الرجل لا يغضب لكنه يتعلم

لا تعرف لغة النساء.

لا تعرف كيف تخاطبهن …

والوصول إلى جسد المرأة لا يتم إلا بالخطاب، لا خطاب لك. هكذا همس ثمليخا في أذنه بينما كان هو يتكئ على الجدار، جدار الكهف، يحس أن بثمليخا ملامح سقراط، هو لم ير سقراط، لا نحتًا لا رسمًا، يحس أن بثمليخا فلسفة سقراط، لم يقرأ سقراط.

– عظني يا ثمليخا.

– أنا لست بواعظٍ، أنا رجل هرب بدينهِ.

– علمني دينك ثمليخا.

– أنا لست معلمًا.

– إذن قل لي ما هي لغة النساء؟

– إنها كلغة الطير.

– ما هي لغة الطير؟

– اسأل الطير …

غضب سُلطان تيه، قال: أنت دائمًا تهرب من السؤال كما هربت من قبل من الحاكم الروماني، لم لا تتعلم المواجهة؟ إلى متى ستظل هاربًا؟

– إلى أن يصبح الواقع كما نشاء.

– إن الواقع يمضي إلى الأمام، أنت بهروبك تقف في مكانك كالذي يجري في دائرة، فما الذي يستحق الهروب؟

– ديني.

– الدين؟

– نعم.

يا أخي ثمليخا، الدين كالفاكهة، كالتفاح إذا أخفيته وأغلقت عليه فسد وتَعَفَّن، إنه يريد الهواء، يحتاج إلى الآخرين.

قال ثمليخا مثأثئًا: من أين جئت لتتفِّه هروبنا؟

– من أين جئتم أنتم لتقلقوا وحدتي؟

– أنت الذي جئت إلينا.

في هذه اللحظة دخل محارب دون سابق إنذار وهو يحمل وعاء جعة الأناناس وشواء الذئب، كانت رائحة المشروب قوية ومنعشة، لونه الأناناس، رغوته البيضاء الكثيفة شيء شهي. شرب جرعتين كبيرتين، انصرف المحارب، قال لثمليخا: أنت كذَّاب.

لكنه لم يسمع ردًّا.

تحدث كثيرًا، لكنه لم يسمع ردًّا.

هكذا — قال لنفسه — يأتون كما شاءوا ويمضون؟!

شرب مزيدًا من جعة الأناناس، خرج، سمع نباح كلبٍ يأتي من داخل الكهف لكنه لم يكترث كثيرًا لذلك، أنا لست في حاجة في هذا الصباح لفلوباندو ولا سنيلا. يحتاج لمن يرتب فوضى حياته، يعيد جدولة أحزانه، يريد أمه، نعم، أمه فقط. كان يحس بفراغ أمه فيه كبيرًا وشاسعًا، رطبًا كجوِّ الدغل، محشورًا مُمطِرًا لكنه هلامي أيضًا، فوضى، فوضى، فوضى، فوضى!

كيف انزلق في هُوَّة الفوضى؟ هل النساء هنَّ اللائي زحْلَقْنه في جوفها؟ أي نساء؟! أهو الذي خطا نحو بئر لا غِرار لها؟ أي بئر؟!

فوضى، فوضى، فوضى، فوضى، أيُّ فوضى؟

كان دائمًا ما يأخذ معه فأسه كسلاح ضد المخافات المتوقعة، ولو أن فلوباندو أخبرته أن هذا الجزء من الدغل هو أقرب إلى غابة عادية منها إلى دغل، لاحظ بنفسه ذلك؛ الأماكن المحيطة بالقرية هي أماكن مفتوحة تعرضت للتعرية والقطع بواسطة شركة الأخشاب الوطنية التي كان لها نشاط ملحوظ في هذا المكان خلال سنين كثيرة مضت. وأيضًا تقول له فلوباندو: المحاربون دائمًا حولك، في مكان ما، فلا تخفْ شيئًا.

