الزيارة
خطابي العشرون
زوجتي الحبيبة:
اليوم الأربعاء. وأنا أكتب إليكِ آخر الليل بحثًا عن الهدوء والجو الملائم. وأعترف أني ما زلتُ أعيش في جو الحلم الغريب اللذيذ الذي مرَّ بي السبت الماضي. هل صحيح يا حبوبة أنني رأيتك، ولمسَت يدي يدَك وقبَّلتُك مُرحبًا ومودِّعًا؟ أكاد أشك، ولا زالت أحلى ساعات يومي هي التي أخلو فيها إلى نفسي بعيدًا عن الناس وضجتهم، أستعرض ماذا حدث في هذه الساعات الأربع والنصف التي جمعتنا معًا … ماذا قلتُ لكِ، وماذا كنتِ تقولين لي دقيقة بدقيقة وثانية بثانية. وأنا أكاد أجن … الناس يسألونني هنا ماذا قالت لك وماذا قلتَ لها؟ وهل سألتها عن كذا وكذا؟ وأنا لا أجيب … من قسوة انفعالي لا أجيب، ولأني عندما دخلت إليك أحسستُ أني نصف مذهول وخرجت وأنا نصف مخمور. لقد كتبت نقاطًا كثيرة قبل حضورك استعدادًا لهذا اللقاء. أشياء كثيرة كدت أريد أن أقولها لكِ وأن أسألك عليها ولكنها ضاعت من ذاكرتي عند هذه اللحظة الزمنية الفاصلة التي دخلت فيها غرفة الإدارة لكي أراكِ وجهًا لوجه. وأحسست بلا مبالغة أن الدنيا قد انقسمَت قسمَين: غرفة صغيرة هي العالم كله، وبقية الكون الذي لا بد أن يكون ضيقًا على رحابته! وخرجت من الزيارة والناس من حولي يثرثرون ويتكلمون ويضحكون، وأنا شبه مذهول أحس بخدَرٍ لذيذٍ يسري في أوصالي لا أدري ماذا يقولون … ولا يعنيني في الحقيقة أن أعرف ماذا يقولون. ثم جاء المساء وتحدث معي الكثيرون في الغرفة، وأنا أرد على السائلين ردودًا مقتضبة، أتشوق إلى لحظة إطفاء النور وذهاب الناس إلى مراقدهم. وعندئذٍ يا حبوبة بدأت سهرتي معكِ وعشتُ معكِ وحدنا حتى الصباح لا أنام ولا أريد أن أنام حتى أذَّن مؤذن الصلاة في سجن الواحات، فغلبني النعاس ونمتُ والشمس تُطل برأسها من نوافذ الغرفة. وقمت من نومي بعد ساعتَين وأنا أعرف أني وعدتك بالعودة إلى إكمال كتاب «العلم والحضارة» يوم الأحد. وبدأت أعمل من جديد؛ احترامًا لهذا الوعد وإحساسًا بأني سأكون قريبًا منكِ عندما أكتب، ولم أترك العمل فيه حتى انتهيت من «مسوَّدة» الجزء الثاني، وصممت على ألَّا أكتب لكِ حتى أكون قد انتهيتُ؛ لأني أعلم كم يرضيكِ هذا النبأ. وقد بدأت في إعادة كتابة النسخة التي سأرسلها لكِ قريبًا فيما أرجو.
لقد كان للزيارة أثر كبير عليَّ وأرجو أن تكون كذلك بالنسبة لكِ، وأنا ما زلتُ في انتظار رسالة منك بخصوص هذا الموضوع. أمَّا فيما يتعلق بي فالحقيقة أن هذه الزيارة قد جدَّدت شبابي وحيويتي ومنحتني ثقةً جديدة في المستقبل، وإحساسًا عميقًا بأن الدنيا ما زالت بخير كما كنت أرجو دائمًا. ولقد كنت دائمًا عظيم الثقة فيك وفي تصرفاتك، وفي حبك وفي طباعك الشخصية.
وكانت هذه الزيارة بعد غيبة عامَين بمثابة تأكيد لكل ما عرفته عنك، كإنسانة كبيرة ذات قلب كبير وشجاعة وإحساس عميق بالمسئولية، وتقدير عميق لقضية هذا الشعب، وللمبادئ التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا نحن الاثنين. إنني أدرك أكثر من أي وقت مضى طبيعة الظروف الشاقة التي كان عليك أن تواجهيها طيلة هذه السنوات، وعندما أفكِّر كيف واجهتِ كل هذا وأنت شبه وحيدة تكتمين عن أقرب الناس إليك كثيرًا من آلامك وظروفك المالية القاسية، أحس بإكبارٍ لا حدَّ له نحوَكِ يا حبوبة. إنني لا أملك إلا أن أحني رأسي لكل هذه البطولة … ومع ذلك أعتقد أنه قد آن الأوان لكي أتدخل محاولًا المساهمة في حل بعض مشاكلك، ومن يدري؟ لعل الأيام تسمح بتنفيذ وعود الإفراج خلال الأشهر الخمسة المقبلة، وأكون بجانبك نحلُّ معًا المشاكل كلها. أرجو من كل قلبي أن يتحقق ذلك، وإن كنت غيرَ واثق مما سيحدث تمامًا … وإلى أن يتحقق هذا الأمل ينبغي أن أفاتحك برأيي في مسألتين:
- أولًا: هناك مسألة صحتك، وينبغي أن أعترف لكِ أني فزعتُ من حالتك الصحية، ولقد دهش الكثيرون عند رؤيتك. وإنهم تجنبوا قول ذلك لكِ خوفًا من إفزاعك. ولقد ساءني أنكِ أخفيتِ عني ظروف مرضك وتردُّدك على الأطباء. وأنا أرجو وألح وأناشدك قضاء بضعة أسابيع في أي مصيف من المصايف. إن هذا سيساعدك كثيرًا، كما أقترح عليكِ تجنُّب بقائك في البيت وحدك بأي ثمن. لا أخفي عليكِ قلقي الشديد من حالتك الصحية، ولا أريد أن أتصور أن هذه الحالة سوف تستمر أبدًا.
