تمهيد

انبثق هذا الكتاب عن بحث قدمتُه للمؤتمر السنوي الرابع عشر لجمعية دراسة العِرقية والقومية في كلية لندن للاقتصاد في أبريل ٢٠٠٤. وأصبح موضوع المؤتمر: «متى تنشأ الأمة؟» موضوعًا لكتابٍ حمل الاسم نفسه، حرَّره الدكتور أتسوكو إيتشيجو والدكتورة جوردانا أوزيلك، اللذان نظَّما أيضًا هذا المؤتمر البالغ النجاح. وإني لَأَدين لهما بوافر الشكر على تكريمهما الرائع لي عند تقاعدي، وأيضًا على التحفيز المبدئي والدعم المستمر.

إلا أنني سرعان ما وجدت أن ما بدأ كإسهامٍ في النقاش الدائر حول تحديد تاريخ نشوء الأمم تحوَّل إلى استقصاءٍ أكبر عن «الشخصيات» المختلفة للأمم؛ فالأمم فريدة بطبيعة الحال — من ناحيةٍ أن أفرادها يميلون إلى اعتقاد أنها كذلك، ومن ناحيةٍ أخرى يمكننا كذلك أن نفصِلَ السمات المتكررة في النماذج التاريخية للمجتمعات والهُويات المصنفة ﮐ «أمم» و«هُويات قومية» — بوصفها مغايرةً للمجتمعات والهُويات الأخرى. ورغم ذلك، فإن بين طرفَي النقيض المتمثلَين في الخصوصية والعمومية، من الممكن أيضًا اكتشاف أنماطٍ متكررة متمثلة بوضوحٍ شديد في أنواعٍ معينة من الثقافات العامة للأمم. لقد وجدت أن تلك الأنماط متأثرة تأثرًا قويًّا بالتقاليد الثقافية الراسخة التي تعود إلى العالم القديم، وأنها، في أشكالها المتغيرة، استمرت في جعْل تأثيرها ملموسًا، حتى في ظل عالمٍ غاية في المدنية قائم على الاعتماد المتبادل.

من الواضح أن هذا الموضوع شاسع، ووجدتُ أنه من الضروري تقييد نطاقه إلى حدٍّ بالغ؛ وذلك لافتقاري إلى الكفاءة في الكثير من المجالات التاريخية؛ ولذلك ركزتُ على المجالات التي أحيط بها علمًا إلى حدٍّ بعيد — العالم القديم وأوروبا في بداية الحداثة وفي عصر الحداثة — تاركًا للآخرين تناول الموضوعات المتعلقة بالفترات والحضارات التي تحظى بالقدر نفسه من الأهمية، مثل تلك المتعلقة بالشرق الأقصى. وفي هذا الصدد، فإن المقالات الواردة في كتاب «الأنماط الآسيوية من الأمم»، الذي حرَّره ستاين تونِسين وهانز أنتلوف، ترتبط ارتباطًا مهمًّا ببعض موضوعات هذا الكتاب، في حين أن مجموعة المقالات التي حرَّرها لين سكيلز وأوليفر تسيمر تحت عنوان «السلطة والأمة في التاريخ الأوروبي»؛ ترتبط ارتباطًا مهمًّا بالقدر نفسه بفترة العصور الوسطى.

أثناء إعداد هذا الكتاب، وجدت أنه من الضروري مراجعة أفكاري في موضوعَين رئيسيَّين؛ يتعلق الموضوع الأول ﺑ «الأصول العرقية» للأمم. مع الاستمرار في اعتبار العرقية والروابط العرقية أساس تكوين الأمم، فإن رؤيةً أشمل للأسس الحضارية للأمم أبرزت أهمية أنواعٍ أخرى سياسية ودينية من المجتمعات والهُويات؛ ينعكس ذلك في الأهمية الممنوحة لكلٍّ من «الهرمية» و«الجمهورية» باعتبارها تقاليد حضارية لها أصولها في الشرق الأدنى القديم وعالم العصور الكلاسيكية. أما الموضوع الثاني، فيتعلق بتحديد تاريخ ظهور أيديولوجية «القومية». مرةً أخرى، على الرغم من التمسُّك برؤية أن القومية باعتبارها معتقدًا نشأت في القرن الثامن عشر، فقد وجدتُ أن عديدًا من سماتها نشأ في وقتٍ أسبق بكثير، وبوجهٍ أكثر تحديدًا، فإنه بالنظر إلى القومية من حيث كونُها برنامجًا سياسيًّا، فإنه يمكن العثور على نوعٍ معين من القومية الشعبية والعامية في بعض دول القرن السابع عشر، مثل إنجلترا واسكتلندا وهولندا، وربما في دولٍ أخرى أيضًا. وهذا بدوره كان يعني مراجعة التسلسل الزمني الحديث ﻟ «القومية»، بالإضافة إلى التسلسل الزمني الحديث للأمم.

