ظِلُّ ابتسامة

لكأنما تعب القطار من طول الرحلة، فراح يتهادى في بطء، وكأنما عجلاته أقدام عجوز يئودها السير.

وصاح الجالس بجواره وهو يستجمع أطراف ردائه: حصلنا على مزيد الشرف يا أستاذ! احنا نازلين هنا في «بنها».

وهبَّ واقفًا يُحيِّي الجيش النازل — جيش الموظفين الذاهبين إلى مقرِّ عملهم. من الصالون الذي جلس فيه نزل سبعة ولم يبقَ إلَّا هو، سبعة في خلال الأربعين دقيقة التي جمعهم فيها القطار صاروا أصدقاء، وكأنه يعرفهم من سنين طويلة.

وأطل ببصره من فناء المحطة فوجدهم فعلًا كالجيش، لكأنما نزل كل ركاب القطار، خطر له أنه ربما كان الراكب الوحيد الذي لم ينزل في «بنها»؛ البلد الذي وُلِدَ به.

وتحرَّك القطار ثانيًا، وتحركت يده تُحيِّي أصدقاءه السبعة الذين توقفوا عن الخروج لحظة، ولوَّحوا له بأيديهم، وما كادوا يسيرون حتى بدأ يتأمل ما حوله، وجالت عيناه في واجهات المباني والطرقات، وجالت خواطره، تُرى أين وُلِدَ في هذه المدينة، وفي أي مكانٍ منها؟

محال أن يكون قد وُلِد في ذلك الحي الراقي؛ فهو يعرف جيدًا أنَّ أباه كان موظفًا بسيطًا، طالما احتال على العيش بمرتبه المتواضع، واستدرك فكره تلاحق الخواطر … فاستبعد هذه الاستحالة، وتذكَّر أنَّ عمره الآن ثلاثون عامًا، مدة لا يعيشها حيٌّ من أحياء مصر على حال واحد من العزَّة أو الهوان، ولعل هذا الحي الراقيَ هو الحي الذي كان يعيش فيه أبوه مع عشرات أنصاف الأحياء من صغار الموظفين والعمال، وأحسَّ أنه في شوق لأنْ يفعل كما كانت تفعل أمه كلما حاولت — لفرط طيبتها — أن تشكر القدَر على ما سمح لهم به من فتات النعمة.

كانت ترفع يدها إلى فمها وتُقبِّلها ظهرًا لبطن، ولعله فعل ذلك؛ رفع يده ولثم راحتها وأدارها ليلثم ظهرها، فوقفت يده على حافة فمه، وارتفعت إلى عينه لتمسح ذرة من غبارٍ تعلقت بأجفانه، وطافت الخواطر، وترك القطار أحياء المدينة، ومضى ينساب في الوادي الأخضر، وجعلت خواطره بدورها تنساب في وادي عمره الماضي، وتذكر حين أمسك بخواطره، وقد اصطدمت عند يومٍ أليم من عمره، يوم فقد أمه الطيبة الرءوم، وحين ارتطم القطار بدوره بجاموسة فتعطل في سيره لحظات. تذكَّر ما قرأه منذ زمن لكاتب كان يُعجب به في فورة الصبا، ومن أن الحياة رحلة قطار تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، رحلة بين مدينتَي العدم. وبدأ القطار يعاود سيره، وبدأت خواطره تقفز من الذكرى الأليمة إلى ذكريات مشرقة، ولذَّتْ له المقارنة بين الرحلتين؛ رحلة القطار السائر من مصر إلى الإسكندرية، ورحلة حياته هو منذ أن وُلد إلى اليوم. لعله اليوم يقطع من عمره ما سوف يقطعه القطار بين طنطا ودمنهور، تُرى كم يمر بالقطار من عقبات كتلك الجاموسة؟! وتُرى كم يمر به هو من صدمات؟! وتمتمتْ شفتاه بعد حين، وهو يودع الخواطر متعجبًا، ويعود ببصره إلى ما حوله في الصالون: غريبة!

وتوقفت عيناه!

وتوقف لسانه!

وتوقفت الخواطر!