ولو أنه اعتبر أن ذلك ضرب من التهديد، إنها تريد أن تقول لي: إياك إياك أن تهرب.

•••

ماذا يفيدك الذهاب إلى أكواخ آل جين؟ ماذا يفيدك البقاء هنا أو التجول في الغابة؟ ماذا يفيدك الذهاب إلى البحيرة؟

كل شيء مثل كل شيء، الضجر والوحدة يشبهان الضجر والوحدة، لكن من الأحسن أن يشغل نفسه بشيء، ليكن مستر ومسز جين، فليبحث في حياتهما لعله يعرف كيف يعيش ليأكل ما تبقى من لحم ذئبٍ، لا يكمل أبدًا وكأنه ينبت كالأشجار في هذه الأرض الخصبة، هل ظنَّ يومًا في لا وعيه أن امرأة ستُذْهِب عنه الضجر؟ أما الآن فلن ينسى كيف سخرت منه وضحكت عليه فلوباندو، بل وأضحكت عليه المحاربين المتخلفين الجهلاء، صدق من قال: من يَهُنْ يسهل الهوان عليه، ولا بد أنه عاش تجربة مشابهة لما يعيشه هو الآن، في مثل هذا المكان المتوحش الدغل البائس يُرمى شخص بلغ من العلم ما بلغ، طالب دكتوراه، ذو تخصص نادر في علم الحياة البرية، ينتظره مستقبل مشرق بين حجرات الجامعات ومنتديات التعليم والمعرفة؟ أتسخر منك دَغليَّة، دَغليَّة ثقيلة الدَّم باردة كخرتيت، جاهلة حقيرة؟ ليس إلا لجبنك بعض الشيء، بك قلة لا تذكَر من الحرص، هل تعرض نفسك رخيصة للتهلكة؟ كيف لك أن …؟ إن بإمكان المحاربين النُّباح مثل كلاب السُّمع.

مَا أدراك ومَنْ أدراك يا سلطان تيه؟ الآن سيستغني عنها كأنثى ولن يُرغب فيها ولن.

فلتسقط أردافها الجميلة، وتذبل عيناها المتوحشتان!

رأسه مزحومٌ بالفراغ وهو يمشي على العشب والصخر، يدوس على الجعارين بحذائه القوي الضخم، متوكئًا على فأسه، مستمدًّا بعض الشجاعة منها، تتصارع الكلمات والأفكار في فراغات رأسه تعمق الهوة: يحب سنيلا، سيخطف سنيلا للشرق.

لا يحب سنيلا، لا يخطف سنيلا للشرق.

سيُصَالح فلوباندو من أجل أن تحكي له، لن يصالح فلوباندو لأنها جعلت منه أضحوكة، لأنها أهانته، لكنه هو منْ في حاجة إليها، إذا خاصمها يكون قد عاقب نفسه بنفسه، وإن صالحها فيصبح كالفأر الذي أكل ذيله، ليس إلا.

اقتحم غابة الموز الصغيرة، هربت قرود العوا صغيرة الحجم وهي تصرخ، سوف لا يهتم بها، كما في المرة السابقة، وجد نفسه وجهًا لوجه وكوخ الموز والبامبو، الكوخ الآن أصغر مما هو عليه ليلة الأمس، يبدو ضخمًا في الظلام، دار حوله يستكشف المخافات، دخله في حذر وهو يقرأ تعويذة تفيد أيضًا في طرد أرواح الجن والموتى التي تسكن المنازل المهجورة، كانت الشمس تضيئه بصورة جيدة عبر النوافذ المشرعة وفراغات السقف، ربما صنعتها القردة نتيجة لتسلقها الدائم للكوخ، بالأمس أسهم هو أيضًا في خلق بعض الثقوب، الكوخ فارغ تمامًا، يبدو أنه استُخْدِمَ كمخزنٍ للحطب الجاف في مواسم هطول الأمطار، ذلك لوجود بعض قشور الأشجار متناثرةً على أرضية الكوخ، تفوح من الكوخ رائحة عطنة كرائحة الفاكهة الفاسدة، أرض الكوخ رطبة بعض الشيء، ولا شيء يثير شهية الاستطلاع.

