الفصل الثاني

الْمِصْبَاحُ الْعَجِيبُ

(١) وَصِيَّةُ السَّاحِرِ

ثُمَّ قَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ، بَعْدَ أَنْ تَنْطِقَ بِاسْمِكَ وَاسْمِ أَبِيكَ وَجَدِّكَ؛ لَيَسْهُلَ عَلَيْكَ رَفْعُهُ.»

figure

فَأَطَاعَ أَمْرَ السَّاحِرِ بِلَا تَرَدُّدٍ؛ فَرَأَى سُلَّمًا يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَنْزِ. فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «انْتَبِهْ إِلَى كُلِّ مَا أَقُولُهُ لَكَ، وَإِلَّا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِلْهَلَاكِ: سَتَرَى فِي آخِرِ هَذَا السُّلَّمِ بَابًا مَفْتُوحًا فَادْخُلْهُ. وَثَمَّ (هُنَاكَ) تَرَى ثَلَاثَ غُرَفٍ كَبِيرَةٍ فِي طَرِيقِكَ. وَعَلَى جَانِبَيْ كُلِّ غُرْفَةٍ حَقَائِبُ (جَمْعُ حَقِيبَةٍ، وَهِيَ الَّتِي يَضَعُ فِيهَا الْمُسَافِرُ أَشْيَاءَهُ)، وَجِرَارٌ (أَوْعِيَةٌ مِنَ الْفَخَّارِ). وَهَذِهِ الْحَقَائِبُ وَالْجِرَارُ مَمْلُوءَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ — كَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ — فَاجْتَزْهَا (مُرَّ بِهَا) بِسُرْعَةٍ، وَحَذَارِ (احْذَرْ) أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِكَ، أَوْ يَلْمُسَهَا طَرَفُ ثَوْبِكَ، وَإِلَّا هَلَكْتُ لِسَاعَتِكَ.

فَإِذَا انْتَهَيْتَ مِنْ ذَلِكَ، رَأَيْتَ أَمَامَكَ حَدِيقَةً جَمِيلَةً، أَشْجَارُهَا مِنَ الذَّهَبِ، وَثِمَارُهَا مِنَ اللَّآلِئِ النَّادِرَةِ، فَاجْتَزْهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى شُرْفَةٍ كَبِيرَةٍ (بِنَاءٍ بَارِزٍ مِنَ الْحَائِطِ) — فِي وَسَطِهَا نَافِذَةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا— عَلَيْهَا مِصْبَاحٌ مُضِيءٌ؛ فَاحْمِلْهُ بِيَدِكَ، ثُمَّ أَطْفِئْهُ، وَانْزِعْ شَرِيطَهُ، وَاسْكُبْ مَا فِيهِ مِنَ الزَّيْتِ، وَأَحْضِرْهُ إِلَيَّ.

وَإِذَا أَعْجَبَكَ شَيْءٌ مِنْ ثِمَارِ تِلْكَ الْحَدِيقَةِ فَاقْطِفْ مَا تَشَاءُ، فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْكَ.»

ثُمَّ نَزَعَ السَّاحِرُ — مِنْ إِصْبَعِهِ — خَاتَمًا، وَوَضَعَهُ فِي إِصْبَعِ «عَلَاءِ الدِّينِ»؛ لِيَحْرُسَهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ.

