تَمْهِيدٌ

فِي بِلَادِ الصِّينِ

(١) مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ

أَتَعْرِفُونَ بِلَادَ الصِّينِ، أَيُّهَا الْأَطْفَالُ الْأَعِزَّاءُ؟

لَعَلَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِاسْمِهَا، وَمَا أَظُنُّكُمْ قَدْ سَافَرْتُمْ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَيَاتِكُمْ؛ فَهِيَ بِلَادٌ بَعِيدَةٌ جِدًّا. وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقُصَّ عَلَيْكُمْ شَيْئًا مِمَّا حَدَثَ فِي تِلْكُمُ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ.

لَقَدْ عَاشَ فِي أَحَدِ بِلَادِ الصِّينِ النَّائِيَةِ (الْبَعِيدَةِ) خَيَّاطٌ نَشِيطٌ اسْمُهُ «مُصْطَفَى». وَقَدْ نَسِيتُ اسْمَ الْبَلَدِ الَّذِي عَاشَ فِيهَ ذَلِكُمُ الْخَيَّاطُ؛ لِأَنَّ بِلَادَ الصِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمَمَالِكَهَا وَاسِعَةٌ فَسِيحَةُ الْأَرْجَاءِ (النَّوَاحِي). وَقَدْ عَاشَ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ» فِي بَلَدِهِ فَقِيرًا، وَكَانَ يَعْمَلُ طُولَ يَوْمِهِ فِي دُكَّانِهِ، لِيَحْصُلَ عَلَى قُوتِهِ وَقُوتِ زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ — لِفَقْرِهِ الشَّدِيدِ — أَنْ يَدَّخِرَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، لِيَنْفَعَ بِهِ زَوْجَهُ وَوَلَدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

(٢) «عَلَاءُ الدِّينِ»

وَلَمْ يُرْزَقْ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ» مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرَ وَلَدٍ وَاحِدٍ سَمَّاهُ «عَلَاءَ الدِّينِ»؛ وَكَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا. وَلَكِنَّ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطَ» كَانَ — كَمَا قُلْتُ لَكُمْ — فَقِيرًا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعَلِّمَ وَلَدَهُ. وَكَانَ يَتْرُكُهُ يَقْضِي يَوْمَهُ كُلَّهُ فِي خَارِجِ الْبَيْتِ، وَيَلْعَبُ مَعَ أَشْبَاهِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ أَلِفُوا الْبَطَالَةَ وَاللَّعِبَ؛ حَتَّى سَاءَ خُلُقُهُ، وَصَارَ — بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ — أَسْوَأَ مِثَالٍ لِلْأَطْفَالِ. وَكَانَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — عَلَى ذَكَائِهِ — شَدِيدَ الْعِنَادِ؛ فَقَدْ نَصَحَ لَهُ أَبُوهُ أَنْ يُقْلِعَ عَنْ مُعَاشَرَةِ الْأَشْرَارِ (يَتْرُكَ مُصَاحَبَتَهُمْ)، وَيَبْتَعِدَ عَنْ رُفَقَاءِ السُّوءِ. وَحَاوَلَ — جُهْدَهُ — أَنْ يُعَلِّمَهُ صِنَاعَةً تَنْفَعُهُ إِذَا كَبِرَ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ لَهُ نُصْحًا، وَضَاعَتْ جُهُودُ أَبِيهِ بِلَا فَائِدَةٍ. فَاضْطُرَّ أَبُوهُ إِلَى مُعَاقَبَتِهِ وَزَجْرِهِ (مَنْعِهِ وَنَهْيِهِ)، وَاتَّخَذَ مَعَهُ وَسَائِلَ الْعُنْفِ (الشِّدَّةِ) بَعْدَ أَنْ أَخْفَقَتْ — فِي إِصْلَاحِهِ — وَسَائِلُ اللِّينِ، وَلَكِنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» لَمْ يُبَالِ بِعِقَابِ أَبِيهِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زَجْرُهُ وَشِدَّتُهُ. وَمَا زَالَ كَذَلِكُمْ حَتَّى يَئِسَ أَبُوهُ مِنْ إِصْلَاحِهِ.

