سيرة الزباء

بقلم الأديب القدير الأستاذ محمد سعيد إبراهيم سكرتير (رابطة الأدب الجديد)
زنوبيا أو الزَّبَّاء هي ملكة پلميرا أو تدمر، واسمها في عشيرتها: Septimia Bathzabbai، وهذه المرأة المشهورة بجمالها وإقدامها وذكائها كانت جديرة بأن تكون قرينة أُذينة “Odainatti” الذي كان يحمل لقب «رئيس المشرق» “Dux Orientis”، وهي قد اشتركت معه بالفعل في سياسة ملكه أثناء حياته، ولم تخلفه في منصبه فقط بعد وفاته (سنة ٢٦٦-٢٦٧ ميلاديًّا) بل إنها عقدت العزم على بسط سلطانها على الدولة الرومانية الشرقية، وكان ابنها هبة الله بن أُذينه لا يزال حينذاك طفلًا، فتسلمت مقاليد الحكم في يدها. وقد غزت (مصر) سنة ٢٧٠م. وفتحتها بقيادة زَبْدة “Zabda” بدعوى إعادتها لحكم الإمبراطورية الرومانية، وحكم ابنها (هبة الله) مصر في عهد (قلوديوس) على أنه شريك في حكمها وله لقب الملك، وجعلت (الزَّبَّاء) لنفسها لقب الملكة، وقد بسطت نفوذها في آسيا الصغرى إلى مقربة من (بيزنطة) وظلت تدَّعي أنها تصنع ذلك في سبيل (رومة). وقد سُكَّ اسم (هبة الله) على العملة التي ضُربت في الإسكندرية سنة ٢٧٠م مع اسم (أورليان) الإمبراطور الروماني، ولو أن أورليان قد تفرَّد بلقب «العظيم» أو «أوغسطس». وقد وُجدت في بابل نقوش عليها اسم (الزَّبَّاء) و(أورليان) أو سلفه (قلوديوس) مع ألقاب Augusta وAugustus.
ولما آلت الإمبراطورية إلى (أورليان) في سنة ٢٧٠م، أدرك ما في سياسة (الزَّباء) من الخطر على وحدة الإمبراطورية؛ إذْ إن مظاهر المداراة كانت قد اطرحت من قبل وانكشفت نيات (الزَّبَّاء)، فإن ابنها ضَرب العملة باسمه فقط، وخرج على (رومة). فأرسل (أورليان) حملة إلى (مصر) على رأسها القائد (پروبس Probus) في سنة ٢٧٠م، واستولى عليها. وأعدَّ الإمبراطور في سنة ٢٧١م حملة أخرى على آسيا الصغرى والشام، فدخلت آسيا الصغرى في أواخر سنة ٢٧١م، ودحرت حامياتها التدمرية، ووصلت إلى (أنطاكية) حيث وقفت أمامها (الزَّبَّاء) بجيشها فانهزمت بعد أن لحقتها خسائر فادحة، وتقهقرت إلى ناحية (حمص) التي يبدأ عندها الطريق إلى مقر ملكها، وقد أبت أن تستسلم إلى (أورليان) وجمعت جيشها في (حمص) لتخوض المعركة التي تحدد لها مصيرها. ولكنها انهزمت في النهاية ولم يبق أمامها إلا الفرار في الصحراء نحو (تدمر)، فتابعها (أورليان) بالرغم من وعورة الطريق وحاصر مدينتها المنيعة، وفي هذه الساعة العصيبة خذلتها شجاعتها ففرت هي وابنها من المدينة لاجئة إلى ملك (الفرس)١ مستنجدة به، إلَّا أنه قبض عليها على شاطئ الفرات. ولما فقد التدمريون أملهم بهذه النكبة ألقوا سلاحهم، فأخذ (أورليان) كل ما في البلد من الغنائم وأبقى على أهلها، وأمَّن (الزَّبَّاء) على حياتها، إلَّا أنه قتل