تتأكد هذه الرؤية بمحورية فكرة الميثاق الغليظ أو العهد الغليظ، وهو نوع من الالتزام أقوى وأكثر استمراريةً من العقد المعتاد. لطالما كان حلفُ اليمين والمواثيق العامة مرتبطَين بفكرة الأمة الشعبية وتاريخها، ولهذا السبب يتحدث كثير من الطبقات المتعلمة عن نماذج العهد والميثاق في العالم اليوناني الروماني القديم وفي العهد القديم. ومن هنا كان اختيار مجلس أوصياء أمستردام لموضوع أسطورة باتافيا ذات الأصول الهولندية للقصر الملكي في أمستردام، ولوحة «مؤامرة كلاديوس سيفيليس» ضد الرومان عام ٧٠ قبل الميلاد للرسَّام رامبرانت الناتجة عن هذا الاختيار؛ على الرغم من أن لوحة رامبرانت الواقعية والمُشعة بالضوء هذه لم تنَلِ استحسانًا، وسرعان ما أُنزِلت ومُزِّقَت، ولم يتبقَّ منها في وقتنا الحاضر سوى قطعة معروضة في متحف استوكهولم القومي، ومخطط لتصميم اللوحة بالكامل في ميونخ. على الرغم من ذلك كله، تَنقل تلك القطعة المتبقية من لوحة رامبرانت الرائعة لمحة خافتة عن ميثاقٍ غليظ من العصور القديمة أبرمه المشاركون فيه لمقاومة الحكم الأجنبي وتحرير بلادهم، مثلما فعل الهولنديون المعاصرون قبل عدة سنوات.

يتمحور الحديث في بقية الكتاب على علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، إلا أن هذا أثار حتمًا موضوعاتٍ معقدةً متعلقة بالتعريف والنموذج النظري. في الواقع، من المستبعد أن تؤلف كتابًا عن القومية لا يثير هذه الموضوعات بشكلٍ أو بآخر؛ لذلك، حاولتُ تناول هذه الموضوعات في المقدمة وفي أول فصلين، فوضحت وصفي الخاص لما أصبح معروفًا باسم منظور «الرمزية العرقية». أرى أن مثل هذا المنظور مكمل مفيد ومصحح للمعتقد الحداثي السائد، لكنه ليس نظريةً بأي حالٍ من الأحوال؛ لذلك جعلت النقاش مقتصرًا على الفصل الثاني. ونظرًا أيضًا لأن الهدف من الكتاب هو تقديم سرد اجتماعي تاريخي لنشأة وتكوُّن أنواع مختلفة من الأمم، فقد جعلت النقد، باستثناء الاختلاف المبدئي مع المفهوم الحداثي للأمة، في أدنى مستوًى ممكن، لا سيَّما في الملاحظات.

أتوجَّه بعميق ووافر الشكر إلى الباحثين، وأخصُّ بالذكر منهم ووكر كونور لتحفيزه المستمر وحجته السديدة، بالإضافة إلى لطفه الكبير. وأودُّ أن أُعبِّر عن امتناني لجون هتشينسون على نقاشاته الكثيرة المثيرة وعلى دعمه المستمر. وأدين بالشكر أيضًا لطلاب الدراسات العليا السابقين وطلاب جمعية دراسة العرقية والقومية، بالإضافة إلى أصدقائي في فريق التحرير في دورية الأمم والقومية «نيشنز آند ناشوناليزم»، على الاهتمام، وأخصُّ بالشكر سيتا بيرصاد على مساعدتها الدائمة. وأتقدم بعظيم الامتنان بصفةٍ خاصة لزوجتي، ديانا، لدعمها المستمر في الأوقات العصيبة الكثيرة، وإلى جوشوا على البهجة البالغة التي يمدُّنا بها.

أتحمل وحدي مسئولية الآراء التي عبَّرتُ عنها في هذا الكتاب، وكذلك الأخطاء والسهو.

أنتوني دي سميث
لندن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