(٢) فِي دَاخِلِ الْكَنْزِ

figure

وَسَارَ «عَلَاءُ الدِّينِ» فِي دَاخِلِ الْكَنْزِ. وَكَانَ يَقِظًا فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّةِ السَّاحِرِ — بِدِقَّةٍ وَانْتِبَاهٍ — حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْمِصْبَاحِ؛ فَأَخَذَهُ وَنَزَعَ شَرِيطَهُ مِنْهُ، وَأَلْقَى مَا فِيهِ مِنَ الزَّيْتِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَدِيقَةِ، فَقَطَفَ مِنْ ثِمَارِهَا مَا شَاءَ، وَانْتَقَى (اخْتَارَ) مَا أَعْجَبَهُ مِنْ كُلِّ لَونٍ مِنَ الْمَاسِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ. ثُمَّ سَارَ فِي طَرِيقِهِ عَائِدًا إِلَى السَّاحِرِ، وَهُوَ لَا يَكَادُ يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْمِلُ مِنَ الثَّمَرَاتِ النَّادِرَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالنَّفَائِسِ (الْأَشْيَاءِ الْغَالِيَةِ). ثُمَّ نَادَى السَّاحِرَ: «خُذْ بِيَدِي — يَا عَمِّي — وَأَعِنِّي عَلَى الصُّعُودِ.»

فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ، وَكَانَ يَتَرَقَّبُ وُصُولَهُ بِفَارِغِ الصَّبْرِ: «أَعْطِنِي الْمِصْبَاحَ أَوَّلًا — يَا ابْنَ أَخِي — حَتَّى لَا يُضَايِقَكَ.»

فَقَالَ لَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ»: «كَلَّا — يَا عَمِّي — فَهُوَ خَفِيفٌ جِدًّا.»

فَأَصَرَّ السَّاحِرُ عَلَى أَخْذِ الْمِصْبَاحِ أَوَّلًا، وَأَصَرَّ «عَلَاءُ الدِّينِ» — بَعْدَ أَنْ فَطَنَ إِلَى سُوءِ نِيَّتِهِ — عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْكَنْزِ، قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِصْبَاحَ.

(٣) انْتِقَامُ السَّاحِرِ

فَغَضِبَ السَّاحِرُ عَلَيْهِ (أَبْغَضَهُ وَأَحَبَّ الِانْتِقَامَ مِنْهُ)، وَأَلْقَى شَيْئًا مِنَ الْبَخُورِ عَلَى النَّارِ، وَجَمْجَمَ أَقْوَالًا مِنَ السِّحْرِ، فَعَادَ الْحَجَرُ إِلَى مَكَانِهِ مِنْ فَوْرِهِ.

وَسَارَ السَّاحِرُ فِي طَرِيقِهِ عَائِدًا إِلَى بَلَدِهِ الْبَعِيدِ.

•••

وَنَدِمَ «عَلَاءُ الدِّينِ» عَلَى إِصْرَارِهِ وَعِنَادِهِ؛ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ: «أَخْرِجْنِي — يَا عَمِّي — وَخُذِ الْمِصْبَاحَ.»

فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَلَمْ يُطِقْ «عَلَاءُ الدِّينِ» أَنْ يَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْكَنْزِ؛ فَحَاوَلَ الْعَوْدَةَ إِلَى الْحَدِيقَةِ، فَرَأَى الْمَنَافِذَ كُلَّهَا مَسْدُودَةً؛ فَأَيْقَنَ أَنَّهُ سَيَهْلِكُ، وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَنْزَ سَيَكُونُ قَبْرَهُ. فَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لِلهِ. وَظَلَّ فِي هَذَا الضِّيقِ يَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ.

وَكَانَ يَذْكُرُ — فِي كُلِّ لَحْظَةٍ — مَا كَانَ يَجْلُبُهُ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ مِنَ الْكَدَرِ، لِكَثْرَةِ عِصْيَانِهِ وَعِنَادِهِ، فَيَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ النَّدَمِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ — سُبْحَانَهُ — لَمْ يُوقِعْهُ فِي هَذَا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ (الضَّيِّقِ) إِلَّا مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِ.

