بقيَّة من دموع

عندما رآها لأول مرة، كان أمر حياته قد خرج من يده، كان قد مضى على زواجه شهران، نَعِمَ خلالهما بحياة هادئة مع زوجته الوديعة، فقد أغرقته هذه الزوجة في دفء حنانها، واستقرت حياته المضطربة القلقة، وأصبح يعرف أنَّ هناك عالمًا غير الشارع والمقهى، عالَمًا متسِعًا فيه آفاق أكثر رحابة من صدر المائدة الرخامية الحقيرة، حيث كان يقامر إلى ما بعد منتصف الليل، ولا تكاد الساعة ترسل دقتها الثانية حتى تلفظه هذه المائدة، تلفظه بعد أن تمتص آخر مليم في جيبه، وبعد أن تعتصر أعصابه ودماءه، فيغادرها كتلة من أعصاب متهتكة، وجسد متهالك خائر.

هذا العالَم الجديد كان غير ذلك العالَم الذي ألِفه من قبل، كان يتلقاه لقاءً آخر، حين يُقبل المساء كان يجول به من غرفة المائدة حيث يغذي بطنه الجائع، إلى حجرة المكتب حيث يغذي روحه، ثم إلى غرفة النوم حيث ينعم بالرقاد اللذيذ بين ذراعين من الواقع الناعم البض، أحلى من كل بنات الأحلام.

وفي صبيحة يوم من أيام هذا الفردوس قالت له زوجته: أتعرف من سيزورنا اليوم؟

وصمت لحظة يفكر ويحزر، فقالت بعد أن يئست من جوابه: شقيقتي سهام، لقد جاءت هي وزوجها بالأمس ليقضيا الإجازة، وقد دعوتهما للغداء اليوم، لكنها ستحضر وحدها؛ لأن زوجها مدعو للغداء عند شقيقه.

وأجاب مبتهجًا: أتعرفين أنها فرصة سعيدة؛ فلديَّ تذكرة دعوة هذا المساء للسينما لخمسة أشخاص، وقد كنت فكرت أن ندعوَ سامي وزوجته، ما رأيك في أن ندعوَ سهام وزوجها؟ وعلى فكرة، إنني أعرف زوجها منذ الدراسة، وأذكر وجهه.

وأحسَّ بها تلوي شفتيها قليلًا، ويعلوها العبوس، فأدرك ما ترمي إليه، وذكر ما سمعه منذ أيام من والدتها أنَّ سهام غير سعيدة في حياتها الزوجية؛ فزوجها مقامر عربيد، يصرف وقته وماله بين المقامرة والنساء، وهي تحتمل في مضض دون أن تشكو، حتى حين عرفت أمها كل شيء من إحدى جاراتها، ظلت سهام على صمتها، وعبثًا حاولت الأم أن تظفر منها باعتراف، بل إنها تقنع بالإنكار، وأخذت كلما أثير أمامها سلوك زوجها، تحدثت عن سعادتها، ونفت كل ما يشاع عن زوجها، لكن لسانها وحده الذي يتحدث عن السعادة، بينما ينطق كل ما حواليها بما تعانيه من شقاء وتعاسة!

إنه لم يكن رأى سهامَ من قبل، لكن هذه الصورة التي رسمتها له أحاديث أمها وشقيقتها، صورة المرأة الصابرة الكتوم، كانت تبعث في نفسه الإشفاق والعطف عليها.

وعندما عاد من عمله ظهر ذلك اليوم، كانت امرأتان تنتظرانه، هبَّتِ الأولى للقائه بابتسامتها المألوفة، وتحركت الثانية على استحياء!

