الفصل الخامس

عشية الإفراج!

خطابي السابع والعشرون

سجن الواحات في ١٩٦٤/١/١١م

زوجتي الحبيبة:

ها أنا ذا أرسل لك قبلاتي المليئة بالحب والإجلال والإعزاز.

مضى أسبوع على لقائنا الثالث في الواحات،١ ولم يصلني منكِ شيء منذ عودتك. لا شك أنك كتبتِ في الموعد كما اتفقنا، ولا شك أن البريد هو المسئول عن التأخير.

ما زلتُ طبعًا أعيش في جو الزيارة وسعادة اللقاء … لا أعتقد أن ثمة كلمات عندي تستطيع أن تعبر عن فرحتي، فرغم السدود والقيود والمصاعب استطعنا أن نحطم كل هذا وأن نحتفل بعيد ميلادك سويًّا. ولا يصنع هذا غير الحب … الحب القاهر الجليل الذي صمد للمحنة خمس سنوات. منذ أكثر من خمس سنوات عندما كنا على وشك الزواج، كلمني كثيرون (وبعضهم معنا هنا) محاولين ثَنْيي عن هذا الزواج، وكانوا يقولون أحيانًا إن هذا الزواج ليس إلا نزوة لا تلبث أن تزول بعد شهور، وإنكِ لن تصمدي في أي محنة تنتظرني في المستقبل! قال لي أحدهم يومًا: «أنت عايز واحدة تشيلك وقت المحنة، وستكون أمامنا محنة قريبة، ولا أعتقد أن عايدة قادرة على ذلك.» ثم تأتي المحن والأيام السوداء فإذا بها تؤكد إيماني بكِ وثقتي في صفاتك الكبيرة، وإذا كل الناس ينحنون إعجابًا وتقديرًا … أعتقد أن ما قاله لك محمود في الزيارة يعبر عن إحساس الكثيرين إزاءك! لقد دخلت زوجات عديدات هذا الاختبار الدقيق ولم يصمد إلا نصفهن، وكنت أنتِ واحدة من هؤلاء!

في يوم الزيارة أحسست في المساء برعشة خفيفة وارتفاع بسيط في درجة الحرارة، وقال لي الطبيب (وهو زميلي في الحجرة): «لا شك أن سبب هذا هو الانفعال الشديد والأيام الثلاثة التي لم تنم فيها كما يجب انتظارًا للزيارة». كانت الساعة الثامنة مساء وغطاني بعدد من البطاطين وأعطاني قرص أسبرين وفيتامين «ج»، وصنع لي كوب شاي، وقال: «نم فورًا وستكون في خير حال غدًا.» ولكني لم أنم، رفضت أن أنام قبل أن يأتي موعد لقائنا في العاشرة تمامًا بالضبط على دقات ساعة جامعة القاهرة التي أسمعها في الراديو. ولم أستطع طبعًا أن أشرح له لماذا رفضت النوم مع أنه كان يداعب جفوني بشكل واضح.

في كل يوم أنتظر هذ الموعد في لهفة غريبة، وأستعد له وكأننا سنلتقي حقًّا يدًا بيد، وفمًا بفم، وأتذكر كم مواعيد لقاءاتنا الأربعة، وكل مكان ذهبنا إليه في الماضي، وماذا قلت لك وماذا كنت تقولين لي. ستعود هذه الأيام من جديد يا حبوبة! أليس كذلك؟

أقرأ هذه الأيام في الفلسفة، معي دائرة معارف فلسفة جديدة (بريطانية) أقرأ فيها بفهم وخصوصًا الأجزاء الخاصة بالمنطق.

شكري لصفية على الأكل الجميل، وتحياتي لفيفي، ولك حبي الدائم.

كامل

خطابها السادس عشر

القاهرة في ١٩٦٤/١/١٧م

أخي العزيز:

قبلاتي وأشواقي الحارة إليك، وبعد:

ها أنا ذا ألتقي بك في موعدنا الأسبوعي، وها أنا ذا لا أكاد أصدِّق أنه قد مضى أسبوعان على لقائنا!

