حيث انتهى الأبطال

إنك تعرف — بلا شكٍّ — غادةَ الكاميليا وقصتها الرائعة الدامية، هذه الغانية الفاتنة كانت مريضة بالسلِّ حين أحبها أرمان دوفال أصدق مَن عشقها بين عشرات الذين عرفتْهم، وتعرف كيف نما الحب بينهما نمو المرض في جسدها اللدن، وكيف تعثَّر هذا الحب تعثُّر الأنفاس في صدرها الملتهب، وكيف بلغت في غرامها ومرضها أوفى غاية، فضحَّت بقلبها على مذبح الحب، وبحياتها على مذبح المرض … فكانت نهاية البطلين التي رسمها ديماس، كما رسمت علامة الصليب على قبر ذات الكاميليا في باريس!

عند النهاية المروعة، وحيث نما الحب والمرض معًا في بدن غادة باريس، عند هذه النهاية بدأت قصته معها في الإسكندرية … لقد لقيها ذات مساءٍ على الشاطئ تسير في صحبة ثلاثة، عرف في إحداهن ابنة عمه، وكان شابان يلحان عليهنَّ في مغازلة عنيفة تثير الأعصاب، فتقدَّم نحوهما معاتبًا في خشونة، وكاد يشتبك معهما في عراك لولا أن اقتربت الفتيات الثلاث منه، ونادته ابنة عمه باسمه، ففر الشابان خشية الفضيحة … وهكذا بدأ التعارف بينهما. كان اسمها الاسم الثاني الذي تفوَّهت به ابنة عمه، وهي تُقدِّمه إلى صديقتيها؛ منيرة صفوت.

وساروا جميعًا على الشاطئ، وقالت ابنة عمه: الحمد لله الذي بعث بك الآن، لقد تبعنا هذان الوغدان من الشاطئ إلى هنا، ونحن نسرع عسى أن ييأسا من ملاحقتنا، ولا فائدة. وقالت صديقتها الأولى: نحن لا نعرف كيف نشكرك!

والتفتت إلى منيرة قائلة: مسكينة منيرة، ضروري تعبت من المشوار؛ لقد غادرت الفراش بالأمس فقط.

ووجد نفسه يسأل: هل كانت مريضة؟

وأومأت منيرة برأسها، وردت ابنة عمه: كانت تشكو البرد، لكن الحمد لله، إنها اليوم أحسن بكثير، ودار الحديث عن منيرة، وساهمت هي فيه بهمس خفيف كان يسمعه متلهفًا، وارتسمت في رأسه صورة لحياة فتاة ضعيفة البنية، يسرف المرض في زيارتها … وبدت أمام عينيه، وهي تخطر قريبًا منه بجسمها الضامر ووجهها الرقيق، وعينيها الجميلتين البراقتين …

وجمع خياله بين الصورتين في إطار أنيق وديع من صوتها الهامس … وحانت له الفرصة ليطويَ يده على اليد الصغيرة المرفوعة، وغالب نفسه طويلًا لكيلا يلثم هذه اليد!

وكان لقاءٌ على رمال الشاطئ في اليومين التاليين، أخذ الهوى خلالهما سبيله إلى القلبَين الشابَّين، وانطلقت أولى كلمات هذا الهوى في لقائهما الثاني، إثر سعلة عنيفة تعثَّرت في فمها، فتعثَّر لها فؤاده، وقال في حنان: سلامتك!

وأجابت بنظرةٍ كلها يأس، وردَّ بنظرةٍ كلها حب وأمل …

ومرت أيام، ذرع إليها الشاطئ أكثر من مرة فلم يجدها، وطال ترقُّبه وتكرر يأسه؛ ففزع إلى ابنة عمه مضطربًا يسألها عن صديقتها، وهناك عرف الحقيقة المروعة!

لقد نما الحب في قلبيهما مع مرض خبيث انساب إلى صدرها، وقرَّر الطبيب أن لا بدَّ من نقلها إلى حلوان.

أطاق يومًا واحدًا بعد ذلك النبأ كآبة الشاطئ الخالي من منيرة … يومًا واحدًا حزم بعده حقائبه إلى القاهرة.

وعرفت رمال حلوان منذ ذلك اليوم وقْع خطواته، وهو يدبُّ بأقدام مثقلة بأحزانه صوب «المصحة»، حيث يأوي المصدورون. وأصبح يومه يتلخَّص في ساعات العمل البغيضة في الصباح، ثم الانطلاق بعد ذلك إلى حيث تأوي آماله بين جدران غرفة بيضاء.

وذاقت منيرة مع مرارة المرض ساعات حلوة، غمرها فيها بحبه وحنانه … ووقف الطبيب ذات يوم على حافة فراشها، وقال وهو يتحسسها: لن يطول مكثك بيننا يا منيرة؛ فربما استطعتِ مغادرة المستشفى بعد أسبوعين أو ثلاثة.

وزفَّت إليه البشرى عصر ذلك اليوم، ومرَّت دقائق الأسابيع الثلاثة كأنها جبال تتحرك منزاحة عن صدره، ومرت الساعات أجيالًا، ومرت الأيام دهورًا، وبدت له نهايتها كحلم جميل.

