الإقامة في الواحات
خطابي الحادي عشر
زوجتي الحبيبة:
قبلاتي وأشواقي الحارَّة أرسلها إليكِ من هنا راجيًا أن تكوني بخير وفي خير صحة. لقد وصلني خطابك منذ أسبوع وكنتُ أودُّ أن أردَّ عليه فورًا لولا أن الظروف ليست في يدي. فالمسألة أنني أتحيَّن الفرص لكي أرسل لكِ رسائلي، وثقي أنني بذلتُ كلَّ ما في جهدي لكي يصل إليكِ هذا الرد في أسرع وقت، ولم يكن في يدي أن أفعل أكثر من ذلك.
المهم أن خطابك أدخَل الفرحة إلى قلبي بقدر ما أحزنني! نعم يا حبوبة يجب أن أعترف لكِ بهذا، وقد عوَّدتك الصدق في كل خلجات قلبي.
لقد فرحتُ طبعًا لأن كل كلمة منكِ تُفرحني، وتجعلني أحس أني قريب وتلك سعادة ليس بعدها سعادة عندي. وأرجوكِ أن تواظبي على الكتابة أسبوعيًّا وأن تكوني أكثر تفصيلًا في خطاباتك (مثلًا: ماذا تأكلين، ماذا تلبسين، الأفلام الحديثة التي تشاهدينها، آخر نكتة في القاهرة … إلخ).
إن بعض الجهات الحكومية التي تعرفينها جيدًا تُطلِق من حينٍ لآخر فيما يبدو إشاعات كاذبة عنَّا هنا، وتروِّج هذا على ألسنة عناصر تنكَّرت لعقيدتها الفكرية؛ ثمنًا للإفراج عنها، وتحاول أن تُفسد العلاقات العائلية بين الأم وابنها والزوجة وزوجها … إلخ؛ محاولة بذلك التأثير لا على المعتقلين فقط، وإنما على العائلات أيضًا لتحطيم معنوياتها. تلك هي الحقيقة التي ينبغي أن تقدريها حق قدرها حينما تسمعين أية إشاعات قذرة عن أي واحد منا هُنا، ومن الطبيعي أن يتم التركيز على بعض الشخصيات العامة مثلي. لقد وصلت إلينا هنا من القاهرة إشاعات عن زملاء آخرين هنا راجت في الخارج أعلم أنها أبعد ما يمكن عن الحقيقة، ولعل الانقسامات السياسية التي وقعت هنا قد ساعدت على شيوع هذا الجو السام.
ولكني أود أن أؤكد لكِ أن كل الناس هنا (كل الناس بدون استثناء وعلى اختلاف تفكيرهم السياسي) على معنويات عالية، وهم مصممون على ألا يدفعوا ثمنًا سياسيًّا للإفراج مهما طال الزمن. إن العناصر الضعيفة نفسيًّا وخلقيًّا قد تم الإفراج عنها منذ مدة، ولم يبقَ هنا غير أشرف الناس وأجدرهم بالاحترام! لقد ضحك محمود وفايق حينما قرآ خطابك، واحتارا كما احترت في هذا القلق البادي فيه. والغريب أن خطابكِ قد وصل في نفس اليوم الذي قرأت فيه للزملاء قصيدتي الجديدة الطويلة «الشهيد». ولعل المكان لا يتسع لإرسال هذه القصيدة، ولكن حسبي القول إنني تحدثت إليك في مشهدٍ كامل من هذه القصيدة، يقول الزملاء عنه إنه مليء بالأسى العميق!
لقد وصلتني خطابات محمد وسعاد، وفرحت جدًّا بكلمة محمد وأخباره وكلام سعاد، وأرجوه ألا يكون متأثرًا مني على ما كتبته له من عتاب، وأن يقدر ظروفي على البعد. الحقيقة أنني كنت متأثرًا منه لأنه لم يكتب لي كلمة واحدة خلال إقامتي بسجن أسيوط للعلاج، ولأني توهمتُ أنه بمشاغله لم يعد يسأل عنك. ولقد سرَّني من خطابه الأخير أنه بادي الاهتمام بك وبالأولاد. لن أوصيكِ بعيد ميلاد مُنى، فأنا أعرف أنكِ لستِ في حاجة إلى وصيتي، ولكني أريد تقريرًا مفصلًا عن حالتها في المدرسة ودرجاتها في الامتحانات … إلخ. ولا زلت أرجوكِ أن ترسلي لي صورةً لكِ في خطابك القادم، فهل تتفضلين وتتكرمين وتتنازلين؟
شكرًا لك على الأغنية المرسلة في خطابك، وقد حرصت على أن أسمعها من صديق له صوت جميل هنا، وأرجوكِ أن تذكري لي شيئًا في خطاباتك القادمة عن الأغاني الجديدة التي تسمعينها وتحبينها. إنني أقضي وقتًا طيبًا هنا في مناقشة السياسة والقراءة وسماع الأغاني من ذوي الأصوات الجميلة (ليس عندنا راديو!) وتدريس العلوم الرياضية على نطاقٍ واسع نسبيًّا لكل المتحمسين، وما يزال الناس هنا يشكون من ضحكاتي العالية التي تصلهم في وقتٍ متأخر ليلًا. إنني أقيم مع فايق في غرفة واحدة، وهو أمر مريح لي تمامًا ونحن نتعاون سويًّا في الأكل وغسيل الصحون وكل شيء … والحقيقة أن فايق كنز من الإنسانية، وهو يهتم بي في كل صغيرة وكبيرة. سوف يأتي الوقت الذي تقابلينه وتشكرينه على اهتمامه بي في الصحة والمرض.
ختامًا، لك قبلاتي وحبي الخالد، وأملي أن تردي بسرعة، فإن خطاباتك حياة جديدة لي.
خطابي الثاني عشر
زوجتي الحبيبة:
لعل نرجس قد طمأنتك على صحتي، وأوضحت لكِ أنَّ مسألة الروماتزم أمرٌ عارض لا يستحق القلق أو الاهتمام!
لا أدري كيف أستمر في خطابي، ففي ذهني كثير من المسائل التي أود الكلام عنها، وأرد عليها من خطاباتكم السابقة، وسأحاول ألا أنسى شيئًا ولو أني أكتب هذا الخطاب على عجلٍ. بالنسبة للصورة التي رسمها لي الفنان داود عزيز وتعليقك بأن هناك حزنًا واضحًا في عيني فيها … أرجوكِ ألا تشغلي نفسك يا حبيبتي بهذه الأمور؛ فالكل هنا يقول إنه لا يوجد إنسان يضحك مثلما أضحك ويسخر مثلما أسخر. صحيح أنني عندما أخلد إلى نفسي أشعر ببعض الحزن من أجلك وأجل الأولاد، ولكن سرعان ما أندمج في جو السجن وأنسى أحزاني، وهكذا تكون الحياة! لقد شكرتُ الفنان داود نيابةً عنكِ، وسُرَّ كثيرًا بهذا الشكر. ولقد رجوتك في أكثر من خطاب ألَّا تشغلي نفسك بحياتي هنا كثيرًا، وأن تهتمي بحياتك أنتِ وشئونك فإن هذا هو ما يسعدني على البعد.
ولعل نرجس قد حدثتك في اقتراح الزيارة. أرجو أن تفكري في الموضوع وأن تقولي لي رأيك في خطاب مقبل.
أما بالنسبة لموضوع البحث الذي تعدينه عن «تخلف المجتمعات الأفريقية السوداء» خلال دراستك بمعهد الدراسات الأفريقية، أود أن أقول إنني طبعًا غير مختص، ويمكنك استشارة أخي محمد، ولكن اسمحي لي أن أقدِّم بعض الانطباعات:
- أولًا: إنني أعتقد أن كثيرًا من المجتمعات الأفريقية عاشت في ظل النظام الشيوعي البدائي، لا في ظل النظام العبودي. وليس صحيحًا أن هذه المجتمعات تعثَّرت عند النظام العبودي ولم تتقدم إلى النظام الإقطاعي كما تقولين، بل إنها تعثرت في التطور عند النظام البدائي، ولم تتقدم إلى النظام العبودي.
- ثانيًا: ولكن ليس معنى هذا أنه لم توجد مراحل مختلفة للتطور في ظل النظام البدائي، ومن رأيي أن هدف الدراسة الجادة هو البحث عن هذه المراحل المختلفة التي مر بها النظام البدائي.
- ثالثًا: لقد كان العامل الأساسي، في رأيي، في الانتقال من النظام البدائي إلى النظام العبودي هو اكتشاف المعادن (الحديد خصوصًا) في معظم الحالات. وفي مصر بالذات دعت إلى هذا الانتقال الحاجة إلى توحيد نظام الري على وجه الخصوص، وما ارتبط بذلك من إقامة الدولة التي هي سمة من سمات العهد العبودي.
-
رابعًا: إن التعثر في التطور الأفريقي يرجع في رأيي إلى عدم اكتشاف المعادن
إلا متأخرًا وتدفق الهجرة إلى أودية الأنهار والسواحل.
ومع ذلك فإنني أنصحك بمراجعة كتاب «ماذا حدث في التاريخ» لجوردن تشايلد، وكتاب «الغصن الذهبي» لفريزر. وسوف يفيدك الكتاب الأول من ناحية الدراسة المنهجية، كما سيفيدك الكتاب الثاني من ناحية المعلومات الغزيرة الواردة به. هذه فكرة مختصرة عن رأيي وأرجو في خطاب قادم أن أكون أكثر تفصيلًا.
لقد سرَّتني مقالاتك في مجلة «نهضة أفريقيا» وأرجو المواظبة على الكتابة بعد أداء امتحان المعهد، ولكن احرصي على التوقيع إن أمكن. أرجو إبلاغ أخي محمد إعجابي الشديد بما يكتبه هذه الأيام من مقالاتٍ في الأهرام وإعجاب الكثيرين هنا. إنني أحاول متابعة كل ما يكتب وأتمنى له التوفيق.