لقد نسيت أن أحدثك عن عيد ميلادي الذي أصرَّت صفية على إقامته في اليوم الذي سبق سفري إليك، وعن الهدايا التي وصلتني بهذه المناسبة. عفاف (١٢ سنة) قدمت لي لفَّة أنيقة ظللت أفتح فيها فترة حتى وجدت في النهاية عدد ٢ باكو بسكوت إيكا! لقد عددت الورق الذي استخدمته فوجدت ١٥ ورقة. ومنذ هذا اليوم، أطلقنا عليها عفاف إيكا! لقد ضحكنا كثيرًا لهذه المحاولة اللطيفة الساذجة للمساهمة في عيد الميلاد … فيفي قدَّمت لي بتي فور، ومديحة علبة ملبس نادلر، كان طبعًا نصيب خالد، هدية صفية كانت على مستوى أعلى … روب دي شامبر على الموضة وغالي الثمن. تانت عنايات أغرقتني بمجموعة كبيرة من ملابس المنزل! واعتماد قدمت لي بارفان ماجريف حجمًا كبيرًا. أما نبيل أخي فقد تأثرت جدًّا لا لما أحضره من زهور وزنابق فحسب وإنما لأنه حضر في الصباح الباكر ليكون أول من يقول لي: «كل سنة وأنت طيبة»، رغم أن امتحانه في نهائي طب كان اليوم التالي. حتى منير وزوجته مرَّا على المنزل وأنا في الخارج وتركا لي هدية لطيفة؛ هي شال صوف أبيض مطرز باللون الأزرق الجميل. أما عمتي فقد صنعت لي بيديها تايير كاملًا كروشيه، وهو والحق أكثر من جميل.

المهم أن الجميع كانوا قريبين مني في ذلك اليوم، وقد أنساني هذا كل شيء، رغم أني كنت مرهقةً بالعمل كما كنت أستعد للسفر إليك.

أفتكر كفاية كدة رغي! تحياتي لكم جميعًا ولك أشواقي وتمنياتي.

عنايات

خطابي الثامن والعشرون

سجن الواحات في ١٩٦٤/٢/٨م

زوجتي الحبيبة:

أشواقي وقبلاتي الحارة، هذا هو خطابي الخامس منذ الزيارة الثالثة، وفي كل خطاب ألح عليكِ في الحضور لزيارتي في العيد. ما زلت أتذكر تشبيهك الجميل بعد عودتك من أول زيارة عن الإنسان الذي يسبح تحت الماء اضطرارًا ثم يرفع وجهه فوق الماء من حين لآخر ليتنفس. وإذا كان هذا يصدق عليكِ فإنه يصدق عليَّ أيضًا!

سهرت مع أم كلثوم أول أمس حتى الرابعة صباحًا وعشنا ليلة غريبة على إنسان مثلي يذهب إلى النوم مبكرًا في الشتاء. لا شك أن أغنية عبد الوهاب الجديدة كانت موضوع تعليقاتنا طول الليل، والحقيقة أنني أحسست أننا أمام أربع أغانٍ لا أغنية واحدة. وعبد الوهاب يستعرض فيها إمكانياته الفنية وقدراته على تطويع صوت أم كلثوم. المقدمة الموسيقية مثلًا جميلة، ولكني أتساءل: ما علاقتها بالأغنية؟! وكذلك الجزء الرابع من الأغنية الذي يبدأ ﺑ «يا أغلى من أيامي ويا أحلى من أحلامي» … هنا أنغام شعبية أصيلة التقطها عبد الوهاب من جو الموالد والإنشاد الديني والزار وحفلات الذكر والمسحراتي … إلخ. ولكن هل صحيح أن هذه الأنغام ملائمة لهذه الكلمات؟

إننا أمام أغنية لها كلمات جميلة، وعدة أنغام كل منها جميل، ولكن هذا الخليط لا يمثل وحدة نغم وأغنية، وليس ثمة تطابق وتقارب بين جو كلمات الأغنية وجو الأنغام! طبعًا كثيرون هنا يختلفون معي ويقولون إن الفلسفة هي أنت. أما هم فقد طربوا وسعدوا، وطبعًا أنا طربت أيضًا، ولكن لا شيء بعد الطرب والنشوة المؤقتة، لا غذاء روحي يستمده الإنسان من هذه الألحان!

