ناصر خسرو

ولد ناصر سنة (٣٩٤ﻫ/١٠٠٣م) في بلدة من أعمال بلغ وتأدب أحسن تأدب. وقام في شبابه بأسفار عديدة في أنحاء إيران وتركستان والهند وبلاد العرب، ثم استقر في منصب كبير في ديوان السلاجقة بمدينة مرو. وظل يعيش ترف وبطالة حتى سنة (٤٣٧ﻫ/١٠٤٥م)؛ فنراه يضحي بمنصبه ويبدأ حياة جد وسفر وعلم وتقوى. وهو يذكر في كتاباته أن السبب في هذا التحول رؤيا ظهر له فيها شيخ طلب إليه أن يكف عن شرب الخمر وعن حياة اللهو والمجون. فسافر لتأدية فريضة الحج وقام برحلات طويلة في الشرق الأدنى بين عامي (٤٣٧–٤٤٤ﻫ/١٠٤٥–١٠٥٢م).

ولما عاد إلى وطنه كان قد ترك مذهبه السني، وأصبح من أشد دعاة الإسماعيلية والمتعصبين للفاطميين. ولا عجب فإنه غادر إيران في وقت انتشرت فيه الاضطرابات، واشتد النزاع بين أمراء الأقاليم المختلفة، ورأى نفس البؤس في البلاد التي زارها ما خلا مصر، فقد وجد فيها رخاءً عظيمًا وأسواقًا عامرةً وتحفًا فنية نادرة وهدوءًا شاملًا. وظن ناصر خسرو أن الفضل في رخاء وادي النيل، إنما يرجع إلى الدولة الفاطمية ومذهبها الإسماعيلي، وأن هذا المذهب كفيل بإنقاذ العالم الإسلامي؛ فلم يلبث ناصر أن اتصل ببعض رؤساء الشيعة الإسماعيلية في مصر. والظاهر أن الخليفة المستنصر بالله أحسن استقباله وكلفه بأن يدعو لمذهب الإسماعيلية في خراسان. ولكن السلاجقة لاحظوا خطر هذه الدعوة فاضطهدوا ناصر خسرو، واضطروه إلى الفرار إلى بلاد ما وراء النهر، حيث توفي سنة (٤٥٣ﻫ/١٠٦١م).

وخلف هذا الرحالة وصفًا دقيقًا لرحلته يحمل على القول بأنه كان يدون مشاهداته أولًا فأولًا وأنه كان يعنى بالاتصال بالشعوب التي يمر بها، ويتفهم مظاهر الحضارة التي يشاهدها. وحسبنا أن نشير هنا إلى وصفه مدينة القاهرة، وكلامه عن حضارة مصر في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وعنايته بدراسة الأعياد والحفلات والصناعات والفنون والأسواق، وإلى وصفه الحرم الشريف بالقدس.

وقد ترجمت رحلة ناصر خسرو إلى الفرنسية. وأصبحت مصدرًا أساسيًّا في دراسة الحضارة الإسلامية في الشرق الإسلامي في القرن الخامس الهجري، والحق أن وصف مصر في رحلة ناصر خسرو يعد من أكثر المصادر التاريخية إمتاعًا وأعظمها شأنًا في بيان حال البلاد قبل القحط أو «الشدة العظمى» التي حلت بها في نهاية عصر الخليفة المستنصر.١

ولا عجب فإن هذا الرحالة لم يكن سائحًا عابرًا؛ بل أقام في مصر نحو أربع سنوات ودون مشاهداته بدقة وإسهاب، فوصف الحياة العقلية وتحدث عن الأزهر ودار الحكمة وجامع عمرو، وعن العلماء والفقهاء ودعاة الفاطميين.

واستطاع أن يدرس الحياة الاجتماعية عن كثب. فذكر مثلًا أنه لم يعرف بلدًا يستمتع بمثل ما ظفرت به مصر من الأمن والهدوء، وأن الصناع والعمال فيها يمنحون أجورًا مرضية، فيقبلون على العمل بسرور وانشراح، على عكس ما في الأقطار الأخرى من السخرة وما إلى ذلك؛ كما أن مرتبات القضاة كانت كبيرة جدًّا، ليتم الاطمئنان إلى عدالتهم وبعدهم عن المؤثرات المختلفة ولتقل حاجتهم إلى الناس.