(٣) «عَلَاءُ الدِّينِ» فِي دُكَّانِ أَبِيهِ

وَلَجَأَ أَبُوهُ إِلَى آخِرِ وَسِيلَةٍ عِنْدَهُ؛ فَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى دُكَّانِهِ لِيُعَلِّمَهُ حِرْفَتَهُ. وَكَانَ يَبْذُلُ وُسْعَهُ فِي تَحْبِيبِ الْعَمَلِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مَا إِنْ يَتْرُكهُ فِي دُكَّانِهِ — قَلِيلًا مِنَ الزَّمَنِ — حَتَّى يَهْرُبَ مِنْهُ، وَيَقْضِيَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مَعَ أَصْحَابِهِ.

فَعَلِمَ أَبُوهُ أَنَّ وَلَدَهُ لَنْ يُصْلِحَهُ وَيُرَبِّيَهُ إِلَّا الزَّمَنُ وَحْدَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّ دُرُوسَ الْحَيَاةِ الْقَاسِيَةِ كَفِيلَةٌ (ضَامِنَةٌ) بِتَقْوِيمِهِ وَتَهْذِيبِهِ:

مَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ وَالِدَاهُ
أَدَّبَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ

(٤) «عَلَاءُ الدِّينِ» بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، مَرِضَ أَبُوهُ مَرَضًا شَدِيدًا، ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ يَائِسٌ مِنْ إِصْلَاحِ وَلَدِهِ الَّذِي كَانَ يَرْجُو لَهُ النَّجَاحَ وَالتَّوْفِيقَ.

وَلَمْ يَتْرُكْ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ» — لِزَوْجِهِ وَوَلَدِهِ — إِلَّا دُكَّانَهُ الصَّغِيرَ. وَرَأَتْ تِلْكُمُ الْأَرْمَلَةُ (الْمَرْأَةُ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا) أَنَّ وَلَدَهَا «عَلَاءَ الدِّينِ» لَنْ يَخْلُفَ أَبَاهُ فِي صِنَاعَتِهِ، لِمَيْلِهِ إِلَى الْبِطَالَةِ وَاللَّعِبِ؛ فَبَاعَتِ الدُّكَّانَ، وَظَلَّتْ تَقْتَاتُ بِثَمَنِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً؛ حَتَّى أَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا مِنَ النُّقُودِ.

فَاضْطُرَّتْ إِلَى الْعَمَلِ حَتَّى لَا تَمُوتَ — هِيَ وَوَلَدُهَا — جُوعًا؛ فَكَانَتْ تَغْزِلُ الْقُطْنَ — طُولَ النَّهَارِ — ثُمَّ تَبِيعُ مَا غَزَلَتْهُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَقْتَاتُ — هِيَ وَابْنُهَا «عَلَاءُ الدِّينِ» — بِثَمَنِهِ.

•••

وَخَلَا الْجَوُّ لِصَاحِبِنَا «عَلَاءِ الدِّينِ» — بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ — فَأَطْلَقَ لِنَفْسِهِ الْعِنَانَ (مَضَى كَمَا يُرِيدُ، وَتَرَكَ لِنَفْسِهِ الْحُرِّيَّةَ) فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، حَتَّى بَلَغَتْ سِنُّهُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.

وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُ قَادِرَةً عَلَى إِصْلَاحِهِ وَتَحْبِيبِ الْعَمَلِ إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ عَجَزَ أَبُوهُ عَنْ ذَلِكُمْ مِنْ قَبْلُ؛ فَأَسْلَمَتْ أَمْرَهَا لِلهِ، وَاكْتَفَتْ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهَا — فِي صَلَوَاتِهَا — بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