بجواري الآن ديوان الشاعر العراقي «ناجي هلال»، وقد كدت أن أنتهي من قراءته. معظم قصائده الرائعة كتبها في السجن، وقد أحسست أنه قد اعتصر من دمه في هذه القصائد. لقد هزتني قصيدته «بطاقة عيد إلى أختي»، وهي قصيدة كتبها في العيد من السجن يتحدث فيها عن أولاده وزوجته البعيدين عنه وهو في المنفى … هزتني تمامًا، فهي تنكأ جراحًا كثيرة في هذه المناسبة، تمتاز ببساطتها التي تصل إلى حد السذاجة، ومع ذلك فما أجملها وأرقها! لولا أنها طويلة لَكتبتُها لك هنا.

لعلك اطلعتِ على خطابي المرسل للدكتور حسين فوزي الخاص بأفلاطون، ولقد قرأت أخيرًا مقالًا لمحمد أخي، ولي عليه ملاحظة أساسية … لقد كان من واجبه فضح حزب مابام الإسرائيلي باعتباره حزبًا يدَّعي اليسارية، بينما مواقفه العملية غير ذلك … لقد صوت في الكنيست مع العدوان على مصر سنة ١٩٥٦م، كما صوَّت مع القروض الأمريكية، وله عديد من المواقف السياسية المخزية فكيف ينظر إليه بعد ذلك كحزب اشتراكي؟

نبهني أيضًا بعض الأصدقاء إلى مقال في مجلة «المجلة»، عدد أبريل سنة ١٩٦٣م، دارت فيه مناقشة حول ما كتبته عن نجيب محفوظ بالذات وعن الرواية عمومًا منذ سنين طويلة في كتابي «في الثقافة المصرية الحديثة». وعندما اطلعت على عدد المجلة ضحكت وساورني إحساس غريب … هؤلاء الناس يتكلمون عني وكأنهم يتكلمون عن رجل مات! وهم يتجادلون حول ما عنيته بهذه الفترة أو تلك، وأنا جالس هنا لا أستطيع أن أقول ماذا كنت أعني بالضبط! لقد ساورني نفس الإحساس وأنا في سجن أسيوط منذ عامين عندما قرأت مقالًا لأحد كتَّاب الأهرام، فإذا بي أجد أنه قد نقل ثلثه بالنص من كتابي … كتبت عندئذٍ لبعض الأصدقاء في الأهرام، ورجوتهم أن يُطلعوا «بنت الشاطئ» على المهزلة التي تجري في صفحتها الأدبية دون علمها.

أما بالنسبة لأمانيك الثلاث، فأرجو أن تثقي يا حبوبة أني لا أنساها، صحتي على ما يرام، وأنا أشتغل في كتبي بجد وما زالت الابتسامة التي تحبينها على شفتي، قد تكون ابتسامة بها لمحة من الأسى غير أنها ابتسامة على كل حال! وأنتِ يا حبيبتي تساعدينني، بموقفك الشجاع وابتسامتك الجميلة ووفائك الذي لا يحد، على الاحتفاظ بهذه الابتسامة.

ما زلت مُتعلقًا بأمل زيارتك في العيد … تمنياتي لعمتك واعتماد ونبيل وصفية ومصطفى وخالتك عنايات وسميحة، وتحياتي إلى فيفي. لقد تأثرت جدًّا من قائمة الهدايا التي وصلتك بمناسبة عيد ميلادك منهم، وتأثري على وجه الخصوص من موقف نبيل والأطفال! من الواضح أن الدنيا بخير، وأنكِ كعهدي بكِ محط قلوب الناس وأبصارهم.

لك أحر قبلاتي إلى أن نلتقي … في العيد!

كامل

خطابها السابع عشر

القاهرة في ١٩٦٤/٢/٨م

أخي العزيز:

أكتب لك هذا الخطاب بسرعة، فقد قررت اليوم أن أسافر إليك في العيد، سوف نكون معكم اليوم الثاني من العيد.