(٤) الْفَرَجُ بَعْدَ الضِّيقِ

وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ اشْتَدَّ بِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ وَالْأَلَمُ؛ فَبَكَى — نَادِمًا عَلَى ذُنُوبِهِ — وَرَفَعَ يَدَيْهِ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا، وَدَعَا اللهَ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ (الضِّيقِ) فَأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ. وَلَمَسَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ الْخَاتَمَ الَّذِي وَضَعَهُ السَّاحِرُ فِي إِصْبَعِهِ؛ فَظَهَرَ أَمَامَهُ جِنِّيٌّ كَبِيرٌ هَائِلُ الْجِسْمِ، وَقَالَ لَهُ: «لَبَّيْكَ، يَا مَوْلَايَ. مُرْنِي أُطِعْكَ! فَأَنَا خَادِمُكَ الْمُخْلِصُ الْأَمِينُ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَعَبْدُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ هَذَا الْخَاتَمَ الَّذِي فِي إِصْبَعِكَ.»

فَعَجِبَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِمَّا سَمِعَ. وَقَالَ لَهُ يَائِسًا: «أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، إِذَا اسْتَطَعْتَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.»

فَرَفَعَهُ الْجِنِّيُّ إِلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ؛ فَفَرِحَ «عَلَاءُ الدِّينِ» بِنَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَصَلَّى شَاكِرًا لِلهِ خَلَاصَهُ مِنَ الضِّيقِ، وَسَلَامَتَهُ مِنَ الْهَلَاكِ.

(٥) «عَلَاءُ الدِّينِ» فِي بَيْتِ أُمِّهِ

وَسَارَ «عَلَاءُ الدِّينِ» فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ أُمِّهِ، وَكَانَ مَنْهُوكَ الْقُوَى (ضَعِيفًا) — لِشِدَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالسَّهَرِ — فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِجُهْدٍ شَدِيدٍ.

وَكَانَتْ أُمُّهُ لَا تَنَامُ لِشِدَّةِ مَا لَحِقَهَا مِنَ الْجَزَعِ وَالْقَلَقِ عَلَى وَلَدِهَا فِي أَثْنَاءِ غِيَابِهِ فَظَلَّتْ تَدْعُو اللهَ — فِي صَلَوَاتِهَا — أَنْ يَحْفَظَهُ مِنْ كُلِّ أَذًى وَسُوءٍ. وَمَا إِنْ رَأَتْهُ حَتَّى امْتَلَأَ قَلْبُهَا فَرَحًا بِعَوْدَتِهِ. وَلَكِنَّ فَرَحَهَا لَمْ يَطُلْ؛ فَقَدِ ارْتَمَى «عَلَاءُ الدِّينِ» أَمَامَهَا مَغْشِيًّا (مُغْمًى) عَلَيْهِ — لِشِدَّةِ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ التَّعَبِ — فَبَذَلَتْ أُمُّهُ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهَا حَتَّى أَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ (صَحَا مِنْ إِغْمَائِهِ). وَمَا أَفَاقَ حَتَّى قَالَ لِأُمِّهِ مُتَلَهِّفًا: «أَحْضِرِي لِي طَعَامًا — يَا أُمِّي — فَقَدْ كَادَ الْجُوعُ يُهْلِكُنِي.» فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ — هِيَ كُلُّ مَا فِي بَيْتِهَا مِنْ طَعَامٍ — فَأَكَلَهَا بِشَهِيَّةٍ عَجِيبَةٍ. وَلَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ سَبَبِ غِيَابِهِ الطَّوِيلِ، قَصَّ عَلَيْهَا كُلَّ مَا حَدَثَ لَهُ. فَدَهِشَتْ، وَعَجِبَتْ مِنْ غَدْرِ السَّاحِرِ الْخَبِيثِ، وَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى نَجَاةِ وَلَدِهَا مِنَ الْهَلَاكِ. ثُمَّ أَعْطَاهَا «عَلَاءُ الدِّينِ» كُلَّ مَا أَحْضَرَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْكَنْزِ (نَفَائِسِهِ الْمَخْبُوءَةِ). فَحَسِبَتْهُ — لِجَهْلِهَا بِهِ — قِطَعًا مِنَ الزُّجَاجِ الْمُلَوَّنِ، وَوَضَعَتْهُ فِي صُنْدُوقِهَا.

