سقطتْ على الصخور

– تعالَيْ معي، لا تخافي، إنني أعرف أماكن الصخور، وهذه المنطقة ملأى بها، إنَّ قدميَّ ستحملاننا سويًّا، سأحملك بين يديَّ حتى نعبر تلك المنطقة الوعرة، وإذ ذاك ينطلق البحر أمامنا هادئًا ضحلًا ناعمًا كبساط من الحرير، تعالَيْ، مِمَّ تخجلين؟ ألسنا صديقين، وأخوين، و…؟

ودل احمرار وجهها على أنها فهمت، فهمت بغير عقلها ما قاله بغير لسانه، لكنها مع ذلك لم تقتنع، لقد مدت يدها، يدها فقط، وآثرت أن تمضيَ على الصخور بقدميها، وأحسَّت وهما يخوضان الماء بدفء يده، فرفعت رأسها لترى وجهه، فلحظت وجومه، فقالت وهي تتضاحك: أكنت تريد أن تحملني بين يديك، ماذا يقول الناس؟

– ماذا يقولون؟ عاشق يحمل هواه!

– وهذا ما لا أريده الآن، ثم من أدراني؟ ربما تعب ساعداك، تخيَّلني وقد سقطتُ من بين يديك على الصخور!

– وما فائدة ساعديَّ إذا عجزا عن حملك؟ ثم ماذا يضيرك إن قال الناس إننا عاشقان؟

– لا شيء يضيرني! لكن، هذه الكلمة، عاشقين!

إنها شريفة على الورق فقط، إنَّ صورتها في أذهان الناس غير ذلك، إنَّ أذهانهم لا تفهم وضعًا شريفًا لرجلٍ وامرأة غير متزوجين.

ولم تلحظ وجومه هذه المرة، ولا صمته، كانا قد عبرا منطقة الصخور، وأحسَّت تحت قدميها الرمل الناعم، فسحبت يدها في خفة، ومضت تركض في الماء.

وأصبحا بعيدين عن الشاطئ، وتلفت فلم يرَ غيره وغيرها، فاقترب منها وقال وهو يمسك بيديها: أحبك يا فاطمة!

وغمر وجهها الاحمرار وهي تجيبه: إني سعيدة بهذا الحب.

– ألا تقولين إنك تحبينني؟

– ألا تصدق غير لساني؟

– أصدق كل شيء تقولينه، وأثق بك، وأحبك.

ومضى الوقت سريعًا، مضى لقاء البحر، ومضى اليوم، ومضى أسبوع المصيف؛ ذلك الأسبوع الذي انتزعته انتزاعًا من أسلوب حياتها المرير المعتم، إنها وحدها تعلم كم تكلفت في سبيل ذلك من عناء، لقد حرَّمت أمها المصيف منذ تُوفِّي أبوها، وأخذتها وأخاها بأسلوب صارم من الحياة الجادة، منذ تُوفِّي أبوهما أصبحا في نظرها كما كانت هي في نظره، جنديًّا عليه الطاعة والعمل، وله الطعام واللباس، كانت فاطمة في الثالثة عشرة، وكان أخوها في الخامسة عشرة، فلم يدركا أول الأمر سر تلك المعاملة الجادة، لكن عندما التحق أخوها بكلية الهندسة، ونالت هي شهادة البكالوريا، بدت لهما الحقيقة واضحة، إنَّ أمهما لم تقتر حبًّا في التقتير، ولم تقسُ عن طبع قاسٍ، لقد كانت تدرك أنَّ معاش زوجها سوف يتناقص عندما يبلغ ابنها سن الرشد، وأن عليها أن تنشئهما قبل أن تقاسمها الدولة جنيهات هذا المعاش، إنهما أدركا الحقيقة في الوقت المناسب، فلم يتوانَ أخوها أو يتكاسل، ولم تهمِل هي أو تقصر، حتى حين تعرفت بسيد في كلية الطب وأحبته، كانت تدرك أن عليها واجبًا قبل الحب، يجب أن تتم دراستها لتملأ هي وأخوها ما خلَّف أبوها من فراغ في حياة أمها، ولقد أدت واجبها إلى اليوم، واحتفظت بحبها أيضًا، ذلك هو العام الثالث منذ عرفت سيد، لقد تمنَّى عليها أن تقضيَ أيامًا بالإسكندرية، فلبت ما طلب، وحلَّت ضيفًا على خالتها، ضيفًا لمدة أسبوع، نعمت خلاله بأوقات سعيدة على شاطئ البحر وفي رفقة سيد، ثم عادت بعد ذلك إلى القاهرة لتواجه حملة عنيفة تشنها الأسرة عليها، ولكأنه اجتماع مدبر؛ عمها وزوجته وابنتاه، وعمتها وزوجها.

