ضباب على القرية

عُدْ معي إلى الماضي القريب، إلى عشرين عامًا، كانت القرية نائمة، والعيون الساهرة هي عيون الخفراء، قد انتشروا حولها يحفظونها من الأشرار، وامرأةٌ واحدة تسهر إلى جانب فراشِ مريضٍ قد أطبق المرض أجفانه.

وقالت المرأة وهي تسوي الغطاء، وتُحكم إحاطته حول جسد المريض المتداعي: هل نمت يا عبد العال؟

وأجابها صوتُه الضعيف: لا!

وأشارت عيناه إلى الغرفة المجاورة، فقالت على الفور: لقد نام منذ ساعة، بعد خروج حسَّان.

وأغفى المريض وغلب عليه النعاس، وقهرها التعب، فاستلقت تحت قدميه. وأسدلت الأقدار سِترها على الفصل الأول في الصباح، بعد أن قدمت من أبطال القصة أربعة شخوص: عبد العال المريض، الذي أسلم أنفاسه إلى نسائم الفجر، والطفل النائم في الغرفة المجاورة يصحو على صراخ أمه وعويلها، وحسَّان سيد القرية الثاني بعد عبد العال!

ونفض الأحياء أيديَهم من الميت، وعادوا إلى الدار، وولج حسان باب القاعة مستأذنًا، وآخذًا في أحضانه الطفل الصغير، وقال وهو يغالب دمع قلبه المرتعش: البقية في حياتك يا أم سيِّد!

– حياتك الباقية!

– عايز أقول لك حاجة.

– اتفضل.

وانفرد لحظة، خرج حسان بعدها إلى داره، وعادت خضرة إلى القاعة لتبكيَ من جديد، لا على جثمان الراحل، لكن على حظِّ الحي؛ حظ هذا الطفل الراقد أمامها، ابن سيد القرية، عبد العال، الذي حمل معه إلى القبر السيادة والمال والهناء …

لقد مات عبد العال عن دَيْن لا يمكن سداده، وقد صارحها حسَّان بكل شيء، بأنَّ أيام الحِداد لن تنتهيَ حتى تنتهيَ معها إجراءات البيع، ولن تخرج سمعة عبد العال نقية إلَّا إذا ضاع كل شيء، حتى الدار!

وقال لها حسان أيضًا شيئًا آخر، جعل دموعها الحزينة تخف حرارتها رويدًا، فتصبح همهمة، ثم استسلامًا.

وتلقَّت خضرة العزاء في دارها، وختمت هي وطفلها أيام الحِداد في دار حسان.

وأصبح حسان أبًا جديدًا لسيد، وأخًا لأمه … شهدت داره الفسيحة عطفه وحنانه، وعندما ماتت خضرة بعد أعوام من زواجها لم تكن جازعة على مصير الطفل، وقد رأت بعينها حدب حسان وعنايته به …

ويجلس حسان ذات يوم إلى نفسه وحيدًا، وتزدحم على رأسه الخواطر والصور … هذا عبد العال صديقه، ورَبُّ نعمته السابق يجرجر أكفانه، ويُقبِل عليه يسأله عن مصير ابنه الشاب، ماذا هو فاعل به؟ وهذه زوجته هو! زوجته الغالية التي أحبها ولم يحب سواها، ولم يتزوج إكرامًا لذكراها، ها هي بدورها تخطر له ساحبة أكفانها الحريرية تبحث عن زهرة — ابنتها — في أركان خياله، وتصرخ بأمنية طالما تمنتها، في حياتها، على الله؛ أن ترى زهرة عروسًا تُزف إلى سيد شريف!

وينهض حسان آخر الأمر، وقد انتهى إلى رأي، ولا تلبث الدار الحزينة، منذ ماتت الغالية، أن تكتسيَ حلة من النور والبهجة، وتدوِّي في أرجائها الزغاريد!