المبنى الآخر مشيد أسفلُه من الحجر والطين الأحمر، أما أعلاه فمن العشب وأوراق الموز، تغطيه بشكل كامل نبتة متسلقة كبيرة ذات أوراق شديدة الخضرة، لها أزهار حمراء صغيرة كأزهار الأفوربيا الشوكية. حين توقف عند الباب بدا له جليًّا أن المبنى لا يتكون من غرفة واحدة لكن من حجرتين؛ الأولى متسعة تضيئها الشمس عبر نافذتين كبيرتين لا قُفْل لهما، في فراغها الكبير مقعدان مستطيلان مصنوعان من الخشب البامبو، ربما كانا يستخدمان كمراقد، هما — كما هو واضح — مثبتان على الأرض، أو بالأحرى مبنيان بنيانًا، في وسط فضاء الحجرة منضدة مستطيلة مبنية من البامبو، حولها أربعة كراسي، يوجد أيضًا باب مغلق مصنوع من البامبو، مغزول بجلد قوي سميك، حاول فتح الباب لكنه فشل أن يجعله يهتز ولو اهتزازة خفيفة، ما جعله يظن أن هذا الباب باب وهمي، وأنه جزء من الحائط، لكنه كان موقنًا أن هنالك حجرة أخرى تبدأ من هذا المكان، وهي ربما أكبر من التي هو بها الآن. خرج، دار حول المبنى، ولاحظ أنه ليس للحجرة الأخرى نوافذ، بابها هو ذات الباب الوهمي الذي يصعب فتحه، عرف بينه وبين نفسه أن بالحجرة سرًّا ما، في الغالب تحتوى على ممتلكات آل جين من الجلود، أدوات الحرب التقليدية، ربما عربتهم الخشبية أيضًا، ولو أن خياله حدَّث عن مذكرات خاصة تحكي عن رحلة آل جين حُفظت ليجدها أحفادهم في المستقبل. لماذا لم يكن الجين في خلوتهم هذه قد وضعوا أفكارًا متقدمةً عن سلاحٍ لا يعرفه العالم بعد؟ أليس هما عالمَيْن في السلاح؟

لماذا لا يكون قد وصلا لاختراع بإمكانه إبطال مفعول الأسلحة النووية أو آثارها؟ لكن فجأة خطرت له فكرة غريبة بائسة: لماذا لم يكن الجين سوى نفر من الجن، عاش هنا ثم عاد إلى حيث أتى؟ هذه فكرة ساذجة لا يحق لطالب الدكتوراه أن يفكر هكذا، إنها تناسب فلوباندو أو الكواكيرو.

ألا يخاف هو من الجن؟

ألا يوجد الجن بالعالم؟

أيكفر بالجن؟

كانت البئر تقع جنوب المبنى، تحيطها أعشاب صغيرة، لكنها بارزة بوضوح يمكن رؤيتها على بعد أكثر من عشرة أمتار، مغطاة بلوح من الخشب الصُّلب الثقيل، يمكن فتحها بسهولة فقط لو دَفَع الكتلة الثقيلة من إحدى نهايتيها نحو أية اتجاه؛ لأنها مثقوبة من الوسط مثبتة بوتد أصم ضخم، لكنه لم يفعل، بل حمل خطاه راجعًا إلى كهفه عبر غابة الموز الصغيرة وشجيرات القشدة، فبالسماء سحيبات، خاف أن تمطر حالًا، علمته التجربة ألا يدع المطر يفاجئه خارج كهفه أبدًا، أخذ يسرع الخطى نحو الكهف. عند الكهف كانت مفاجأة تنتظره؛ فلوباندو معها سنيلا، تجلسان تحت شجرة الجوغان العملاقة قرب الكهف، إنها مفاجأة، مفاجأة خبيثة، إنها مؤامرة، هكذا حدث نفسه؛ العدو هو العدو يا سلطان تيه ولو قبَّلك على خدك، لذا بادر فلوباندو قائلًا بحدة: أية مؤامرة أخرى خبيثة في رأسك بعد فعلة الأمس؟

قالت مبتسمة في برود: الرجل لا يغضب، إنه يتعلم من الأحداث.