ختامًا، لك أشواقي وقُبلاتي، وما زلت في انتظار صور الأولاد.
خطابها الأول
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة أبعثها إليك من بعيد … دائمًا من بعيد.
فرحتُ جدًّا بخطابك الذي جاء بعد غيبة طويلة … استلمت الخطاب من تحية، وكانت ابنتها نادية بجانبي تترقب بفارغ الصبر أن أنتهي من الخطاب حتى ألتفت إليهما ولكن بدون جدوى؛ إذ يبدو أن الخطاب استغرقني تمامًا لمدة طويلة، حتى إنها بعد فراغ صبرها قالت لي: «مش حاتخلصي يا تانت الجواب ده أبدًا؟».
وكان لا بد أن أفرغ منه في الحال، ولم أكن قرأته كله. وفعلًا لم أُكمل قراءته إلا في الأتوبيس؛ إذ لم أستطع الانتظار حتى أعود إلى البيت. وقد أعيد قراءته في البيت مرات ومرات، ولكني لا أحتمل أن يكون معي دون أن أقرأه القراءة الأولى … لقد اكتشفتُ أنني فعلًا لا أقرؤه مجرد قراءة، بل أعيش في كل سطوره وكل كلماته وكل نغمة في حروفه، وهذا سرُّ ضيق نادية.
إنني سعيدة بجو المرح الذي تشيعه حولك حتى لا تحس بالكآبة. ولكني ما زلت أذكر طفلي الكبير الذي يضحك من أعماقه ويبكي أيضًا من أعماقه. ما زلت أذكر كيف يتأثر ويتألم وكيف يصفح ويسامح، وكيف يثور وكيف يهدأ.
شكرًا لك لاهتمامك بإبداء رأيك في بحثي عن «تخلف المجتمعات الأفريقية»، فلقد كنت أتوق أن أعرف رأيك في هذا البحث بالذات قبل أن أقدمه، ولكن للأسف الشديد وصل خطابك بعد طبع البحث، ولكن لن يمنعني هذا من الاطلاع على الكتب التي أشرت إليها، بل لقد بدأت البحث عنها بالفعل، ولي أمل أن أحصل عليها اليوم أو غدًا. إن النقاط التي أثرتها جديدة تمامًا بالنسبة لي. والواقع أني ناقشت كثيرين في هذا الموضوع، ولكننا لم نصل إلى رأيٍ مثل هذا الذي أبديته في خطابك. وقد أشار البعض عليَّ أن أقرأ «لتوينبي أو دوانت» باعتبارهما تعرضا لنشأة الحضارات. وهذا الموضوع — وإن كان لا يمس صلب بحثي عن أسباب تخلُّف المجتمعات الأفريقية — إلا أنني حرصت أن أقرأ عنه. رأي «توينبي» يتلخص في نظريته المشهورة «التحدي والاستجابة»، وهي تقوم على أن المجتمعات عندنا تواجه تحديًا من الطبيعة، مثلًا في شكل جفاف تستجيب له بصور مختلفة، كأن تهاجر إلى مواطن أخرى حيث المناخ أكثر رطوبة، أو أن تغير من عاداتها وتقاليدها وتتحول إلى حرفة الرعي مثلًا، وقد لا تتوفر عندئذٍ ظروف الاستقرار وقيام حضارات، على عكس المجتمعات التي هاجرت واستقرَّت وأقامت حول الأنهار وأنشأت حضارات. ومثل هذه النظرية لا تقدمنا لأنها لا تفسر لنا أسباب تباين الاستجابة بين المجتمعات المختلفة … وهل يرجع ذلك إلى أسباب عنصرية، بمعنى أن هناك جنسًا معينًا أقدر على الاستجابة بطريقة أفضل من غيره؟ الواقع أن «توينبي» يرفض هذا التفسير وإن كانت نظريته تؤدي إليه في النهاية. وهناك بعض الجغرافيين الذين يُرجعون أسباب التخلف إلى عوامل جغرافية من مناخ وموقع وتضاريس … إلخ. ويؤكدون ذلك بقولهم إنه ليس مجرد صدفة وقوع البلاد المتخلفة في المداريات، والبلاد المتقدمة في البلاد المعتدلة الباردة. ورأي آخر يقول إن الافتقار إلى طبقة برجوازية قوية هو سبب التخلف، وإن قيام الثورة الصناعية في إنجلترا بالذات قبل غيرها سببه وجود برجوازية قوية كانت قادرة على القيام بها، وقد ساعدتها ظروفها الخاصة — وهي التجارة — على تكوين ثروات وظهور هذه الطبقة القوية، وهناك آراء أخرى لا أريد أن أوجع دماغك بها. سوف أقرأ الكتب التي اقترحتها على كل حال، وعلى ضوء النقاط التي عرضتها في خطابك قد أغيِّر الفصل الخاص بأسباب التخلف، وشكرًا جزيلًا.
نحن جميعًا بخير، والجميع يبعثون إليك بتحياتهم وتمنياتهم …
أريد أن أقول أشياء كثيرة … كثيرة جدًّا … هل تتيح الأيام ذلك قريبًا؟ أرجو، ولكن أهم ما أرجوه أن تكون ضاحكًا مبتسمًا كما عودتني.
عنايات
خطابها الثاني
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة إليك وبعد:
يؤسفني يا عزيزي أنني ذهبت إلى المعمورة بدونك. لقد أبدى لي أخي نبيل رغبته في السباحة هناك، فلم يكن هناك بُد من القَبول. لقد أمضينا وقتًا طيبًا رغم أننا كنا وحدنا، ولقد أشفقتُ على نبيل لحرمانه من الخروج مع أصدقائه أو صديقاته، ولكنه يبدو أنه قانع بوجودي معه، فهو لا يريد أن يتركني أبدًا.
لقد وصلنا يوم الأحد، وسنترك الإسكندرية يوم السبت القادم. وأعتقد أن ستة أيام كافية جدًّا بالنسبة لى حتى أستطيع أن أبدأ من جديد.
أقرأ الآن في كتاب تشايلد (ماذا حدث في التاريخ)، وعندما أنتهي منه سوف أبدأ قراءة كتاب فريزر (الغصن الذهبي) حتى أستطيع أن أنتهي إلى رأي بخصوص البحث. هذه هي كل أخباري … أما عن الفسح والسينما فأستطيع الآن أن أحدثك عنها لأن نبيل يهوى السينما على عكس حالي. ولذلك نذهب كل يومين إلى السينما وموضوعاتها لا تستحق الذكر، فهي مجرد تسلية. والحق أن ما يسعدني هو البحر ومياهه الزرقاء والجلوس في «أتينوس» أو أي كازينو على شاطئ البحر. فقد تحولت بشرتي إلى لون برونزي أو أشد، وساعتك التي ألبسها هذه الأيام تركت علامة من البياض الناصع على ذراعي.
الآن أبدو ممتلئة صحة ونشاطًا … أليس هذا أفضل؟
كيف أحوالك وصحتك والحر؟ أرجو أن تطمئنني حتى يهدأ قلقي على أحوالك الصحية. تحياتي وتمنياتي لكم جميعًا، ولك دائمًا أشواقي الحارة.
عنايات
خطابها الثالث
عزيزي سعد:
قد يطول أكثر من ذلك أو قد لا يطول … المهم أن آمالنا سوف تطول وتمتد هي الأخرى بلا حدود.
هل تذكر يا عزيزي أنك كتبت لي يومًا تقول: «في عينيك الضاحكتين أرى المستقبل.» لقد هزَّتني هذه الجملة إلى أبعد حد، وكثيرًا ما تنساب إلى سمعي وأنا جالسة وحدي، فأحس ابتسامة تتسلل إلى وجهي! إنني أحاول دائمًا يا عزيزي أن أنظر للمستقبل من خلال آمالنا وضحكاتنا وذكرياتنا الحلوة.
أسمع الآن أغنية جديدة تقول: «يا واحشني وروحي فيك، وبقى لي زمان يا واحشني، يا واحشني» وإذا أردت أن أكررها أنا فلن تكفيني صفحات … إنها أشواق العمر كله، أشواق تقرب من ثمانية وعشرين عامًا، أليس كذلك؟
أتعلم أن أحلى ما أشتاق إليه هو أن تضع رأسك المتعب على صدري، في صمت وفي حنان، وأظل يقظةً أراقبك وأضحك لتقول ما شئت، ولكني كثيرًا ما أحلم بذلك، وسأظل أحلم به حتى يتحقق يومًا … أي يوم، ولكن لا بد أن يتحقق.
أرجو أن تبلغ تحياتي وتمنياتي للجميع، كما أرجو أن تكونوا قد احتفلتم معًا بعيد ميلادك، عقبال سنين طويلة، سنين مليئة بالآمال المشرقة لنا ولبلادنا والإنسانية كلها.
عنايات
خطابي الثالث عشر
زوجتي الحبيبة:
ها أنا ذا أكتب إليكِ مُنجِزًا وعدي بالكتابة في كل فرصة أجدها. والحقيقة أنني لم أتسلم منذ أكثر من أسبوعين خطابًا منك، ولكني أعذرك على كل حال، فربما تكونين مشغولة في امتحان دبلوم المعهد.
لقد وصلني من أختي سعاد خطاب تقول فيه إنكم لم تصلكم مني خطابات منذ حوالي شهر! وهذا غريب لأني أرسلت خلال هذه الفترة خطابين، فهل تضيع هذه الخطابات رغم أنني أدفع نقودًا لحاملها إلى صندوق البريد؟
لقد وصلني طرد الأدوية منذ مدة، وصحتي في تقدُّم مستمر منذ تناول الأدوية، وأشعر أنني أحسن حالًا بكثير منذ انتهت حالة الخمول والدوخة التي كنت أشعر بها كل صباح، وأحس من جديد بالنشاط والقدرة على القراءة والكتابة مدة طويلة، ولا شك أن الحقن التي أُرسلَت قد نفعتني تمامًا.