كل قوادها ومستشاريها ومن بينهم العالم المعروف (لونجينوس Longinus). وقد دخلت (الزَّبَّاء) مدينة (رومة) في موكب الإمبراطور الظافر، وارتضت خذلانها في عزة نفس وشمم، وقضت أيامها الأخيرة في (تيبور Tibur) حيث عاشت هي وابنها عيشة سيدة رومانية، ولم تمض أشهر قلائل حتى ثارت (تدمر) ثانية فعاد إليها (أورليان) على غير انتظار ودمَّرها ولم يُبقِ على أهلها هذه المرة …
ومما يُرْوَى عن (الزَّبَّاء) مناقشاتها مع كبير الأساقفة Paul of Samosata في المسائل الدينية. ويرجَّح أنها كانت تحسن معاملة اليهود في (تدمر)، فقد أشار إلى ذلك (التلمود). ومدينة (تدمر) مقر ملك (الزَّبَّاء) تقع على مسافة ١٥٠ ميلًا إلى الشمال الشرقي من (دمشق)، وكانت الحروب الفارسية “Parthian” سببًا في ظهورها بين ممتلكات (رومة) واعتلائها ذلك المركز الممتاز فيها. كانت الأسرة الساسانية في ذلك الوقت في ذروة بأسها وعظمتها واتجهت مطامعها إلى الممتلكات الرومانية، فلم يكن للتدمريين بدٌّ من أن يختاروا بين (الفرس) و(رومة)، فانحازوا إلى الإمبراطورية الرومانية التي كانت قد حبت أشرافَ (تدمر) ألقابها وعينت بعضًا منهم في مجلس الشيوخ وجعلت واحدًا منهم قنصلًا وهو زوج (الزَّبَّاء) المسمى أذينة “Odainath”، وكان ذلك في عهد الإمبراطور فاليريان سنة ٢٥٨م.
وانتهى الصراع بين (رومة) وبلاد (الفرس) باندحار الرومانيين سنة ٢٦٠م، واكتساح الفارسيين آسيا الصغرى وشمال سوريا، وأسر إمبراطورهم (فاليريان Valerian) الذي مات في أسره، فرأى (أذنية) زوج (الزَّبَّاء) بثاقب بصره أن يتودَّد بعد ذلك إلى (شابور) ملك الفرس، وأخذ يرسل إليه الهدايا والكتب الكثيرة فكان يرفضها بازدراء، وكان ذلك سببًا في أن يلقي (أذينة) بنفسه في أحضان (رومة) مدافعًا عن قضيتها، وقد كافأه (جالينس Gallienus) بتعيينه في منصب (رئيس المشرق Dux Orientis) كوكيل للإمبراطورية في الشرق في سنة ٢٦٢م. ومن ذلك الوقت أخذ يعمل لاسترداد ما خسرته (رومة) بعد أن ضم إليه فلول الجيش الروماني، فحارب (شابور) وتغلب عليه وأعاد المملكة الشرقية إلى (رومة). وفي أوج انتصاراته قُتل هو وابنه الأكبر (هيرودس Herodes) في حمص سنة ٢٦٧م، فآل ملك (تدمر) إلى (الزَّبَّاء) التي كانت تُناصر زوجها في سياسته، وحكمت باسم ابنها الصغير (هبة الله)، وكان لها جيش يبلغ السبعين ألفًا عزمت على فتح مصر به، فتم لها ذلك في سنة ٢٧٠-٢٧١م كما قدمنا، فانتهت مطامحها بأسرها على ما بينَّا في سنة ٢٧٣م. أما لغة تدمر فهي اللغة الآرامية، وكان أهلها يعبدون الشمس، ومعبد الشمس لا يزال إلى الآن أكبر الآثار التدمرية.
١  لا يعرف بالضبط إن كان هذا الملك شابور هرمز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