طبعًا لا داعي للإطالة في هذا الخطاب، فكل ما يمكن أن يقال سوف أقوله بنفسي عند وصولي. أرجو أن يصلك هذا الخطاب قبل وصولنا حتى تستعد للاستقبال وتجري اللازم، فتمتنع عن الأكل يومين أو ثلاثة استعدادًا للوليمة القادمة، وتمتنع عن محادثة أي شخص يومين قبل الزيارة حتى لا تنسى ما تريد أن تقوله لي وتظل تحفظ فيه عن ظهر قلب، وحذارِ أن تتقلب على الجانب الأيمن أو الأيسر ليلة الزيارة حتى لا تنسى كل ما حفظته!

تحياتي لكم جميعًا، ولك كل تمنياتي.

عنايات

خطابي التاسع والعشرون

سجن الواحات في ١٩٦٤/٢/١٧م

زوجتي الحبيبة:

لم يمضِ يومان على لقائنا الرابع٢ في الواحات. ومع ذلك أجلس في المساء لأكتب لك … لقد كانت نيتي أن أنتظر وصول خطاب منك بعد الزيارة، ولكني لم أستطع ذلك. ثمة قدر أقوى مني يدفعني إلى الكتابة، وإن كنتُ لا أعرف بالضبط ماذا أريد أن أقول! فلا زلت في جو الزيارة، وقد فشلت كل جهودي للخروج من جو الزيارة، فلا الكتب أفادت ولا المجلات! يكفي أن أبدأ القراءة حتى أحس بملل غريب وألقي الكتاب جانبًا! أحس أحيانًا أن الزيارة هي بمثابة حجر يُلقى في بركة حياتي، ثم تهدأ الأمواج وتعود البركة إلى حياتها الآسنة من جديد. إنني مللت هذه الحياة الراكدة ولا أطيقها، ومع ذلك يبدو من الضروري أن نتحملها في صبر وشجاعة.

والآن ماذا كنت أريد أن أقول لك؟ ربما أريد أن أقول إنك كنت رائعة الجمال يا حبوبة بلا مبالغة أو رتوش. كم كانت عيناك جميلتين وعميقتين، وكم كانت ابتسامتك مشرقة وشعرك مرسلًا بطريقة جمعت بين البساطة والجمال، وكم كانت ملابسك أنيقة! كل من رآك شهد بحسن ذوقك … وحسدوني!

لقد سرتني الصورة التي أحضرتِها معك، وهي في رأيي أجمل من أي صورة أخرى لك. في هذه الصورة أجد روحك التي افتقدتها في الصور الأخرى، أجد لحظة خاطفة من لحظات التعبير التي استطاع المصور أن يمسك بها في مهارة … لحظة يعبر فيها وجهك عن الطفولة والذكاء واليقظة. ثم مسحة خفيفة من الحزن والأسى تكمن في أعماق شخصيتك! أجد في صورة أخرى هذا القدر من التعبير الذي وجدته في هذه الصورة. ولذا سارعت بوضعها إلى جانبي، وساهم أحد الزملاء فصنع لها بروازًا جميلًا من علب السجاير. وقد ألصقت البرواز على الحائط بجوار السرير. إنها أمامي الآن وأنا أكتب … وعندما أستيقظ من نومي في الصباح تكون صورتك هي أول ما أراه، وعندما أنام في الليل تكون صورتك هي آخر ما أرى.

بالأمس جلست وحدي وأحسست برغبة في أن أكتب لك قصيدة جديدة. وطي هذا الخطاب أرسل لك قصيدتي «الطائر الحزين»، أرجو أن أسمع رأيك فيها. لقد قرأها حتى الآن عشرة وأبدوا رضاءهم عنها، وتطوع أحد الزملاء من الفنانين لإخراجها على صورة جميلة.