- ثانيًا: هناك مسألة العمل. وما زلت ألح على أخي محمد أن يتدخل في هذا الموضوع فورًا ويبحث إمكانية تعيينك في أية صحيفة أو مجلة بشكل دائم. وأنا أعرف أنه ليس بالرجل ذي النفوذ الكبير، وإذا كنت أثقل عليه فإنما أفعل هذا واثقًا من حبه وتقديره لي، وأنه لن يخذلني في مسألة كهذه. إن بقاء وضعك في هذه الحالة بلا عمل ثابت هو جرح عميق ينزف في قلبي ولا أعتقد أن هذا يرضيه! إنني أكتب إلى محمد أخي وابن أمي، الإنسان الذي أحببته كما لم أحب رجلًا قط. وباسم هذا الحب الذي جمع بين رأسَينا في حضن أمي ونحن صغار، أكتب إليه وأرجوه مقابلة كل أصدقائي (أو من كانوا أصدقائي يومًا ما) في الصحافة وأن يعمل على تعيينك، وأعده أنني لن أفاتحه في أي مسألة أخرى إذا أنجز هذا الرجاء.
لقد حملتك قبلاتي إلى إخوتي فتحية وسعاد وفاطمة وعائشة ومحمد. وأرجو أن تكوني قد نقلتِ إليهم خالص حبي وتمنياتي. وكذلك تمنياتي وأشواقي لعمتك وخالتك عنايات وزوجها ومصطفى وصفية والطفل الجميل خالد، وإلى نبيل وكل من يسأل عني.
ختامًا، أرجو من سعاد أن تفيدني بأخبار منى ووفاء ونتيجة الامتحانات، وقبلاتي الحارة لهما ولكِ مني أخلص الحب والأشواق.
خطابها العاشر
عزيزي سعد:
أشواقي وقبلاتي الحارة لك، وبعد:
كذلك تحدثت إلى أخيك محمد بالتليفون، وإلى أختك فتحية وفاطمة، وطمأنتهم جميعًا عليك. أبلغتني فتحية أنها اشترت لي هدية من إيطاليا، وتنتظر زيارتي لها لاستلام الهدية.
عمتي تسأل عنك وتبعث لك بتحياتها، أيضًا سميحة وصفية والجميع. تصور صفية طلبت مني الآتي: «صفي لنا شعورك أثناء الزيارة»، وتصر أمام الجميع على أن أرتجل موضوع إنشاء يصلح له هذا العنوان!
أعتقد يا عزيزي أنها كانت أكثر من فرحة باللقاء بعد غياب سنتين … وهي فرحة تحمل أيضًا أملًا كبيرًا في لقاء دائم وقريب.
تحياتي لكم جميعًا … ولك قبلاتي وضماتي.
خطابها الحادي عشر
عزيزي سعد:
تحياتي وأشواقي إليك، وبعد:
أكتب إليك وأنا على شاطئ ميامي … لقد أمضيتُ فترةً طويلة في اللعب مع خالد، تارةً في الرمل وتارةً في البحر … إن اللعب مع هذا الطفل الوديع متعة لا تعادلها متعة أخرى عندي، عندما أكون معه أنسى الزمن وأنسى كل ما حولي … براءة ابتسامته وعينَيه فيهما سحر الحياة! لن أستطرد أكثر من ذلك لأني قد أستغرق الخطاب كله في الحديث عن خالد.
أول أمس كنا في المعمورة مع أم خالد وإخوتها … إنني أمضي معهم أيامًا ممتعة، ولكن للأسف لم يبقَ لي غير يومين وأعود إلى حر القاهرة ورطوبتها والعمل المتقطع والتعب.
أكتب لك كل هذا، ولا أدري إن كان سيصلك هذا الخطاب. فقد علمتُ من مصادر مختلفة أنه قد تم ترحيلك مع كثيرين، ولا أدري مدى صحة هذه الأخبار وأرجو عند عودتي إلى القاهرة أن أجد خطابًا منك يوضح أين أنت الآن. سوف أعود إلى القاهرة يوم ۸/۱۸ حيث تنتهي إجازتي، وبذلك أكون قد قضيت أسبوعَين كاملَين بالإسكندرية.
تحياتي لكم جميعًا … ولك أشواقي.
خطابي الحادي والعشرون
زوجتي الحبيبة:
ها أنا ذا أرسل لك خطابي من الواحات راجيًا أن تكون صحتك قد تحسنت وأعصابك قد استراحت بعد إجازة أسبوعين في الإسكندرية. لقد وصلني خطابك من الإسكندرية وأعترف أنني كنت غاضبًا من قصره وعدم احترامك لموعدنا الأسبوعي في الكتابة. وأنا أرحِّب دائمًا أن تجددي حياتك ونشاطك بالمصيف، ولكني لا أفهم لماذا يكون هذا سببًا في الخطابات الموجزة. وأعترف أيضًا أنني كتبتُ لك خطابًا موجزًا لم يزد عن أربعة أسطر قلتُ لك فيه إنني ما زلت في الواحات وإنه قد وصلني خطابك من الإسكندرية. وبعد أن وضعت الخطاب في الظرف وأغلقته لم يطاوعني قلبي أن يصلك خطاب من هذا النوع. ولذلك مزقت الخطاب وكتبت لكِ خطابي هذا. يبدو أن الإشاعات المسرفة في التفاؤل قد بدأت تغزوكم بالجملة، وأرجو ألا تكوني أنتِ ضحية هذه الإشاعات. لست أعني أنني غير متفائل، بل على العكس فإن أملي كبير جدًّا في الإفراج، وأعتقد أننا سنخرج قبل نهاية هذا العام ما لم يحدث شيء سياسي غير متوقع … ومع ذلك فأنا أكاد أوقن أني سأكون في الدفعة الأخيرة في الإفراج. وحقيقة أنكم فشلتم في الحصول على إذنٍ رسمي بزيارتي، في الوقت الذي نجح فيه عديدون في ذلك؛ دليل على نظرة المسئولين غير الودية نحوي. المهم أني لا أتوقع الإفراج قبل ديسمبر. ولذا أرجوكم أن تتصرفوا في مسائل الخطابات والحوالات كالعادة، وسأوافيكم أولًا بأول بأخباري على جناح السرعة.
