الفصل الخامس

عَوْدَةُ السَّاحِرِ الْإِفْرِيقِيِّ

(١) حُلْمُ السَّاحِرِ

عَادَ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ — كَمَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ — إِلَى «إِفْرِيقِيَّةَ»، بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ بَابَ الْكَنْزِ عَلَى «عَلَاءِ الدِّينِ».

وَلَمْ يَشُكَّ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ فِي أَنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» قَدْ هَلَكَ دَاخِلَ الْكَنْزِ. وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ، وَالسَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ لَا يُفَكِّرُ فِي «عَلَاءِ الدِّينِ».

وَفِي لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي، رَأَى السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ — فِي مَنَامِهِ — أَنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» قَدْ أَصْبَحَ أَمِيرًا؛ فَقَامَ مِنْ نَوْمِهِ خَائِفًا مَذْعُورًا، وَأَحْضَرَ رَمْلَهُ، وَظَلَّ يَسْتَخْبِرُهُ بِمَا أُوتِيَ (بِمَا أُعْطِيَ وَأُفْهِمَ) مِنْ عُلُومِ السِّحْرِ؛ لِيَعْرِفَ مَا آلَ (مَا صَارَ) إِلَيْهِ أَمْرُ «عَلَاءِ الدِّينِ»؛ فَعَرَفَ مِنَ الرَّمْلِ كُلَّ شَيْءٍ.

فَاشْتَدَّ غَيْظُهُ، وَأَسْرَعَ بِإِحْضَارِ فَرَسِهِ وَزَادِهِ. وَمَا زَالَ يُوَاصِلُ السَّيْرَ مُسْرِعًا أَيَّامًا وَشُهُورًا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى بِلَادِ الصِّينِ.

وَمَا وَصَلَ حَتَّى تَرَكَ فَرَسَهُ فِي فُنْدُقٍ (وَالْفُنْدُقُ — كَمَا تَعْلَمُونَ — خَانٌ يَنْزِلُ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ)، وَذَهَبَ يَجُولُ فِي الْمَدِينَةِ، يُحَاوِلُ أَنْ يَتَعَرَّفَ مَا يَقُولُهُ النَّاسُ عَنْ «عَلَاءِ الدِّينِ».

وَمَا إِنِ اسْتَقَرَّ بِهِ الْجُلُوسُ، حَتَّى سَمِعَ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ مُعْجَبِينَ بِفَضَائِلِ الْأَمِيرِ «عَلَاءِ الدِّينِ» وَكَرَمِهِ، وَيُظْهِرُونَ دَهْشَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ مِنْ ثَرْوَتِهِ الطَّائِلَةِ وَغِنَاهُ الزَّائِدِ الْبَالِغِ، وَقُدْرَتِهِ الْعَجِيبَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ (عَظِيمِهَا)، وَيَتَسَاءَلُونَ: كَيْفَ اسْتَطَاعَ أَنْ يُشَيِّدَ قَصْرًا لَا مَثِيلَ لَهُ فِي الْعَالَمِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ؟

فَسَأَلَهُمُ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ: «مَنْ هُوَ عَلَاءُ الدِّينِ؟»

فَعَجِبُوا مِنْ سُؤَالِهِ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ عَنْ هَذِهِ الدِّيَارِ.

فَقَصُّوا عَلَيْهِ كُلَّ مَا عَرَفُوهُ عَنْ «عَلَاءِ الدِّينِ».

فَأَظْهَرَ السَّاحِرُ شَوْقَهُ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكُمُ الْقَصْرِ الْعَلَائِيِّ.

فَسَارَ مَعَهُ أَحَدُ الْحَاضِرِينَ، وَدَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى قَصْرِ الْأَمِيرِ.

وَمَا إِنْ رَأَى السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ فَخَامَةَ الْقَصْرِ الْعَلَائِيِّ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» قَدِ اسْتَعَانَ — بِلَا شَكٍّ — بِخَدَمِ الْمِصْبَاحِ فِي تَشْيِيدِ الْقَصْرِ. فَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ — وَهُوَ ابْنُ خَيَّاطٍ فَقِيرٍ — أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْمَكَانَةِ بِنَفْسِهِ، دُونَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمِصبَاحِ الْعَجِيبِ الَّذَي هَدَاهُ إِلَيْهِ.

فَذَهَبَ السَّاحِرُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَسَأَلَ بَوَّابَ الْقَصْرِ عَنْ صَاحِبِهِ.