وغادرت منيرة «المصحة»، وعادت إلى منزلها، فأضاء قلبه عشرة أضعاف الثريات التي أضاءت دارها ليلة وصولها، وغمر قلبَه فرح تتضاءل معه أفراح كل أسرتها، وعاد إلى الحياة في صباح اليوم التالي نشيطًا مبتهجًا، وقال زميل له يداعبه: مش رايح النهاردة حلوان؟

وأجاب في سرور: حلوان؟ لقد محيت من الخريطة منذ الأمس! أنا الآن في الفردوس! فردوس يحدُّه من ناحيةٍ شاطئ النيل، ومن الناحية الأخرى شارع قصر العيني، إنه الشارع المقفر الكئيب أمس الأول، قد أصبح منذ الأمس جنة الكون!

وقاطعه صديقه قائلًا: يا سلام! أهكذا يفعل الحب؟

– وأكثر من ذلك! ألم يبرئ المريضة ويحيي قلبين؟

وكان صادقًا!

كان فردوسه الشارع الهادئ في جاردن سيتي؛ حيث تفطن، وحيث كان يخلو وإياها في رياضة قصيرة عصر كل يوم، فلا يُحِسَّان غير وقْع أقدامهما. وكان فردوسه شرفة المنزل؛ حيث يجلس وإياها بعد رياضتهما الساذجة ساعات يُطلان على شجرة واحدة، شجرة واحدة لعل بذرتها سقطت ذات يوم عفوًا من زارع الأشجار!

شجرة واحدة كانت كل ما في الشارع من حياة وخضرة، وكانت في نظره أجمل فردوس في الوجود، فردوس كامل تعطِّره الأزهار ويذخر بالأطيار!

لم يمل يومًا هذا المنظر الرتيب، وكان يقول لها: لو يمضي العمر كله على هذا المنوال يا منيرة! أنا وأنتِ وهذا المنظر الجميل!

وكانت تجيبه ضاحكة: ألَا تمل هذا التكرار؟

– أنا؟! أنا أمل؟! أمل النعيم؟! فيمَ أطمع وأنتِ معي؟!

إن الحياة لا تحتاج لبهاء غير ما ينعكس من وجهك على صفحاتها؛ هكذا هي في عيني.

وتدوِّي ضحكتها وهي تنظر في حنان قائلة: شاعر!

إنه لَيسأل نفسه الآن: هل كانت نظرتها حنانًا أم سخرية؟ ويسأل نفسه مرة أخرى: أكانت تعني كلمة شاعر في نظرها إنسانًا مرهف الحسِّ رقيق الشعور؟ أم معتوهًا ساذجًا، جديرًا بالرثاء؟

الآن بعد عشرة أشهر يدرك لِمَ سألته عن الملل، لقد كانت تُحس الملل بلا شك من جلستها الهادئة في الشرفة، ومن رياضتهما الساذجة في الشارع الهادئ …

هي التي كانت تُحس الملل إذ ذاك … كانت ترهقها حياة الهدوء التي فرضها عليها الأطباء بعد شفائها شهرين كاملين. لم يكن هو شاعرًا في نظرها … كان معتوهًا ساذجًا، يعيش في الأحلام ولا يودُّ أن يخترق نطاقها … كانت هي أبعد ما تكون عن هذه الأحلام، كانت تعيش فيها مكرهة ملولًا، لم يكد اليوم الأخير من شهرَيِ النقاهة يدبر، حتى انطلقت من إسار الأحلام، وعادت الحياة … وظلَّ وحده يعيش في الأحلام!

وأقبل في عصر ذلك اليوم على الدار، فلم يجد منيرة!

وقالت أمها: لقد خرجت لتزور صديقاتها، هل نسيتَ أنَّ اليوم أول يوم يُصرح لها فيه بالخروج؟

لم يكن قد نسي، بل لم يكن في العالم إنسان قد حسب الساعات وتهيَّأ لهذا اليوم مثله … وكان في أحد جيوبه تذكرتان للسينما، وفي الجيب الآخر خاتم جميل، وفي يده باقة ورد مشرقة؛ إنه لم ينسَ إذنْ. هي التي نسيتْ أنَّ ذلك اليوم من أعياد حياته!

وجلس كثيرًا ينتظر، ودقَّت الساعة الثامنة، فامتدت يده إلى جيبه، وفركت — في يأسٍ — تذكرتي السينما، ومرت ساعة أخرى، فأخرج من جيبه الخاتم الجميل في حزن، ودفع به إلى أمها، وقال وهو يغالب أساه: هذا لمنيرة يا تيزة، لسوف أحضر غدًا.

وألقى نظرة أسيفة على باقة الزهر، كم كان يودُّ أن يشمها وإياها! ثم عاد إلى داره.