ولاحظ ناصر أن التجار في مصر كانوا يبيعون بأثمان محددة، وإذا ثبت على أحدهم الغش فإنه يركب جملًا، ويوضع في يده جرس يدقه ويطاف به في البلد ويرغم على أن يصيح بأعلى صوته: «لقد غششت وها أنا ألقى عقابي. جزى الله الكاذبين!» وكتب كذلك أن البقالين والعطارين وبائعي «الخردة» كانوا يأخذون على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق لوضع ما يبيعونه فيها؛ فلم يكن على المشتري أن يبحث عما يجعل فيه ما يقتنيه.

ومما ذكره أن ركوب الخيل كان وقفًا على الجند والمتصلين بالجيش، على حين كان سائر الأهلين ينتقلون على حمير ذات سروج جميلة. وكان في الفسطاط والقاهرة نحو خمسين ألف حمار للتأجير؛ يشاهد المرء عددًا كبيرًا منها عند مداخل الشوارع والأسواق.

وأطنب ناصر خسرو في التدليل على ثروة البلاد ورخائها، ووصف مدينة القاهرة وصفًا شائقًا، وقدر أنها في ذلك الوقت (فيما بين سنتي ٤٤٩–٤٤١ هجرية/١٠٤٧–١٠٥٠م) كانت قد نمت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك للخليفة. وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا القليل تبلغ أجرته في الشهر دينارين. وكان في القاهرة من الخانات والحمامات عدد وافر جدًّا، وكلها ملك للخليفة أيضًا والقصر الملكي وسط المدينة، بينه وبين الأبنية المحيطة به فضاء يفصله عنها. وأسواره عالية فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل المدينة، وهو يبدو من خارجها كالجبل. ولم يكن بالقاهرة سور محصن، ولكن أبنيتها كانت أعلى من الأسوار المحصنة، وفي كل منها خمس طبقات أوست؛ فكأنها القلاع الضخمة. وكانت البيوت مبنية بناءً نظيفًا محكمًا وكانت مفصولًا بعضها عن بعض بحدائق ترويها مياه الآبار.

وانتقل ناصر خسرو بعد ذلك إلى وصف مدينة الفسطاط جنوبي القاهرة، حيث كانت الحركة التجارية فأسهب في الكلام على عظمتها وبيوتها الشاهقة وجوامعها الكبيرة وحدائقها الغناء وصناعتها الزاهرة، ووصف الثروة في أسواقها والازدحام فيها، وقال: إن الحوانيت مملوءة بالسلع المختلفة والأقمشة الثمينة والذهب وسائر الحلي، حتى إن المشتري لا يجد فيها محلًّا يجلس فيه.

وذكر هذا الرحالة في مواضع عديدة من حديث رحلته قصصًا تشهد بالتسامح الديني الذي عرف عن العصر الفاطمي، وباطمئنان المسيحيين واليهود إلى عدل الخليفة وحكومته. ومن ذلك قصة تاجر مسيحي كان من أغنى الأثرياء في مصر؛ فلا يستطيع أحد أن يحصي أرزاقه وأملاكه وماله من السفن. وقد دعاه الوزير ذات يوم وأخبره أن الخليفة أقلقه، وأهمه ما حل بالشعب من الضيق بسبب قلة المحصول ذلك العام، ثم سأله عن مقدار القمح الذي يمكنه أن يبيعه أو يقرضه، فأجاب التاجر بأن عنده من القمح ما يكفي مدينة مصر (الفسطاط) ست سنوات. وقد أعجب ناصر خسرو بما عرف عن الخليفة والحكومة من العدل الذي يسمح لمثل ذلك الرجل أن يمتلك مثل هذه الثروة، وأن يصدق القول بشأنها بدون أن يخشى مصادرتها أو ضياع حقه في جزء منها.

وامتاز ناصر خسرو بما عرف عن الإيرانيين من الذوق الفني الجميل؛ حتى أصبحت ملاحظاته وآراؤه عن الآثار والفنون في رحلته مرجعًا أساسيًّا للمشتغلين بالفنون الإسلامية. فنراه يتحدث عن مراكز الصناعات والفنون المختلفة، ويصف المساجد، والقصور والخانات وغير ذلك من مفاخر العمارة الإسلامية. وتحدث ناصر عن مدينة تنيس، وأعجب بما كان ينسج في أي مكان آخر قصب يوازيه في الجودة والجمال، وبقماش الأبوقلمون، الذي يتغير لونه باختلاف ساعات النهار، ويصدره المصريون إلى بلاد الشرق والغرب. كما أعجب بالكتان الذي كان ينسج في أسيوط ويبدو للعين كأنه الحرير.