أرجو ألَّا تنسي في الطرد القادم الفانلات القطنية الطويلة والبيجامة الكستور (بيضاء سادة أو لون كريم). وطبعًا لا تنسي أيضًا فيتامين «ج» فإنه يُفيدني في الشتاء كثيرًا في نزلات البرد.
إنني مقبل منذ أكثر من شهر على مشروع ثقافي كبير، وأعتقد أنه سوف يستغرق عامًا على الأقل، وقد جمعت له مبدئيًّا أكثر من عشرة مراجع أساسية أكبُّ عليها، فألخص وأترجم فيها استعدادًا لبدء الكتابة، وما زلت آمل في الحصول على مراجع أخرى. هذا الموضوع خاص بتاريخ العلم منذ مصر القديمة وبابل وأثر تطور العلم على الفلسفة بالذات، وأجد تشجيعًا هنا من الكثيرين ومعونةً خاصة. كما قمت في الوقت ذاته بترجمة بحثين طويلين في النقد الأدبي عن الكاتب الأمريكي «هيمنجواي» والشاعر السوفييتي الجديد «إيفيتشنكو». وقد أثار البحثان اهتمامًا لم أكن أتوقعه.
هذا عن حياتي الفكرية والثقافية، وأرجو أن توافيني بما تقرأينه أنتِ بعد انتهاء الامتحان، كيف أحوال أختي فتحية؟ ولماذا لا أسمع عنها مباشرة منذ مدة؟ الغريب أنها تستاء إذا تأخرت عليها في الكتابة، ومع ذلك لا تعطيني هذا الحق إذا هي تأخرت. قد يجوز أنها أرسلت خطابًا ولم يصلني؛ ولذلك أود الإشارة إلى أن الإدارة هنا أصبحت تدقق في قراءة الخطابات، فإذا شكت أن الخطاب مكتوب لأحد المعتقلين مزقته فورًا. ولذا أرجو التحفُّظ في الكتابة وعدم التحدث صراحةً عن موضوع النقود المرسلة مع نرجس؛ لأن هذا ممنوع قانونًا!
وأخيرًا أرجو الحرص على مقابلة نرجس قبل حضورها لزيارة زوجها هنا (هي تأتي كل شهرين تقريبًا) وأن ترسلي معها بعض المأكولات على نمط ما كنتم تفعلون في «أبو زعبل». لا تتصوري تأثير هذا علينا من ناحية تذكيرنا بالطعام الإنساني الذي حُرمنا منه زمنًا طويلًا، وأن تراعي أن معي في الغرفة عددًا من الناس، وأنني لن آكل وحدي!
أقرأ بانتظام مقالات محمد أخي، وأُسرُّ بها كثيرًا. له تحياتي وتمنياتي، ولك أحر أشواقي وقُبلاتي.
خطابها الرابع
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة … انتهيت أمس من آخر امتحان لي، وها أنا ذا أبادر بالكتابة إليك. ذهبت بالأمس إلى إخوتك جميعًا، قمت بجولة واسعة بعد أن انقطعتُ عنهم بسبب الامتحانات، وهم جميعًا على خير ما يرام. طبعًا أحاديثنا لا تدور إلا عنك وعن أحوالك الصحية وعن الطرود التي أُرسلَت لك، وقد أخبرتني فتحية أنها أرسلت لك دواء لمتاعب الكبد، فهل يكفي هذا الدواء أم أرسل لك ما اقترحته عليك من دواء في الخطاب السابق؟
احتفلنا أمس بمرور شهر على ولادة خالد (ابن أخي مصطفى). والحق أنه بعث جوًّا جديدًا في البيت، فلم أكن أتصور أن طفلًا صغيرًا إلى هذا الحد يستطيع أن يُحدث كل هذا التأثير … إن كل ما قرأناه وكل ما درسناه في الكلية عن سيكولوجيا الطفل وعقباته الاجتماعية أتتبعه الآن بالتجربة ولكن باندهاش.
أما عن قراءتي فلا أستطيع أن أقول إنني بدأت شيئًا جديًّا على الأقل طول فترة الامتحان. معي الآن الجزء السادس من مذكرات تشرشل فهي تصدر تباعًا.
لقد سُررت جدًّا بقراءاتك الواسعة، والحق أني أكثر من مسرورة. إنني أشعر بإعزاز وفخر بك. كم كنت أتمنى لو كنت بجانبك حتى أستطيع أن أقدِّم لك أية معونة … طبعًا أنا على يقين من أنك قادر على القيام بكل شيء وحدك، قادر على احتمال كل شيء وحدك، ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في هذه الأمنية!
تحياتي لكم جميعًا ولك كل أشواقي وتمنياتي.
عنايات
خطابها الخامس
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة إليك وبعد … أرسلت إليك آخر خطاب منذ أسبوع، أرجو أن يكون قد وصلك.
هل تعلم أني أحتفظ بصورة لناظم حكمت وزوجته بمناسبة حضورهما للقاهرة؟ إن هذا الإنسان الذي غنَّى لنا كل روائعه جاء إلى بلادنا ورأيناه وعاش بيننا!
من كان يصدق ذلك؟
وأنت يا عزيزي لا بد أن نراك يومًا بيننا وأن أضمك إلى صدري … لا بد أن يأتي ذلك اليوم، وحتمًا سوف يأتي!
تحياتي لكم جميعًا، ولك كل تمنياتي وأشواقي.
عنايات
خطابي الرابع عشر
زوجتي الحبيبة:
سُررت جدًّا عندما علمت من خطابك أنكِ كنتِ الأولى في امتحان المعهد. إنه خبر سار وممتع بلا ريب، فتهنئتي الحارة لكِ وأملي أن تكوني في الرسالة في نفس المستوى. وبمناسبة موضوع الرسالة أنا مدرك أن اختيارك للموضوع محدود بين التاريخ والجغرافيا. ولذلك فأنا أقترح أن تكون الرسالة حول تاريخ أفريقيا الشرقية وعلاقتها بالحضارة الإسلامية في القرن الخامس الهجري وما بعده، أو تاريخ المناطق التي تضم غانا وغينيا ومالي وعلاقتها بشمال أفريقيا والحضارة الإسلامية، والحق أن هذا التاريخ يحيط به غموض شديد فلا نعرف عنه إلا تفاهات. ولذا يكون من المفيد جدًّا أن تُدرَس هذه المراحل وأن تقال فيها كلمة واعية. هذا طبعًا مجرد اقتراح والأمر لك أولًا وأخيرًا.
أرسل هذا الخطاب مبكرًا وعيني على تاريخ أول يناير الذي هو عيد ميلادك. كل سنة وأنت طيبة يا ستي، وأرجو أن نحتفل به سويًّا في العام القادم، وأن تكون هذه الأزمة قد انتهت بخروجي. لقد أوشك العام الرابع أن ينتهي وندخل العام الخامس، وأنا ما زلت كما عهدتِني دائمًا صبرًا واحتمالًا للمكاره مهما طال أمدها، وثقة في المستقبل، وما زالت ضحكاتي التي تعودتِ عليها هي هي لم تتغير.
أما دراستي فقد بدأت أخيرًا في كتابة الفصل الأول من مشروع الكتاب الذي يشغل حياتي الآن، وقد أوشكت على النهاية. وهذا الفصل يقع في حوالي مائة صفحة ويشمل قصة العلم القديم (أي ما قبل اليونان)، ويتضمن رءوس الموضوعات الآتية: مقدمة عامة – العصر الحجري القديم – العصر الحجري الحديث – العصر البرونزي – عصر الحديد الأول – هل كان ثمة علم قبل الحضارة؟ – الكتابة والحضارة – الرياضة والتجارة – الرياضة والعمل – إجهاض علم الجبر – الفلك والتنجيم – الطب والسحر – التكنيك والحضارة – الأصل الطبقي للعلم – العلم والدين – انهيار الحضارة القديمة.
لقد بقيت لي صفحات قليلة، وبمجرد إنجازه سأنتقل إلى كتابة الفصل الثاني عن الحضارة اليونانية ووضع العلم فيها.
هذا عن حياتي الثقافية. أما من الناحية المعيشية فصحتي طيبة تمامًا غير أن دخول الشتاء في حاجة إلى اهتمام بالدفء والتغذية. فالبرد هنا قارس جدًّا بالليل، وأرجو إرسال بلوفر بكمٍّ طويل ولا داعي لأية أدوية.
إنني أتابع مقالات محمد باهتمام شديد وفخر كبير، وأرجو أن أكتب له بالتفصيل فيما بعد. تحياتي وتمنياتي لمصطفى وصفية والسيدة الجليلة عمتك. أما أنتِ فلكِ قبلاتي الحارة وأطيب تمنياتي بالعام الجديد، وإن جاءت التهنئة مبكرة نوعًا لأني أخاف ألَّا أجد فرصة كتابة خطاب آخر قبل أول يناير، كما أرجو أن أقرأ لك خطاباتٍ أطول من هذه الخطابات التلغرافية التي ترسلينها.
ملحوظة:
أرسل لك خطابًا للزميل لطفي الخولي رجاء تسليمه له!