قال بنفاد صبر: إذن ما هو درس اليوم؟

قالت وفي فمها ذات الابتسامة الذكية الباردة: ليس هناك دروس ولا مؤامرات كما تظن، لكني أريد فقط مساعدتك.

ثم فجأة ودون أن تترك له فرصة للتفكير أضافت: أنت لم تقل لسنيلا كواسيس، أي السلام عليكم، إنها تنتظر منك ذلك!

لا يعرف، هل يصدق فلوباندو؟ هل يكذبها؟ إنه على كل حال لن يخسر شيئًا أكثر مما خسر، فليكن معنى كواسيس اغربي عن وجهي، فليكن معناها وجهك قبيح، فليكن معناها إني أكرهك.

– كواسيس سنيلا.

ردت وعيناها الخضراوان تشعان بهجة: كواسيس، كووا تدو ساسيس. ثم أضافت بصوت خفيف: إماما هما جري جري أرو لو كلوا، فلوباندو.

قالت فلوباندو مترجمة: فلوباندو أخبرتني بكل شيء.

قال مندهشًا بحذر: ما هو كل شيء هذا؟

قالت فلوباندو في هدوء ووضوح: أنت تريد فلوباندو لتنام معك.

قال في انفعال: أنا؟! هل قلت ذلك؟!

قالت فلوباندو في برود: إذن أنت لا تريد ذلك؟

صَمَتَ …

في الحق كانت قد أذهلته صراحة فلوباندو وتحدثها بالطريقة الواضحة المكشوفة، وخلطها التام ما بين الحب وممارسة الفعل الجسدي، إنه يحب فلوباندو وهو موقن بصدق هذه العاطفة فيه وأصالتها، ببساطة يمكنه أن يوصف علاقته مع فلوباندو بلغة «أريدك أن تقضي معي الليلة».

أما مع سنيلا فكالآتى: «أريدك أن تبقي معي العمر كله»، وإذا كان الحب يحتاج لمبرر فلديه ما يبرر ذلك، إذا لم يكن يحتاج إلى تبرير فإنه يحبها، هذا يكفي، لكن المشكلة مشكلة لغة، لغة فحسب، هي الآن لا ترفض ذلك، ليس لديها ما يمنع إذا كنت تريدها الآن، فهي تبلغ من العمر ثمانية عشر خريفًا، لم تصبح حتى الآن امرأة إنها عذراء، وأنا أيضًا أعذر!

النساء عند الصادق الكدراوي اثنتان: نساء عذراوات، نساء ذقن طعم الحياة.

قال بصوت مبحوح: لديَّ بالداخل بعض مشروب الدنبا، دعينا نتناوله سويًّا، ليس لديَّ ما أقدمه لكما غير لحم الذئب وأنتما لا تأكلانه، إنني فقير جدًّا في بلادكما هذه، فقير. دخل الكهف، كان الارتباك واضحًا على أوجه أهل الكهف، كانوا يجلسون في حلقة، الكلب يرقد قرب فليستطيونس، بدخوله حملق الجميع في وجهه في وقت واحد، وقف مرطونس أخذ يتلو وصايا موسى العشر من التوراة:
لا تعبد غيري.
لا تتخذ صنمًا معبودًا لك.
احترم والديك.
لا تقتل.
لا تزنِ، لا تزنِ، لا تزنِ، لا تزنِ.
لا، لا، لا، لا، لا.
وضجَّ الكهف بالهتاف.
لا، لا، لا، لا، لا.
لا تزنِ.
احتموا، احتموا.