وهكذا يتزوج سيد زهرة، ويحمل عن أكتاف الشيخ عبء الإشراف على أرضه، بعزم ونشاط؛ فهو يخرج في الصباح الباكر نحو الحقل، ويعود ساعة الغروب، ويأخذ عليه العمل أحيانًا أخرى كل وقته، فيقضي الأيام بعيدًا عن الدار …

وتكاد القصة أن تنتهيَ عند هذا الحد، وقد نعم القدر بمشاهدة منظر ساذج من حياة الريف ووفائه، لولا طرقة خفيفة على باب حجرة زهرة! إنه مصطفى صفي أبيها، ذلك الشاب الذي تعلَّم في مصر، وعاد يحمل في رأسه ضبابًا، وعلى وجهه وسامة، وفي ملابسه أناقة، جاء ليلقاها جسدًا بجسد، بعد أن لقيها بعينيه أكثر من مرة، ثم واعدها، ثم كان اللقاء.

حدث ذلك، وعميت عيون حسان عن أن ترى شيئًا، وحسب سيد أنَّ جدران الدار مكان أمين يصون جوهرته الغالية؛ فلا تراها العيون. ولكن الشيطان الذي لم يكن قد تسلل إلى نفس سيد، قد غافله وتسلل إلى جسد زوجته.

وطالت المأساة كثيرًا، وتعمد الشيطان ذات يوم أن لا يغلق الأبواب! وترك السراج مشتعلًا في خدر الفاسقة، وقاد قدمَي سيد إلى الدار على غير عادته، وأخذ يتلهَّف على منظر الدماء تسيل على جوانب الشرف المهيض، وأخذ يدب كفيه ليصفق للواقعة الدامية، مقتل آثمَين على فراش الخطيئة!

ولكن خاب فأل الشيطان؛ فلم يقتل سيد أحدًا. لقد أسدل على الفضيحة ثوب الليل، وأطفأ السراج، ولم ينم إلى الصباح.

وهبَّ مع الفجر من فراش يقظته مهرولًا، وأخذ يجمع ملابس زهرة بنفسه ويطويها في عناية، وحين انتصف النهار كان قد أوصلها إلى بيت أبيها مطلَّقة.

وكان عليه أن يفسِّر ما فعل لأبيها الشيخ ويرد على أسئلته، ولكنه لم يُجِبْ بغير جواب واحد: واللهِ مش عارفين نعيش مع بعض يا عمي، ولا هي بتقبلني ولا أنا بأقبلها، الفراق أحسن. وعبثًا حاول حسَّان أن يصدق هذا التعليل.

شابٌّ طريد لا يملك شيئًا، يلفظ هذه النعمة، ويسيء إلى من أحسن إليه؟

وقال مصطفى وقد جلسا في المساء: يا عم حسان! المسألة فيها سر، أصل سيد ماشي مع … وذكر اسم امرأة؛ واحدة من قطط الريف الضالة التي تُنسج حولها الأقاصيص!

وصدَّق حسان على مضض، وامتلأ قلبه بالكراهية لذلك الغادر الذي أحال جوهرته الغالية إلى قطعة من الزجاج لن يتحلَّى بها غير الفقراء.

وغدا الحقد ينمو مع الأيام على ربيب النعمة العاق، بدأت نقمة السيد الثري القادر على الشاب اليتيم المشرَّد، أخذت هذه النقمة شتى الصور، لم يجرؤ فلاح واحد على أن يفتح أبواب حقله للطريد، فلجأ إلى القرية المجاورة، هناك وجد حقلًا يعمل فيه، ولاحقته نقمة حسان إلى هذا الحقل، فما لبث أن طُرد منه!

وظل سيد ينتقل من حقل إلى حقل، حتى استقر بأرض مُزارع كبير، وما لبث بها قليلًا حتى وثق به صاحب الأرض؛ فجعله حارسًا يرعاها ويسهر عليها!

ونشب ذات يوم خلاف بين سيد وناظر الزراعة، وتطوَّر الخلاف إلى مشاحنة شديدة توعده فيها الناظر بالطرد في اليوم التالي.

وفي الصباح التالي وُجد ناظر الزراعة مقتولًا على حدود القرية، وفي الضحى كان سيد مكبلًا بين يدي المحققين ينكر في حرارةٍ أنه القاتل، ويردُّ على أسئلة النائب الحائر في حيرة وارتباك: ألَمْ تتشاجر أمس مع الناظر؟

– بلى، تشاجرت!

– ألَمْ يتوعدك بالطرد في الصباح؟

– توعَّدني فعلًا.

– فطردتَه من الحياة قبل أن يطردك من الحقل؟

– أبدًا، وأقسم بالله!