لقد كان في نظرها ساذجًا … إنَّ كلمة شاعر كانت تعني ذلك. ظل ساذجًا والأيام تمضي، مضى اليوم الثاني أسوأ من الأول، لم يفجعه غيابها وإنما فجعه لقاؤها؛ إنَّ منيرة التي عرفها على شاطئ البحر، ثم رآها على سرير المرض، وأغرق فراشها بحنانه، ليست هي التي قابلته عصر ذلك اليوم. هذه الفتاة المرحة في عنف، ووجهها الغارق في زينة مسرفة، حتى ضحكتها، الضحكة الرقيقة أضحت ضحكة عنيفة …ثم كان حديثها، إنه لَيشك أن الفتاة التي كانت تحدثه إذ ذاك هي الفتاة التي كانت تجلس منذ أيام وإياه على الشرفة.

كل شيء فيها تغير، حتى صوتها، وحتى لقائها له. لقد استقبلته كما لو كان معها منذ لحظات، وتكلَّفت الابتسام وهي ترد تمنياته وتحياته، ثم قالت وهي تداعب كلبها الصغير: أنا آسفة؛ فقد خرجت أمس لأنني لم أكن أطيق المنزل؛ هذا السجن الذي قضيت فيه شهرين، كان من المحال أن أنتظر دقيقة واحدة … ثم إنك تأخرت!

تأخر؟!

وأجاب دون انتباه: لقد حضرت في الخامسة والنصف، كنت أنوي أخذك للسينما، ولكن …

وقاطعته مسرعة: لقد ذهبت فعلًا للسينما، مع مديحة وحسنية …

ودار حديث طويل، ومرت كلماته على صدره كأنها أحجار، ولامست معانيه قلبه كأنها أشواك … وعندما خرج كان وداعها فاترًا، وأحسَّ كأنما تتعجَّل خروجه.

إنه ليذكر الآن كل يوم بعد ذلك اليوم … يذكر كل لقاءٍ لهما، وكل نزهة خرجا إليها، يذكر ذلك الفارق العظيم بين تفكيره وتفكيرها، تلك الهوة السحيقة التي كانت تلقي فيها بآماله واحدًا إثر واحد … يذكر المرات التي جاء ليزورها فلم يجد غير كلبتها الصغيرة ترحب به وتجري من حوله … لقد ظلت وحدها المخلوق الباقيَ على الوفاء، وإنه لا يذكر يومًا واحدًا عُنِيَ فيه بالعطف عليها أو مداعبتها.

والتقى بابنة عمه ذات يوم صاعدة دَرَجَ السلم إلى بيته، فحيَّاها وأسرع مهرولًا إلى كعبة آماله، ولكنها أمسكت به قائلة: سعيد، هل أنت مستعجل؟ إني أريد أن أحدثك.

وصعد معها ثانيًا إلى الدار، وقالت وهي تجلس: ألا تزال متصلًا بمنيرة؟

وفجأه السؤال، فأجاب على الفور: نعم، لكن …

– لكن ماذا؟ لكنك تُحس أنها تغيرت، أليس كذلك؟

وتهاوت عزيمته، ولم يجد ما يقوله، فاستطردتْ قائلة: إنها تغيرت فعلًا يا سعيد، أنا أعرف ذلك؛ ولذلك جئت لأحدثك … إنَّ منيرة لا تحبُّك ولا تحبُّ أحدًا، إنها تصادق، تصادق أكبر عدد من الشبان؛ تلهو بهذا، وتعبث بذاك، والسعيد منهم من عبث بها ومضى إلى حال سبيله …

الذي يؤسفني أنك أحببتها، وقمتَ بدور المحب الوفي … إنك لم تترك لي فرصة لأحدِّثك عنها، لم أكن أعلم حين سألتني عنها أنك أحببتها، لو علمت لأخبرتك … أمسِ فقط آلمني أن أسمعها تتحدث بسخرية، وعلمتُ أيَّ خدعة وقعتَ فيها!

إنه لا يدري، هل سمع كل ما قالته ابنة عمه أم لا، إن كل ما وعاه أنها أضاءت بحديثها النور في سبيله، فأدرك ما غاب عليه وما حار فيه من تعليل تصرفات منيرة، ووعى أيضًا جوابها على سؤاله المضطرب: أكانت تخدعني طوال مرضها؟

– بل كانت صادقة … لقد كنتَ أنتَ كلَّ ما بقي لها خلال هذه الفترة، من أين يكون لها الشاب الذي يُسرِّي وحدتها، يغمرها بالحب، وهي جسدٌ أصفر باهت يتآكله المرض، لم يكن هناك غيرك، حتى شُفيت وعادت إلى الحياة.

إنه لم يخرج في هذا اليوم إلى بيت منيرة، ولا في اليوم الذي تلاه … لم يذهب إلى هذا البيت قط بعد ذلك اليوم. ظلت صورة منيرة تتضاءل في ناظرَيْه ويعلوها الغبار … حتى استقرت في زوايا الذكريات الأليمة.

•••

إنك تعرف — بلا شك — نهاية قصة ديماس الخالدة؛ حيث مات البطلان وعاش الحب، عاش إلى اليوم.

•••

حيث انتهى الأبطال، بدأ سعيد هواه؛ هواه العظيم. كل الفرق أنَّ هواه قد مات وعاش البطلان — هو ومنيرة — في زوايا الذكريات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