الفصل السادس

انْتِقَامُ عَلَاءِ الدِّينِ

(١) بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

وَمَا زَالَ «عَلَاءُ الدِّينِ» حَائِرًا ذَاهِلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَمْ يُطِقِ الْبَقَاءَ فِي مَدِينَةٍ كَانَ فِيهَا مَوْضِعَ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ، فَصَارَ مَوْضِعَ السُّخْرِيَةِ وَالرِّثَاءِ (الشَّفَقَةِ وَالْحَنَانِ).

•••

فَخَرَجَ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَسَارَ فِي طَرِيقِهِ — وَهُوَ لَا يَعْلَمُ: إِلَى أَيِّ جِهَةٍ يَقْصِدُ — وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِهِ حَيْرَتُهُ وَيَأْسُهُ (انْقِطَاعُ أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ). وَهَمَّ بِإِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي النَّهْرِ؛ وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْيَأْسِ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الرِّجَالِ (أَخْلَاقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ)، وَأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (أَعْنِي: لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَلَا يَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ مِنَ الْفَرَجِ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ).

فَأَسْلَمَ لِلهِ أَمْرَهُ، وَوَثِقَ بِأَنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُلْهِمُهُ التَّوْفِيقَ.

(٢) الْأَمَلُ بَعْدَ الْيَأْسِ

ثُمَّ دَعَا اللهَ أَنْ يُفَرِّجَ كُرْبَتَهُ (ضِيقَهُ)، وَأَنْ يُلْهِمَهُ الرُّشْدَ وَالسَّدَادَ. وَذَهَبَ إِلَى النَّهْرِ لِيَتَوَضَّأَ، فَزَلِقَتْ قَدَمُهُ، وَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْغَرَقِ. وَلَكِنَّهُ وَجَدَ — لِحُسْنِ حَظِّهِ — صَخْرَةً مُرْتَفِعَةً بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ، فَتَعَلَّقَ بِهَا، وَهَمَّ بِالصُّعُودِ؛ فَاحْتَكَّ الْخَاتَمُ — الَّذِي فِي إِصْبَعِهِ — بِتِلْكُمُ الصَّخْرَةِ وَكَانَ «عَلَاءُ الدِّينِ» قَدْ نَسِيَ — لِطُولِ الْعَهْدِ — ذِلِكُمُ الْخَاتَمَ السِّحْرِيَّ — الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْكَنْزَ — وَنَسِيَ أَنَّ الْخَاتَمَ كَانَ سَبَبَ نَجَاتِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكَنْزِ مِنْ قَبْلُ. وَمَا كَادَ الْخَاتَمُ يَحْتَكُّ بِالصَّخْرَةِ حَتَّى ظَهَرَ أَماَمَهُ الْجِنِّيُّ خَادِمُ الْخَاتَمِ، وَقَالَ لَهُ: «لَبَّيْكَ يَا مَوْلَايَ. مُرْنِي أُطِعْكَ.»

فَذَكَرَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — فِي الْحَالِ — أَنَّ هَذَا الْجِنِّيَّ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ — مِنْ قَبْلُ — وَهُوَ فِي ظُلُمَاتِ الْكَنْزِ، وَكَانَ قَدْ نَسِيَهُ أَيْضًا كَمَا نَسِيَ الْخَاتَمَ.

فَقَالَ لَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ»: «أَنْقِذْنِي أَوَّلًا مِمَّا أَنَا فِيهِ.»

فَأَنْقَذَهُ فِي الْحَالِ. فَقَالَ لَهُ: «أَعِدْ إِلَيَّ قَصْرِي.»

فَأَجَابَهُ الْجِنِّيُّ: «لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ يَا مَوْلَايَ؛ فَلَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أُحَارِبَ خَدَمَ الْمِصْبَاحِ الَّذِينَ نَقَلُوا قَصْرَكَ إِلَى «إِفْرِيقِيَّةَ»؛ فَإِنَّهُمْ أَقْوَى عُصْبَةٍ (أَشَدُّ طَائِفَةٍ) مِنَ الْجِنِّ، وَرَئِيسُهُمْ هُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْجِنِّ، وَأَقْوَاهُمْ بَأْسًا (أَعْظَمُهُمْ شِدَّةً وَقُوَّةً).»

فَقَالَ لَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ»: «إِذَنْ فَانْقُلْنِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نُقِلَ إِلَيْهِ قَصْرِي.» فَنَقَلَهُ الْجِنِّيُّ — فِي الْحَالِ — إِلَى حَيْثُ نُقِلَ الْقَصْرُ.