رسالة إلى لطفي الخولي
عزيزي لطفي:
ها أنا ذا أكتب إليك من خلف أسوار المعتقل. وأرجو ألا تكون رسالتي هذه سببًا في أي إحراج لك. ولقد فكرت أن أكتب إليك أكثر من مرة لأعبِّر لك عن إعجابي بما تنشره صفحة الرأي بالأهرام أحيانًا، واستيائي مما تنشره الصفحة أحيانًا أخرى، ثم توقف القلم في يدي! لا أدري لماذا … ربما لأني كنت أحس أن الوقت لم يَحِن للكتابة والمصارحة. أما اليوم فأنا أشعر أن الظروف مواتية لذلك. لقد انقطعت الحملة على الشيوعيين في الصحف أو كادت، وحدث في مجال العلاقات العربية السوفييتية انعطافة لا شك يرغب فيها كل الذين يحبون وطنهم ويرجون له التقدم. ومن رأيي أن الوقت قد حان لكلمة عاقلة ترأب الصدع وتجمع الصف وتوحِّد كافة القوى الوطنية والتقدمية، بما في ذلك الشيوعيون العرب بطبيعة الحال، ولست أدَّعي أن من حقي أن أتكلم باسم هؤلاء، ولا أنا في الحقيقة مفوَّض للكلام باسم أحد. ولكن اسمح لي أن أعبِّر عن آرائي الشخصية، وأعتقد أن غالبية المعتقلين يشاركونني هذا الرأي.
ولعل أفضل بداية هي أن أتناول بكلمة موجزة مقالة الأستاذ هيكل الصادرة في ملحق الأهرام بتاريخ ١٩٦٢/٣/٢م بعنوان «تيار التاريخ لم يتوقف» واسمح لي أن أصف هنا المقال بالتخلف والانعزالية على أقل تقدير. فالأستاذ هيكل يذهب بعيدًا للبحث عن أسباب فشل الوحدة المصرية السورية وتحت أنفه السبب الأساسي في هذا الفشل لا يريد أن يذكره … والغريب أن الرئيس عبد الناصر قد ألمح إلى هذا السبب في خطابه الشهير عن الأخطاء، الذي ألقاه في جامعة القاهرة، ومع ذلك فالأستاذ هيكل يتجاهله … السبب هو تصدُّع الجبهة الوطنية في سوريا إثر الوحدة، وتحوُّل هذه القوى التي حمت استقلال سوريا بعضها ضد بعض … عبد الناصر والبعثيون ضد الشيوعيين، والشيوعيون ضد عبد الناصر في المرحلة الأولى، ثم عبد الناصر ضد البعثيين بعد ذلك. وهذا التصدُّع هو الذي أدى إلى كافة الظواهر الأخرى التي يتعرض لها الأستاذ هيكل، والأخطاء الأخرى التي تعرَّض لها عبد الناصر في خطابه الشهير … ولنتأمل مثلًا ظاهرة مهادنة عبد الناصر للرجعية العربية في أعوام ١٩٥٩-١٩٦٠م. أليست الحقيقة أن مهادنة الرجعية كانت الثمرة الطبيعية لسياسة «مناهضة الشيوعية» في المنطقة؟ أليست الحقيقة أن أخطاء وجرائم الأجهزة البوليسية وتضييق الخناق وكبت آراء الناس ومأساة الديمقراطية في سوريا هي الثمرة الطبيعية لتصدع الجبهة الوطنية؟ إن هيكل يُرجع أسباب فشل الوحدة إلى اتصال الإقليمَين جغرافيًّا وعدم نضج الوطنية المحلية وقوة مركز الإقطاعيين والرأسماليين في سوريا! ولكن الحقيقة أن جبهة موحَّدة من الحكومة والبعثيين والشيوعيين والقوى الوطنية الأخرى كانت كفيلةً بأن تهزم كل هذه الاعتبارات مجتمعةً، لكن الحكومة لم تكن تريد هذا كما تعرف، بل كانت مصممة على المضي في سياسة «وحدنا في المعركة» التي عبر عنها الأستاذ هيكل في إحدى مقالاته، وظنت أنه من اليسير أن تتجزأ أهدافها بدون الشيوعيين السوريين، بل وعلى حسابهم. ثم تحايلت بعد ذلك، وحاولت أن تطبق نفس المنهج فيما يتعلق بالبعثيين. وماذا كانت النتيجة؟ أن الحزب الشيوعي السوري لم يُصفَّ أبدًا ولكن الذي صُفِّيَ هو حكم عبد الناصر الوطني في دمشق! تلك هي الحقيقة المُرة التي أساءت إلى القاهرة، كما أساءت إلى القوى التقدمية في دمشق.
وصدقني إذ أقول لك إنني أدرك تمامًا أن هذا التصدع في الجبهة الوطنية وتناصر القوى الوطنية بعضها ضد بعض لم تكن حكومة القاهرة وحدها مسئولة عنه. فمن المحقق أن السياسة اليسارية للشيوعيين السوريين قد ساهمت في خلق هذه المشكلة، وفي توسيع الخلاف. ولكن رغم ذلك على القاهرة أن تتحمل نصيبها الكامل من مسئولية ما حدث وفي خسارة الجولة الأولى في قضية الوحدة. ومن الإنصاف أن نقول هذا بصراحة حتى لا نُنكر أخطاء الماضي.
إن الوقت مناسب تمامًا لكي يتحرك كل الكتَّاب والصحفيين التقدميين أمثالك في أوساطهم الصحفية والسياسية في هذا الاتجاه الصحيح. وإنني إذ أدعوك لهذا لا أدعوك إلى مجد شخصي أو أمر سهل، فأنا أدرك أن ثمة أجهزة في الدولة لا ترحب بهذا، ولكني أعتقد أن هناك أوساطًا أخرى في الحكومة مستعدة لأن تنصت لصوت العقل في مثل هذه الظروف، وسوف تفتح هذه الخطوة الباب لعودة حكومة القاهرة إلى سابق نفوذها في العالم العربي، بدلًا من هذه العزلة القائمة حاليًّا.
لقد انتهت سياسة الاستنكار التي اتبعتها المباحث، فيما يتعلق بالمعتقلين الشيوعيين إلى الفشل الذريع، وبعد أن تخلصت المعتقلات من بعض العناصر الضعيفة نفسيًّا وخلقيًّا، صمدت أغلبية المعتقلين الشيوعيين أمام سياسة الاستنكار مرة وثانية وثالثة. وها هي المباحث تعلن تخليها عن سياسة الاستنكار، لا تنازلًا منها وتعطفًا، ولكن إدراكًا أنه لم يعد هناك أحد مستعدٌّ لقَبول هذا العمل المشين … فضلًا عن أن الحكومة أدركت فيما يبدو ما تجره هذه السياسة من إساءة بالغة لسمعتها في الخارج. إن التخلي عن سياسة الاستنكار خطوة نحو الاتجاه السليم، ويبقى بعد ذلك أن يتحول الكلام إلى عمل ويخرج الناس إلى الفضاء الرحب.
إن سياسة عبد الناصر الحالية المعادية للاستعمار والإقطاع والرأسمالية الكبيرة تغري به الرجعية العربية والاستعمار. ولقد اتسعت جبهة الأعداء في المجالَين العربي والعالمي. أليس من المنطقي إذَن أن تسعى الحكومة إلى توسيع جبهة الأصدقاء؟ إن أغلبية المعتقلين الشيوعيين هم موضوعيًّا أصدقاء للنظام؛ بمعنى أنهم يؤيدون أهدافه الحالية ويمدون أيديهم إليه للعمل من أجل هذه الأهداف، ومن أجل توسيع نطاق الديمقراطية التي لا يتصور تقدم جِدي بدونها اليوم.
إنني أدعوك إلى التفكير والعمل والاتصال بالصحفيين والنقابة موليًا أهمية خاصة لقضية الصحفيين الشيوعيين المعتقلين. وختامًا، تقبَّلْ تحياتي وتمنياتي لك وللسيدة الفاضلة زوجتك.
خطابها السادس
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة لك وبعد:
وصلني خطابك وأشكرك على تذكُّرك عيد ميلادي … كل سنة وأنت طيب يا سيدي ردًّا على قولك «كل سنة وأنت طيبة يا ستي»! ألم تجد في قاموسك كلمة أنسب من ذلك؟
معلهش يا سيدي، مقبولة منك يا سيدي!
إنك مندهش كما تقول من خطاباتي التلغرافية التي أرسلتها لك … أرجوك أن تلاحظ أنني لا أراسلك وأنت في مصيف بلودان أو في مشتى الأقصر وأسوان، ليس من المعقول أن أطيل في خطاباتي بينما تكون خطاباتك منقطعة شهرًا أو شهرين! ولعلك لاحظت أن خطاباتي لا تكون قصيرة بعد وصول خطاب منك أو حتى بعده بأسبوع أو أسبوعين.
أما الموضوع الذي اقترحته لرسالة الدبلوم فهو بلا شك مفيد جدًّا. وقد أدرك ذلك البعض فاهتموا بالتنقيب عن غوامض ذلك التاريخ، ومن ثم ظهرت أبحاث كثيرة في هذا الصدد، ولا شك أن أربع سنوات من الغيبة هي التي منعتك من تتبُّع هذه الأبحاث.
مثلًا في غرب أفريقيا ممالك إسلامية كانت لها علاقات وروابط ثقافية واقتصادية بالشمال وظلت طول العصور الوسطى. وآخر هذه الممالك قضى عليها الاستعمار الأوروبي، كما انتشرت هناك الطرق الصوفية مثل القادرية والوهابية وغيرها، وأحيانًا كان ينجح شيوخ هذه الطرق في إقامة مملكة قوية يتولون زعامتها.
وفي شرق أفريقيا كان للخلافات التي حدثت في الحجاز بعد موت الرسول والشقاق بين علي ومعاوية أثره في هجرة الكثيرين من البلاد العربية إلى الضفة الغربية من البحر الأحمر والمحيط الهندي وظهور جماعات مثل البيوريتان في إنجلترا. واستطاعت هذه الجماعات وغيرها أن تتصاهر وتندمج وتتزعم سلطنات وإمارات على طول شرق أفريقيا من القرن الأفريقي من موزمبيق الحالية.