وتتملك الشابَّ حرارةُ الإنكار فتغلبه العَبرات؛ عَبرات البريء المظلوم، ويرق قلب المحقق، ويُحسُّ نسمة من العطف على الشاب تمر بقلبه، فيوشك أن يؤمن ببراءته، ولكن …

لقد تشاجرا بالأمس!

وتعود من جديدٍ قصة الشبهة والقرائن، وتقفز الحيرة إلى رأسه. إنه لا يملك دليلًا إلا هذه الشُّبهة، وهي لا تكفي لإدانة متهم، وهو يخشى أن يتركها فيفقد البصيص الضئيل الذي يقود إلى الحقيقة، ويجد الشرطة في البحث، ويقلب الحقل رأسًا على عقِب، ويعود الرُّسل متهللين فرحين؛ فقد وجدوا الدليل!

هذا الخنجر الحاد المرهف!

إنَّ القاتل يختفي عند قبضته بلا شك.

ويشهد خفراء القرية بأنه خنجر سيد، ويشهد بذلك أصدقاؤه، ويُسأل حسَّان فيؤيد ما يقول الشهود، ويقول سيد — بعد أن تفجعه الحجج — في تخاذل: خنجري نعم، ولكنني لم أقتل، وأقسم بالله!

ويجلس سيد في ظلمات السجن وحيدًا، لقد أَلِفَ الوحدة، أَلِفَها في الحقل، حين كان يجلس وحده في الكون كله يتأمل السماء. إنه هنا أيضًا وحيدًا! نفس القمر الذي يراه من كوة السجن، كان يراه وحده في الحقل وكان يُحدِّثه … طالما حدَّثه عن زهرة وهو صغير يهفو إلى حبها، وطالما حدَّثه عنها وهو شابٌّ يطمح إلى زواجها، وطالما حدَّثه عنها وهو زوج يصبو إلى سعادتها، وطالما حدَّثه وهو أعزب مجروح العِرض مثلوم الشرف، طالما حدَّثه بأحزانه؛ لأنه كان لا يجرؤ أن يُحدِّث غيره!

ويسأل القمرَ: من وضع هذا الخنجر في الحقل؟ إني لم أُعادِ أحدًا، فمن أين لي الأعداء؟!

ويصمت القمر ولا يجيب، ويتردد السؤال في مكان آخر، في ساحة القضاء: مَن الذي وضع الخنجر إذنْ يا سيد؟

ويهم سيد أن يقول: لقد سألتُ القمر نفس هذا السؤال!

ولكنه يذكر أنَّ القمر لا يجيب، وأنَّ القاضيَ لا يسأل السماء.

ولو أجاب القمر وقصَّ رؤياه لنقل هذا الحوار:

– خلاص يا عم حسان، أنا انتقمت لك.

– من مين؟!

– من سيد.

– كيف؟!

– دفنت خنجره في الغيط اللي انقتل فيه ناظر الزراعة، والخفراء لقوه وثبتت التهمة عليه … الناظر مقتول بخنجر زي خنجره بالضبط!

– إيه اللي عرفك؟

ويصمت مصطفى في اضطراب، ويتمنى أنه لم يقل ما قال، ولكنه يتمالك نفسه حين يسمع صوت حسان معاتبًا: لكن، مش حرام يا مصطفى؟!

– مش حرام أبدًا، الخاين مالوش عهد، ودمه ماهوش دين.

ويضعف عتاب حسان، وتهدأ ثورة ضميره، ويذكر ما فعل سيد بأعز ما يملك، تلك الجمرة التي أحالها إلى رماد لا يُدفئ بدن شاب.

ويصمت حسان مرة أخرى في ساحة القضاء!

وتنتقل عينا سيد خلال القضبان الحديدية في وجوه الحاضرين، وتلتقي عيناه بعينَي حسان، فيغمض حسان عينيه، وتلتقيان بعينَي مصطفى، ويطيل كلاهما التحديق، ويرى سيد شيئًا، وتلفظ شفتاه: مصطفى!

ولكنه يمسك مذعورًا على صوت القاضي: مصطفى؟ مَن مصطفى؟ هل بينك وبينه عداء؟

ويهمس خفير إلى جاره في آخر القاعة: أتذكُر يا عبد العال ليلة وجدنا الخنجر؟! إنَّ مصطفى كان فعلًا آتيًا من الحقل، ماذا كان يفعل هناك؟!

