تَصدير

ألَّف بعضُ مشاهير رجال الأدب والفنِّ من الأوروبيين أوپرتين مختلفتين جدَّ الاختلاف في موضوعهما عن (ملكة سبأ) أو (بلقيس) المذكورة في القرآن والإنجيل الشريفين، وهي غير (الزَّبَّاء، ملكة تدمر أو پالميرا أرملة الملك أُذنية)، وإنْ كثر الاشتباه اللفظي بينهما لدى الجمهور ولا سيما في أوروبا، وهذا ما يدعوني إلى هذه المقدمة. وأشهر هاتين الأوپرتين الأوپرا النمساوية المسماة “Die Koningen von Saba” أو (ملكة سبأ The Queen Of Sheba)، وقد وضعها ج. ﻫ. موزنتال “G. H. Mosenthal” ولحَّنها كارل جولد مارك “Karl Goldmark” وأُخرجت في فينا في العاشر من شهر مارس سنة ١٨٧٥م، وبها خلَّد جولدمارك ذِكراه، كما أنَّ موسيقاها الشرقية النَّفحة البديعة الجذَّابة كانت من عوامل نجاحها في أوروبا. وأما الأوپرا الأخرى فكانت سابقة لهذه وكانت فرنسية ومُعَنونة بالاسم ذاته مترجمًا “La Reine De Saba”، وقد ألَّفها بربييه “Barbier” وكاريه “Carré” ولحَّنها جوتوه الموسيقي الفرنسي الشهير مُلحِّن فاوست Faust، ولكنَّ روايته هذه معدودة بين سلسلة مؤلَّفاته الموسيقية التي لم تنل إقبال الجمهور عليها، وقد أُخرجت في سنة ١٨٦٢م.
أما هذه الأوپرا: (الزَّبَّاء Al-Zabba أو Zenobia)١ فمستحدثَةٌ، ولا شأن لها بسيرة (ملكة سبأ) ولم يسبق تمثيلها بصورةٍ ما، وهي مختلفةٌ جدَّ الاختلاف عن معظم ما كتب في بحثها سابقًا من الوجهة القصصية (فضلًا عن أنَّه لا علاقة لها كما قدَّمنا بسيرة ملكة سبأ أو بلقيس وإنْ تشابه الاسمان الأصيلان «سبأ» و«الزَّبَّاء» عند الفرنجة)، وهذا الاختلافُ قائمٌ موضوعًا وتاريخًا وتحقيقًا ومَرْمًى: فأما الموضوع فينزع إلى الإشادة بأشرف العواطف القومية وعِزَّة النفس والتضحية الجليلة، وأما التاريخ فهو أحدث ما نعلَمُه عنها مع مراعاة مقتضيات الأوپرا، وأما التحقيق فحسبي منه تجنُّب ذلك النوع من الخرافة الذي لا يُكسِب الأوپرا رونقًا ولا يخدم الحقيقة المحبوبة على أيِّ حال، وأما المَرْمَى فهو التهذيبُ الفنيُّ والخُلُقي معًا لا مجرَّد اللهو والتسلية بسرد قصةٍ أو تمثيل رواية لا عبرة منها ولا جَدْوَى، وهذه أمانة قومية في عنقي لم أغفل ولن أغفل تقديرَها ما حييت.

بهذه النزعة أخذتُ أنظم هذه الأوپرا تقديرًا لهذه الملكة العربية الجميلة التي كانت تنتسب أيضًا إلى (كليوباطرة) ملكة مصر وإن كانت مثال الاستقامة والشرف، بعكس (كليوباطرة) التي دعاها (بروبوديتوس) المؤرِّخ الرُّوماني «ملكة المدينة النَّجسة» مشيرًا إلى (كانوب) مدينة الفجور القديمة برمل الإسكندرية! وقد حكمت (الزَّبَّاء) زمنًا على مصر وامتدَّ مُلْكَها امتدادًا عظيمًا وخشي سطوتها الإمبراطور (أُورليان) الرُّوماني، ولبثتْ عزيزة حتى بعد أن تقلَّب لها الزمن وبعد أن سقطت دولتها وأُسِرَت في سنة ٢٧٣م، فقد شاءت الأقدارُ أن يتزوَّج أولادُها من الرومانيين، وأن ينشأ مِن نسلهم رؤساء للإمبراطورية الرومانية.

وقد راعيتُ في وَضْع هذه الأوپرا — وإن كانت من طائفة الأوپرات الكبرى — أن تكون متوسطةَ الحجم مجاراةً لحالة المسرح المصري الحاضرة؛ لأنَّ الآمال التي كانت معقودة على تأليف فرقة مصرية كبرى للأوپرا — والتي من أجلها وضعتُ «أردشير Ardasheer» و«الآلهة The Goddesses» على الأخص — لم تتحققْ بعدُ، ولعلِّي قدَّمت بهذه الأوپرا إلى أنصار الشعر المصريِّ وإلى عُشَّاق الأوپرا الراقية إضافة جديدة مقبولةً وقسطًا من الخدمةِ الواجبةِ.
أحمد زكي أبو شادي
الإسكندرية في ٢٨ يوليو سنة ١٩٢٧م
١  قال صاحب «أقرب الموارد» نقلًا عن المصادر العربية، وهي مخالفة للتاريخ المحقق، أو على الأقل لا صلة لها بملكة تدمر كما نعلم عنها الآن والتي هي موضوع قصتنا: الزباء لقب هند بنت الريان الغساني ملكة الجزيرة، كانت تعد من ملوك الطوائف، وكان يضرب بها المثل في العز والمنعة؛ لأنها كانت متحصنة في مدينتها، فيقال: «هو أعز من الزباء.» وذكر في الكلام عن «الأبلق الفرد» إن هذا الحصن والحصن المسمى «مارد» امتنعا على الزباء فقالت فيهما: «تمرد مارد وعز الأبلق.» فذهب قولها مثلًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