ثُمَّ نَامَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — طُولَ لَيْلَتِهِ — نَوْمًا عَمِيقًا. وَاسْتَيْقَظَ — فِي ضُحَى الْيَوْمِ التَّالِي — وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ نَشَاطُهُ الْأَوَّلُ.

(٦) الْمِصْبَاحُ السِّحْرِيُّ

وَاشْتَهَى «عَلَاءُ الدِّينِ» الطَّعَامَ، فَلَمْ تَجِدْ أُمُّهُ شَيْئًا تُقَدِّمُهُ لَهُ. وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى السُّوقِ لِتَبِيعَ مَا غَزَلَتْهُ مِنَ الْقُطْنِ، وَتَشْتَرِي بِثَمَنِهِ طَعَامًا لِوَلَدِهَا. فَقَالَ لَهَا: «أَحْضِرِي الْمِصْبَاحَ الَّذِي أَتَيْتُ بِهِ مِنَ الْكَنْزِ لِأَبِيعَهُ فِي السُّوقِ، وَادَّخِرِي هَذَا الْغَزْلَ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.»

فَلَمَّا جَاءَتْ بِالْمِصْبَاحِ، أَرَادَتْ أَنْ تُزِيلَ مَا لَصِقَ بِهِ مِنَ الْأَوْسَاخِ، فَأَحْضَرَتْ قَلِيلًا مِنَ الرَّمْلِ لِتُنَظِّفَهُ. وَمَا إِنْ حَكَّتِ الْمِصْبَاحَ بِيَدِهَا، حَتَّى ظَهَرَ أَمَامَهَا جِنِّيٌّ هَائِلُ الْجِسْمِ، وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَالٍ كَالرَّعْدِ: «لَبَّيْكِ، لَبَّيْكِ (أَجَبْتُكِ)! مَاذَا تُرِيدِينَ، يَا سَيِّدَتِي؟ فَإِنَّنِي رَهِينُ إِشَارَتِكِ (حَبَسْتُ نَفْسِي لِطَاعَتِكِ فِيمَا تَأْمُرِينَ بِهِ)، وَأَنَا خَادِمُكِ، وَخَادِمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ هَذَا الْمِصْبَاحَ.»

فَامْتَلَأَ قَلْبُهَا رُعْبًا، وَارْتَمَتْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ. وَأَدْرَكَ «عَلَاءُ الدِّينِ» حَقِيقَةَ الْأَمْرِ — فَقَدْ رَأَى شَبِيهَ هَذَا الْجِنِّيِّ فِي الْكَنْزِ — فَلَمْ يُضِعْ وَقْتَهُ عَبَثًا، بَلْ بَادَرَ بِحَمْلِ الْمِصْبَاحِ وَقَالَ لِلْجِنِّيِّ بِلَا تَرَدُّدٍ: «نَحْنُ جَائِعَانِ، فَأَحْضِرْ لَنَا طَعَامًا نَأْكُلُهُ أَيُّهَا الْجِنِّيُّ الْكَرِيمُ.»

فَاسْتَخْفَى الْجِنِّيُّ لَحْظَةً، ثُمَّ عَادَ وَمَعَهُ مَائِدَةٌ فَخْمَةٌ، عَلَيْهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ صَحْفَةً مِنَ الْفِضَّةِ (وَالصَّحْفَةُ هِيَ: الْإِنَاءُ يُؤْكَلُ فِيهِ). وَفِيهَا أَفْخَرُ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ، وِإِلَى جَانِبِهَا سِتَّةُ أَرْغِفَةٍ؛ فَوَضَعَهَا أَمَامَهُ، وَاسْتَخْفَى. وَبَذَلَ «عَلَاءُ الدِّينِ» كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ حَتَّى أَفَاقَتْ أُمُّهُ. فَدَهِشَتْ حِينَ رَأَتْ تِلْكُمُ الْمَائِدَةَ الْفَاخِرَةَ، وَسَأَلَتْ وَلَدَهَا: كَيْفَ أَحْضَرَهَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ، فَزَادَ عَجَبُهَا وَدَهْشَتُهَا. وَأَكَلَتْ مَعَ وَلَدِهَا حَتَّى شَبِعَا. وَبَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ أَكْثَرُهُ، فَأَكَلَاهُ فِي الْيَوْمَيْنِ التَّالِيَيْنِ.