ومدَّ يده ليصافح الثانية، والتقت عيناه بعينيها في نظرة عميقة، نظرة لا ينساها إلى اليوم، لم تُثِرْ هذه النظرة في ذهنه إذ ذاك شيئًا، لقد كانت نظرة التعارف بين غريبين ربطتهما الأقدار برباط النسب، وجلسوا إلى المائدة، ورفع بصره أكثر من مرة إلى وجه سهام، ولَشد ما أدهشه أن وجد نفسه كأنما يعرف هذا الوجه من زمنٍ بعيد، وقبل أن يغادر المائدة داعبه خاطر سرعان ما طرده، إنَّ وجه سهام يوشك أن يكون مألوفًا لديه أكثر من وجه زوجته!

ومضى اليوم إلى نهايته، وكان كل شيء طبيعيًّا، جاء زوج سهام وشاركهما السهرة في السينما، وتحدث كثيرًا وذكرا أيام الدراسة، إنه لا يدري لِمَ أحسَّ بكراهية هذا الشاب، وفاضت نفسه ضيقًا بحديثه، وانتهت السهرة، وآوى إلى فراشه لينام، فخطرت له أول الأمر ذكريات اليوم، ومرَّ وجه سهام بينها كما مرَّ كل وجه رآه، وبدلًا من أن يغلق النوم أجفانه بعد أن آب من رحلة الذكريات، وجد عينيه مفتحتين لا تريدان النوم، ووجد صورة سهام تعود وحدها لتحتل فراغ ذهنه.

وعبثًا حاول أن يطرد هذه الصورة، ورمى ببصره إلى جواره، حيث ترقد زوجته، فراعه أن يتخيل مكان عينيها المغمضتين، عيني سهام تنظران إليه نظراتهما العميقة الهادئة.

وأجفل فزعًا للفكرة المروعة، وشد بيده أطراف الغطاء ودفن وجهه في الظلام، وظلَّ يكافح يقظته حتى انتصر … وعندما أصبح الصباح بدا له ما حدث في المساء كأنه آثار حلم قديم، ولشد ما خابت ظنونه حين وجد نفسه، وقد تقدم النهار جالسًا إلى مكتبه، وقد نحَّى أوراقه وترك عمله، واعتمد رأسه بإحدى يديه وأخذ ينفث سحائب الدخان، ويفكر في سهام.

وغالط نفسه، لكن عبثًا كانت مغالطته أن النظرات العميقة ما زالت تنفذ إلى شغاف قلبه، وما يزال يراها في كل شيء. حتى في عينَي زوجته، وهو يقبِّلها عندما آب عند الظهر إلى داره.

وعاش في هذا الجحيم أيامًا، رأى سهامَ خلالها أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تجذبه عيناها، وكان يقاوم هذا الجذب حتى تخور قواه، فيستسلم صاغرًا، وطالما تكررت مقاومته وتكرر استسلامه.

وسافرت سهام مع زوجها في نهاية العطلة، واستطاعت الأيام التالية أن تُنسيَه ذلك الحادث في حياته إلى حين لم يَطُل؛ فقد نُقل زوج سهام إلى القاهرة.

وبدأ مع نفسه صراعًا جديدًا دام عدة شهور، لكنَّه سرعان ما تبيَّن أنه مغلوب على أمره، وأنَّ هاتين العينين قد وصلتا من قلبه إلى مكان لم تصله عين من قبل، وأنه من المستحيل عليه أن يمحوَ هذه العاطفة …

ورأى سهام عشرات المرات، رآها مع زوجها ورآها وحدها حين كانت تشاركه وزوجته سهراتهما، وفي كل مرة كان يئوب بعاطفته الفائرة وعقله المضطرب، فيقضي الساعات معذَّبًا بصراعها.

كانت عواطفه تأبى الخضوع لعقله القلق الذي كان يلحُّ في إنكارها ولا يرضى عنها، كان يرى فيها جرحًا لذلك الرباط المقدس الذي أحبه وارتاح له، وجاء عقله لعواطفه ذات يوم بحلٍّ ترضاه، وكان قد أعياه الصراع فلجأ إلى الحيلة. كان يعرف أنَّ للزمن مفعولًا ساحرًا في العواطف، وكان كل ما يخشاه أن تتعجل عواطفه الأيام فتظهر ذات يوم؛ لذلك هادنها ودعاها إلى الهدوء والانزواء، وترك للزمن أن يعفيَ عليها، واستطاع ذات يوم أن يمضيَ بعاطفته وحياته الزوجية جنبًا إلى جنب، وآوى حبه الجديد إلى هامش حياته قانعًا بمكانه.