لقد قرأت خلال اليومين الأخيرين بعض المجلات التي وصلتني (الكاتب والمسرح خصوصًا) والحقيقة أنها أفزعتني وأحسست بمدى المسئولية الملقاة على أكتافنا عندما نخرج إلى الحرية من الناحية الفكرية. إن مقالات رشاد رشدي في مجلة المسرح هي من أسوأ ما قرأ الإنسان في السنين الأخيرة عن مشكلة الفن، وهذا الدفاع البشع عن مسرح وأدب اللامعقول أمر محزن تمامًا. فالغريب أن المجلة تحوي عددًا من الأبحاث الممتازة الجديرة بالتقدير باستثناء مقالات رئيس التحرير التي هي دعوة صريحة إلى عزل الفن عن المجتمع والعالم وإنكار كامل للرسالة الاجتماعية للفن والجانب التعليمي في المسرح، ومحاولة دءوبة لهدم موقفنا وموقف بريخت من الفن والمسرح … على أن الأسوأ من مقالات رشاد رشدي في مجلة المسرح هو مقالات أحمد عباس صالح ومحمد عودة في مجلة الكاتب. إن هذا الإلحاح في الهجوم على الماركسية كنظرية وعلى الماركسيين المصريين — ولا سيما مقال عودة، العدد الثاني — يدعونا إلى التساؤل: لمصلحة من يتم هذا الهجوم؟ وماذا يستطيع أن يقدم الكاتبان بدلًا من الماركسية؟ ما معنى هذا الحديث المضحك عن «البحث عن نظرية جديدة»، كما يحلو للأخ عودة؟ يبدو أن هذه المجلة قد صدرت لتحاول إثبات أنه لا ضرورة للماركسيين المصريين ولا ضرورة للالتزام بالماركسية كمنهج علمي … ولقد أدى هذا بالكاتبَين الفاضلَين إلى التورُّط في تغذية حملة «معاداة الشيوعية» فكريًّا باسم التجديد والالتصاق بواقع بلادنا … إلخ.

ختامًا، لك قبلاتي الحارة يا حبوبة، إن أنباءنا سارة فقد تأكدنا أن كل من كانوا في السجن الحربي (عددهم ۲۹) قد أُفرج عنهم ليلة العيد! هكذا تتحرك الأمور ويزداد الأمل في لقاء قريب.

كامل

خطابها الثامن عشر

القاهرة في ١٩٦٤/٢/٢٨م

أخي العزيز:

قبلاتي الحارة وأشواقي إليك.

ها أنا ذا أكتب لك خطابي الثالث منذ الزيارة، وقد وصلني منك خطابان، بأحدهما قصيدة «الطائر الحزين». لقد أعجبتني القصيدة جدًّا جدًّا … فيها صور شعرية في منتهى الدقة والعذوبة، إنني أكاد أحفظها الآن عن ظهر قلب من كثرة قراءتها. قرأتها لسميحة وتأثرت جدًّا للرقة التي تفيض بها كلماتك … الحنان والسمو واللهفة والحب والأسى والوحدة و… كل هذه المشاعر الإنسانية النبيلة تعتصرنا ونحن نقرأ كلماتك. أقول لك: الحق أن هذه القصيدة اعتصرتني وجعلتني أعيش لحظات من الألم المقدس أو الأسى الذي يصاحبه نوع من القدسية التي ترتفع إلى القمم. قد تكون هذه الكلمات مني غريبةً عليك، وربما هي أيضًا غريبة علي، ولكن هذا هو واقع إحساسي الذي يجب أن أعبر عنه. لقد ارتفعت بنا فوق قممٍ لا يسعنا إلا أن ننحني تقديسًا لجلالها. إن آلام «الطائر الحزين» أشبه بآلام المسيح الذي ضحَّى بنفسه من أجل أن تستمر رسالته.

ولكن يا عزيزي كنت أتمنى عبارة غير «وأحصد الأشواك بالنهار والهموم»، فهي لا تتفق أبدًا مع واقعك. قد تعبر عن جانب من الحقيقة، ولكنه جانب منزوٍ تمامًا، تلتقطه أحاسيسك، وترفضه إيجابيتك، تمامًا كالقائد في ميدان المعركة.

أشكرك جدًّا على المديح والإطراء الذي غمرتني به في خطابك، وأرجو أن أظل هكذا دائمًا حتى أنال رضاك وإعجابك. قد لا أحس أنا بكل ذلك، ولكن المهم ما تحسه أنت، فهذا هو المهم عندي. وشكرًا للصديق الذي صنع لك برواز الصورة، وللفنان الذي أخرج لوحة الطائر الحزين … إنه فنان أصيل يستحق كل تقدير.

الجميع يبعثون لك تمنياتهم، ولك تمنياتي وقبلاتي وأشواقي.