لقد رحلت من هنا دفعة عددها ۷۰ في يوم ١٤ أغسطس، وهي تضم فايق فريد وحسين كمال الدين وحسن فؤاد رسام صباح الخير، وفتحي خليل المحرر بروزاليوسف ولطفي فطين … إلخ. وإذا علمت أن في معتقل الفيوم حوالي ٤٢ لم يُفرج عنهم بعد لكان معنى هذا أن أمام الداخلية ١١٢ تتولى الإفراج عنهم قبل أن ترحِّل أحدًا من الواحات. ولا شك أن ترحيل فايق خسارة كبيرة لي فهو صديق حميم، غير أن عزائي هو بقاء محمود العالم، وأتوقع أنه سوف يُفرَج عنا في دفعة واحدة.
أما عن أحوالي الصحية، فالحقيقة أنني لست في أحسن أحوالي الصحية. إن الحرارة قاتلة هذا الشهر على غير ما توقعنا وأنا أعاني من الحرارة عناء شديدًا والأسوأ من ذلك أن ما حدث لي في الصيف الماضي قد عاد من جديد. فقد بدأ نصف جسمي الأسفل يمتلئ بحبوب وبثور غريبة تتحول بعد أيام إلى دمامل صغيرة. ولقد بدأت هذه الظاهرة في النصف الأول من هذا الشهر، ثم أخذت في الازدياد. وأنا الآن أعود إلى علاج الصيف الماضي … حقن فيتامين «ب» مركب، وحقن فيتامين «ج» بنسلين، وخميرة بيرة. وبعض الأطباء يقولون إن الكبد هو السبب، وآخرون يقولون إنها حساسية من شدة الحرارة. وطبعًا هذه المضايقات ترهقني وتشلني عن العمل المنتج … ولذا لم أفعل شيئًا منذ أنهيت الجزء الثاني من كتابي غير قراءة بعض الروايات الأجنبية، وإعداد دراسة عن الشاعر الصيني «فنج شيه» بمناسبة ترجمتنا لملحمته الرائعة «رحلة إلى الشمال» التي نشرها سنة ١٩٢٨م. كذلك أقمنا ندوةً واسعة لمناقشة مسرحية «نيكراسوف» لسارتر، وقدمت بحثًا في هذه الندوة بعنوان «تأويل الشخصيات الرئيسية في مسرحية نيكراسوف»، وأحاول جمع كل ما كتبت عن الأدب والمسرح والفن في كتيب أرجو أن أرسله لكِ قريبًا.
هناك مسألة أود أن أحدثك عنها … لقد آن الأوان فيما أعتقد لأن تفكري في موضوع سكننا عند خروجي. وطبعًا أنا أترك كل شيء في نهاية الأمر لكِ. غير أني أوضح رغبتي في هذا الموضوع. أنتِ لا شك تعلمين أنني أميل إلى أن نسكن وحدنا وأملي أن تجدي شقة من غرفتين وصالة في حي يناسبك، كما أرجو أن تفكري في شراء غرفة نوم بسيطة (ولو مستعملة) وإذا اضطررت للاستدانة من أجل هذه الغرفة فسأتولى أنا تسديد هذا الدين عند خروجي.
لقد فرحت بخطاب منى تمامًا. كم أسعدني أن أقرأ كلماتها وكم اشتقت إلى رؤيتها هي ووفاء! قبلاتي وأشواقي.
خطابي الثاني والعشرون
زوجتي الحبيبة:
وصلني بالأمس خطابك الذي أرسلته في القاهرة بعد عودتك من الإسكندرية. ومنذ أيام قليلة وصلني خطاب جديد من محمد ومنى من رأس البر، فكان لذلك أجمل الأثر في نفسي. لا أخفيك أنني شديد التفكير والقلق على منى، وما يمكن أن يكون قد حدث لها من تغيرات نفسية وفكرية طول هذه السنوات الخمس وأنا بعيد عنها. ولذا كان سروري عظيمًا لوصول خطاب منها، فقد أكد لي الخطابان أن علاقتها بي ما زالت كما هي. ولقد كانت لفتة محمد أخي (يأخذني معه إلى المصيف) جميلة، وقد دلت على مدى تفكيره فيَّ، وفي أولادي. كذلك سرني حديثك عن هدية فتحية لكِ من إيطاليا. الحقيقة أن ظروف السجن قد عمقت من ارتباطي وتعلقي الأبدي بها. لقد قرَّبت هذه التجربة بيني وبين فتحية ومحمد بشكل يفوق الحد. أما سعاد فقد كانت دائمًا ذات مكانة خاصة في قلبي من قبل هذه التجربة كما لا شك تعرفين. وما فعلَته من أجلي لم يكن إلا ما توقعته منها دائمًا أبدًا!
يبدو أنكم تسمعون الكثير عن أنباء الإفراج وأنكم تعيشون في دوامة الإشاعات. إن كل الأهالي الذين يأتون إلى هنا في زيارات يؤكدون أني خرجت فعلًا، وأني شوهدت في شوارع القاهرة وفي دور الصحف. بل وفي حفلات السفارات! بحيث أصبحت أشعر أن الناس لا عمل لهم إلا اختراع الإشاعات، وطبعًا أتمنى هذا الإفراج الموعود، وأعتقد أنني سأخرج في ديسمبر. لقد كانت أمنيتي أن أكون بالخارج قبل ٥ نوفمبر حتى نحتفل سويًّا بعيد زواجنا، وما زلت آمل أننا سنحتفل بعيد ميلادك سويًّا في أول يناير.
قلت لك في خطابي السابق إن دفعة من ٧٠ معتقلًا قد رحلت إلى الفيوم تمهيدًا للإفراج. ويقال إن هناك دفعة أخرى على وشك الرحيل. ولست أخفي عليكِ أننا نعيش فترةً قلقةً من الناحية النفسية، وأننا متوترون عصبيًّا من كثرة إشاعات الإفراج … وقد أصبحت أهرب من الناس وأذهب إلى مكانٍ بعيد لأقرأ. وعندما أبدأ القراءة في أي كتاب جديد أجد صعوبة في التركيز. فأنا أفكر دائمًا في الخارج … في منزلنا عندما أخرج … فيكِ وفي ظروفك … في منى ووفاء وإخوتي … في مشاكل العمل عندما أخرج … والمشاكل المالية … إلخ. صحيح أني لا أستطيع أن أفعل شيئًا في كل هذا من هنا، ولكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير حتى أصبحت مرهقًا من الأرق.