هذه خطوط عامة للموضوع يتدرج تحتها بالتفصيل مختلف المؤثرات. وأنا في انتظار رأيك بخصوص الموضوع الذي اقترحته أنت في خطاب سابق، فأنا لم أسجِّل الرسالةَ بعد.
لا تتصور مدى فرحتي وفخري بنشاطك الثقافي … أريد أن أتتبع باستمرار هذا النشاط … إن هذه الكنوز لا بد أن ترى النور يومًا، لا بد يا عزيزي … لا بد.
الجميع يسألون عنك ويدعون لك … أما أنا فكل أشواقي لك وتمنياتي لكم ولنا جميعًا بأعوام قادمة أفضل.
خطابي الخامس عشر
زوجتي الحبيبة:
أشواقي وقبلاتي الحارة أرسلها لكِ من هنا راجيًا أن تكوني أنتِ وإخوتي في خير صحة وحال. لقد أرسلتُ لكِ قبل رأس السنة الميلادية خطابًا أهنئك فيه بعيد ميلادك. أرجو أن يكون قد وصلك، وها أنا ذا أرسل هذا الخطاب متمسكًا بوعدي بأن أرسل إليكِ وإلى إخوتي خطابًا كلما أمكنني ذلك، وأرجو أن تثقي دائمًا أنني لا أدع فرصةً تمر دون أن أكتب، إذ إن الكتابة إليكِ عزاء كبير لي بعد هذا الفراق الطويل.
لقد وصلني خطابك الأخير، وسرني جدًّا وخصوصًا أنباء برنامج «شخصيات عالمية» الذي تقدمينه في التليفزيون. وكم كنت أتمنى أن يكون لدينا هنا تليفزيون لأسمع وأرى بنفسي وأقول لكِ رأيي. إننا حتى اليوم لا نملك راديو في سجن الواحات، على الرغم من أن السلطات المختصة قد سمحت لنا رسميًّا بالراديو. ولكن إدارة السجن ما زالت أمامها الإجراءات الروتينية في شراء الراديو من مناقصات … إلخ. وحتى اليوم لم تنتهِ هذه الإجراءات المُعقَّدة، ونرجو أن تنتهي قريبًا حتى نتمتع بسماع الأحاديث والأغاني، ونرتبط أكثر بما يجري في بلادنا من أحداث ثقافية وسياسية.
لقد بدأت السنة الخامسة في هذا الاعتقال الغريب، ولست أدري إن كنا سنبدأ أيضًا السنة السادسة هنا! المهم أن تكوني شجاعة كما عودتِني دائمًا، وأن تكوني عند حُسن ظني يا حبوبة في كل شيء. وأنا واثق أن الشخصية القوية التي جعلتك تصمدين طول هذه السنوات الأربع الماضية ستجعلك تصمدين دائمًا. أما عن أمنياتك الثلاث الخاصة بي (الاحتفاظ بابتسامتي، وبصحتي ونشاطي الفكري)، فأرجو أن تثقي أنني سأحافظ عليها بكل طاقتي، وأعتقد أنني سأكون عند حُسن ظنك وظن كل الناس بي دائمًا. إننا نحاول هنا أن نجعل من أيامنا المجدبة شيئًا مفيدًا بالدراسة والبحث والقراءة. غير أن هناك جانبًا ثقافيًّا هامًّا لم أحدثك عنه من قبل، وأعتقد أنه يهمك. لقد صممنا على إخراج مسرحيات هنا، وبذلنا كل جهد لكي تكون في المستوى اللائق. ولقد نجحنا إلى حدٍّ كبير … لقد أقمنا مسرحًا مؤقتًا أشبه بمسرح الجيب، وقدَّمنا عليه عدة مسرحيات، منها «حلاق بغداد» لألفريد فرج (وقد ألَّفها وهو هنا)، ومنها (ولا تندهشي!) مسرحية «ماكبث» لشكسبير، ولقد نجحت إلى حدٍّ كبير. ولقد كان طريفًا أن تكون هذه المسرحية على الخشبة هنا في نفس الوقت الذي تُمثَّل فيه على المسرح القومي بالقاهرة. لقد استغرق إعداد المسرحية هنا شهرَين من البروفات المتواصلة، وتحايلنا بكل الطرق للتغلب على صعوبات الملابس والديكور والشخصيات النسائية … إلخ. وفي النهاية أذهل نجاحنا إدارة السجن، والحقيقة أننا فخورون تمامًا بهذا العمل.
جانب آخر من جوانب حياتنا هنا قد يهمك، وهو جانب الرياضة. في لعبة كرة السلة لدينا فريقان (الأصفر والأخضر) يلعبان مرة أسبوعيًّا مباراة تثير كل المعتقل. والناس هنا يتحمسون لكل فريق، كما يتحمس أهل القاهرة للأهلي والزمالك. ولذلك فكل يوم جمعة هنا هو يوم مثير لأنه يوم المباريات الرياضية.
نسيت أيضًا أن أذكر لكِ أننا هنا نبني مسرحًا (من الحجارة والطوب) في فناء السجن، وقد تقدمنا في البناء مرحلة طويلة، ووضع تصميم المسرح وأشرف على التنفيذ الصديق المهندس فوزي حبشي. وهذا العمل يجمع حماس المعتقلين واندفاعهم. وقد ارتفع البناء أمام أعين الجميع ودهشتهم. هذا طبعًا غير عمل المعتقلين في المزرعة المجاورة للسجن، والتي تُزرع فيها الكوسة والبطاطا والفول والبسلة والطماطم … إلخ. لذلك فنحن نقوم بالطهي في غرفنا، وهذا سر طلبي بعض التوابل منكم لترسلوها في الطرود.
يكفي هذا عن حياتنا، أما عن صحتي فهي طيبة ولا أشكو من أي شيء غير البرد، وعندما يصلني البلوفر الجديد سأشعر بالليل بالدفء. النهار هنا دافئ تمامًا والشمس أحيانًا شديدة بالنهار، ولكن المصيبة هو الليل وقسوة البرد فيه. إن لدينا هنا حالتَي إصابة بالسل بين المعتقلين، هذا غير النزلات الشعبية. والحقيقة أنني لا أُخفي عليكِ أن حالات العديدين الصحية غير مُرضية. هنا حالات مثل الرسام داود الذي أصيب أخيرًا بمرض القلب، وحالات الروماتزم والكبد … إلخ. ثم هناك حالة فتحي خليل عبد الفتاح، وهي الحالة التي أريد أن أحدثك عنها. لعلكِ قرأت في الصحف عن الحادث الفاجع في سجن القاهرة، وأعني محاولة انتحاره! ولسنا نعرف الظروف التي أدَّت إلى هذه الفاجعة المحزنة، وإن كنت أرجِّح أنه فقد إحدى عينَيه إثر عملية فاشلة؛ إذ إنه تركنا وسافر إلى القاهرة منذ شهور لإجراء عملية جراحية في عينه التي كان على وشك فقدها بسبب إهمال العلاج لها هذه السنوات الأربع، وما مرَّ بنا من أحداث! ويظن أيضًا أن المباحث أو أهله يمارسون عليه ضغطًا ويساومونه في عقيدته. ومثل هذا الحادث لا يمكن أن يمر هكذا. ومن الواجب أن تعلم به نقابة الصحفيين، وكل المحررين في الصحف، وأن تفضح هذه الجريمة البشعة التي أدت إلى هذه النهاية الفاجعة. لقد أُسعف فتحي كما يقال في الصحف، غير أننا قلقون عليه جدًّا، ولا ندري مصيره، ويهمنا أن نعرف.
ختامًا، لك قبلاتي الحارة يا حبوبة، وأشواقي إلى جميع إخوتي راجيًا للجميع الصحة والسعادة.
خطابها السابع
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة إليك، وبعد:
وصلني خطابك، وشكرًا لتنفيذك لوعدك، وأنا واثقة طبعًا أنك تحرص على الكتابة في كل فرصة، فلا شك أنك تعلم أن رغبتنا في الاطمئنان عليك لا تقل عن رغبتك في الاطمئنان على أخبارنا.
سُررت جدًّا جدًّا بالنشاط المسرحي والرياضي عندكم. كنت أتمنى أن أعرف دورك في هذا النوع من النشاط المسرحي … إنني لا أتصورك في دور مكبث أو بنكو أو دنكان مثلًا … طبعًا ولا ليدي مكبث … أليس كذلك؟ الواقع أنه دور يصلح جدًّا لرجل.
مسرح الجيب يعرض مسرحية بيكيت «لعبة النهاية» لا بد أنك سمعت عنها، فلا حديث إلا عنها، ولا تعليق مسرحي إلا حولها. كنت أرجو أن أتمكن من مشاهدتها قبل أن تنتهي. إن فلسفة بيكيت بعيدة عنا تمامًا، ولكن لا شك أن الوقوف على هذه الجهود شيء لا بد منه.
تُعرَض في التليفزيون الآن مسرحية «القضية» للطفي الخولي. للأسف الشديد بدأها بخطبة عن الإصلاح وما إلى ذلك … كنت أرجو أن ينقل لنا آراءه دون خُطب … المسألة تحتاج إلى مزيد من الذكاء. إن فيلم «الحي الغربي» الذي كتبت لك عنه نَقَل لنا كل آراء الكاتب دون خُطَب أو مواعظ. إن ذلك ليس حُكمًا بالطبع على مسرحية لطفي، فأنا لم أشاهد منها إلا جزءًا صغيرًا، ولكن من الغريب أن يصدم الجمهور في الدقائق الأولى بالخطب!
أما عن أخباري … فقد أذيع برنامجان لي في التليفزيون ستذاع الحلقة الثالثة غدًا عن مصطفى كمال أتاتورك … أرجو أن أستمر في هذا البرنامج دون معوقات.