وأشار إلى صناعة الخزف في العصر الفاطمي؛ فقال: إن المصريين كانوا يصنعون أنواع الخزف المختلفة، وإن الخزف المصري كان رقيقًا وشفافًا، حتى لقد كان ميسورًا أن ترى من باطن الإناء الخزفي اليد الموضوعة خلفه. وكانت تصنع بمصر الفناجين والقدور وسائر الأواني، وتزين بألوان مختلفة تختلف باختلاف أوضاع الآنية.

وكان ناصر خسرو شديد الإعجاب بسوق القناديل — بجوار جامع عمرو — فقال: إنه لم يعرف مثله في أي بلد آخر، وإن التحف النادرة والثمينة كانت تحمل إليه من أصقاع العالم كله. وترجع هذه التسمية إلى أن سكان هذا الحي كان لكل منهم قنديل على باب مسكنه. والطريف أن ما وصل إلينا من التحف الفنية الفاطمية يؤيد تمامًا ما كتبه ناصر خسرو في هذا الميدان. وقد فصلنا الكلام على ذلك في كتابنا «كنوز الفاطميين».

ولا ريب في أن هذا الرحالة أتيح له أن يدرس مصر دراسة طيبة خلال رحلته فيها، وإن كان من المحتمل أن تعصبه الشديد للمذهب الفاطمي قد يكون من أسباب إفراطه في الإعجاب بثروة البلاد ورخائها وأمنها، والتسامح الديني فيها وازدهار فنونها وعدالة النظم الاجتماعية فيها.

والحق أن ناصر خسرو لم يكن شديد الاهتمام بالنظم الاجتماعية في مصر فحسب؛ بل نراه يعرض لما يصادفه من هذه النظم في سائر البلاد التي تجول فيها. مثال ذلك ما كتبه عن إقليم الأحساء في بلاد العرب. فقد أعجب بنظام الحكومة القرمطية فيه. وذكر أنه إذا أعسر أحد السكان فيه أقرضوه مالًا يستعين به على تدبير أموره، وأن الذي يستدين شيئًا لا يطالب بدفع ربح عنه، وأن الغريب الذي يحسن إحدى الحرف يقرض عند وصوله إلى هذا الإقليم مبلغًا من المال يستعين به على شراء عدده. وإذا تهدمت دار أو مطحنة، وعجز صاحبها عن إصلاحها، فإن حكام الإقليم ينيطون ببعض عبيدهم إتمام هذا الإصلاح من غير أجر. وللحكومة في الإحساء مطاحن تنفق عليها ويطحن الناس فيها قمحهم بالمجان. وقد سجل ناصر إعجابه بهذه النظم التي تذكرنا الآن ببعض الاتجاهات الاشتراكية في العصور القديمة وفي العصر الحديث.

•••

ودون ناصر في أخبار رحلته أن السفر في بعض أجزاء بلاد العرب لم يكن ميسورًا إلا إذا استأجر المسافر حارسًا من أبناء القبيلة التي يمر بأرضها ليدله على الطريق ويحميه من اعتداء قطاع الطرق.

ومن طريف ما ذكره ناصر عن البيع والشراء في أسواق البصرة أن هذه المدينة كانت تقوم في أنحائها ثلاثة أسواق في اليوم الواحد، وأن رواد تلك الأسواق كانوا يودعون أموالهم عند أصحاب المصارف المالية، ويأخذون منهم إقرارًا باستلامها ثم يدفعون قيمة كل ما يشترونه «شيكًا» أو «إذنًا» يقبض البائع قيمته من صاحب المصرف. وهكذا لا يستعمل التجار النقود في معاملتهم، وإنما يستخدمون «الشيكات أو أذنات الصرف» يدفع قيمتها أصحاب المصارف.٢

ولاحظ ناصر خسرو في مدينة طبس (بين نيسابور وإصفهان) أن المرأة لا تخاطب إلا زوجها أو قريبًا لها وأنه إذا ثبت أن رجلًا وامرأة لا قرابة بينهما قد دار بينهما حديث فإن جزاءهما القتل.

وصفوة القول: أن رحلة ناصر خسرو في الشرق الأدنى تميط اللثام عن كثير من نظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).

١  راجع كتابنا «كنوز الفاطميين» ص١٠–١٦.
٢  انظر Nasiri–Khosrau: Sefer Nameh ص١٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