وثمة شيء آخر يلح عليَّ إلحاحًا مستمرًّا؛ أنني أشعر بمرارة شديدة تجاه عددٍ من أصدقائي القدامى. فمنهم من طعننا في ظهورنا في أحلك ساعات المحنة … ومنهم من لم يكلف نفسه عناء السؤال عنكِ أو عن الأولاد. هل صحيح أنه من الممكن أن أستقبل هؤلاء في منزلي من جديد؟ لا أعتقد أنني سأكون قادرًا على ذلك بعد كل ما حدث.
تلك عينة من أفكاري وشطحاتي، وهناك مسائل كثيرة أخرى تجول في خاطري، ولكن لن أصدع دماغك بالحديث عنها حتى أراكِ. هل تفكرين في زيارة جديدة لي في شهر سبتمبر؟ أرجوك أن تحضري.
أرجو أن يكون ذلك قريبًا. صحتي في تحسُّن، وأرجو أن تختفي الحساسية قريبًا. الزملاء هنا يقرءون الجزء الثاني من كتاب «العلم والحضارة» ويقدِّمون لي ملاحظات مفيدة أرجو أن أستفيد منها عند خروجي قبل أن أدفع بالكتاب إلى المطبعة.
ختامًا، لكِ قُبلاتي وأشواقي، وأملي أن أراكِ قريبًا.
الزيارة الثانية: خطابها الثاني عشر
عزيزي سعد:
أشواقي وقبلاتي الحارة.
وصلت الساعة الواحدة صباحًا، وطبعًا لم أنم قبل الثالثة صباحًا، وقمت مبكرة لأذهب إلى عملي. وفي الظهر لم أجد وقتًا للعودة إلى المنزل. واصلت العمل بعد الظهر ولم أعد إلى البيت قبل العاشرة والنصف مساء، ومع ذلك ها أنا ذا أكتب إليك كما وعدتك. ها أنا ذا أعود لألتقي بك وأركن إلى صدرك وأحس فيه بالراحة والاطمئنان.
أول شيء فعلته أني أبلغت أختك فتحية تحياتك لها وللجميع … إنني في انتظار خطابك لأطمئن على حالة الكبد. والحق أنه بالرغم من تعب الكبد والإنفلونزا فإن صحتك كانت طيبة، وكان وجهك مُشرِقًا دائمًا بابتسامتك الحبيبة، وكنت تبدو وكأنك صغرت ست سنوات إلى حد أني أرجو ألا يزيد وزنك عن ذلك لأنك تبدو رشيقًا جدًّا.
صدقني، ليس هذا مجرد غزل … وإنما هو تقرير واقع جميل، وهو ما قلته لإخوتك. عبد الحليم حافظ يغني الآن: «الشوق غلبني، الشوق كان حيدوبني». وعلى فكرة، بعد هذه الكلمات يقول: «لولا ضحكتها الحلوة، وعدتني بحاجات حلوة»، لقد اعتدت أن أقول لمصطفى أخي هذه الفقرة عندما يعود من السفر وأضيف لها كلمة «من جروبي» وهذا هو المطلوب منه فقط طبعًا … كفاية وجع دماغ، مش كده؟
تحياتي للجميع، وقبلاتي وضماتي.
خطابي الثالث والعشرون
زوجتي الحبيبة:
ها أنا ذا أكتب إليك من الواحات وأهديك قبلاتي الحارة وأشواقي الخالدة، وبعد:
لقد فكرت أن أنتظر حتى يصلني منكِ خطاب بعد الزيارة. ولكني عدت ففضلت الكتابة بعد أن سنحَت لي فرصة إرسال خطاب سريع.
ما زلت أعيش في جو الزيارة الثانية وذكرياتها حتى اليوم. والحقيقة أني أحس بنشوة لا حد لها من الرضا والسرور بعد الزيارة، على عكس الزيارة الأولى التي أفزعتني فيها حالتك الصحية على وجه الخصوص. أما هذه المرة فقد كان سروري عظيمًا عندما لاحظت التحسن الواضح في صحتك وضحكاتك وعلو معنوياتك. لقد عادت من جديد ابتسامتك الجميلة إلى عينَيك؛ الأمر الذي افتقدته في الزيارة الأولى. والحقيقة أن زيارتك يا حبوبة كان لها أجمل الأثر في نفسي. إن الدنيا ما زالت بخير وما زلت أنت كما عهدتك دائمًا … الإنسانة ذات القلب الكبير والعقل الراجح التي وقفت إلى جواري في أحلك لحظات حياتي … لم يدعني الناس هنا حتى قلت لهم كل ما حدث في الزيارة من حديث وجِدٍّ وهَزْل ونكت وشعر ونثر … إلخ. إن هذا الحديث عنك يسعدني دائمًا، والزملاء يقولون إن عيني تمتلآن ببريق كبريق عيون الأطفال وأنا أحدثهم عنك. تمنيت أن تسمعي أنتِ منهم هذا الحديث اللذيذ.
أسفت لعدم حضور فتحية معك في الزيارة، ولكني فهمتُ أنها غير مسئولة عن هذا التخلُّف، وأنا طبعًا مقدر موقفها تمامًا. أرجو أن تشكريها على المأكولات اللذيذة، فقد تمتعنا جميعًا بالفطير واللحوم والكنافة … إلخ. وكانت وليمة عظيمة لكل من في الغرفة.
أرجو أن تمري على بهاء كما وعدتِه، وأن يكون خطابك مفصلًا بعض الشيء في وصف جو المقابلة. لقد فهمت من خطابات محمد أخي أن ثمة أخبارًا سارة في انتظارنا، وإن كنت لم أعرفه بالضبط أي تفصيلات. لقد قرأت ببالغ السرور كلمته في روزاليوسف عن الجامعة. إنها كلمة جريئة.
