عيون على الكرمل

– أي سلعة تعنين يا سيدتي؟

– السلعة التي أنفقت في سبيلها ما أنفقت، عشر ليرات ستعطيها إليَّ كما اتفقت مع ليون، وعشاء فخم، وأجر حجرة في هذا الفندق، ويعلم الله ماذا دفعت لليون نفسه من أجر، هل أنفقت ذلك لوجه الله؟

– لوجه الشيطان كما تعتقدين، لكن ما رأيك في أني غيرت رأيي؟

– ماذا تعني؟ أتريد نقودك؟

– بل أدفع فوقها مثلها!

– لا أفهمك!

– ألم يقل لك ليون؟

– بلى، قال لي، قال إنك ستقضي معي ليلة، وتدفع لي عشر ليرات، وأجر الفندق، وأتعابه هو.

– حسنًا، هذه الليلة لي أن أنال فيها ما أشتهي.

– دعني أضع هذا التحفظ، ما يشتهي رجل من امرأة!

– إنكِ مسرفة في التشاؤم يا سيدتي، قد يشتهي الرجل غير ما تظنين، قد يشتهي حديثًا ممتعًا تشعُّ عليه خلاله عينا امرأة، قد يشتهي مثلًا أن يجلس كما نجلس نحن الآن في شرفة الفندق، يتأمل جبال الكرمل الشمَّاء وقد تربعت في حجرها مباني المدينة هاربة من البحر، وقد سخا القمر بأشعته فغمر الكون، وألقى بقية من ضوئه على سطح الماء و…

– ماذا؟! أتدفع بضعًا وعشر ليرات لكي تقول شعرًا؟

– بل أدفع نصف حياتي لكي أسمعه، وحياتي كله لمن تلهمني إياه.

– يا مسكين! لقد أخطأتَ ضالتك، وسلكت غير السبيل.

… إنني أُدعى «رفقة» عند العرب الذين لا يعرفون لغةً إفرنجية، و«ربيكا» عند من يجيدون الرطان، وأتقاضى في الليلة عشر ليرات فلسطينية، أتقاضاها لأقضيَ ليلة في حجرة، لا في شرفة، دعْ جبال الكرمل في حالها إذنْ، وخلِّ القمر كما يشاء، فسوف يعلم يومًا مدى خطئه، تعالَ بنا إلى الداخل، فإنني أُحسُّ لسعة بردٍ خفيف.

وهبَّت واقفة، فبدا قوامها الأشم في الثوب الأبيض كأنه عمود من الرخام، وسارت نحو الغرفة، فتبعتُها وأغلقتُ الباب، وقالت وهي تنضو ثوبها بصوت لا حياء فيه: من مصر على ما أظن؟

– أجل!

– اسمك؟ أوه لقد نسيته مع أنَّ ليون ذكره لي.

– لا بأس، لعله ضاع في زحمة الأسماء.

ولم تُعنَ بملاحظتي، بل قالت وهي تسوي ثوبها فوق المشجب: إنني أعرف من مصر فلانًا وفلانًا وفلانًا، لقد كانوا هنا في حيفا، فلان الضابط كان هنا منذ أسبوعين، إنه شاب لطيف وكريم، لقد دعاني لزيارة مصر، لكن للأسف، مصر لا ترحب بنا كثيرًا — على ما يقولون — وليس لي أقارب هناك.

كانت قد أتمَّت مهمتها فقفزت إلى الفراش، وجلست مسندة رأسها إلى الوسادة، وكنت أنا واقفًا في وسط الحجرة، جامدًا، كالتمثال، أنظر إليها دون حركة، فقالت: ما لك تقف هكذا؟ ألن تبقى معي؟

وقلت وأنا أمضي نحو المرآة: لا أظن ذلك.

وهبَّت من الفراش فزعة، وقالت وهي تلبس حذاءها: ماذا تظن؟ إنك لن تسترد مني مِلًّا واحدًا، لقد رأيتَني أكثر من مرة، ثم إنني سأقضي الليل هنا، وعليك أنت أن تذهب، إنَّ الساعة الآن قد تعدت الواحدة، ولا أستطيع أن أعود إلى داري.

وقلتُ ببرود: اهدئي يا سيدتي، لكِ ما أخذتِ، ولك فوق ذلك طعام الإفطار لاثنين، لقد دفعته للفندق مقدمًا، وهاك علبة سجائر، تستطيعين أن تنفثي مع سحائب دخانها أنفاسَ الندم، إذا أحسستِ بخطئك معي!

وتحركتُ لأسير، وشارفتُ باب الحجرة، فصاحت مترفقة: اسمع، لديَّ اقتراح، إلى أين تذهب الآن؟

– إلى الناحية الأخرى من المدينة، حيث الفندق الذي أقيم فيه.