إنني لم أنسَ عيد ميلاد مُنى الذي اقترب. لقد اشتريت لها بالفعل منذ أربعة أيام قماش فستان، ورجوت تحية أن يُرسل لها قبل عيد ميلادها حتى يمكن تفصيله على العيد. كم أتمنى أن تستطيع رؤيتها بفستانها الجديد، تقبلك وتضمها إليك وتطلب منك العيدية، فتعطيها كل ما في جيبك من قطعٍ فضية جديدة … لا بد أن يأتي هذا اليوم. لا بد أن يأتي هذا اليوم الذي تُملأ فيه عيناك بالدموع، دموع الفرحة وأنت تضم منى في ذراع ووفاء في ذراع أخرى … تضمهما حتى تكاد تعتصرهما من فرط سعادتك بهما. لا شك أنك في هذه اللحظة تشعر وكأنك تضم الحياة كلها … كل ما هو جميل في الحياة: الحب والابتسامة والحنان والأغنية والفرحة. لن يكون ذلك حُلمًا أبدًا … قد تعيش مع أحلامك هذه اللحظات، ولكنك سوف تعيشها في المستقبل فعلًا على أرض بلا أسوار، وتحت سماء بلا حدود. سوف تجري معهما وتقهقه معهما، وسوف ينبض قلباهما الصغيران في صدرك.
وأخيرًا أملي أن تتذكر دائمًا أمنياتي الثلاث … إن تحقيق هذه الأمنيات هو أهم شيء بالنسبة لي … ولا شيء يهم بعد ذلك … أتفهم؟ لا شيء يهم بعد ذلك.
تحياتي لكم جميعًا. ولك كل أشواقي وتمنياتي.
خطابي السادس عشر
زوجتي الحبيبة:
أقبلك قبلات حارة وأبثك أشواقي الزائدة، وأرجو أن تكوني بخير وفي صحة جيدة.
أرسلت لكِ خطابًا بتاريخ ٦٣/١/١٨، وحدثتك فيه عن وصول الطرد وبه البلوفر والفوطة، وكيف أن علبة الزيت قد انكسرت، وإن كان من حُسن الحظ أنها لم تُصِب الفوطة والبلوفر!
بخصوص مسرحية «مكبث»، لم يكن لي دور في التمثيل طبعًا. ولا أظن أني كنت أصلح لأي دور. طبعًا ولا دور ليدي ماكبث يا حبوبة! (وكفاية تريقة عليَّ) ولم يخرج دوري في هذه المسرحية عن حضور البروفات وإبداء بعض الملاحظات على العمل. وقد عرضت كلامك عن مكبث على الصديق الذي مثل دور ليدي مكبث، فضحك كثيرًا، وإن كنا لا نوافقك على أن دور ليدي مكبث لا يصلح إلا لرجل. فالحقيقة أن بعض النساء أشد شرًّا من بعض الرجال!
لقد بدأ السماح للمعتقلين بالزيارات. وتمت هذه الزيارات في سجن أسيوط تسهيلًا للأهالي، ولا أدري إن كان في استطاعة أخي محمد الحصول على إذن بزيارتي. نحن نتابع هنا باهتمام كبير مقالات محمد الجديدة عن المراسلات بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي، ونرجو أن تكون هذه المقالات فرصة لتقييم جاد لحزب الوفد لا يهدر فيه تاريخ هذا الحزب في النضال الوطني والديمقراطي، ولا تُغطى فيه جوانبه السلبية في نفس الوقت، وأعتقد أن محمد أصلح واحد لإنجاز هذا العمل الجليل.
إنني في حاجة إلى نسخة من كل بحث نشرته في العلوم الرياضية في المجلات العلمية البريطانية والأمريكية، ونسخة من بحث ليندلي، وهو موجود ضمن أوراقي بالمكتبة، وأنا أحاول القيام ببعض دراسات محدودة في الرياضة، وكذلك نحن في حاجة إلى كتاب «موسيقى الشعر» للدكتور إبراهيم أخي، وكتب محمد الجديدة في التاريخ.
ماذا فعلتِ بالصورة التي أرسلتُها لك مع نوال؟ لا بد أنها لم تعجبك ولذا أهملتِ الحديث عنها. أمنياتك الثلاث على عيني ورأسي، ولن أنساها أبدًا. ولي أنا أمنية عندك وهي أن ترسلي لي صورة كاملة لكِ، أي بطول جسمك، لقد اشتقت إلى هذه الصورة وأرجو إرسالها.
قبلاتي وأشواقي.
خطابي السابع عشر
زوجتي الحبيبة:
أشواقي وقُبلاتي الحارة أرسلها لكِ من هنا راجيًا أن تكوني في خير حال وأحسن صحة، وبعد:
وصلتني كل خطاباتك وخطابات إخوتي، وإن كان قد أزعجني ما ذكرتِه عن صحة محمد أخي، وأرجو أن تفيديني عمَّا يشكو بالضبط؟ لقد كنتُ أتابع مقالاته في الصحف المصرية وأحاديثه، وكنت أشعر بسرور شديد لأنه يعمل في نشاط، ولكن جاء كلامك الأخير عن صحته فأزعجني.
قرأت باهتمام خطابك عن مسرحية بيكيت «في انتظار جودو»، والحقيقة أنني تابعت تلخيصًا لها من د. لويس عوض في ملحق الأهرام. ولا أخفيك عدم إعجابي بهذا اللون من المسرحيات. نحن هنا نتابع باهتمام كل نشاط ثقافي في الصحف والمجلات. وقد يدهشك أن تعلمي أننا قد أقمنا احتفالًا كبيرًا بيوم المسرح العالمي، وقدمنا فيه مشاهد من أربع مسرحيات لكبار الكتَّاب المعروفين: «موت بائع جوال» لآرثر ميللر، «قيصر وكليوباترة» لبرنارد شو، «البرجوازي الصغير» لجوركي، «بيت الدمية» لأبسن. وقد بذل الزملاء جهدًا كبيرًا لإنجاح الحفل، وإن لم يكن التمثيل ممتازًا في مسرحيتين، أما من ناحية نشاطي الخاص فقد مرَّ الشهر الأخير وأنا في نشاط دائم كخلية النحل … تقدمت مرحلة هامة في كتابة الفصل الثاني من «العلم والحضارة». ألقيت محاضرة عامة عن حزب البعث، وقد حظيت باهتمام ومناقشات. وبدأت إلقاء ثلاث محاضرات عامة عن «الإحصاء في خدمة العلم والمجتمع»، وقد ألقيت منها محاضرتين، والثالثة موعدها الأسبوع القادم. وقد أدهشني الإقبال على هذا النوع من المحاضرات مع أني توقعت إقبالًا محدودًا لجفاف الموضوع وصعوبته، كما أننا بصدد إصدار مجلة أدبية شهرية مكتوبة بالخط الجميل ومزينة بالرسوم. وقد كتبت فيها مقالًا أدبيًّا عن هيمنجواي مرة أخرى!
والمقال عبارة عن دراسة لإنتاجه في الفترة ١٩٣٥-١٩٤٠م، إثر عودته من الحرب الإسبانية وما حدث له من تغير في الموقف الفكري والفني، والمقال بعنوان «وداعًا أيها السلام الخاص»، إشارة إلى روايته «وداعًا أيها السلاح». قبل الحرب الأهلية الإسبانية كان هيمنجواي أحد الساخطين على حضارة الغرب والمجتمع الأمريكي، ولكنه كان ضالًّا وتائهًا، وروايته «وداعًا أيها السلاح» هي أحد أعماله الأدبية الممتازة التي كُتبت بأسلوب جميل، وإن كانت تعبيرًا عن محاولة البحث عن حل خاص. لقد هرب هنري من الحرب وأخذ حبيبته معه إلى سويسرا بعيدًا عن الوحشية وقسوة العالم. وهناك قال لزوجته: «أنا وأنت صنعنا سلامنا الخاص»، ولكنه كان واهمًا في ذلك، فالقدر لم يرحمه، وكاترين ماتت بعد أن وضعَت مولودها الأول … هكذا كان موقف هيمنجواي حتى الحرب الإسبانية، ولكن صدمة الحرب الإسبانية ونضال الجمهوريين البطولي قد أقنعه بأن هناك رسالة يجب أن نشارك فيها جميعًا. وعاد إلى أمريكا مودعًا سلامه الخاص، وكتب أعظم أعماله «لمن تدق الأجراس»، و«الذين يملكون والذين لا يملكون»، وأخيرًا مسرحية «الطابور الخامس». كنت أود لو كان عندي من الأوراق ما يسمح لي بأن أكتب لكِ بتفصيلٍ عن كل هذا، فالظروف لم تسمح لي في الخارج أن أحدثك طويلًا عن اهتماماتي الأدبية، ومن يدري … لعل الأيام تسمح بهذا. أما عن مشروع كتابي «العلم والحضارة» فأنا ماضٍ فيه بجِدٍّ على الرغم من عدم كفاية المراجع، وقد اشتغلت اليوم فيه نحو خمس ساعات، وسأعود بعد انتهاء هذا الخطاب.
المهم أن أمنياتك الثلاث دائمًا في ذهني، وأنا أقرأ وأترجم وأحس بأنك بجانبي. لا تقلقي أبدًا يا حبوبة على أمانيك، فأنتِ دائمًا معي حين آكل وألعب وأضحك مع الناس وأجد وأهزل. وحين أذهب لأنام تكون صورتك هي آخر ما أراه، ويكون حديثي الصامت لكِ هو آخر ما أقوله، وليس عندي غير أمنية واحدة … هي أن يظل حبك لي الذي عرفته كما كان دائمًا، وكل شيء بعد ذلك يهون … لا شيء يهم بعد ذلك يا حبوبة. لا شيء أبدًا.