(٧) بَيْعُ الصِّحَافِ

وَلَمْ تُطِقْ أُمُّ «عَلَاءِ الدِّينِ» أَنْ تَرَى الْمِصْبَاحَ أَمَامَهَا، فَطَلَبَتْ مِنْ وَلَدِهَا أَنْ يَبِيعَهُ فِي السُّوقِ، أَوْ يَخَبَأَهُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، حَتَّى لَا تَرَى الْجِنِّيَّ أَمَامَهَا مَرَّةً أُخْرَى. فَوَعَدَهَا «عَلَاءُ الدِّينِ» خَيْرًا، وَمَا زَالَ بِهَا حَتَّى طَمْأَنَهَا وَأَزَالَ مَخَاوِفَهَا. وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُزْعِجَهَا — فِي الْيَوْمِ التَّالِي — بِاسْتِدْعَاءِ الْجِنِّيِّ، فَبَاعَ إِحْدَى الصِّحَافِ (الْآنِيَةِ الَّتِي يُؤْكَلُ فِيهَا) لِصَائِغٍ — فِي الْمَدِينَةِ — بِدِينَارٍ، وَاشْتَرَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ، وَأَعْطَى أُمَّهُ مَا بَقِيَ مِنَ النُّقُودِ. ثُمَّ بَاعَ الصَّائِغَ — بَعْدَ أَيَّامٍ — صَحْفَةً أُخْرَى بِدِينَارٍ، وَمَا زَالَ كَذَلِكُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ مَا يُبَاعُ. فَانْتَهَزَ يَوْمًا فُرْصَةَ غِيَابِ أُمِّهِ، وَحَكَّ الْمِصْبَاحَ بِرِفْقٍ؛ فَلَبَّاهُ الْجِنِّيُّ (أَجَابَهُ) مُتَرَفِّقًا؛ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُحْضِرَ لَهُ طَعَامًا.

وَبَعْدَ لَحْظَةٍ قَلِيلَةٍ أَحْضَرَ لَهُ الْجِنِّيُّ مَائِدَةً فَاخِرَةً مُمَاثِلَةً لِلْأُولَى.

•••

وَكَانَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — حِينَئِذٍ — قَدْ كَرِهَ مُصَاحَبَةَ الْأَشْرَارِ، وَشَعَرَ بِوَاجِبِهِ نَحْوَ أُمِّهِ وَنَفْسِهِ، فَعَاشَرَ أَخْيَارَ الرِّجَالِ وَسَرَاةَ النَّاسِ (أَشْرَافَهُمْ وَسَادَتَهُمْ)، وَأَفَادَ مِنْ آرَائِهِمْ وَخِبْرَتِهِمْ.

وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِهِمْ، فَأَدْرَكَ أَنَّ الصَّائِغَ الْأَوَّلَ قَدْ خَدَعَهُ وَغَبَنَهُ (غَلَبَهُ وَنَقَصَهُ فِي الثَّمَنِ)؛ فَذَهَبَ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — إِلَى صَائِغٍ آخَرَ، فَبَاعَهُ إِحْدَى الصِّحَافِ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا. وَظَلَّ «عَلَاءُ الدِّينِ» يَعِيشُ مَعَ أُمِّهِ عِيشَةً رَاضِيَةً، وَقَدِ ابْتَسَمَ لَهُمَا الدَّهْرُ، وَصَفَا لَهُمَا الْعَيْشُ، سَنَوَاتٍ عِدَّةً وَأَصْبَحَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِنْ أَغْنِيَاءِ بَلَدِهِ وَأَعْيَانِهِ الْمَعْرُوفِينَ.

وَقَدْ أَحَبَّهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ لِحُسْنِ أَدَبِهِ وَجَمَالِ أَخْلَاقِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