كل هؤلاء قد جاءوا، لا ليمدوا العون للأم المجاهدة التي تفعل ما يفعله الأب والأم معًا، ولا ليبذلوا التشجيع للفتى المجد الناجح وللفتاة التي لم ترسب عامًا واحدًا.

إنَّ الأسرة لم تجتمع لشيء من هذا، جاءت كلها لتصبَّ اللوم على الأم التي تطلق لابنتها العنان، وتدعها تذهب إلى الإسكندرية لتقابل الشبان وتغازلهم، وتسهر اللياليَ معهم، وتزكم سمعتها الأنوف.

تلك هي ترجمة لقاء العاشقين، وسير ساعة الغروب في قاموس الحقد والحسد!

إنَّ العمَّ بولديه الفاشلَين اللذين انقطعا عن التعليم، والعمة بولدها الذي يرسب منذ أعوام في الكفاءة، لا يرضيهما أن تسير ابنة أخيهما هذا السير المعوَج، وقد جاءا يطلبان من الأم أن تلزم ابنتها جدران المنزل، وتقذف بالسنوات الأربع التي قضتها في كلية الطب من النافذة!

ويثور الأخ الساذج، ويطلب من شقيقته تفسيرًا، وتثور الأم المجروحة، وتطلب من ابنتها أن تدافع عن نفسها.

وتضيق المسالك في وجه فاطمة.

هل تحدثهم بكل شيء؟!

هل تقول لهم إنها تعرف سيد منذ أربعة أعوام، وإنها تحبه وهو يحبها، وإن علاقتهما لم تتعد النزهة البريئة والتعاون في الدراسة والأمل في المستقبل؟

إنهم لن يفهموا شيئًا من ذلك، لن يفهموا الحب، ولن يفهموا نجوى الغروب، ونسج عش المستقبل من الأماني والأحلام.

إنهم يفهمون شيئًا واحدًا، أنها وسيد خطيبان، وسيتزوجان حين تتم دراستها، وسيد ليس بالشاب العاطل، إنه وشيك التخرج، ويملك ثروة وحسبًا يؤهلانه لأن يكون زوجًا تطمع فيه الفتيات.

وقالت ذلك.

قالته وأسكتتهم جميعًا، أسكتت الأسرة والأم والأخ الذي يعرف سيد، ويعرف أنه شاب كفء مهذب.

ولكنها لم تستطع أن تُسكت عقلها، إنه يسألها: هل خطبها سيد حقًّا؟ وهل تعاهدا على الزواج؟

إنَّ ذلك لم يحدث إلى اليوم، إنهما لم يطرُقا مرة واحدة موضوع الزواج، بل إنها لم تنفرد به قبل ذلك الصيف مرة واحدة، حين صارحها أكثر من مرة أنه يحبها.

وتُسكت عقلها أخيرًا بوعدٍ على الخطبة، وحين يعود سيد من الإسكندرية تتم الخطبة فعلًا، وتسكت الأسرة سكوتًا تامًّا.