لقد انتقلت إلى عنبر «٢» بمحض اختياري؛ فالغرفةُ الجديدة بَحريَّة وعدد الناس فيها محدد (ثمانية فقط)، وفوق ذلك فيها صديقي فايق. ولستُ أخفيك أنني مشفق على صحتي من قدوم الصيف وشدة الحرارة ومتاعب الكبد. لقد مرَّ الشتاء كله دون نزلة برد، وأرجو أن يمر الصيف على خير، فلا أتعرض لمتاعب الصيف الماضي. لقد فرحت بصورتك التي أرسلتِها، وإن كانت الصورة المأخوذة في «قاصد خير» قد أزعجتني. في هذه الصورة تبدين وكأنك ساهمة حزينة كبيرة السن تحملين على أكتافك هموم الدنيا، وأرجو أن تكون الإضاءة هي المسئولة عن هذا الانطباع، أما الصورة الثانية فقد كانت لذيذة تمامًا.
شكرًا لفتحية على خطاباتها ومواقفها النبيلة هي وكل إخوتي. كم أنا مدين لها ولسعاد ومحمد أخي بالكثير، وكم أشعر بحبهم على البُعد … وكم يسرني أن أعرف أنكِ دائمًا على علاقة طيبة بهم. ما هي أخبار اعتماد؟ هل ما تزال تذكرني أم أنها نسيتني في غمرة مشاغلها، وهل عاد زوجها من البعثة؟ لماذا لا تحدثينني عن كل ذلك، عن آخر فستان لفت انتباهك، عن أكلةٍ لطيفة أعجبَتك، عن مكان جميل قمت بزيارته، عن آخر فيلم، عن أحاسيسك وانفعالاتك نحوي بعد هذه الغيبة الطويلة … هل ما زلتُ صورةً واضحة في عقلك أم أنني أتحول مع طول البُعد إلى شبحٍ يزداد غموض ملامحه؟ كل هذا وأكثر يهمني … إن خطاباتك ما زالت أقرب إلى الخطابات الرسمية مع بعض التفاصيل. وعذرًا لهذه الأسئلة وهذا الإلحاح، فأنتِ تعلمين أنه لا يوجد في حياتي الشخصية غير حبك، وأرجو ألَّا تنسيكِ مشاغلُ الحياة وهمومها هذه الحقيقة، ولو دقيقة واحدة!
نحن الاثنان لا نعيش في هذا الموقف البطولي الذي يثير إعجاب من حولكِ إلا بوحدة فكرنا من ناحية، وبهذا الحب العظيم الذي يربط بيننا من ناحية أخرى وعندما أُلقي نظرةً سريعة على أحداث السنوات الأربع الماضية أحس أن حبك قد حماني كثيرًا ورفع من رأسي كثيرًا؛ ولذا فأنا مدين لكِ ولهذا الحب بالكثير. كثيرًا ما أجلس في مزرعة السجن صباحًا، وأرقب الطريق العام الذي تمضي فيه السيارات من بعيد وأحلم بك، بيوم تأتين فيه يا حبوبة وأراكِ وأضمك وأبكي من الفرحة وأنتِ معي، وأنظر إلى كل الدنيا مزهوًّا فرحًا فخورًا بك. أفكِّر في كل هذا وأحس برعشة كرعشة شجرة اللبلاب وقد هزَّتها نسائم الصيف في الغروب. لا تقولي إني شاعر، فأنا أعرف ذلك، ألست أنا القائل في آخر قصيدة لي:
نعم يحلم بالعودة الكريمة الشريفة التي ترفع الرأس … رأسك الجميل يا حبيبتي.
ختامًا يا حبوبة، وإلى لقاء في خطاب قادم. أرجو أن تتاح لي فرصة في أن أرسل لك كل قصائدي في مجلد واحد. أرجو أن تعجبك.
ملحوظة:
-
(١)
سوف تمر عليكم والدة «حسنين» وأرجو أن تسرعي بإرسال بحوثي في الرياضيات معها.
-
(٢)
حضر اليوم مدير مصلحة السجون رأفت النحاس، وأبلغت أنه مستعد لقَبول طرود من أهالي المعتقلين مرةً كل شهر بشرط أن تصله الطرود في الأيام الخمسة الأولى من الشهر. لقد كان جوه طيبًا جدًّا ومنحنا بعض التسهيلات الجديدة.
-
(٣)
هناك موضوع الزيارة … لقد آن الأوان أن تفكري جديًّا في زيارتي هنا في صحبة بعض أهالي المسجونين. والظروف هنا طيبة جدًّا وتسمح بمقابلتك حوالي ساعة. لقد فعل عديدون هذا ونجحت الزيارة نتيجة جو التساهل العام في الإدارة … أرجو التفكير في هذا الاقتراح.
خطابي الثامن عشر
زوجتي الحبيبة:
أشواقي وقبلاتي الحارة أبعث بها من هنا. لقد وصلني خطابك اليوم، وفجعتني الأنباء السيئة التي وردت فيه عن وفاة ابن عمتك، وأرجو أن تتقبلي عزائي الحار في هذا المصاب الفادح. لا أدري ماذا أقول لكِ في هذه المناسبة، فكل كلام يعجز عن أن يعبر عما في قلبي من ألم وإشفاق عليكِ يا حبوبة. إنني أعرف مقدار حبكِ لعمتك وتعلقك بها لأنها هي التي تولت رعايتك وتربيتك منذ الصغر، هذا الحب الذي جعلني أنا أيضًا أحبها وأكنُّ لها احترامًا شديدًا. إن هذه السيدة نموذج للوفاء والإخلاص وعظمة الإنسانة البسيطة في عالم مليء بالأشرار؛ ولذا فأنا أدرك تمامًا حالتك وأرجو ألا يحدث مكروه جديد. إن هذه هي أمنيتي وأملي أن أعيش حتى أخرج وأراها، وحتى لا تُصدمي أنتِ صدمةً بشعة جديدة في مثل هذه الظروف السيئة.
يا حبيبتي … لقد أبكاني اليوم أن أقرأ أنكِ كنت تبكين حتى تقرَّحت عيناكِ. وإن ما يحز في نفسي ويقتلني كمدًا أن أحس أني هنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا من أجلك. إن هذا الشعور قاتل وبشع … أن يحس الإنسان أن أحب الناس إليه في هذه الدنيا في أزمة من هذا النوع ولا يستطيع عمل شيء له. إن ظروفنا صعبة، ويبدو من خطابك أن ظروفك الشخصية أصعب مما كنتُ أتصور، وأنك كنتِ تخفين عليَّ الكثير كما كنت أشك دائمًا! ومع ذلك فيبدو أنه لا مفر من أن تتحملي بنفس الشجاعة التي عهدتها فيك أي مأساة أخرى قد تنتظرنا في الطريق. أنتِ قديسة يا حبيبتي، عشتِ خمس سنوات في رهبنة القديسات تتحملين الكثير من أجل مبدأ وفكرة وإنسان. وهذا الموقف موضع تقدير الجميع الذين يعرفونك شخصيًّا والذين لا يعرفونك. ولقد كنتُ فخورًا بكِ، وما زلتُ، أمام الجميع. فهل يكون كثيرًا — وأنتِ على ما أعرف — أن أرجوك ألا تفقدي هذه الابتسامة، وأن تتحملي هذه الكوارث العائلية بنفس الروح التي عهدناها فيك دائمًا؟ بجانبي الآن فايق ومحمود العالم وأصدقاء آخرون لم يتركوني اليوم وهم يحسون بالأزمة التي أعيشها، وهم يرسلون لكِ جميعًا عزاءهم ورجاءهم أن تكوني في نفس الصمود الذي عهدوه فيك دائمًا، وبقدر قدرتك على الصمود سأمتلئ أنا بروح العزيمة القوية القاهرة. لا تخذليني أبدًا يا حبوبة … أبدًا فأنتِ لحن حياتي، وإذا انهارت أعصابك فسوف يكون لهذا أسوأ الأثر على حالتي الصحية والمعنوية!
لقد بدأت أمس في إعادة كتابة مسوَّدة الجزء الثاني من كتاب «العلم والحضارة»، وقد كتبتُ سبع عشرة صفحة عن الوضع السياسي والاقتصادي العام في الحضارة اليونانية تمهيدًا للدخول في الجانب العلمي. وكان من المفروض أن أستمر في الكتابة اليوم، ولكن خطابك اليوم أربكني وجعلني غير قادر على التركيز لإنهاء القسم الثاني من هذا الجزء؛ ولذا سأحاول أن أستريح بضعة أيام أعود بعدها إلى الكتابة من جديد.
ختامًا، أرجو أن تبلغي السيدة الجليلة عمتك ومصطفى وصفية خالص عزائي، وأن تبلغي إخوتي خالص أشواقي وتمنياتي. أما أنتِ يا حبوبة فلكِ خالص حبي.
خطابها الثامن
عزيري سعد: تحياتي وأشواقي الحارة إليك وبعد:
وصلني خطابك وضايقني كثيرًا تأثرك من خطابي. والحق أن هذا سبب تأخري في الكتابة إليك، رغم إلحاحك في سرعة الرد. لم أستطع وقتها أن أكتب لك حتى لا أسبب لك مزيدًا من الضيق. كم حاولت أن أمسك بالقلم وكم اضطررت أن أضعه رغمًا عني! إنني أتمزق، أواسي من حولي وأنا في الحاجة إلى المواساة.
خطابك يا عزيزي كان مؤثرًا للغاية، قرأته مرات ومرات … كل كلمة فيه كان ينبغي أن تكون شحنةً جديدة تمنحني القوة والقدرة على الصمود. ولكن يبدو أني استُنفدت تمامًا بحيث لم يَعُد هناك شيء يصلح في العربة الخربة التي هي أنا.