فَأَخْبَرَهُ الْبَوَّابُ أَنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» قَدْ خَرَجَ لِلصَّيْدِ، مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَنْ يَعُودَ إِلَى قَصْرِهِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ.

فَرَأَى السَّاحِرُ أَنَّ الْفُرْصَةَ سَانِحَةٌ لِلِانْتِقَامِ.

(٢) بَائِعُ الْمَصَابِيحِ

ثُمَّ عَادَ السَّاحِرُ إِلَى الْفُنْدُقِ — وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ غَيْظُهُ مِنْ «عَلَاءِ الدِّينِ» — وَاسْتَخْبَرَ الرَّمْلَ عَنْ مَكَانِ الْمِصْبَاحِ؛ فَعَلِمَ أَنَّهُ فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِمَخْدَعِ الْأَمِيرَةِ: «بَدْرِ الْبُدُورِ» (مَكَانِ نَوْمِهَا).

فَفَكَّرَ فِي طَرِيقَةٍ يَحْصُلُ بِهَا عَلَيْهِ. وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ. حَتَّى اهْتَدَى إِلَى حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ؛ فَذَهَبَ إِلَى دُكَّانٍ، وَاشْتَرَى مِنْهُ عَشْرَةَ مَصَابِيحَ جَدِيدَةً، وَوَضَعَهَا فِي سَلَّةٍ كَبِيرَةٍ (أَعْنِي: فِي وِعَاءٍ يَحْمِلُ فِيهِ مَا يَشْتَرِي مِنَ السُّوقِ وَنَحْوِهِ). وَسَارَ بِهَذِهِ السَّلَّةِ، حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْ قَصْرِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «أَلَا مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي مَصَابِيحَ جَدِيدَةً، وَيَبِيعُنِي بِهَا مَصَابِيحَ قَدِيمَةً؟»

figure

وَمَا أَتَمَّ نِدَاءَهُ حَتَّى عَجِبَ الْأَطْفَالُ وَالصِّبْيَانُ مِنْ بَلَهِ الرَّجُلِ وَخَبَالِهِ (ضَعْفِ عَقْلِهِ وَاضْطِرَابِ ذِهْنِهِ)، وَجَرَوْا خَلْفَهُ يَتَمَاجَنُونَ، وَيَعْبَثُونَ بِهِ وَيَسْخَرُونَ. وَعَلَا صِيَاحُهُمْ، وَاشْتَدَّتْ جَلَبَتُهُمْ، وَارْتَفَعَتْ ضَجَّتُهُمْ وَضَوْضَاؤُهُمْ؛ فَأَطَلَّتِ الْأَمِيرَةُ «بَدْرُ الْبُدُورِ»، فَعَجِبَتْ مِنْ هَذَا الْمَنْظَرِ، وَأَرْسَلَتْ إِحْدَى جَوَارِيهَا لِتَسْتَطْلِعَ جَلِيَّةَ الْخَبَرِ (تَتَعَرَّفَ حَقِيقَتَهُ). فَلَمَّا عَادَتِ الْجَارِيَةُ، أَخْبَرَتِ الْأَمِيرَةَ وَهِيَ ضَاحِكَةٌ: أَنَّ رَجُلًا يَبِيعُ مَصَابِيحَ جَدِيدَةً، وَيَأْخُذُ بِثَمَنِهَا قَدِيمَةً.

فَعَجِبَتِ الْأَمِيرَةُ «بَدْرُ الْبُدُورِ» — هِيَ وَجَوَارِيهَا — مِنْ بَلَاهَةِ الرَّجُلِ. ثُمَّ قَالَتْ لَهَا إِحْدَى الْجَوَارِي: «لَا أَظُنُّ هَذَا الرَّجُلَ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ!»

فَقَالَتْ أُخْرَى: «نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَبَيَّنَ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ فِي الْحَالِ؛ فَإِنَّ فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِحُجْرَةِ سَيِّدَتِي الْأَمِيرَةِ مِصْبَاحًا قَدِيمًا؛ فَلْنُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَلْنَنْظُرْ مَا يَصْنَعُ بِهِ.» فَأَمَرَتْهَا الْأَمِيرَةُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَيْهِ بِالْمِصْبَاحِ لِتَسْتَبْدِلَ بِهِ. فَذَهَبَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى بَائِعِ الْمَصَابِيحِ، وَأَعْطَتْهُ مِصْبَاحَ «عَلَاءِ الدِّينِ» — وَهِي تَجْهَلُ قِيمَتَهُ — فَأَعْطَاهَا فِي الْحَالِ مِصْبَاحًا جَدِيدًا، فَعَادَتْ بِهِ إِلَى سَيِّدَتِهَا فَرِحَةً مَسْرُورَةً.