أرجو أيضًا أن تؤكدي لصفية أني ما زلتُ مصرًّا على موقفي، ذلك أني غير مستعد لاستلامك منها وأنت أقل كيلو واحد عن الأيام التي تركتك فيها. ولذلك فعليها أن تعمل ما في وسعها من أجل تغذيتك، وأن تهتم بذلك مهما كانت الظروف، ومهما كان كسلك في الطعام.
تحياتي وأشواقي لها وقبلاتي لخالد. لقد أعجبتني صوره تمامًا. تحياتي وأشواقي أيضًا لفيفي وشكري لها على اهتمامها بمساعدتك، وأرجو عندما أخرج أن يتاح لي أن أشكرها بنفسي على كل ما صنعته من أجلك وأجلي.
ختامًا، لكِ قبلاتي الحارة. إنني أفكر دائمًا فيكِ يا حبوبة، وأحسُّ بفخرٍ شديد وأنا أضع الدبلة في يدي بعد أن كنت قد افتقدتها زمنًا طويلًا.
خطابها الثالث عشر
عزيزي سعد:
قبلاتي وأشواقي الحارة إليك وبعد:
تأخرت في الكتابة لك هذا الأسبوع. معذرة على التأخير، ولكني كنت أنتظر استلام خطاباتك من أختك فتحية. وقد استلمت منها خطابَين وها أنا ذا أكتب لك فور قراءتهما. دهشت طبعًا لنبأ زيارتها لك فلم أكن على علم بها، والحمد لله أنها رأتك بنفسها واطمأنت عليك.
قابلت أحمد بهاء الدين وقد دهش عندما علم أنك تعتبر أن هناك بعض الاختلاف السياسي بينكما. سألني فيمَ يختلف معي؟ طبعًا أوضحتُ له كل النقاط التي أثرتها معي فأبدى موافقته التامة عليها، وقال ليس هناك خلاف بينكما على الإطلاق. لا أدري مدى جدية هذا الكلام، ولكني لم أعرف منه شيئًا أكثر من ذلك، لقد بدا وكأنه بعيد جدًّا عن كل شيء.
أما عن الجزء الثاني من كتابك فأنا حريصة تمامًا على قراءته في أقرب وقت، ومعذرة إذا كنت لم أنتهِ منه إلى الآن، فالعمل الجديد يحتاج مني إلى جهدٍ مضاعف، وشكرًا على المراجع الأفريقية التي أرسلتها لي.
أخبارنا كلها على ما يرام … خالد بدأ يسير وحده ويصل إلى غرفتي ويضرب الباب ضربات ضعيفة مترنحة ولكن فيها إصرار. فإذا تأخرت في فتح الباب يعبئ كل قدراته الصوتية والعضلية في إيقاع جميل فلا أملك إلا أن أقفز وأجري لأفتح له ذراعي وأضمه وأنا فرحة به.
عمتي تبعث إليك بتحياتها ودعائها وتمنياتها القلبية، وهي طبعًا دائمة السؤال عنك وعن صحتك، وقد سرت جدًّا عندما علمَت أنك في صحة جيدة كما أخبرتها عن آخر زيارة لي. صفية ومصطفى يبعثان أيضًا بتمنياتهما دائمًا، وكذلك فيفي طبعًا.
لقد ذهبت مع مجموعة من الأقارب بينهم مصطفى وصفية إلى ملهًى ليلي ورقصنا هناك. هذه أول مرة في حياتي أجتاز فيها هذه التجربة الغريبة. وقد التقطت لنا بعض الصور التي أرجو أن تعجبك. إنها صور كبيرة، وأخشى أن تضيع إذا أرسلتها في خطاب عادي.
المجموعة التي ذهبت معي كانت كلها شباب وأقارب، وربما أنا الوحيدة التي لا ينطبق عليها هذا الوصف، خاصة وأنني أكبرهم سنًّا! لقد ذهبنا إلى ملهى بالميرا في شارع فؤاد. وصدقني، إني مررت مئات المرات في شارع فؤاد ولم يخطر ببالي وجود مثل هذا المكان، فالباب الذي يطل على الشارع صغير جدًّا إلى الحد الذي لا يلفت نظرك. إنه يشبه الخندق، فإذا خطوت خطوة واحدة عبر الباب فوجئت بعالم آخر متسع جدًّا وأنيق جدًّا، وأيضًا مستهتر جدًّا! ولقد تملكتني دهشة شديدة عندما دخلت مع أخي مصطفى وزوجته صفية. وأحسست بتعاطف شديد مع رجل الصعيد الجواني عندما يزور القاهرة لأول مرة! أرجوك لا تضحك عليَّ، صدقني، فإنني لا أبالغ. ولقد رقصت مع أخي مصطفى أنواعًا مختلفة من الرقصات الجديدة مثل المارينجة والتشاتشا والتويست والباشنجا، وبعضه تعلمته على البيست. تصور أننا عدنا إلى البيت حوالي الرابعة صباحًا، وكما تعلم فالشيخ مصطفى متدين جدًّا. ولذلك فقد انتظرنا حتى يصلي الفجر حاضرًا!
لقد كانت ليلة طريفة وجديدة بالنسبة لي، ولكني لم أقدر على تكرارها رغم إلحاحهم.
صدقني يا عزيزي، إنني لم أحس بأية رغبة في ذلك، لم يكن هناك أي سبب سوى أني أفضل قراءة كتاب حتى الفجر بدلًا من الرقص أو مشاهدة الرقص حتى الفجر. ألم أقل لك إني فقدت الربيع الذي يتمتعون به؟
لك قبلاتي الحارة وتمنياتي.
خطابي الرابع والعشرون
زوجتي الحبيبة:
قبلاتي وأشواقي الحارة، وبعد:
أكتب لكِ هذا الخطاب على عجل لأن الرسول سيترك الواحات بعد دقائق. وصلني خطاب من سعاد وفرحت به جدًّا. قبلاتي الحارة لها وللأولاد وتمنياتي لزوجها. وبالنسبة لموضوع الصور الكبيرة التي التُقطت لكِ في ملهى بالميرا فإنني أقترح إرسالها مع إحدى الزيارات القادمة إلى الواحات.
ختامًا، أرجو المعذرة لقصر خطابي، فالرسول يقف بجانبي ويستعجلني في ضرورة إنهائه.