عنايات

خطابي الثلاثون

سجن الواحات في ١٩٦٤/٣/٦م

زوجتي الحبيبة:

خطابك بتاريخ ۲/۲۸ وصلني وأثَّر في نفسي تأثيرًا جميلًا، لا أخفيك أني سعدت بكلماتك عن قصيدة «الطائر الحزين»، وإن كنت أعتقد أنك تجاملينني بعض الشيء. ولكن على أي حال أخيرًا استطاعت كلماتي أن تشعرك بهذا الألم المقدس الذي أعانيه في محراب حبك، وأفلحت القصيدة بكلماتها المركزة ومشاعرها المكثفة أن تلفت نظرك وأن تدخل إلى قلبك، ما تسمينه بالمشاعر الغريبة، ويكفيني هذا لأن أشعر باعتزاز خاص نحوها. سعدت أيضًا بتقدير سميحة لكلماتها.

أما عن نشاطي الثقافي هنا فما زال مستمرًّا … لدينا مجلة مسرح هنا (هي مجلة حائط) تصدر مرتين في الأسبوع. وقد كتبت مقالين فيها أخيرًا، أحدهما بعنوان «حكاية البضاعة المستوردة» وهو رد على مقالات يوسف إدريس عن المسرح في مجلة الكاتب، والآخر بعنوان «لويس عوض يزيف بريخت» وهو رد على المقال الثالث للويس عوض في ملحق الأهرام عن مسرحية «القاعدة والاستثناء» لبريخت. وقد أعددت دراسة عن «الوضع في العراق» سوف أقرؤه اليوم في المجلة السياسية التي تصدرها كل يوم جمعة. وغير ذلك أواصل قراءاتي عن المنطق في الكتب التي جمعتها لهذا الغرض.

إنني أتابع مثلك كل يوم جمعة برنامج د. حسين فوزي في الموسيقى في البرنامج الثاني. سمعت «لالو» مثلك، ثم سمعت رباعيات موزار في الأسبوع الماضي. سأحاول أن أكون معك اليوم مساء على نفس البرنامج. ما أجمل أن نكون مُنصِتين لنفس الموسيقى في نفس اللحظة رغم أن بيننا في المكان مئات الأميال!

صحتي بخير، عظيمة جدًّا في الواقع، وذلك بفضل انقطاعي عن التدخين. والحقيقة أن صحتي لم تكن في يوم من الأيام أفضل مما عليه الآن … أنام ملء عيوني كل يوم ثماني ساعات، وأحلم أجمل الأحلام … انتهى ضيق النفس وآلام الكبد، وكأن عصًا سحرية قد لمستني منذ انتهاء الدخان. إن بعض الأصدقاء يقولون إنني صغرت عشر سنوات بعد هذا الانقطاع عن التدخين! ما زلت في انتظار قبلة خاصة على هذا الموقف، وأنا أناضل ضد الدخان يا حبي ويا أملي.

كامل

كتبت هذا الخطاب اليوم صباحًا، ولكنه ظل مركونًا إلى المساء، فرأيت أن أضيف إليه بعض الإضافات. لقد انتهيت الآن من عمل «النوباتشية» التي تأتي لكل واحدٍ منا مرة كل عشرة أيام، وهي تعني غسل كل صحون الغرفة وكنس الأرض ومسحها. لقد مسحت البلاط إذن بالخيشة وغسلت وجهي وقدمي بعد ذلك، وجلست لأكتب لكِ هذه الإضافة عن نشاطنا المسرحي. أنتِ تعلمين أن «حلاق بغداد» لألفريد فرج قد أُخرجت هنا أولًا، وقد تولى إخراجها صلاح حافظ قبل خروجه، ولم يكن ألفريد معنا وقت إخراجها، ثم تولى صلاح إخراج مسرحية الخبر هنا أيضًا. وبعد ذلك أخرج حسن فؤاد قبل الإفراج عنه مسرحية نعمان عاشور «عائلة الدوغري». كل هذا تم على المسرح الذي بنيناه بأيدينا، وهو يسع نحو ٥٠٠ متفرج. وبعد الإفراج عن حسن فؤاد تولى محمود العالم مسئولية الإشراف على إخراج عدد من المسرحيات منها مسرحية «حفلة عيد ميلاد». وفي يوم زيارتك في العيد واليوم الذي تلاه قدَّم محمود مسرحية «الناس اللي فوق»، ولقيت نجاحًا ملحوظًا على الرغم من ضعف الإمكانيات في الملابس والديكور. ولقد قرر محمود الدخول في تجربة جديدة احتفالًا بيوم المسرح العالمي (۲۷ مارس) بتقديم ثلاث مسرحيات قصيرة معًا … واحدة لبريخت (القاعدة والاستثناء) وأخرى للوركا (الإسكافية العجيبة) والثالثة (الدب) لتشيكوف. أظنكِ تدركين مدى طموح المشروع، ومحمود يعمل مع عدد من الممثلين ليلَ نهار في هذا المشروع، وأرجو له التوفيق.