في المسجد الصغير الذي ينتمي إليه والده شيخٌ شابٌّ ذو أدبٍ جمٍّ، هادئ، كثير الصلاة، فقط يعاب عليه أنه مهووس بعذابات يوم القيامة، ليس خائفًا لكنه مرعوب، يحفظ كتاب «غرة العيون وفرحة القلب المحزون»، كل كلمة يتفوَّه بها الشاب الشيخ كلما صحبه والده إلى الجامع، حدثه ذات مرة عن عذاب الزاني يوم القيامة:

قد أراني الله إياه في المنام، كان رجلًا له وجه مصفرٌّ كالنحاس، يقف عاريًا على صفيح ملتهب حافيًا، يُسمع لشواء قدميه شطيطٌ، كان يصرخ صراخًا حادًّا طالبًا الرحمة، فيؤتى إليه بفرج امرأة من الجمر ويُقال له: افعل كما كنت تفعل بالدنيا …

قالت له فلوباندو عندما لاحقته في الداخل لأنه تأخر بعض الشيء: لماذا تتحدث وحدك؟

– إنهم أهل الكهف.

– من هم أهل الكهف؟

قال وقد أحس بحرج موقفه: إنهم لا أحد، إنني دائمًا ما أتحدث إلى نفسي.

– هذه هي الدنبا، إنها شراب منعش.

– هل تشربينه كثيرًا؟

– أنا أفضل دائمًا اليازو.

– هل هنالك أفضل من الدنبا؟!

– نعم اليازو، يصنع من الكراواوا، لكنه مكلف جدًّا لأن جلب الكراواوا عملية مُجْهِدة.

خرجا …

سنيلا جلست على الأرض في يديها بعض خصلات من شعرها الذهبي تحاول أن تحررها من بعض العوالق. شربوا جعة الأناناس، الدنبا، ذات الزبد الجميل، المنعشة. كانت سنيلا جميلة ولو أنها تبدو متوحشة بعض الشيء، لربما يوحي بذلك شعرها الغزير غير المنظم، تعلَق به بعض أوراق الشجر والأغبرة، يداها ذات الأظافر الطويلة مع خشونة طفيفة على الكفين والقدمين تعطي لوحة لإنسان غابوي مستأنس، وفوق ذلك كله كانت جميلة جمالًا مفرطًا تؤكده العينان المتسعتان الخضراوان كأنهما حقلَين من الليمون، هذا ما يؤكده الفم الكرز، يؤكده الجسد، الرقصة، صوتها ذو النبرة العميقة، يؤكد ذلك عنقها المنتصب كساق اللوسيانا، ناعمًا مستديرًا وشامخًا، هي فتاة جميلة، والغريب أنها أقرب إلى طبيعة الدغل من فلوباندو؛ لأنها إذا انتصبت قرب ساق حبحب ذات الساق البيضاء عليها بعض النباتات المتسلقة، فليس بإمكان المحارب القوي الملاحظة الذي يمشي بقربها أن ينتبه لوجودها …

قالت فلوباندو مؤكدة دورها الإيجابي في الجمع بين «العذراوين»: أنتما الآن ليس في حاجة إليَّ، المطر سينزل بعد قليل، يمكنكما التفاهم، ولو بالإشارة، أنا ذاهبة، إلى اللقاء عند المساء. لا تخشَ شيئًا، فلا أحد يعترض، الجميع يباركون ذلك. مما سنيلا.

مما فلوباندو.

كان سلطان تيه مندهشًا لغرابة الأحداث حوله.

أما سنيلا، عيناها تشعان خضرة وانتظارًا، كانتا غابتين من الأناناس، إذا دقق الملاحظة بعض الشيء سيكتشف أن سنيلا كانت خجلانة.

النار بالداخل دائمة الاشتعال، للنار ثلاث فوائد: تجفيف الرطوبة العالية.

الضوء والدفء.

النار حرب المخافات كلها.