قبلاتي الحارة، وأشواقي الخالدة.
خطابي الخامس والعشرون
زوجتي الحبيبة:
قبلاتي الحارة وأشواقي العارمة أبعثها إليكِ من هنا، وبعد:
أرسلت لك خطابًا منذ أسبوعين وعلمت بعد ذلك أنه ضاع في الطريق! لقد ضايقني هذا جدًّا لأنه خطاب طويل ناقشت فيه معكِ رأيي في عدد من المسائل.
لقد قرأت إعلانًا في الأهرام عن الطبعة الإنجليزية لمجلة «نهضة أفريقيا»، وسرتني كلمة «الأستاذة» المقترنة باسمك في الإعلان وتصورتك يا حبوبة بنظارة سميكة وأنت تجلسين كالأستاذة الجادة تعدين المقالات والتوضيب. وآه لو كنت أنا بالخارج! إنني فخور بك تمامًا … فخور بعملك في المجلة والتليفزيون وأرجو لكِ من كل قلبي التوفيق والنجاح. إن الخطاب الذي ضاع كان مخصصًا لمناسبة ٥ نوفمبر العظيمة، ولقد حزنت حين علمت بضياعه، وقد أرسلت لك برقية تهنئة أردت أن تصلك في يوم ٥ نوفمبر، وأرجو أن يكون هذا ما حدث. إنني أحبك بجنون لا أظنك تقدرين حدوده. ولذا فهذه المناسبة هي أعز مناسبة في حياتي. ولقد عشت هذا اليوم هنا معكِ بخيالي، تصورتك في غرفة المكتب وفي المطبخ وفي الأنتريه، وأنتِ بملابس المنزل، وأنتِ تستعدين للخروج، وأنتِ في المجلة … إلخ. وبكى قلبي بكاءً مرًّا من أجلك. ولقد عشت في هذا الجو النفسي قبل المناسبة بأسابيع. وفي هذا الجو المليء بالأسى والشجن نظمت قصيدة «العرافة»، وهي قصيدة حزينة بلغ من ضيقي بها أني مزقتها! وقد عجب محمود من هذه القصيدة وهو يقول: أنت إنسان غريب، تظل معنا شحنة من المرح وتشيع هذا الجو المرِح، ومع ذلك تعود إلى نفسك وتنظم الشعر فإذا بحر من الأسى والشجن يتضح! إن القصيدة تتحدث عن نبوءة عرافة قالت لي كلامًا طويلًا وأنا فتًى يافع. ولقد تتبعت تطور هذه النبوءة من أحداث حياتي حتى موت أمي، ووقفت طويلًا أبكي على موتها وأصف جنازتها! لماذا كتبت هذا؟ لا أدري، وإنما أدري أني أحسست بالراحة بعد كتابتها، ثم لم يَدُم هذا الإحساس حتى تطوَّر إلى إحساس بالضيق منها، وكان أن مزقتها! قال لي صديق بعد سماعها: إن هذه القصيدة تعبر عن فقدان الحنان والعطف، ولعله على صواب في وجهة نظره.
صحتي طيبة والأخبار التي تصلنا سارة، تؤكد توقع الإفراج عنا قبل أول يناير، وهم يفسرون تأخُّر حركة الإفراج بالانتظار إلى حين انتهاء انتخابات مجلس الأمة، ويقال إن العجلة ستدور من جديد بعد ١٥ نوفمبر.
لقد وصلتني خطابات عديدة من بريطانيا، وكلها تثلج صدري؛ لأنها تشعرني بمساعي عديد من الشخصيات الإنجليزية التقدمية للإفراج عني، وفي مقدمتهم الفيلسوف برتراند راسل الذي قيل لي إنه على اتصال شخصي بالرئيس عبد الناصر من أجل الإفراج عني. كذلك أُرسلت لي من بريطانيا طرود كتب علمية، ورفضت الإدارة تسليمها لي!
منذ أيام وصل خطاب من مدير مصلحة السجون يطلب توقيع الكشف الطبي عليَّ بسرعة، بناءً على طلب وزارة الداخلية، وكُتب في أعلى الخطاب «عاجل جدًّا جدًّا»، ولست أفهم ما السبب في كل هذا. وإن كنت أرجِّح أن هذا يتم بناءً على طلب مكتب الرئيس نتيجة ما يصله من الخارج من رسائل.
إنني أقيم مع محمود في غرفة واحدة، وفي هذا عزاء كبير لي بعد سفر فايق. سعدت بأنباء اهتمامك بإعداد طبق «الترايفل». لقد ذقته في بريطانيا كثيرًا، وهو يُصنع من عديد من الفواكه لا من الكمثرى وحدها كما تصنعينه في منزل أخيك مصطفى.
تمنياتي لعمتك ومصطفى وصفية، وقبلاتي لخالد، وأشواقي لإخوتي.
خطابها الرابع عشر
عزيزي سعد:
قبلاتي وأشواقي الحارة إليك، وبعد:
أرسلت لك خطابًا في ذكرى زواجنا ٥ نوفمبر أرجو أن يكون قد وصلك. لقد وصلني تلغراف منك بهذه المناسبة، وكان مفاجأةً سارة لي حقًّا. إن التلغراف قد ذكر الكثيرين بهذا اليوم مما دفعهم أن يقولوا لي «كل سنة وأنت طيبة» بعد فوات الأوان. الوحيدة التي تذكرت هذا اليوم هي فيفي. اشترت لي من مصروفها المحدود علبة بتي فور، هكذا تُرهق ميزانيتها كل عام … ٥ نوفمبر وأول يناير! كم من المرات رجوتها أن تكتفي بالتحية الشفوية، وأكدت لها أن هذا يكفيني جدًّا، ولكن لا فائدة. هل تعرف أنها هي التي تهتم بكل شئوني اليومية؟ فهي مثلًا تصر على أن تُعد لي الغداء بنفسها. وعندما أعود في المساء من المجلة مرهقةً تصحو من نومها وتجري تعد لي العشاء، وتجلس بجانبي تخفف عني قليلًا وهي نصف نائمة! لا أعتقد أني أستحق كل هذا، ولكن لا شك أن وجود هذا القلب الصغير بجانبي يخفف عني الكثير.