وَعَادَ السَّاحِرُ بِمِصْبَاحِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَهُوَ يَكَادُ يُجَنُّ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ثُمَّ كَفَّ عَنِ الصِّيَاحِ، وَسَارَ فِي طَرِيقِهِ مُسْرِعًا، حَتَّى اسْتَخْفَى عَنْ نَظَرِ الصِّبْيَةِ وَالْأَطْفَالِ.

وَمَا زَالَ سَائِرًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ. وَصَبَرَ حَتَّى جَاءَ الْمَسَاءُ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْ خَصْمِهِ «عَلَاءِ الدِّينِ».

(٣) فِي مَجَاهِلِ «إِفْرِيقِيَّةَ»

وَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ (أَظْلَمَ)، أَخْرَجَ السَّاحِرُ الْمِصْبَاحَ مِنْ صَدْرِهِ وَفَرَكَهُ. فَمَثَلَ أَمَامَهُ الْجِنِّيُّ، وَقَالَ لَهُ: «مُرْنِي بِمَا تُرِيدُ يَا مَوْلَايَ، فَإِنِّي فِي خِدْمَتِكَ، أَنَا وَجَمِيعَ أَعْوَانِي: خَدَمَ المِصْبَاحِ.»

figure

فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «آمُرُكَ أَنْ تَنْقُلَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ — أَنْتَ وَأَعْوَانُكَ — قَصْرَ «عَلَاءِ الدِّينِ» بِكُلِّ مَا فِيهِ، إِلَى مَجَاهِلِ «إِفْرِيقِيَّةَ» (أَنْحَائِهَا الْغَامِضَةِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَحَدٌ)، كَمَا آمُرُكَ أَنْ تَنْقُلَنِي مَعَهُ.»

فَقَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: «سَمْعًا وَطَاعَةً لَكَ، يَا مَوْلَايَ!»

وَلَمْ تَمُرَّ سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، حَتَّى انْتَقَلَ السَّاحِرُ، وَالْقَصْرُ وَمَا فِيهِ، إِلَى «إِفْرِيقِيَّةَ».

(٤) غَضَبُ الْإِمْبِرَاطُورِ

وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي قَامَ الْإِمْبِرَاطُورُ مُبَكِّرًا فِي الصَّبَاحِ كَعَادَتِهِ، فَأَطَلَّ مِنَ النَّافِذَةِ، فَلَمْ يَرَ قَصْرَ ابْنَتِهِ. فَحَسِبَ أَنَّهُ مَخْدُوعٌ فِيمَا يَرَى؛ فَفَرَكَ عَيْنَيْهِ، وَأَنْعَمَ النَّظَرَ (دَقَّقَهُ)؛ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا. فَاشْتَدَّتْ دَهْشَتُهُ. وَأَسْرَعَ إِلَى مَكَانِ الْقَصْرِ، فَلَمْ يَرَ لَهُ أَثَرًا.

figure

فَعَجِبَ — مِنْ ذَلِكُمْ — أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: «تُرَى هَلِ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَبَلَعَتْهُ، أَمْ طَارَ فِي السَّمَاءِ فَاحْتَوَتْهُ؟»

وَظَلَّ فِي حَيْرَتِهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْضَارِ كَبِيرِ وُزَرَائِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا حَدَثَ. فَاشْتَدَّ عَجَبُهُ، وَرَأَى الْفُرْصَةَ سَانِحَةً لِلْكَيْدِ لِمُنَافِسِهِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، فَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ قُلْتُ لِمَوْلَايَ — مِنْ قَبْلُ — إِنَّ الْقَصْرَ مِنْ عَمَلِ السِّحْرِ، وَإِنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» سَاحِرٌ؛ فَلَمْ يُصَدِّقْنِي الْإِمْبِرَاطُورُ فِيمَا قُلْتُ. وَلَكِنَّ الْأَيَّامَ قَدْ بَيَّنَتْ صِدْقَ ظَنِّي.»