(٣) أَمَامَ الْقَصْرِ

وَوَقَفَ «عَلَاءُ الدِّينِ» أَمَامَ الْقَصْرِ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ حَالِكَةَ الظَّلَامِ (شَدِيدَةَ السَّوَادِ). وَلَكِنَّهُ اهْتَدَى — بِرَغْمِ هَذَا — إِلَى حُجْرَةِ الْأَمِيرَةِ: «بَدْرِ الْبُدُورِ»؛ فَوَقَفَ أَمَامَهَا يَذْكُرُ أَيَّامَ سَعَادَتِهِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ هَاجَتْهُ الذِّكْرَى (أَثَارَتْهُ وَدَفَعَتْهُ)، فَبَكَى. وَكَانَ قَدْ جَهَدَهُ السَّهَرُ (أَتْعَبَهُ وَأَضْنَاهُ) فِي الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ؛ فَشَعَرَ بِحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى النَّوْمِ، فَأَوَى إِلَى شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْقَصْرِ، فَنَامَ تَحْتَهَا طُولَ اللَّيْلِ؛ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَذَهَبَ إِلَى الْقَصْرِ، وَوَقَفَ تَحْتَ نَافِذَةِ الْأَمِيرَةِ «بَدْرِ الْبُدُورِ». وَكَانَتْ — لِحُسْنِ حَظِّهِ — قَدِ اسْتَيْقَظَتْ فِي الصَّبَاحِ مُبَكِّرَةً، عَلَى غَيْرِ عَادَتِهَا. فَمَا رَأَتْهُ حَتَّى اشْتَدَّتْ دَهْشَتُهَا وَفَرَحُهَا، فَأَسْرَعَتْ إِلَى بَابٍ صَغِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْقَصْرِ، فَفَتَحَتْهُ لَهُ، وَأَدْخَلَتْهُ عِنْدَهَا، وَكَانَ فَرَحُهَا بِلِقَائِهِ لَا يُوصَفُ. وَمَا إِنِ اسْتَقَرَّ بِهِ الْجُلُوسُ حَتَّى قَصَّتْ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ الْخَبِيثُ، وَكَيْفَ حَاوَلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، وَكَيْفَ هَدَّدَهَا بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ تَرْضَ بِالزَّوَاجِ، وَكَيْفَ سَخِرَتْ مِنْ وَعِيدِهِ. فَأَدْرَكَ «عَلَاءُ الدِّينِ» أَنَّ السَّاحِرَ الْإِفْرِيقِيَّ لَمْ يَنْسَهُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذَا الزَّمَنِ الطَّوِيلِ. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ مِصْبَاحِهِ؛ فَأَدْرَكَتْ سِرَّ مَا حَدَثَ لَهَا مِنَ النَّكَبَاتِ، وَقَالَتْ لَهُ: «إِنَّ السَّاحِرَ قَدْ وَضَعَهُ فِي صَدْرِهِ.»

figure

فَعَزَمَ «عَلَاءُ الدِّينِ» عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ السَّاحِرِ، حَتَّى يَخْلُصَ مِنْ شُرُورِهِ وَكَيْدِهِ، وَدَبَّرَ مَعَ زَوْجِهِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي يَسْلُكَانِهَا لِإِهْلَاكِهِ.

(٤) انْتِصَارُ «عَلَاءِ الدِّينِ»

figure

ثُمَّ خَرَجَ «عَلَاءُ الدِّينِ» — وَقَدْ أَضْمَرَ الِانْتِقَامَ مِنْ عَدُوِّهِ السَّاحِرِ الْإِفْرِيقِيِّ — فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ زَارِعًا فَقِيرًا؛ فَأَعْطَاهُ «عَلَاءُ الدِّينِ» ثِيَابَهُ الْجَدِيدَةَ الْغَالِيَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ ثِيَابَهُ الرَّثَّةَ الْبَالِيَةَ (الْقَدِيمَةَ الْمُمَزَّقَةَ)؛ فَفَرِحَ الزَّارِعُ بِهَذَا الْبَدَلِ. وَلَبِسَ «عَلَاءُ الدِّينِ» ثِيَابَ الزَّارِعِ، وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَنَكِّرًا (مُتَخَفِّيًا) فِي زِيِّهِ الْجَدِيدِ؛ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ، إِذَا رَآهُ. ثُمَّ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ الْعَقَاقِيرِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمُنَوِّمَةِ، وَعَادَ بِهَا إِلَى الْأَمِيرَةِ: «بَدْرِ الْبُدُورِ». فَلَمَّا خَيَّمَ الْمَسَاءُ وَعَادَ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ إِلَى الْقَصْرِ، خَفَّتِ الْأَمِيرَةُ إِلَى لِقَائِهِ. فَفَرِحَ السَّاحِرُ — بِهَذَا — وَانْخَدَعَ، وَحَسِبَ أَنَّهَا قَدْ تَرَكَتْ عِنَادَهَا حِينَ يَئِسَتْ مِنْ عَوْدَةِ «عَلَاءِ الدِّينِ» إِلَيْهَا.

وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَحْضَرَتْ لَهُ قَدْحًا مِنَ الشَّرَابِ، بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ فِيهِ قَلِيلًا مِمَّا أَحْضَرَهُ زَوْجُهَا، ثُمَّ قَدَّمَتْهُ إِلَيْهِ وَهِيَ تُسَامِرُهُ وَتَبْتَسِمُ لَهُ: فَأَخَذَ يَشْرَبُهُ. وَلَمْ يَنْتَهِ مِنْ شُرْبِهِ، حَتَّى غَلَبَهُ النُّعَاسُ، فَنَامَ نَوْمًا عَمِيقًا. فَأَسْرَعَ «عَلَاءُ الدِّينِ» إِلَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَى الْأَمِيرَةِ أَنْ تَتْرُكَهُ مَعَهُ. ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَ الْحُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْمِصْبَاحَ الَّذِي كَانَ يَخْبَؤُهُ السَّاحِرُ فِي ثِيَابِهِ، وَفَرَكَهُ. فَجَاءَهُ الْجِنِّيُّ — خَادِمُ الْمِصْبَاحِ — فِي الْحَالِ، وَسَأَلَهُ: مَاذَا يُرِيدُ؟

فَقَالَ لَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ»: «آمُرُكَ أَنْ تَحْمِلَ هَذَا الرَّجُلَ، فَتُلْقِيَ بِهِ مِنْ قِمَّةِ طَوْدٍ شَاهِقٍ (رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ) إِلَى الْأَرْضِ؛ لِتَأْكُلَهُ الْوُحُوشُ وَجَوَارِحُ الطَّيْرِ (الَّتِي تَكْسِبُ طَعَامَهَا مِنْ صَيْدِهَا)؛ ثُمَّ تَنْقُلَ هَذَا الْقَصْرَ إِلَى مَكَانِهِ الْأَوَّلِ فِي بِلَادِ الصِّينِ.»

وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَسِيرٌ، حَتَّى أَتَمَّ الْجِنِّيُّ كُلَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ «عَلَاءُ الدِّينِ».

(٥) فَرَحُ الْإِمْبِرَاطُورِ

وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، اسْتَيْقَظَ الْإِمْبِرَاطُورُ مُبَكِّرًا كَعَادَتِهِ وَمَا أَطَلَّ مِنْ نَافِذَةِ قَصْرِهِ، حَتَّى رَأَى أَمَامَهُ قَصْرَ «عَلَاءِ الدِّينِ» فِي مَكَانِهِ الْأَوَّلِ! فَلَمْ يُصَدِّقْ مَا رَآهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ حَالِمٌ. وَاشْتَدَّتْ بِهِ الدَّهْشَةُ، وَغَلَبَهُ الْفَرَحُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْرِفَ: أَفِي يَقَظَةٍ هُوَ أَمْ فِي مَنَامٍ؟ ثُمَّ جَرَى مُسْرِعًا إِلَى قَصْرِ ابْنَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ صِدْقَ مَا رَآهُ؛ فَوَجَدَهَا مُطِلَّةً مِنَ النَّافِذَةِ، تَتَأَمَّلُ فِي قَصْرِ أَبِيهَا الَّذِي اشْتَدَّتْ وَحْشَتُهَا وَحَنِينُهَا إِلَيْهِ.

فَلَمَّا رَأَتْ أَبَاهَا مُقْبِلًا أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ وَعَانَقَتْهُ، وَبَكَيَا جَمِيعًا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِمَا الْجُلُوسُ سَأَلَهَا عَمَّا حَدَثَ؛ فَقَصَّتْ عَلَيْهِ كُلَّ مَا وَقَعَ لَهَا، وَكَيْفَ انْتَقَمَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِنَ السَّاحِرِ، وَأَلْقَى بِجُثَّتِهِ إِلَى النُّسُورِ.

•••

فَنَدِمَ الْإِمْبِرَاطُورُ عَلَى مَا أَسْلَفَهُ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَى «عَلَاءِ الدِّينِ» الَّذِي لَمْ يَقْتَرِفْ إِثْمًا (لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا).

ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى حُجْرَةِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، فَأَيْقَظَهُ مِنْ نَوْمِهِ، وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَاعْتَذَرَ لَهُ مِنْ سُوءِ ظَنِّهِ بِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