•••

كل شيء قد يمضي طبيعيًّا بعد ذلك، يتخرج الأخ في كلية الهندسة ويعيَّن مهندسًا، ثم تتخرج فاطمة في كلية الطب وتتنفَّس الأم الصُّعَداء، وتُحسُّ بما يُحسُّ به الجندي وقد أدَّى خدمته، وتحرر من قيد الواجب، حدث ذلك بالفعل، وضم البيت ذات يومٍ الأمَّ وفاطمة بعد أن رحل الأخ إلى الصعيد ليباشر عمله، وقالت الأم ذات يوم وهي تعني ما تقول: ماذا ينتظر سيد ليتزوجك؟

وأجابت فاطمة وهي تلمح وراء كل كلمة من كلمات أمها أشباحَ أفراد الأسرة — أسرة أبيها المتحفزة: لا شيء بالطبع، وسأحدثه.

وانتوت أن تحدثه فعلًا، وحددت لذلك يومًا قريبًا سوف تلقاه فيه على موعد، وذهب إلى صديقة لها تزورها، فوجدت سيارة سيد تقف أمام باب عمارة أنيقة، فراق لها أن تفاجئه، وظلَّت تذرع الشارع ذهابًا وإيابًا، ولكن فوجئت هي! فوجئت بسيد يخرج متأبطًا ذراع فتاة، ولم تعِ شيئًا مما حولها، إلا أنها سارت إلى بيت صديقتها وألقت بنفسها بين ذراعيها وجعلت تنتحب.

وقالت صديقتها تخفف عنها: كلهم يفعلون ما يفعله سيد، ما دمنا نحبهم كما تحبين سيد. إنهم لا يخلصون لنا إلا حين يرَوْن في أعيننا الغدر، أنتِ غلطانة؛ لأنك جعلته يثق أنه كل شيء في حياتك، إنك لم تفقديه بعد، ولكنك ستفقدينه إن لم تجعليه يفهم أنه ليس وحده الذي يطرق أبواب قلبك.

وكفكفت فاطمة عبراتها بعد حين، وآمنت بدرس صديقتها، وكان موعدها مع سيد يوم الخميس، فخرجت يوم الأربعاء مع زميل له، ولم ترفض دعوته لتوصيلها بسيارته، ولم ترفض بعد ذلك دعوته الخجلة إلى نزهة قصيرة، ولم ترفض بعد ذلك دعوته لها إلى نزهة أخرى مساء السبت، ولم تتعجل ثمرة الدرس، ولكن الأيام تعجلت عمر غرامها؛ فقد شاءت الظروف أن تحتجز سيد يوم الخميس لعلاج مريض، فيعتذر لها بالتليفون فتقبل اعتذاره، في غير اكتراث، استجابة لدرس الصديقة.

ويأتي يوم السبت، وتخرج مع زميلها، وتمضي بالسيارة في طريق الأهرام، وتقف في مكان هادئ، وتلتف ذراع الزميل حول خصرها، فتمد يدها في رقة تحرك ذراعه بعيدًا، وتلتقي عيناها بعينَي سيد يرمقها في غضب واحتقار، وقد أوشك أن يفلت من يده زمام سيارته، نظرة غضب واحتقار لن تنساها أبدًا.

كان من الطبيعي أن يلقاها سيد بعد ذلك، وأن يعاتبها أو يتشاجرا، وكان من الطبيعي أن تبرئ نفسها لديه، فيؤمن ببراءتها ويصفو هواهما من جديد، أو لا يؤمن فيفترقا على خصام، ولكن سيد لم يلقَها ولم يعاتبها، وإنما لقيها نبأ زواجه بعد ذلك بيومين، سمعته يتردد على الألسن، ورأت العيون ترنو إليها في رثاء وعطف.

وجرؤت صديقة لها فجاءت تسألها: كيف تزوج سيد؟ ألم تكونا مخطوبين؟ هل فسختِ أنتِ الخطبة؟

وأجابت دون وعي: نعم!