أما عن أخبار المسرح عندكم فنحن نتابع باهتمام المعركة المثارة حول مسرحية «الأرانب» للطفي الخولي. من الواضح أن النقاد عمومًا غير راضين عنها. وبالصدفة البحتة أتيح لي ولمحمود أن نسمع المسرحية في «صوت العرب» ولم نُعجَب بها … الموضوع ممل والفكاهة رخيصة، وهي إنتاج لا يشرِّف.

تحياتي للجميع، وإلى لقاء قريب على صفحات الخطابات يا أمورة! وما زلت أذكر موعدنا كل مساء، فهل تذكرينه؟

كامل

خطابها التاسع عشر

القاهرة في ١٩٦٤/٣/١٣م

أخي العزيز:

قبلاتي وأشواقي.

وصلني خطابك بتاريخ ٣/٦، ولاحظت أن هذه هي أول مرة تقول فيها «يا أمورة» وتناديني بهذه الصفة. قل لي بصراحة: هل اكتشفت هذه الصفة أخيرًا — بصرف النظر عن كونها حقيقية أم لا — أم أن صورتي أقنعتك بذلك، أم ماذا؟

هل يضايقك هذا الكلام؟ إنه مجرد مداعبة يا عزيزي، وإن كانت لا تصل إلى مستوى مداعباتك الرقيقة الحنونة.

طبعًا يا عزيزي أذكر موعدنا كل مساء العاشرة تمامًا، وما زلت في هذا الموعد أقابلك وأنا في الأتوبيس. ماذا تفعل أنت يا ترى في هذا الموعد؟ إنك لم تكتب لي أبدًا عما تفعله في هذه الفترة من اليوم، أم أنك معتاد على النوم المبكر وتنتظر هذا الموعد وأنت في السرير.

والآن إليك أخباري … مجلة «نهضة أفريقيا» ستصدر لآخر مرة بعد يومين على الأكثر، وقد بدأت بالفعل ألتفت إلى الرسالة التي لم يعد أمامي لإنجازها سوى شهرين فقط. كنت أحاول تدبير الوقت لأبحث عن مراجع، والآن اكتشفت أنه لم تَعُد هناك مراجع، وأن كل ما يمكن الاستفادة منه قد أنجزته دون أن أكمل الرسالة!

نسيت أن أخبرك أني ذهبت أزور بعض الصحفيين الأجانب في منزلهم بالزمالك … شقة كبيرة تشرف على النيل وتكشف مبنى التليفزيون كله، بل مدينة المقطم والقاهرة كلها. ولكني لم أستمتع بهذا المنظر، وقد يبدو السبب غريبًا … ففي شرفة المنزل عصفور حزين في قفصه. إنه نوع من الكنارية الذي يجب أن يصفر ويغني ويمرح، ولكنه لا يفعل أبدًا شيئًا من هذا كله. لا تندهش إذا قلت لك إنني شعرتُ بحزنٍ شديد من أجله. وكم فكرت جديًّا أن أفتح له القفص ليخرج إلى الحرية وينعم بها، ولكني كنت أقنع نفسي بمجهود شديد؛ لأنه ليس من حقي أن أفعل ذلك وهو ليس ملكًا لي! لا أتصور يومًا أنني أستطيع الاستمتاع بمنظر عصفور في قفص، فكيف يمكن أن أملكه وأن أضعه في بيتي!