اعتماد أرسلت تخبرني بقرب عودتها إلى مصر بعد جولتها في باريس وأوروبا … ستعود لتجد كل شيء كما هو … وستسألني سؤالها التقليدي: هل من جديد؟ فأجيب أنا إجابتي التقليدية: لا جديد! لا بد أن يصحب كل ذلك تنهيدة كبيرة، ولكن بدون نفاد صبر وبدون انهيار … إن السنوات تمر، فلتمر كما تشاء فنحن لا نخضع إلا لما هو خارج عن إرادتنا.
أسمع الآن أغنية «القلب معاك … لو حتى تروح آخر الدنيا» ترى هل تسمعون الراديو؟ إنني نادرًا ما أسمعه بالمنزل، ولكني ألتقط الكثير من الأغاني الجميلة وأنا في الشارع أو في الأتوبيس من خلال الترانزستور أو من الجيران كما هو حادث الآن.
تحياتي لكم جميعًا، ولك كل تمنياتي، وكل سنة وأنت طيب.
خطابي السادس والعشرون
زوجتي الحبيبة:
ها أنا ذا أرسل لكِ يا أعز إنسانة قُبلاتي وأشواقي الحارة من هنا … لقد وصلني خطابك الذي تتحدثين فيه عن أغاني فيروز، كما وصلني طرد فتحية وبه مأكولات الإفطار والأسبرين والفيتامينات. ولقد أرسلت لها مع السيدة التي أحضرت الطرد بعض نماذج الخطابات التي تصلني من خارج مصر، من بريطانيا والدنمارك والسويد. أرجو أن تحتفظي بها كذكرى جميلة للمستقبل!
إن كل الأنباء التي تصلنا من جميع المصادر تؤكد أن الإفراج عنا سياسة مقرَّرة وإن كان التلكؤ مرده الرغبة فيما يبدو في ألا نحضر المعركة الانتخابية نظرًا لدورنا المتوقع فيها.
لقد دُعيت إلى الإدارة بالأمس مساء، وأخبرت أن الحرس قد جاء لنقلي إلى مستشفى أسيوط، بناءً على تقرير الطبيب الذي أكد أنني أشكو من حصوة في الكلى والتهاب مزمن في اللوزتين.
وقد رفضت العلاج في أسيوط، وكتبت إقرارًا بذلك قلت فيه: إمَّا العلاج في مستشفى قصر العيني في القاهرة أو لا علاج على الإطلاق.
لقد فكرت أن أكتب لكِ في هذا الخطاب وصفًا لحياتي في يوم كامل لعلَّ هذا يُعطيكِ فكرةً عن حياتنا … استيقظت اليوم صباحًا وحلقت ذقني ثم تناولت الإفطار؛ جبنة سجن من النوع السيئ وقطعة مربى برتقال، وشربت شيئًا من الكاكاو (المربى والكاكاو من زيارات الأهالي طبعًا) ثم انطلقت إلى مراجعة كتاب «العمل والمخ» مع الصديق الذي قام بترجمته. إنه كتاب ممتاز يتعرض لنظرية بافلوف بالتفصيل، ويدرس المخ دراسةً وافية. وبعد ساعتين من العمل استمعت إلى محاضرة عن اقتصاديات مصر للزميل عادل حسين، وهي جهد طيب وإن كنت أختلف عنه في رأيه عن القطاع الزراعي في مصر. وحان موعد الغداء … فتة عدس وقطعة مربى وكوب شاي. وقد نمت ساعةً بعد الغداء، ثم قمت لقراءة كتاب «النواة الذرية» في علم الطبيعة، وتمتعت بالشمس في الفناء بعض الوقت … في الساعة الخامسة أُغلقت علينا العنابر، فمواعيد قفل العنابر في الشتاء مبكرة. وحان موعد العشاء داخل العنبر. باذنجان مُر المذاق، وقطعة لحم صغيرة جدًّا، وشيء من الأرز، كما أكلنا بعضًا من البرتقال الذي يباع في الكانتين. وبعد العشاء لعبت دور شطرنج مع الصديق فوزي حبش. استغرق الدور حوالي ساعة ونصف، وها أنا ذا أكتب لكِ هذا الخطاب ونحن نستعد لسماع أم كلثوم، وفي العادة أنام مبكرًا لقسوة البرد، ولكني هذا المساء أسهر لسماع أم كلثوم … الوصلة الأولى فقط؛ لأن الراديو يقفل بعد ذلك!
هذا هو برنامج اليوم … ليس فيه الكثير كما ترين ولكن هذا هو الممكن - سرتني أخبار عملك في مجلة «نهضة أفريقيا» وأرجو أن ترسلي لي بعض أعداد المجلة فإنني في غاية الشوق إلى قراءة مقالاتك فيها. لقد هزني خطاب فتحية الأخير بسذاجته وإخلاصه وهزني على وجه الخصوص توقيعها «أختك المخلصة لك إلى الأبد» مما دفعني إلى كتابة موال موجه إليها بدأته كما يلي:
والموال طويل لا يمكن كتابته كله هنا، وأعتقد أنني بدأت أقتنع بضرورة كتابة كل هذه القصائد والمواويل والاحتفاء بها للذكرى لا للنشر طبعًا، بما في ذلك موالي الأخير عنك.
أشواقي وتحياتي إلى فيفي. لقد بدأت أشعر بالغيرة منها! ولمَ لا؟ أليس لها الحق في أن تصحوَ بالليل وتُعد لكِ عشاءك وتجلس إلى جانبك وتلمس أصابعها يدك وشعرك؟ ما أسعدها يا حبوبة! وكم تمنيت أن أكون مكانها!
سؤال أخير: ما رأيك في زيارة على عيد ميلادك أول يناير؟ فكري، فالظروف مواتية ومأمور السجن في إجازة ولن يعود قبل ٥ يناير!
لكِ أحرُّ قُبلاتي بهذه المناسبة السعيدة، وأجمل التمنيات.