ومرت فترة قبل أن يعود كلُّ شيء إلى الحياة والجريان، حتى إذا استطاع أن يحرك لسانه، وجد نفسه يتمتم في سريرته فقط بنفس اللفظ: غريبة!

لم يكن الصالون خاليًا كما توهَّم، لم يكن هو الراكب الوحيد فيه! كان في المقعد المقابل في أقصى اليمين إنسان آخر، هو امرأة، لا يدري متى دخلت إلى الصالون، وكيف لم يُحسَّ بها، وكيف مرت تلك الفترة الطويلة دون أن يراها!

وعراه الارتباك، وأخذ يذكر ما فعل منذ لحظات، هل رأته وهو يرفع يده إلى فمه؟ هل سمعته وهو يتمتم لاهيًا بأغنيةٍ يصاحب بها خواطره؟ هل فعل شيئًا غير ذلك؟ ولكنه لم يهتدِ إلى جواب.

وراعته النظرة الثانية التي ألقاها في حذرٍ على الوجه الماثل أمامه؛ إنها امرأة جميلة! جميلة إلى أقصى حد! تُفصِح ثيابُها عن ذوق دقيق، وتنطق عيناها بروحٍ صافية، وشفتاها، يا للعجب! إنهما تفترَّان عن ضحكة خفيفة، بل مجرد ابتسامة هادئة.

وأطال التحديق معتمدًا على انشغالها بتصفح مجلة، وحاول أن يستشف شيئًا وراء هذا الوجه فلم يَفُزْ بطائل. وأحسَّ أنه أطال التحديق، فأمسك بالصحيفة التي معه وراح يقلب صفحاتها دون أن يقرأ شيئًا، وأدرك أنه يخادع نفسه حين يصرف دقيقة واحدة في غير النظر إلى هذا الوجه؛ فطوى المجلة في عنف، ورفع رأسه و… ووجد نفسه وجهًا لوجه أمامها، يطيل التحديق في عينيها المصوَّبتين إليه، فلا يرى شيئًا إلَّا هاتين العينين وتلك الابتسامة، واستطاع في هذه المرة أن يطمئن إلى أنه لم يفعل ما تأخذه عليه الفتاة، واستطاع أكثر من ذلك أن يطمئن إلى أنها لا تشعر بالضيق من نظراته، بل لعلها ترحِّب بهذه النظرات، ولعلها لن تصدف عن الحديث.

وحرَّك لسانه في فمه بشجاعة، لكنَّه لم يقل شيئًا، فعجب لنفسه كيف لا يستطيع الكلام، وقد كان منذ دقائق يتحدث بطلاقة، ويجد ألف موضوعٍ للحديث!

هل كان ذلك لأنه كان يتحدث إلى رجال؟

وفكَّر في الحديث كيف يبدأ مع امرأة، لا يعرف أيَّ حديث تحب … إنه يعرف أنَّ الرجال جميعًا يميلون لحديث السياسة، لكن المرأة؟! إنَّ حديثها المحبب قد يكون الأزياء، وقد يكون السينما … وقد لا تكون راغبة في الحديث بالمرة. لكنه استجمع أطراف شجاعته، وأوحى له عقله بهذا السؤال: من «بنها»؟ حضرتك من «بنها»؟

وكتم أنفاسه في انتظار اللحظة الرهيبة، وأوشك أن يُغمض عينيه كي لا تفجعه نظراتها الغاضبة التي قد تحمل الازدراء.

لكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن، وسرعان ما ترامى إلى أذنيه صوتها العذب كأنه موسيقى خفيفة يحمل الجواب: لأ، من «الإسكندرية».

وتهافت على الفرصة حتى لا تضيع: في «بنها»؟ في زيارة على ما أظن؟

– عند أبي.

ثم ماذا؟

إنه لا يستطيع أن يسأل السؤال التالي، إنه لا يستطيع أن يقول لها كيف يكون أبوك في بنها وأنت في الإسكندرية؛ إنَّ أيَّ سؤال بعد جوابها هذا يعتبر تدخلًا لا ترضى عنه خِلال معرفة لم تتم بعدُ. أيترك الفرصة تضيع هكذا؟ إنَّ عليه أن يتكلم بأي ثمن، أي كلام، وقال دون وعي: لقد وُلدتُ في «بنها»!