– إنَّ الوقت متأخر، ومِن مصلحتي ألا أظل وحدي في الحجرة، هذا المقعد الطويل، ألا يصلح؟

– حسنًا، سأبيت هنا على المقعد، إنه كرم منكِ يا سيدتي.

– بل فن التجارة أن لا أُغضِبَ حتى مَن يرفض السلعة، رغم جودتها.

وضحكتْ، ضحكتْ ضحكة بدا فيها أنها تحاول طردَ سُحب الكدر التي ملأت نفسي، لم يكن هناك بدٌّ من أن أردَّ فقلت: إنني لم أرفض السلعة ولم أطلبها، طلبت صنفًا آخر، لكن التاجر — سامحه الله — تاجر جشع، يختزن السلع الطيبة، يريد أن يثرى من الحرب، ألا يعاقبون هنا على إخفاء السلع؟

وقالت وهي تغالب نفسها: أمَا إنني أريد أن أثرى من الحرب، فهذا صحيح، لكنني أثرى من عَرض السلعة التي أملكها لا من اختزانها، ماذا تظنني أختزن؟

– تختزنين كل شيء، وتَعرضين شيئًا سامحيني إذا قلت تافهًا، شيئًا يزخر به شاطئ البحر كل مساء، كأنه الحشائش التي لفظها الماء، شيئًا لا أطلبه وإن كنت دفعت ثمنه، أنا أطلب شيئًا تختزنينه رأيته بعيني، لم أجد سبيلًا إليه غير ما فعلت، لكنني للأسف مخطئ، ضللتُ الطريق كما قلتِ أنتِ أولًا.

وقالت في حيرة: ولكنني لا أختزن شيئًا، أتريد أن تجلس في الشرفة؟ أهذا كل ما تريد؟

– عندما رأيتكِ في مقعدك، وقد اتكأتِ بساعدَيك على المنضدة، وسجلت عيناك في الأفق، وقد لمع في إشعاعهما حزن غريب، أحسست أنَّ هناك روحًا، سألتُ ليون كبير الخدم عنكِ، فصدمني بأرقام التسعيرة التي يجب أن أدفعها لكي أحظى بكِ.

لكنَّ بريق عينيك ألهاني عن تدبر الصدمة، قبلت المساومة لأعرف ذات العينين التي تجلس كل مساء سابحة في الأفق، ذات الروح التي هفت نفسي للقائها، أما «رفقة» «ربيكا» الغانية فلم أحسب لها حسابًا!

كنت ألهث وأنا أتكلم، وأسمع صدى صوتي في أرجاء الحجرة يرتفع رويدًا رويدًا، أحسست أنني أمزق سكون الليل وحدي، وأنني قلت ما أريد، فسكت، وإن ظلَّ لساني يزدحم بالكلمات، كنت قد نسيت أنها جالسة على حافة السرير فأدرت رأسي، كانت المرأة الجامدة قد زالت تمامًا، كانت ذات العينين السابحتين، تجلس على حافة السرير تبكي وتنشج في حزن وأسًى، أسرعت نحوها ورفعت رأسها، أحسستُ بالراحة وأنا أتلقى قطرات دمعها على يدي، وأُرضي أنانيتي أن تعود الروح إلى هذا الجسد ولو بسيل من الدموع.

وقلت وأنا أربت على خدَّيها برفق: أرأيتِ أنكِ كنت تختزنين شيئًا غاليًا؟

– أكنت تريد دموعي؟ كنت تريدني أن أبكي؟

– بل كنت أريد أن تعود إليك الحياة، إنكِ يا صديقتي لستِ ذلك الثوب الأبيض والجسد اللدن، إنك روح وقلب، إنَّ عينَيكِ لا يحملهما تمثال لا روح فيه.

– أنتَ واهم، إنني أعيش من ذلك التمثال، وله وحده.

– وهذه الدموع؟

– قطرات ماء تخرج من صخرة!

– لا أصدق ذلك، إنَّ القلب ليستحيل صخرًا إن خرج منه الحب، ألا تحبين؟

وتوقعتُ نظرة ساخرة، يعقبها تهكُّم مرير. توقعتُ إنكارًا وإصرارًا، لكن «ربيكا» كانت غير ذلك، كان غشاء الجمود والتحجر قد زال من عينيها وقلبها، أصبحت امرأة تُحسُّ وتذكر وتتألم، إني لا أزال أذكر عينَيها، هاتان العينان اللتان طالما رأيتهما سابحتين في الأفق يشع منهما الحزن، العينان اللتان دفعتاني للتعرف عليها، غيرهما بالمرة هاتان العينان المحمومتان الملتهبتان، كأنما تحجرت الدموع أو بخرتها حرارة الأجفان، إني لأذكر أيضًا هذا الحديث الداميَ حين قصَّتْ عليَّ «رفقة» قصتها، حين مضت تقصُّ حياتها الأولى؛ البيت الهادئ الجميل في حيفا، صديقاتها فاطمة ومريم وآمنة، أصدقاءها الصغار أحمد وعامر ومنير، حين كان الجميع أسرة واحدة في بلدٍ واحد، لقد أحبَّت أحمد في ذلك الحين، أحبته طفلًا حين يكون الحب غذاءً يمضي مع الدم، ويدخل إلى شغاف القلب، ولا يملك أداة إلا العين.