لقد وجدت يا عزيزي بجانبك أصدقاء يواسونك ويخففون عنك رغم بعدك عن هذا الجو المثير. أما أنا فليس هناك أحد بجانبي … أنا وحدي كالعادة دائمًا، وحدي أتمزق، ومع ذلك ينبغي أن أخفف وأواسي الآخرين. إن القلق الذي عشت فيه طيلة السنوات الخمس الماضية قد انفجر كله في الفترة الأخيرة وازداد عنفًا وقسوة، وقلقي على عمتي بالإضافة إلى ذلك التاريخ الطويل أصبح يعصر كل كياني.
آسفة يا عزيزي لما أسببه لك من ضيق وحزن، وأعدك أنني لن أكتب لك عن هذه الظروف بعد ذلك.
وحياتك عندي ما زلت أتذكر موضوع الصور التي طلبتها، ولا بد أن أرسلها لك في القريب، وستكون صورًا ضاحكةً باسمةً، لا كما تريد فحسب، ولكن لأنني دائمًا أتصورك في روحك المرحة وضحكاتك العالية، هو عزاء كبير لي.
تحياتي لكم جميعًا، شكرًا لمحمود وفايق وتحياتي القلبية لهما، ولك أشواقي وتمنياتي.
خطابها التاسع
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي الحارة إليك وبعد:
كتبتُ لك خطابًا بتاريخ ٦/١٣ … كم أرجو ألا يصلك هذا الخطاب. إن ضميري يعذبني لأنني سمحتُ لنفسي أن أكتب لك مثل هذا الخطاب. لقد اعتذرتُ لك فيه وأكرر اعتذاري مرة أخرى!
قرأت هذا الأسبوع شعرًا لناظم حكمت، لم أكن قد قرأته من قبل، وقد نشر بمناسبة وفاته، إليك مقتطفات منه:
الحق أني قرأت كثيرًا لناظم حكمت، ولكن لم يهزني شعر له كما هزتني هذه الكلمات … إنها تحمل أرق وأنبل ما في الإنسان … هل حقًّا يمكن أن يحمل إنسان كل هذه الإنسانية، وأن يتسع قلبه لكل هذه المعاني الجميلة؟ يبدو أن عبقرية ناظم حكمت لا تتركز في شعره بقدر ما تتركز فيما يحمله من طاقات إنسانية متجددة كالبحار والمحيطات. إن أحاسيسنا قد تتبلد أحيانًا، قد يعلوها الصدأ، قد نضع حولها سياجًا حتى لا نرى إلا أنفسنا. ولكن قلبه هو يُخفق مع أبعد نجم في السماء!
أخبارنا يا عزيزي كلها على ما يرام. عمتي صحتها طيبة والحمد لله. ويبدو أن تجمع السيدات معًا في العزاء كان فرصةً طيبة للحديث عني، حتى بين القبور! وتستطيع طبعًا أن تتصور ماذا يَقُلن عنك وعني، ولكن عمتي كانت تتولى إسكاتهن بحزمٍ شديد. كانت تنسى آلامها لحظات وتتولى الدفاع عنك بحماس يهز كل كيانها، وأنك بطل من أبطال أحلامها! إنها لا تعترف أبدًا بشيء اسمه «تضحية» … لا … ليس هناك تضحية، وإنما هناك مسئولية والمسئولية يجب أن تتحملها بقوة وشجاعة. وهي كما تقول فخورة بي لذلك. ولهذا الموقف الدرامي جانب آخر … الرجال جميعًا بلا استثناء ينظرون إلى المسألة وكأنني نصف إله، حتى أصبحتُ مضرب أمثالهم … وربما هذا ما يغيظ بعض السيدات. ألا ترى أن هذا الجو يستحق ولو ابتسامة؟!
سأراك يومًا يا عزيزي، وسنبتسم معًا وسنضحك ونقهقه معًا؛ لأننا لا نحمل حقدًا لأحد، بل قلوبًا صافية تستطيع أن تفهم وتصفح وتحب، ولا تستطيع أن تكره أبدًا.
قبل أن أتركك، أريد أن أطمئن على أمنياتي الثلاث. لا تفكر فيَّ أبدًا دون أن تفكر في هذه الأمنيات، ولا تذكرني دون أن تتذكرها. إنها أغلى عندي من نفسي وحياتي.
تحياتي لكم جميعًا، ولك كل أشواقي وتمنياتي.
خطابي التاسع عشر
زوجتي الحبيبة:
ينبغي أن أعترف لكِ أنه منذ وصول خطابك الأول وأنا منقطع عن العمل في الجزء الثاني من الكتاب، على الرغم من أنني كنت قد أنجزت كتابة ثلثي هذا الجزء ولم يبقَ إلَّا الثلث هذا. لقد كتبت حوالي ثمانين صفحة ولم يبقَ غير دراسة مرحلة الإسكندرية في الحضارة اليونانية. ومع ذلك فمنذ وصول خطابك والكتاب ينام أمامي كالجثة الهامدة لا أستطيع لمسها! وقد حاولت أن أعود إلى كتابة الجزء الأخير فعجزت تمامًا؛ لأن هذا العمل في حاجة إلى تفكير وابتكار وحسم عدد من القضايا الفكرية. لكني لا أستطيع وأنا أشعر بحالتك السيئة، أن أنكر وأعمل في صفاء.
ولقد زاد من ضيقي في المدة الأخيرة خبر وفاة ناظم حكمت … لقد هزني هذا الخبر كما لم يهزني في الفترة الأخيرة. أنتِ تعلمين كم أحبه وكم تمنيت لقاءه! ولكنه حضر إلى مصر دون أن أراه ثم أغمض عينيه ومات! لقد أقمنا هنا احتفالًا كبيرًا لتأبينه، وعلقنا له صورةً زيتية كبيرة. وعلى الجدران وضعنا أبياتًا من شعره بالخط الكبير. وكان من نصيبي أن أُلقي كلمةً في تأبينه، وهي كلمة طويلة دعوت في ختامها إلى ترجمة كل أعماله إلى العربية، وقلت: «بدون هذا فالبكاء عليه سخف وليس محبة، يأس وليس إعزازًا … ونحن الذين نعاني في السجن ما عاناه هو علينا أن نترجم دموعنا إلى مواقف.»
لقد مات ناظم حكمت دون أن تتحقق نبوءة الشاعر اليوناني الذي أرسل إليه من منفاه يقول:
نسيت أن أحدثك عن عمل مسرحي أنجزه الزملاء منذ أسابيع. لقد استطاعوا بمجهودات جبارة أن يقدموا (تيكراسوف) لسارتر، وقد استغرق عرضها على المسرح أكثر من أربع ساعات، واستمر العرض لمدة أربعة أيام. ولقد نجحت المسرحية نجاحًا فائقًا نتيجةَ إخلاص الممثلين، وأعتقد بلا مبالغة أن المستوى هنا لا يقل عن مستوى الإخراج في المسرح القومي. لقد قهرت فرقتنا المسرحية السجن بهذا العمل الجليل.
أما الخبر السار الثاني فهو تركيب جهاز الراديو في السجن أخيرًا … والحقيقة أنه بعد الفرحة الأولى بدأت أشعر بالضجيج المثير للأعصاب الذي أحدثه وجود الراديو هنا. سبحان الله … الهدوء نعمة! لا أدري ماذا سأفعل عندما يُفرج عني، وكيف سأحتمل ضجيج الحياة والناس!
الساعة الآن الثالثة صباحًا، وأنا أجلس الآن لأكتب لكِ هذا الخطاب، وكل من في الحجرة نائمون، والليل هادئ هدوءًا غريبًا. أحس أني لن أنام قبل الصباح؛ ولذا فضلت أن أجلس معكِ يا حبوبة وأن أتحدث. أرجو أن تبلغي سعاد ألا ترسل أدويةً حتى أطلبها بنفسي، فأدوية الكبد جاهزة وعندي، وأدوية الكلى متوفرة هنا. لا تظني أنني رجل عجوز لا يصلح لشيء، فعلي الرغم من متاعبي الصحية فإن لي قلبًا شابًّا، وهذا عزائي كما أقول هنا للناس ضاحكًا!
آخر لحظة:
-
(١)
اضطررت إلى تأجيل إرسال هذا الخطاب لعدم وجود من يحمله معه، في خلال هذا اتفقت مع عبد القادر على أن تحضري مع أخيه. وسوف يحضر هنا الأسبوع الأول من يوليو وسيمر على إخوتي ليحضرك معه في الزيارة. فكري في الموضوع جديًّا.
-
(٢)
نشرت جريدة ليموند الفرنسية حديثًا طويلًا للرئيس عبد الناصر قال فيه إنه لن تأتي نهاية عام ١٩٦٣م حتى تكون كل معسكرات الاعتقال في مصر قد أُغلقت. وقال أيضًا إنه لن يعتقل بعد اليوم إنسانًا بسبب عقيدته السياسية، وإنه سيسمح للشيوعيين بالانضمام إلى كل التنظيمات الشعبية، ولكنه لن يسمح لهم بتأسيس حزب شيوعي، وقال أيضًا إنه سيتم انتخاب مجلس أمة جديد قبل هذا التاريخ، وإنه بعد أزمة العلاقات العربية السوفييتية سنة ١٩٥٩م فإنها أصبحت ودية جدًّا اليوم. وعلى الرغم من أن موعد زيارة خروشوف لم يتحدد، فإنه واثق من أن الزيارة ستتم.
-
(٣)
علمت أن هيئات عالمية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان قد أرسلت خطابًا إلى المسئولين في مصر بخصوصي، هي تسأل لماذا لم يُفرَج عني ما دامت المحكمة العسكرية قد حكمت ببراءتي. وقال الخطاب إن الشعب البريطاني يعرفني كوطني مصري دافع عن مصر وتأميم القناة وهاجم حكومة إيدن بشدة أيام العدوان، وإنه يؤسف الرأي العام البريطاني أن يعرف أن هذا هو مصير الذين يدافعون عن بلادهم.
والخبران «٢»، «٣» أكيدان، وهما ساران كما ترين.
قبلاتي وأشواقي.