فَغَضِبَ الْإِمْبِرَاطُورُ عَلَى «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَأَمَرَ أَعْوَانَهُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لِيَأْتُوهُ بِهِ مُكَبَّلًا (مَرْبُوطًا) بِالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ.

فَذَهَبُوا يَبْحَثُونَ عَنْهُ، حَتَّى وَجَدُوهُ عَلَى مَسَافَةِ نِصْفِ مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَاقْتَرَبَ مِنْهُ قَائِدُهُمْ، وَأَبْلَغَهُ غَضَبَ الْإِمْبِرَاطُورِ وَأَمْرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ. فَدَهِشَ «عَلَاءُ الدِّينِ» وَسَأَلَهُ عَنْ سِرِّ هَذَا الْغَضِبِ.

فَقَالَ لَهُ الْقَائِدُ: «لَسْتُ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ شَيْئًا.»

فَلَمْ يُمَانِعْ «عَلَاءُ الدِّينِ»، وَسَارَ مَعَهُمْ مُسْتَسْلِمًا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَصْرِ الْإِمْبِرَاطُورِ.

(٥) بَيْنَ يَدَيِ السَّيَّافِ

وَمَا وَصَلَ «عَلَاءُ الدِّينِ» إِلَى الْمَدِينَةِ — وَهُوَ مُكَبَّلٌ بِالْأَغْلَالِ وَالْأَصْفَادِ — حَتَّى دَهِشَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ — مِمَّا رَأَوْا — أَشَدَّ دَهْشَةٍ، وَسَارَ الْخَبَرُ بَيْنَهُمْ بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ.

figure

وَكَانَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — كَمَا قُلْنَا — مُحْسِنًا كَرِيمًا، بَارًّا بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ فَأَحَبَّهُ الشَّعْبُ حُبًّا شَدِيدًا.

فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ مُصَفَّدًا (مُقَيَّدًا) بِالْأَغْلَالِ، بَكَوْا لِمَا أَصَابَهُ، وَتَأَلَّمُوا أَشَدَّ الْأَلَمِ. وَاجْتَمَعَ كُبَرَاءُ الْمَمْلَكَةِ وَأَعْيَانُهَا لِيُقَابِلُوا الْإِمْبِرَاطُورَ، وَيَسْتَفْسِرُوا عَنْ سَبَبِ نِقْمَتِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى صِهْرِهِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَيَتَشَفَّعُوا لَهُ عِنْدَهُ.

أَمَّا الْإِمْبِرَاطُورُ فَلَمْ يَكَدْ بَصَرُهُ يَقَعُ عَلَى «عَلَاءِ الدِّينِ» حَتَّى أَمَرَ السَّيَّافَ بِقَطْعِ رَأْسِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ.

فَفَكَّ السَّيَّافُ الْأَصْفَادَ (سَلَاسِلَ الْحَدِيدِ وَأَغْلَالَهُ) الَّتِي كَانَتْ فِي عُنُقِ «عَلَاءِ الدِّينِ» وَيَدَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ عَصَبَ (رَبَطَ) عَيْنَيْ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَسَلَّ سَيْفَهُ عَلَيْهِ، وَوَقَفَ يَتَرَقَّبُ أَمْرَ الْإِمْبِرَاطُورِ بِقَتْلِهِ.

(٦) شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ

وَلَقَدْ كَادَ السَّيَّافُ يَهْوِي بِالسَّيْفِ عَلَى رَقَبَةِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَلَكِنَّ أَحَدَ الْوُزَرَاءِ تَقَدَّمَ يَشْفَعُ عِنْدَ الْإِمْبِرَاطُورِ لَهُ. ثُمَّ تَقَدَّمَ ثَانٍ وَثَالِثٌ — مِنْ حَاشِيَةِ الْإِمْبِرَاطُورِ — يَسْأَلُونَهُ الصَّفْحَ عَنْ جَرِيمَتِهِ.

وَمَا انْتَهَوْا مِنْ شَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ، حَتَّى دَخَلَ وَفْدٌ مِنْ سَرَاةِ الْبَلَدِ وَأَعْيَانِهِ الْمُعْجَبِينَ بِشَهَامَةِ «عَلَاءِ الدِّينِ» وَكَرَمِهِ وَنُبْلِ أَخْلَاقِهِ، فَتَوَسَّلُوا إِلَى الْإِمْبِرَاطُورِ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ فِيهِ.