وأحبته يافعًا تتعثر ألفاظ الحبِّ على شفتيه، كما كانت تتعثر قدماها حين تراه قادمًا من بعيد، ثم مضت الأيام، ونما الحب، فأصبح كلَّ الحياة. كان أهل أحمد أهلها، وكان أبوه لا يرى غضاضة في وجه رفقة، يطالعه في الصباح، يلتمس المعاذير من زيارة بناته، ويعلم في قرارة نفسه أنها تريد وجه أحمد، كان كل شيء جميلًا نضيرًا، حتى صخور الكرمل لم تكن قد صبغتها الكآبة بعد.

ومضت تسرد جمال الماضي، ومضى صوتها في سكون الليل كأنه همس حورية ناعم، كان جميلًا حزينًا كذكرياتها الجميلة الحزينة.

وفجأةً سكتت كأنما انقطع حبل الذكريات.

وقلتُ وقد تفقَّدتْ أذني صوتها الهامس: وماذا بعد هذا الماضي الجميل؟

– حاضر تعِس أعاصره منذ عشرة أعوام!

– هل مات أحمد؟

ونهضت مرتاعة وصرخت: أيموت وأعيش؟

– إذنْ ماذا؟

– لم يمت أحمد وحده، وإنما ماتت الحياة كلها، مات العيش الجميل، في ليلة حالكة السواد أشفقَ منها القمر، وفي دارنا الجميلة، اجتمع ثلاثة رجال صنعوا نعشًا لجمال الحياة!

وقلت مترددًا: هل خطبك أحمد فرفض أبوكِ، أو رفض أبوه هذه الخطوبة؟

– لا شيء من هذا.

– لا أكاد أفهم إلا أنَّ عامل الدِّينِ قد حال بينكما؟

وقالت في غيظ: الدِّين؟! متى كان الدِّين حائلًا بين قلبين؟!

وقلتُ وقد فرغ صبري: لقد تحدثتِ يا سيدتي عن جمال الماضي، فماذا حلَّ حتى استحال هذا الماضي إلى ذكريات؟ ماذا فعل هؤلاء الرجال الثلاثة؟ ومَن هم؟

– أحدهم كان أبي، والثاني سيدٌ لا يعرف العربية، أوروبي أفَّاق ضاقت به أوروبا فوسعته فلسطين، فانتفخ حتى بدت له الأرض التي وسعته كلقمة، أما الثالث فقد عرفته بعد ذلك، لقد كان رسول الوباء.

– أيُّ وباء تعنين؟

– الوباء الذي التهم ماضيَنا، ألا تعرف ما حدث بعد ذلك؟! في صبيحة اليوم التالي أصبحنا غير عرب، أصبحنا صهيونيين!

– أكاد لا أفهم أيضًا.

– أتعرف ماذا يفعل السحر؟

– يحيل التراب ذهبًا.

– ويحيل الملاك شيطانًا، أليس كذلك؟

– في بعض الأحيان.

– وهذا ما حدث؛ كنا نعيش بين أهلنا وذوينا، فانتُزعنا بالروح وبقينا بالجسد، صرنا بشرًا آخر، قيل لنا إننا جنسٌ آخر!

– وماذا فعل أحمد؟

– ما زال كما هو، بوجهه الجميل وقلبه النقي، أما أنا فقد كان عليَّ أن أختار؛ هل أسكب في قلبي سحر الشيطان، أم أقتله، وأعيش للشيطان بجسدي فقط؟ وقد اخترت الثانية.

كان الفجر يرسل خيوطه لتنسج الضوء حول الكون، حين آبت رفقة من قصتها، وكأنما وجدتْ قطرات من الدمع في عينيها، فراحت تسكبها في قوة، ورحتُ أنا أتأمل ما سمعت.

قال دافيد خادم الفندق، وهو يفتح علينا الباب في الصباح بلهجة ناعمة: صباح جميل يا سيدي، مدموازيل ربيكا، يوجد شخص يطلبك بالتليفون.

وقالت ربيكا وهي تضحك في ألم: إنه ليون، قد استبطأ عمولته.

وسارت وفي عينيها دمعة مترقرقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