ولم يكد فمه يفرغ من النطق حتى أحسَّ بسخف ما قال؛ فما الذي يعنيها من أمر ميلاده؟ وما الذي يعني أي إنسان غيرها؟ وتملَّكه الندم، وتمنى لو لم يقل ما قال من سخف، لقد كان يخشى أن تفلت من يده الفرصة، وها هو قد أضاعها بتسرُّعه!

وسرعان ما قطع عليه تفكيرَه النادم صوتُها يرنُّ في أذنيه قائلة: أنا أيضًا وُلدتُ في «بنها»!

وتملكه الفرح ولم يدرِ أنه يقول: حاجة عظيمة خالص! هذا شرف عظيم!

– لكنكَ لا تقيم في «بنها»؟

– أنا؟ إني لم أرَها منذ وُلدتُ، أعني لا أعرف شيئًا عنها. إنني أقيم في الصعيد، في «قنا»، حيث أعمل مهندسًا.

ومضى يقصُّ كل شيء دون أن يدعوَ داعٍ للحديث. مضى يسرد تاريخ حياته بإسهاب وتفصيل، ولم يدرِ شيئًا عما حوله إلا أنه كلما أجهده الحديث تزود بنظرةٍ من الوجه الباسم وعاد إلى قصته.

وسكت فجأة حين صدم أُذنيه صفير القطار. بدا له هذا الصفير كأنه نعيب غراب يُؤْذِن بزوال نعمة. سوف يقف القطار وينزل في هذه المحطة بالذات؛ إنها «طنطا» بلا شك.

لَكَم تمنى ألَّا تكون، أو أن تكون «طنطا»، ويكونَ عمله الثقيل الذي انتُدب لأدائه بالإسكندرية.

وأسرع الزمن، وأسرع هو يبحث عن حل؛ إنه لم يقل لها الآن إنه سينزل في «طنطا»، إنه لا يُعنَى بذلك قدر ما يُعنَى بأنه يريد أن يقول شيئًا آخر؛ يريد أن يسألها: هل سيراها ثانيًا أم لا، ومتى سيراها؟ ما اسمها؟ كيف فات عليه كل ذلك فمضى في الحديث عن نفسه دون أن يعرف عنها شيئًا؟!

وهدأ القطار من سيره، فتمالك نفسه وقال يبرر سكوته المفاجئ: يظهر اننا وصلنا!

– «طنطا»؟

– أجل، فأنا نازل هنا، لكن …

وسكت برهة يبحث عن الكلمات.

ثم قال بعد تردد: لقد كانت فرصة سعيدة، كنت أتمنى أن تطول، لكن لعل الزمن يسعدني برؤيتك مرة ثانية، ألا تغادرين الإسكندرية أبدًا؟

وقالت باسمة: إلى «بنها» لزيارة أبي، ثم أعود، وأحيانًا نذهب إلى «القاهرة» في العطلة.

وكرر دون أن يدري: كنت أتمنى أن يطول لقاؤنا، لكن ما حيلتي! لكني واثق أننا سوف نلتقي.

كان القطار قد هدأ من سيره، وكان عقله يفكر في شيء آخر، كيف يكون وداعهما؟ هل سيومئ لها برأسه كما يفعل كل رجل مع كل امرأة لا يعرفها؟ أم سيجرؤ فيصافحها؟ إنه يتمنى ذلك، يُحسُّ شوقًا شديدًا لأن يلمس هذه اليد، تُرى ماذا سيكون إحساسه؟ وداعبه خاطر خبيث، هذه الشفاه الباسمة، إنها أنسب مكان لوداعٍ حار، لكنه لا يملك، لا يملك حتى مصافحة اليد.

وتجرأ حين وقف القطار فمد يده مسلِّمًا، ومدت يدها في هدوء تصافحه، وشيَّعته بنفس الابتسامة التي رآها أول ما رأى في وجهها المشرق.

ومضى القطار بها وحدها.