خطابها الخامس عشر
أخي العزيز:
قُبلاتي وأشواقي الحارة إليك، وبعد:
وصلني خطابك المرسل مع نبيل، كما وصلني الخطاب الذي به فقرات من الموال. كان بودي أن أرى الموال كله، كتبت لفتحية الجزء الخاص بها واغرورقت عيناها بالدموع تأثرًا … أما عن التلغراف فقد وصل بالفعل يوم ٥ نوفمبر. وقد استطعنا اليوم التالي أن نمر بالتاكسي على المنزل الذي تزوجنا فيه، ودار الشريط كله سريعًا مع كل صغيرة فيه، وكأنه شريط بانورامي عشت معه لحظات أحسست خلالها أني عدت خمس سنوات إلى الوراء … عدتُ إلى الأربعة والعشرين ربيعًا … عدتُ إلى الحياة والحنان والحب … عدتُ إلى الزهور التي كنت تشتريها لي، والإشراق والابتسام … عدتُ لحظات إلى حُلمٍ مضى وذكرى حنونة هي كل ما أملك الآن!
صدقني يا عزيزي، إنى لم أدهش لقصيدة «العرافة» التي حدثتني عنها في خطاب سابق، فأنا أعرف تمامًا كل خلجات نفسك، وأعرف أعمق أعماقها. فكم من مرات غصت فيها وعشت فيها أنقِّب وأكتشف حتى وجدت كنوزًا هي كل نفسك. إنني في شوق لقراءة القصيدة.
لم يبقَ على العام الجديد سوى أيام … كل سنة وأنت طيب يا عزيزي، وكل سنة وأنتم جميعًا وبلادنا في عزة وتقدُّم. ها هو عيد ميلادي السادس وأنت ما زلت وراء الأسوار. للمرة السادسة أستقبل العام الجديد وحدي، وحدي تمامًا. فلا بد أن تعود بي الذاكرة إلى خمس سنوات مضت إلى ذلك اليوم التاريخي وكيف استقبلنا به العام الجديد! ولكن عزائي هو أملي في أن تكون إلى جانب منى في عيد ميلادها. أرجو أن تستطيع أن تقدم لها أنت بنفسك هديتها هذه المرة.
أخباري كلها على ما يرام، وكل شيء ما زال كما هو … مجلة «نهضة أفريقيا» اقترب موعد صدورها؛ ولذلك فالضغط زاد، وأعتقد أنك ستراها بنفسك قريبًا عندما تكون بيننا، وأرجو أن تكون أفضل من العدد الأول والثاني من ناحية الشكل والإخراج. سوف يصدر في العدد الجديد مقال كبير لكاتب روسي من كبار علماء الأجناس، وهو دراسة لتاريخ أفريقيا في ضوء النقوش والفنون الشعبية التي اكتشفت، ونحن نعتبر نشر هذا المقال في مجلتنا سبقًا هامًّا في الميدان العلمي والصحفي، أما أنا فأُعد مقالًا عن كينيا وكينياتا … ذلك العجوز الذي بلغ الثالثة والسبعين من عمره ويصر على أنه لا يوجد شيء يستطيع أن يفعله من في سن الأربعين ويعجز هو عنه! إنه لا يستطيع أن يتذكر عدد أولاده، ولكنه لحسن الحظ يتذكر عدد زوجاته، أربعة فقط!
سميحة تقدم في التليفزيون برنامجًا اسمه «قصة قصيرة»، وقد طلبت مني أن أعد ضمن البرامج قصة قصيرة لجوركي. قد انتهيتُ بالفعل من إعدادها منذ يومين. والقصة بعنوان «كوليوشا» وتدور حول أم تشقى لتحصل على قروش قليلة لكي تطعم ابنها وأباه الذي خرج من السجن مريضًا. كانت حياتهم قاسية جدًّا، كانت أسوأ من الموت كما تقول، حاولت مرارًا أن تنتحر لتتخلص من هذه التعاسة. وفي أحد الأيام ضاق بها الحال إلى حد اليأس فصرخت في كليهما: «كيف أستمر في إطعام اثنين؟ ألا يمكن أن يموت أحدكما لأستريح!» كانت لحظات غضب سرعان ما ندمَت عليها، ولكن كوليوشا الصغير الذي لم يزد عمره عن الثانية عشرة نظر إليها في صمت وخرج. وبعد ساعة جاء من يخبرها أنه في المستشفى لأن جياد أحد التجار داست عليه. اندفعت الأم إلى حيث يرقد ابنها. سألته إن كان لم يرَ الجياد وهو يعبر الطريق فأجابها ببساطة ووضوح: «لقد رأيتها يا أمي، ولكني لم أبتعد عن طريقها لأني فكرتُ أنها لو مرَّت فوقي فسوف يعطيني الناس نقودًا»، ثم مات الطفل وهو يردد: «اشترِ لأبي كذا وكذا … واشترِ شيئًا لكِ أيضًا.»
نسيت أن أذكر لك أنني شاهدت الفرقة القومية للفنون الشعبية منذ أسبوعين. الحقيقة أنها جهد مشرف، وقد قدمت الفرقة عدة لوحات بلغت القمة في لوحة تسمى «بورسعيد». إن التشكيلات التي تحركت في هذه اللوحة أكثر من رائعة. لقد عرف المخرج كيف يحول الجماهير … نعم، الجماهير؛ الفلاح والفلاحة والعامل والفتاة والمرأة والأطفال. لقد فهم المخرج وانفعل بكل أحداث بورسعيد وقدمها لنا في لوحة نابضة بالحياة والحركة تمامًا.
والجزء الذي أعجبني في القصيدة يقول فيه:
ما رأيك في القصيدة كلها إن كنت قد قرأتها؟
عمتي بخير وتبعث لك تمنياتها القلبية. اعتماد ما زالت بالإسكندرية تدبر أمر نقلها، خالد يكبر ويبدو ألطف وأظرف، أصبح يغمز بعينيه بطريقة تجعلك تنفجر من الضحك، إنها براءة الطفولة بكل جمالها وعذوبتها ورقتها، فيفي طبعًا تبعث لك بتمنيات حارة، وهي ما زالت كما هي تهتم بكل شيء يتعلق بي … حتى الزهور تحرص على أن تقدمها لي من حين لآخر.
لا بد أن أختم خطابي الذي طال أكثر مما ينبغي بقبلة حارة على مقدم العام الجديد مشبعة بالأمل في أن تكون معنا قريبًا.