وألِف هذا الوضع وارتاح إليه، كان لا يطيق أن تغيب عنه سهام يومًا واحدًا، وكان تحقيق أطماعه لا يكلفه أية مشقة، فلم يكن سؤاله عن سهام يثير أي شك عند زوجته، ولم تكن سهام نفسها ترى شيئًا غير مألوف في ابتسامة الفرح التي يفترُّ عنها ثغره كلما أقبلت لزيارتهما، ولا من النظرة الفيَّاضة بالحنان التي كانت ترسلها عيناه إليها كلما التقت عيناهما، وقضى عامًا سعيدًا كاملًا لم تكن تشوبه إلا تلك اللحظات التي تجرف فيها عاطفته الحبيسة عقله أمامها، وتنحدر كالسيل عبر عينيه في نظرة عميقة، أو عبر يده في سلام حار، كانت تعذِّبه عندئذٍ الخشية أن تكون امرأته قد أدركت شيئًا.

لكن امرأته لم تدرك شيئًا بالمرة، ظلَّت ترى في عواطفه نحو سهام عطفًا عليها هي، وفي مداعبته لها ترفيهًا عن شقيقتها التعسة يُشكر عليه.

وخرج ذات يوم من مقهًى كان يؤمه بين الحين والحين ليلقى أصدقاءه، وأراد أن يعبر الشارع، فدوَّى في أذنيه نفير سيارة يصم الآذان، فتوقف عن السير ليفسح لها الطريق، لكن جندي المرور أطلق صفارته، ولم تُجْدِ سائقَ السيارة سرعتُه ولا نفيرُه، فقد اضطُر أن يقف، ووقف هو مترددًا حتى حاذته السيارة، ومدَّ بصره ليرى ذلك السائق المتسرع، فالتقت عيناه بوجه سهام! رأى سهامَ جالسة إلى جانب قائد السيارة، وقد التفَّ ساعدها حول خصره، وقد فاجأتها الحوادث، فلم تستطع أن تسحب يدها.

إنه لا يدري ماذا فعل ولا أين ذهب، لا يدري إلا أنه عاد إلى داره تلك الليلة في منتصف الليل، وارتمى على فراشه خائر القوى، وجاهد يقظته حتى غلبه الرقاد، وحملته الأحلام في أودية من الرعب والفزع، كان يفزع منها إلى يقظةٍ أشد هَولًا وفظاعة، وما يكاد يُحسُّ بيقظته حتى يهرب إلى النوم، فيغطي وجهه بيديه مبعدًا شبح هذا الليل الكريه.

وأصبح الصباح، وقالت له زوجته، وهو يزدرد طعامه مستكرهًا: لا بدَّ أن تذهب اليوم إلى الطبيب، إنك لم تَنَمْ أمسِ نومًا هادئًا، وها أنت لا تأكل بشهية!

وسادت فترة صمت، تحركت بعدها شفتاه في خفوت: أرأيتِ سهام أمس؟

وأجابت زوجته: أجل رأيتها عصر أمس، وكلمتني بالتليفون في المساء، وقالت لي إنها رأتك تعبر الشارع أمس، ولم تملك أن تحييك.

وقال وهو لا يُحسُّ ما في سؤاله من غيظ وثورة: من هذا الذي كان معها في السيارة؟

– إنه الدكتور زاهر صديقها وصديق زوجها.

وقال مستنكرًا: لقد كانت معه وحدها.

وتجاهلت زوجته استنكاره قائلة: إنَّ الدكتور زاهر صديقهما الحميم، وقد كان معهما في الصعيد، وهو الآن يقضي إجازته في مصر.

وسكت فترة لا يعلم مداها، وأخذ يفكر.