•••

جلس عند ظُهر ذلك اليوم يتحدث إلى زميله المهندس الآخر الذي نُدب ليشاركه العمل، كان حديثهما يدور حول موضوع كل رجلين.

قال زميله: حرام أن لا تتزوج إلى الآن … أتذكر إذ كنا في الكلية وكنتَ أشدَّنا تحمُّسًا للزواج؟

– أجل، وما زلت متحمسًا.

– فلِمَ لم تتزوج إلى الآن؟

– أتذكر الشروط التي كنت أردد أنها ضرورية في الزوجة؟

– أذكر.

– فهذا الذي أنتظره، أنتظر الزوجة التي أُحسُّ حين أرى وجهها أنني أرتاح لهذا الوجه. قد لا يكون جميلًا، ولكنَّه مريح … الوجه الذي يبعث الراحة في النفس ويسكب التشجيع في أعصابي. إنَّ الرجل ليحتاج قبل الطعام والفراش إلى خمر لا تضرُّ، بل تبعث في نفسه الحياة … هذه الخمر لا يسكبها غير عينَي امرأة وشفتيها.

وضحك زميله وقال: إنك على حق، لقد عرفتُ ذلك أنا، وأحسسته حين تزوجت، لعلك لا تعرف أنني حصلت على ضالتي، وأنني الآن زوج منذ عامين. إني لأرجو أن توفَّق مثلي، لكن قل لي: لماذا لا تبحث جادًّا؟

– ومَن قال لك إنني لا أبحث؟

– ألم توفَّق إلى اليوم؟

وقال كالحالم: اليوم! أظنني اليوم قد وجدت شيئًا، وجدت وجهها، أحسب أنني لن أجد سواه، لكن …

– لكن ماذا؟

– لا أعرف عنها شيئًا!

– كيف؟! ألا تعرف من هي ولا أين أهلها؟

– أبدًا.

– أين؟

– في القطار.

وقهقه زميله، وأغرق في الضحك، وسادهما الصمت أخيرًا، ثم قال وهو يحدق في الحجرة: إنني لا أعرفها حقًّا، ولم أرها إلَّا اليوم، لكنني مع ذلك أُحسُّ إحساسًا عميقًا بأنها هي؛ هي تلك التي أبحث عنها، بل أُحسُّ أكثر من ذلك، أُحسُّ أننا سنلتقي ذات يوم.

وعاودهما الصمت مرة أخرى، وأحسَّ زميله أنه يعاني ألمًا؛ فاندفع يتحدث في غير موضوع واحد. كان هو خلال ذلك غارقًا في عالم آخر؛ كان جالسًا على مقعده بالقطار يتأمل الوجهَ الماثلَ أمامه، ولا يرى إلَّا العينين الحالمتين، والشفاهَ الباسمة على الدوام، وأفاق على صديقه يهز كتفه قائلًا: ما رأيك في هذه الصورة؟

وأمسك بالصورة على مضض، وراح ينظر في غير عناية، طالعه وجه زميله يميل في حنان على رأس، امرأة، امرأة جعل يتأملها، أخفى جهده ما عراه من هزة وهو يرى وجهها، وعينيها، وفمها الباسم.

ومرَّت لحظات قبل أن يُفيق.

وعندما وعتْ عيناه ما حوله وأحست أذنه دبيب كلمات زميله يقول: إننا نسكن الآن عند أمها مؤقتًا، أنت تعرف طبعًا أزمة المساكن، لكنني أبحث عن عشٍّ جميل، عشٍّ في ضاحية بعيدة عند نهاية الرمل؛ فهي مثلي تحب الهدوء والراحة.

•••

إنه لا يزال يذكر ذلك اليوم، ويومًا آخر بعد عام، حين قابل زميله في القاهرة ومعه زوجته، حين تصافحا وزميله يقدمها باسمها مجردًا، ثم يردف قائلًا: زوجتي، وتلك النظرة التي اختلسها إلى وجهها فرأى ما رآه أوَّل مرة؛ نفس العينين ونفس الابتسامة! إنه لا يزال يعيش إلى اليوم في ظلِّ هذه الابتسامة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