة بزيت النخيل على شعاع الشمس المنسرق بين أفرع الأشجار، جميلة وشهية وطازجة، لها أرق، أنعم، أطول، أقوى أذرع خلقها الله لامرأة، يفوح من بين نهريها وفمها عبق يشعل ثلج نوم الفعل في ذاتٍ حجر.

يذهب نحوها من يختاره الحظ، عندما تحس بقدومه تستيقظ، عندما تستيقظ تبتسم، تباعد قليلًا بين نهريها، تبدو تفاحتها بين تفاحتين، وهي القذيفة التي تميد بآخر حجر في قلعة الخصم، العاشق، الصيد.

يختبئ الأصدقاء بين العشب على أهبة.

يلتصقان، فتاة «الكا» كما هو معروف مثلها مثل الكلبة، إذا ولجها الشيء قبضت عليه بعضلة ممسوخة في عمق شيئها، ولأنها المصيدة تهب لذة الشيء في اكتمال أسطوري ولذة لا مثيل لها، بينا الرجل بين لذة ولذة يأتي قومها ويأخذونه صيدًا.

وهنا يتدخل أصدقاؤه ويقومون بطرد أكلة البشر، حيث إنهم يتصفون بالجبن الشديد، ولسوء حظهم أن نساءهم ليس بإمكانهن قتل أحد وأنهن يستمتعن بالمفاعلة، وهنالك قلة من رجال «لالا» ابتسم الحظ في صدفهم وتزوجوا من فتيات كأنهم أسعد الرجال.

وعندما قاد وينو سيارة الجيب الحمراء ودار بها حول القرية مصرفًا بوقها، مفزعًا دواب وأليفات القرية مجريًا الأطفال خلفه وهم يتقافزون على العشب، مفترًّا أفواه الصبيات والنساء بل وحتى المحاربين، عندها انضم عدد من المحاربين للقادمين، وعندما قادوهم أيضًا انضم عدد آخر من المحاربين، وعندما انضم عدد آخر من المحاربين وبدأ التدريب الفعلي حين وفدت مجموعة أخرى من الدبابات ذات الأنظمة الهجومية/الدفاعية المعقدة …

انضم.

عندما.

ولعب الفأر في جرة دنبا الكواكيرو العجوز، وعندما غنت الصبيات:

«لالا».

بي كم بيسي.

كم إيلي.

كانت قراءة ما يحدث في المستقبل أوضح من شمس الصحراء …

•••

مرة أخرى جاءه الوسيم ذو اللفات الكثيرة تيم:

– كنا نعلم الظرف الذي أبقاك، والآن تغيرت موازين الأشياء، والكواكيرو أصبح وحده وبعض العجائز الذين لا يفيدون في شيء.

ارحل …!

•••

الساعة تشير إلى العاشرة مساءً، وهو سيتصرف ببرود وثقة تمامًا كما كان الصادق الكدراوي.

بثقة/ببرودة.

ببرودة/بثقة.

كان يحمل متعلقاته على ظهره، ينتعل حذاءه الكولمان القوي، ببرود/بثقة: سنيلا سآخذها معي، أنا رسول نجاتها الاستثنائي، وسوف تذهب معي، وحينها سيموت الكدراوي غيرة.

سنيلا، تلك الوحشة الغابية الجميلة، سآخذها حيث يُقدر جمالها وتُعاد إليها مملكتها المسلوبة.

يعرف تمامًا موقع كوخها، كان مضاء بنار الليل، وهي عيدان تبقى مشتعلة بالكوخ إلى الفجر. سآخذها معي، وستقبل الذهاب دون مساومة، من يقدر جمالها في هذا الدغل الموحش المتخلف؟ من يعرف أن سنيلا هي أجمل ما خلق الله؟ البرصاء، هه، برصاء؟! هم البرص، هم المرضى بل الميتون، عذرائي الرائعة سنيلا.

وهيجت فكرة عذراء في نفسه شجنًا دفينًا واشتهاء خبيثًا ونشوة، فكررها، دعني أسكر منها، أُجَنُّ، أهيم، أموت.

وهي القدر الذي ساقه الدية قدر.

وهي الميلاد الذي خصه به ميلاد، وهي الروح الذي دله إليه روح، وهي الوجد، وهي السُّهد، وهي … كان كوخها مضاءً، أهم الآن يستعدون للحرب؟ وسنيلا مثلي تمامًا، ما شأنها؟

وتقدم ناحية الكوخ بجرأة فريدة، إنه لم يرها منذ أسابيع كثيرة مضت، مشتاق إليها الآن أكثر وأكثر وأكثر …

باب الكوخ المصنوع من البامبو كان مغلقًا، قد تكون نائمة، سأوقظها الآن، أبشرها بالذهاب معي إلى الشرق … وأخذ يغني بقلق: أحبك لأنك …

وهو يقترب من الباب أكثر سمع همسًا، ولكنه تقدم بجرأة وبرود، عبر ثقوب باب البامبو استطاع أن يرى كل شيء، وبوضوح تام: تيم، كان تيم الوسيم ذو اللغات الكثيرة، يعتلي صدر سنيلا ويغرقان في عري كوني جامح.

نذل.

ودون أن يفكر في شيء ما، دخل الدغل الساكن المرعب في ظلامه التام، كان عواء كلب السمع يأتي من كل صوب وجهة، ولكنه لا يخاف من شيء، يجب عليه أن يمضي بعيدًا عن هذا المكان.

السلم هو جثة الحرب

لا شيء، لا شيء، لا شيء غير هياكل الأشجار المحترقة، أشجار الحبحب، والمهوقني، والمانجو والتك العملاقة، لا شيء، غير هياكل من الفحم والرماد، أما القشدة، الأناناسات، البابايات، وغيرها من الشجيرات الهشة التي كانت تنمو على جوانب التلال الخصيبة الممتدة ما بين الدغل الأوسط والشرقي عبر قرى «لالا»، «شاري»، «فترا»، كهوف «الكا» المتفرقة فيما وراء بحيرة التماسيح، قبيلة «الكا» المرعبة؛ تمتد خلفها …

٩ / ١٢ / ١٩٩٧–٦ / ٧ / ٢٠٠٠
خشم القربة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