أيقول لزوجته ما رآه؟! أيقول لها إنَّ ذراعها كانت ملتفة حول خصر صديق العائلة، أو يسكت فيترك للكارثة أن تبلغ مداها؟!

لكنه لم يُطق السكوت، ولعله خرَّ صريع عواطفه؛ فقد انفجر في حنق وتناثر الكلام على شفتيه: إنَّ سهام تسير في طريق خطر، لقد رأيتها تخاصر صديق العائلة الذي تتحدثين عنه أمس، كيف يحدث ذلك و…

وانتهى من حديثه ليجابه فترة صمت ثقيلة، وليجابه عينَي زوجته تنظران إليه في دهشة واستغراب!

وقالت زوجته أخيرًا: لكن ما دخلك أنت، وما ذنبي أنا؟ إنك غاضب أكثر مما يجب، إنك لست زوجها، ولست مسئولًا عنها!

وطرقت كلماتها الأخيرة أذنَيه طرقًا عنيفًا أيقظ عقله.

إنه ليس زوجها حقًّا، وليس مسئولًا عنها، لكنه مع ذلك يحبها!

أيجرؤ أن يقول لزوجته؟

أيجرؤ أن يقول إنه يغار عليها أكثر من زوجها؟

إنه لا يجرؤ على شيء من ذلك، وكل ما فعله أن ارتدى ملابسه مسرعًا، وهبط الدرج مسرعًا، وعندما سار وحده في الطريق أخذ يتأمل موقفه من جديد!

بدت له سهام بعينيها العميقتين، وصوتها الناعم الحزين، كأنما تستنجد من ألم دفين!

وبدت له صورة زوجها، ذلك العابث المستهتر، وهو يمعن في إيلامها بمجونه واستهتاره!

ومسَّت قلبه نسمة إشفاق ورثاء لهذه الزوجة التعسة، التي صبرت حتى ضاق بها الصبر، وأحس أنه يوشك أن يغفر لسهام ما حدث، لكن سرعان ما ثارت به عواطفه، وبدت له صورة خيانتها من جديد؛ فقفزت إلى عينيه الدموع، وأحسَّ بنفسه وهو يجفف قطراتها، فغلبه الحياء وأخذ يتجلَّد!

إنه لا يزال يذكر هذا اليوم بعد الحادث بعشرة أيام، حين جلس يقصُّ قصته على صديق يخلص له الود، قال لهذا الصديق وهو يختم حديثه: وها أنا يا صاحبي ما زلت حائرًا … إنَّ أشدَّ ما يؤلمني أنني لا أملك حتى حق الشكوى والصراخ، كلَّا، ولا أستطيع أن أبكيَ كما أشاء.

وأجابه صديقه وهو يبتسم مزدريًا آلامه: الحقيقة أنَّ سهام إن لم تفعل شيئًا غير هذه الخيانة؛ لاستحقت منك التقدير!

ونظر إلى صاحبه مذهولًا، وأوشك أن يفتح فمه، لولا أن استطرد هذا الصديق: ألا تكفي تعاسة أسرة واحدة؟ لقد كانت عاطفتك هذه كفيلة بإفساد حياتك الزوجية، لو لم تخُن سهام هذا الحب الذي لا تدري هي عنه شيئًا لدام هذا الحب، لو أنها ظلَّت الزوجة الوفية للزوج المستهتر؛ لنما حبُّك وترعرع تحت ستار العطف والحنان، لكن الآن …

فقال مقاطعًا: الآن ماذا؟

– لا شيء، ستبكي بضعة أيام، لكنَّ دموعك لن تتساقط على خدَّيك، إنها ستنزل في قلبك، فتعفي على هذا الحب، إنك في أشد الحاجة إلى هذه الدموع.

إنه لا يزال يذكر هذا اليوم، ولا يزال يذكر أنه أحسَّ فعلًا بقطرات هذه الدموع، تنزل في قلبه فيبرد رويدًا رويدًا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