سنيلا تلبس رحطًا يتدلى من خصرها إلى ما فوق الركبة بقليل، مصنوع من قصب ناعم ينمو بالأودية يسميه السكان «البابيت»، يتميز بتشكيلة ألوانه الزاهية بدرجاتها، أما صدرها فكالعادة عارٍ، تتناثر عليه خصلات من شعرها همجيات، تظهر من بينها التميمة الكبيرة مدلَّاة من عنقها إلى ما بين نهديها، حيث اكتشف سُلطان تيه للتو نقطة ارتكاز جسدها.

وتكتشف سنيلا أن هذا اليوم هو نقطة ارتكاز حياتها.

لا يدري من أين يبدأ، كيف يبدأ، ولا مجال إلا لقانون الصادق الكدراوي «العمل المباشر».

لقد تجاوز مرحلة «كل شيء يبدأ من الرأس»، إذن ما دام الجسد هو نشيد إنشاد الروح، وأن النهد — كما اكتشف هو — نقطة ارتكاز الجسد، إذن لماذا لا يبدأ من هنالك؟

في الحق عندما تضخم عنده وجع الشَّبَق خمل العقل، حيثما وكيفما بدأت أنت الواصل، كلها لك، عقلًا، جسدًا، فيمَ التفكير يا سلطان تيه، إنها سنيلا حلمك ووهمك، الرقصة، الغابة، أجمل متوحشة في العالم؟!

لا يدري لماذا دخل الكهف، لكن سنيلا كانت تعرف لماذا مشت خلفه، تعرف لماذا عندما شارفت فراش ورق الموز بيدها اليسرى انتزعت قصبة بامبو صغيرة ناعمة لتحرر رحط «البابيت»، وفي ثوانٍ تقف عارية ساحرة كجنة، وساخنة على دفء النار، خيوط دخانها الفاترة. التفت إليها، عانقها، فجأة سمع صوتًا، في الحق عرف أنه فليستطيونس.

– قبِّلها، لتصبح أبًا لنبي ينقذ بني إسرائيل من …

قبِّلها.

– أصبح أبًا لنبي!

– قبِّلها.

وهو يحاول أن يقبلها سمع ثأثأة ثمليخا: لا تزنِ، لا تزنِ.

سمع شيخ جامع والده، الشيخ الشاب: افعل كما كنت تفعل في الدنيا.

كان يستمع إلى كل ذلك وكأنه آتٍ من عمقٍ سحيق لبئر مظلمة في نفسه، بئر مسكونة بالجن والغِيلان، بئر سوداء.

– قبِّلها.

ضاجعها.

لقد زوَّجتْك نفسها، ألا ترغب أن تصبح أبًا، أبًا لمن ينقذ بني إسرائيل؟

عندها هتف الكهف كله: النار، النار، لا تزنِ، قبِّلها، بنيُّ، النار، افعل، لا، قب … ضا …

اختلطت الأصوات والانفعالات في صدر سلطان تيه، أحست سنيلا بأن سُلطان تيه مرتبك أو خائف؛ لأنه تردد كثيرًا في محاولة أن يمد شفتيه الغليظتين نحو شفتيها المتورِّدتين الناعمتين الرقيقتين، تردد كثيرًا، لقد قصت لها فلوباندو حكاية كلاب السُّمع، إنه شخص جبان.

قالت سنيلا لسنيلا: إنه يحتاج لبعض التشجيع، فأمسكت به من وسطه ساحبةً إياه إليها بشدة، فصاح سُلطان تيه بشدة: اصمتوا، اصمتوا.

بدأت سنيلا تخاف من شيء ما.

بنو سيسيت لمَّا.

لكنها أيضًا أخذت تسحبه خارج الكهف.

بحمى الغضب والخوف عانقها مرة أخرى، لكنه عندما رأى الكلب حمران يخرج مندفعًا نحوه مكشرًا عن أنيابه تركها، هرب جاريًا بين الأشجار.

سنيلا الجميلة كانت مهيأةً له، مهيأة لعرس، عقلًا وجسدًا، صاحت في وهن: بنو سيسيت لمَّا.

ثم انهارت على الأرض تحت شجرة الحبحب فاقدة الوعي تمامًا، عارية تمامًا، وشديدة الحزن …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