ويتحرك الخفير الساذج على مقعده متململًا متحفزًا للكلام.

ويُعيد القاضي سؤاله: مَن مصطفى هذا؟! ولماذا يضع لك الخنجر؟! هل بينك وبينه عداء؟!

ويصمت سيد متخاذلًا، وقد استقرت عيناه عند جبين ولي نعمته المتغضن في حنان وعطف.

ويهدأ الخفير، وقد تضاءلت في ناظِرَيه حياة سيد، ويهمس له جاره: يا عم احنا مالنا؟

ويقطع صوت القاضي صمت الأصوات، وضوضاء الأفكار السابحة في رنين رهيب: يا سيد! أديك سكت، مش قادر تقول حاجة؟ ليه مصطفى ده خبَّى الخنجر في الغيط، ومنين جابه؟

منين؟ منين؟

أيقول؟ ولماذا؟ لكي يعيش؟

يعيش بذكرى خيانة زهرة رفيقة صباه، يعيش في عالم حالك، لن يرى في نهاره وليله إلا صورة لحظة واحدة، تحجب بظلامها كل ما في الحياة من ضياء! يعيش ويقتل حسَّان؟ يقتل من منحه الحياة، حين كانت الحياة ضياءً وجمالًا؟!

لا!

قالها في خياله، وقالها للقاضي: لا! لا أعرف! احكم عليَّ يا حضرة القاضي، أنا حكمت قبلك بالموت على نفسي!

لكنَّ الله لم يحكم عليه، ولن يحكم على بريء؛ فما تكاد الجلسة تنتهي في المساء، وما يكاد حسان يأوي إلى غرفته في فندق المدينة، حتى تعود إلى خاطره صور يومه الحافل، وتتركز من بينها صورة واحدة؛ صورة عينَي سيد تستنجدان به؛ صورة لا تفارقه فلا ينام، ولا يقف الأمر به عند حد الأرق، بل يبدو له شبح سيد معلقًا في حبل المشنقة ميتًا، وهو يشير إليه، وتُضيِّق الأشباحُ على الشيخ الخناق، وتطارده الصور، ويهب من أحلامه المروِّعة فَزِعًا صارخًا، وقد تملَّكتْه الحُمَّى، وفَقَدَ أعصابه، ويهرول إليه نزلاء الفندق، فيأخذ في الحديث المضطرب، ويظنه الناس قد جُنَّ، ولكنه يصيح بهم: أقسم لكم أني لستُ بمجنون، إنني أقول الحقيقة؛ سيد لم يَقتل، الذي قتل هو مصطفى، قتل ناظر الزراعة، وأخذ خنجر سيد وأخفاه في الحقل!

ويُقبِل سيد في صباح اليوم التالي إلى قاعة المحكمة مكبلًا، فلا يتبيَّن وجه حسان بين الحاضرين، ولا يرى مصطفى، ولا تكاد الجلسة تبدأ حتى تؤجل؛ لأن أمرًا قد جدَّ يستدعي التأجيل!

تقول القصة بعد ذلك: إنَّ سيد قد أُفرج عنه، وقُبض على مصطفى، وقُدِّم متهمًا بالقتل، وحُكم عليه بالإعدام، وإنَّ حسان قد مات ليلة أملى اعترافه. ويوشك الستار أن ينزل على المأساة، لولا أن يهمس أهل القرية، وقد نُفذ حكم القضاء في مصطفى: إنه بريء، مظلوم من دم ناظر الزراعة! إنه لم يقتله. ويهز فقيه القرية رأسه كلما ردَّد الأهالي همسهم قائلًا: ولِمَ إذنْ أراد إلصاقها بسيد؟!

عَلِم الله ما هو بمظلوم، لقد أراد قتل بريء!

ويجلس سيد في الحقل، وينظر إلى القمر، ويقص عليه القصة كلها، ثم يرفع يديه متمتمًا للسماء: أحمد الله … أنَّ حسانًا لم يعرف ما جَنَتْه ابنته؛ لقد مات قبل أن يعرف!

•••

وينقشع الضباب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