ودارت الألسن تردد الحديث من جديد، دون أن ترنوَ العيون إليها في عطف ورثاء، بل لعل بعضها كان يخالسها النظر الشرز كأنها امرأة غادرة، وسمعت بأذنيها همسًا يردد علاقتها مع زميلها ويصف هواهما، وهي التي لم ترَه بعد ذلك اليوم ولم تدَعْه ذلك اليوم يطوِّق خصرها، بأنه حب جارف عميق، جرف في طريقه عهدها وخطبتها، ألم تقل لمن سألوها إنها هي التي فسخت خطبتها؟

وكانت شجاعتها تعاونها بالنهار، وتتخلى عنها في الليل حين تأوي إلى المنزل وترى أمها، وتسمع في حديثها نبرة الأسى والحزن، وتلمح في عينيها العتاب الحنون الذي لا يبلغ مبلغ الغضب، كانت أمها قد عرفت كل شيء منها، وكانت تسألها دائمًا وكأنها لا تصدق: لكن كيف تزوج بهذه السرعة دون أن يسألك عن تصرفك معه؟ أينتقم منك بأن يتزوج في يوم وليلة؟

ولم تكن تجيب على هذا السؤال؛ لأنها كانت كأمها تسأله دائمًا، تسأله نفسها، وتسأله الظروف، وتحاول أن تفهم فلا تستطيع.

وجاء اليوم لتفهم كل شيء، جاء بعد ستة أعوام، حين وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام سيد في عربة قطار، حاولت أن تُخفيَ اضطرابها ففشلت، حاولت أن تتجاهله ففشلت، وتكلم هو فحيَّاها، وسألها عن أخيها وعن أمها وعن … وعن حبيبها الموهوم، سألها: هل تزوجتما؟

وأجابت: لم يكن بيننا حب، ولا عهد زواج.

وصمت لحظة ثم قال: ظننت أنَّ الحب وعهد الزواج ليسا هما الدافع للزواج.

وأحسَّت ما في جملته من سخرية، فقالت متجلدة: إنني لم ألقَهُ إلا ذلك اليوم، ولم ألقَهُ بعد ذلك اليوم. لقد فعلتَ أنتَ ما لم أفعله أنا؛ تزوجت في ليلة واحدة غير التي عاهدتها أعوامًا، إنني لم أفعل ما فعلته إلا لأُثير غيرتك بعد أن رأيتك.

ومضت تقصُّ في سيل من الدموع ما حدث، وأفاقت وقد تغير الوضع، فلم تعد مذنبة تعترف، كان هو الذي يعترف مستغفرًا، كان يقصُّ عليها كيف عانى في سبيل خطبتها من تعنيف أسرته، كيف ثاروا عليه وكيف احتمل، كيف وضعوا في طريقه قريبة غنية ليتزوجها، وكيف قاوم رغبتهم، وظلَّ يقاوم حتى رآها بعينيه مع زميل لهما، فجُن جنوه وذهب من فوره إلى أمه، يطلب إليها أن تزوجه بقريبتها، إنَّ أمه لم تدَعِ الفرصة وقد أحسَّت أنه غاضب، وخشيت أن يزول غضبه فسارعت إلى تزويجه، إنه لم يدرِ ما فعل إلا بعد أن ضمه وزوجته سقف حجرة واحدة، أدرك إذ ذاك أنه أخطأ في حق نفسه، نفسه التي لم تصبُ ولم تحب غير فاطمة.

•••

إنَّ فاطمة لم تتزوج بعد ذلك، ظلت ثلاثة أعوام تعيش وحيدة، من العبث أن يقال إنها كانت تُحسُّ بأنها تحيا وسط أسرة مكوَّنة من أمها وشقيقها وزوجته وطفله، لقد كانت وحيدة، وحيدة لا يعرف أحد عنها شيئًا، حتى حين لفظت أنفاسها في الذكرى التاسعة لحطام هواها، وقف الطب حائرًا لا يدري عن تسممها شيئًا، هل هو نتيجة جرح أصابها وهي تعمل؟ أم هو جرح قديم؟ قديم … من عمر هواها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