وَرَأَى كَبِيرُ الْوُزَرَاءِ عَطْفَ الشَّعْبِ كُلِّهِ عَلَى «عَلَاءِ الدِّينِ»، فَأَسَرَّ إِلَى الْإِمْبِرَاطُورِ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ الشَّافِعِينَ، وَأَنْ يُؤَجِّلَ انْتِقَامَهُ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ. فَرَأَى الْإِمْبِرَاطُورُ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ قَتْلِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَأَنْ يُؤَخِّرَ انْتِقَامَهُ مِنْهُ، حَتَّى تَهْدَأَ خَوَاطِرُ النَّاسِ.

فَأَمَرَ السَّيَّافَ بِفَكِّ قُيُودِهِ، وَإِخْلَاءِ سَبِيلِهِ.

فَنَهَضَ «عَلَاءُ الدِّينِ»، وَقَالَ مُتَأَدِّبًا: «أَشْكُرُ لِمَوْلَايَ الْإِمْبِرَاطُورِ تَفَضُّلَهَ بِالْعَفْوِ عَنِّي، وَأَرْجُو أَنْ يُضِيفَ — إِلَى فَضْلِهِ هَذَا — فَضْلًا آخَرَ، فَيُعَرِّفَنِي: مَا الَّذِي أَثَارَ غَضَبَهُ عَلَيَّ؟ فَلَسْتُ أَعْلَمُ — إِلَى الْآنَ — أَيَّ ذَنْبٍ جَنَيْتُ، حَتَّى اسْتَحْقَقْتُ غَضَبَ الْإِمْبِرَاطُورِ؟»

فَلَمْ يُجِبْهُ الْإِمْبِرَاطُورُ بِشَيْءٍ، بَلْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ، وَسَارَ بِهِ إِلَى نَافِذَةِ قَصْرِهِ، وَسَأَلَهُ غَاضِبًا: «خَبِّرْنِي: أَيْنَ ذَهَبَ قَصْرُكَ؟ وَأَيْنَ ذَهَبَتِ ابْنَتِي؟»

فَدَارَ «عَلَاءُ الدِّينِ» بِبَصَرِهِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَلَمْ يَرَ أَثَرًا لِقَصْرِهِ؛ فَذَهَلَ، وَلَمْ يُجِبِ الْإِمْبِرَاطُورَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْإِمْبَرَاطُورُ سُؤَالَهُ.

فَأَفَاقَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِنْ ذُهُولِهِ، وَقَالَ لَهُ: «لَسْتُ أَدْرِي: أَيْنَ ذَهَبَ الْقَصْرُ؟ وَإِنِّي لَفِي حَيْرَةٍ شَدِيدَةٍ مِنْ أَمْرِي، وَلَيْسَ جَزَعِي لِفَقْدِ زَوْجِي بِأَقَلَّ مِنْ جَزَعِ مَوْلَايَ لِفَقْدِ ابْنَتِهِ. وَلَنْ أَدَّخِرَ وُسْعًا فِي سَبِيلِ الْبَحْثِ عَنْهَا. فَإِذَا أَمْهَلَنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَم أُوَفَّقْ فِي خِلَالِهَا إِلَى الْعُثُورِ عَلَيْهَا، كُنْتُ جَدِيرًا بِأَنْ أُصْلَبَ.»

فَقَالَ لَهُ الْإِمْبِرَاطُورُ: «لَكَ ذَلِكَ. وَلَكِنْ ثِقْ أَنَّنِي مُهْلِكُكَ إِذَا أَخْفَقْتَ وَخِبْتَ فِي سَعْيِكَ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْهَرَبَ مِنِّي فِي أَيِّ مَكَانٍ.»

•••

فَخَرَجَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — وَهُوَ مَذْهُولٌ حَائِرٌ، يَتَعَثَّرُ (يَتَسَاقَطُ) فِي أَذْيَالِ الْخَيْبَةِ — وَسَارَ فِي الْمَدِينَةِ كَالْمَجْنُونِ، يَسْأَلُ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ النَّاسِ: «أَيْنَ ذَهَبَ قَصْرِي؟ وَأَيْنَ ذَهَبَتْ زَوْجِي؟»

فَيَحْزَنُ عَارِفُوهُ — لِمَا أَصَابَهُ — وَيَتَأَلَّمُونَ لِنَكْبَتِهِ (مُصِيبَتِهِ)، وَيَرْثُونَ (يَرِقُّونَ) لَهُ، وَيَسْخَرُ مِنْهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ مِنَ النَّاسِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