إن ألمي يتجدد كل يوم عندما أتذكر صورة هذا العصفور، وهو يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحطم أسلاك القفص أو حتى يلويها ليستطيع الانطلاق. إن كل ذلك ليس سببه قصيدتك، وإنما حزن العصفور الذي عشت معه ساعات تزيد من ألمي «للطائر الحزين» الذي أعيش معه طول يومي.

سرني يا عزيزي أن صحتك تحسنت بعد انقطاعك عن التدخين. أما مسألة أنك صغرت عشر سنوات، فأنا أرحب بها وإن كانت لا تثير اهتمامي كثيرًا، فحيويتك وذكاؤك وضحكاتك وقهقهاتك هي التي تثير كل اهتمامي. إني أتابع نشاطك على البُعد وأحس بفخرٍ شديد بك.

قبلة قوية عميقة إذا كنت ما زلت ممتنعًا عن التدخين. أما إذا كان الدخان قد قهرك فإنني أنقل القبلة إلى خدك، وستكون خفيفة، فيها مزيج من الغضب والعتاب … ليس من أجلي، وإنما من أجل صحتك الغالية جدًّا عندي كما تعلم.

الجميع يبعثون إليك بتحياتهم وتمنياتهم، وخاصة عمتي التي تعتز بك إلى أقصى حد.

تمنياتي وقبلاتي.

عنايات

خطابي الحادي والثلاثون

سجن الواحات في ١٩٦٤/٣/١٩م

زوجتي الحبيبة:

بدأت هذا الخطاب لأقول لك إننا علمنا على وجه التأكيد بأن دفعة من ٣٥ معتقلًا قد أُفرج عنها يوم السبت ٣/١٤، كما تم بالأمس في الواحات ترحيل ۳۲ من زملائنا المعتقلين إلى القاهرة مباشرة للإفراج عنهم. وقد ودعناهم وداعًا حافلًا، ويقولون هنا في الإدارة إن دفعة أخرى (حوالي ٣٥) سوف ترحل من هنا إلى القاهرة يوم ۲۲ مارس، وإن كنت لا أتوقع أن أكون ضمن هذه الدفعة. لقد بدأت العجلة تدور بسرعة في هذه المرة، وإذا مضت بهذا المعدل فسوف أكون بينكم على أوائل مايو على أقصى تقدير!

والآن فوجئنا بالصحف المصرية تعلن أنباء إلغاء الآثار المترتبة على حالة الطوارئ، والإفراج عن جميع المعتقلين الذين لم تصدر ضدهم أحكام قضائية. وقد وصلتنا الآن أنباء من الإدارة تفيد أنه سوف يفرج عنا جميعًا قبل آخر مارس! تصوري يا أمورة! هل يُعقل أني سأكون معكِ بعد أيام؟ إنني شخصيًّا لا أصدِّق. على كل حال سوف أنتظر وأفيدك أولًا بأول بكل التطورات ولو تلغرافيًّا.

قبلاتي الحارة، إنني أحبك من كل قلبي وأرجو أن تسمح لي الظروف أن أعبر لك شخصيًّا عن كل حبي الصادق، وأن أعمل على إسعادك بعد كل هذا الصبر وهذه الشجاعة النبيلة.

كامل

خطابها الأخير

القاهرة في ١٩٦٤/٣/٢٠م

أخي العزيز:

لا أدري إذا كان هذا الخطاب سوف يصلك أم لا … فأنا لا أعرف شيئًا عن سرعة التغييرات الجديدة التي يمكن أن تحدث نتيجةَ القرارات الجديدة بإلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين، والتي أذيعت بالأمس في الصحف والإذاعة.

على أي حال، يجب أن أسجل فرحتي بالنصر الأخير، وأن أحيي بتقدير وإعزاز أبطالنا. ألف مبروك، مبروك علينا وعلى شعبنا وعلى بلادنا.

وإلى لقاء قريب جدًّا مع أجمل التمنيات.

عنايات
١  تمت زيارتها الثالثة لي في الواحات في ٤ يناير ١٩٦٤م.
٢  تمت الزيارة الرابعة والأخيرة في ١٩٦٤/٢/١٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