عبد اللطيف البغدادي

ولد عبد اللطيف بن يوسف في بغداد سنة ٥٥٧ﻫ/١١٦٢م، ودرس الطب والفلسفة وعلوم اللغة. وتنقل بين مصر والشام والعراق. واتصل بصلاح الدين وغيره من الأمراء الأيوبيين. واجتمع بأعلام الأساتذة ولم يكن «يأخذ بقلبه ويملأ عينه» إلا النفر القليل منهم. وقد لقي الفاضل في معسكر صلاح الدين بظاهر مدينة عكاء. وزوده القاضي الفاضل بكتاب توصية إلى وكيله في مصر، وهو ابن سناء الملك. ولكن عبد اللطيف لم يلبث أن غادر مصر ورحل إلى القدس للقاء صلاح الدين، ثم يمم شطر دمشق. وقدم مصر ثانية بعد وفاة صلاح الدين واشتغل بالتدريس في الأزهر، وشاهد الغلاء الفاحش والقحط والوباء والشدة العظمى التي ألمت بوادي النيل فيما بين سنتي ٥٩٥–٥٩٨ﻫ/ ١١٩٨–١٢٠١م.

وأهم ما وصل إلينا من مؤلفات عبد اللطيف البغدادي كتاب «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعانية بأرض مصر». وهو وصف رحلته إلى وادي النيل في نهاية القرن السادس الهجري. وقد ذاعت شهرة هذه الرحلة، وترجمت إلى بضع لغات أوروبية. والحق أنها تمتاز — على اختصارها — بدقة الوصف، وذكر مختلف الشئون العمرانية والاجتماعية، فضلًا عن الاتجاه العلمي المنتظر من طبيب مثل البغدادي، والذي يتجلى في كلامه على خواص مصر العامة، وعلى ما تختص به من النبات والحيوان، وعلى ما فيها من الآثار القديمة مثل الأهرام وأبي الهول والمسلات، والمعابد في مصر العليا، ومنارة الإسكندرية وعمود السواري.

figure
رسم سفينة عربية في مخطوط من القرن السابع الهجري (١٣م). (عن فييت).
ومن الطريف أن عبد اللطيف سجل في رحلته رأيًا في قيمة الآثار قد يظن بعضهم أنه غريب على المسلمين في العصور الوسطى. أجل، فقد كتب هذا الرحالة:

وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار، وتمنع من العيث فيها والعبث بها، وإن كانوا أعداء لأربابها. وكانوا يفعلون ذلك لمصالح: منها لتبقى تاريخًا يتنبه به على الأحقاب … ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك. وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الاطلاع عليه.

ولكنه أضاف إلى ذلك أن القوم في عصره كانوا يخربون الآثار ويكسرون الأصنام، ويدخلون إلى المقابر بحثًا عن الكنوز وسعيًا وراء الذهب المدفون مع الموتى. والحق أن ما كتبه البغدادي عن المقابر الأثرية وما يوجد فيها لا يختلف كثيرًا عما وصلت إليه الحفائر العلمية في العصر الحاضر، أي: بعد وفاة البغدادي بسبعمائة سنة ونيف، بل إن الفصل الطويل الذي عرض فيه لآثار مصر فيه من دقة الوصف وشدة الإعجاب ما يبدو كأنه بقلم عالم من علماء الآثار المحدثين.

•••

أما ما ذكره البغدادي عن حوادث مصر سنة ٥٩٥ وسنة ٥٩٨ﻫ فوصف تقشعر لهوله الأبدان، إذ اشتد القحط حتى أكل الفقراء لحم الميتة والكلاب: بل «تعدوا إلى أكل صغار بني آدم». ولم يفت الرحالة أن يلاحظ أن فريقًا من الناس استغل هذه الشدة العظمى على حساب الطبقات الفقيرة في الشعب، فأثبت في أخبار رحلته أن «مما يقضي منه العجب أن جماعة من الذين ما زالوا مجدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة. فمنهم من أثرى بسبب متجره في القمح. ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل إليه بالإرث. ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف».

وروى عبد اللطيف قصصًا مروعة عن الجوع والوباء وتصيد الناس، وأثر هذا كله في الانصراف إلى الضلالة والشهوات. وكأنه شعر بما يحمله بعضها من طابع المبالغة فقال: «ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر. وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صادفناه اتفاقًا، بل كثيرًا ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره.» والمعروف أن مصر ابتليت بمثل هذا القحط عدة مرات في تاريخها الطويل. وحسبنا أن المقريزي، شيخ المؤرخين المصريين في العصور الوسطى، ألف كتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، بحث فيه المجاعات التي نزلت بمصر منذ أقدم العصور إلى سنة (٨٠٨ﻫ/١٤٠٥م)، فتقصى أسبابها، وأشار إلى الأساليب الممكنة لعلاجها.

والحق أن البغدادي كان دقيق الملاحظة في كل ما دونه في رحلته عن أرض مصر ومناخها ونباتها وحيوانها، ومن ذلك قوله: «إن أرض مصر رملية لا تصلح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود علك فيه دسومة كثيرة يسمى الإيليز؛ يأتيها من بلاد السودان مختلطًا بماء النيل عند مده، فيستقر الطين، وينضب الماء، فيحرث ويزرع. وكل سنة يأتيها طين جديد، ولهذا يزرع جميع أراضيها ولا يراح شيء منها، كما يفعل في العراق والشام.»

ولاحظ عبد اللطيف أن مصر لم يكن بها فراريج عن حضان الدجاج إلا نادرًا؛ فقد كان في البلاد كثيرًا من معامل الفروج، وكان القوم يتقنون صناعة حضانة الفراريج، ويتخذونها صناعة ومعيشة يتجر فيها ويكتسب منها، وقد أسهب الرحالة في وصف طريقة المصريين في بناء تلك المعامل واستخدام زبل البقر حتى لا يبقى فيها منفس للبخار.

ورأى البغدادي أن كثيرًا من الناس يدخلون الهرم الأكبر، وذكر أن الطريق المسلوك في هذا الهرم زلاقة تفضي إلى قلعة فيها ناووس من حجر، ولاحظ أن مدخل الهرم ليس الباب المتخذ له في أصل البناء، وإنما منقوب نقبًا صودف اتفاقًا، وأعجب ببناء الأهرام إعجابًا عظيمًا فقال: «وقد سلك في بناء الأهرام طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممر الزمان، بل على ممرها صبر الزمان، فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلًا هي غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سيرهم وأخبارهم، وذلك أن وضعها على مخرط يبتدئ من قاعدة مربعة وينتهي إلى نقطة، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه، وهو يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته، ويتحامل بعضه على بعض؛ فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها، ومن عجيب وضعه أنه شكل مربع قد قوبل بزواياه مهاب الرياح الأربع؛ فإن الريح تنكسر سورتها عند مصادمتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقى السطح.»

ولم يكن البغدادي سائحًا عابرًا، بل كان يبحث ويتفهم. فنراه، مثلًا قد سمع أن في القرية المجاورة للأهرام قومًا اعتادوا ارتقاء الهرم بدون عناء، فاستدعى أحدهم وأعطاه شيئًا من النقود وطلب إليه أن يصعد إلى قمته وأن يقيس أبعاده عندها، ولكنه لم يطمئن بعد ذلك إلى قياسه، فدون رأيه في خطأ هذا القياس، وعلق عليه بقوله: «وإن ساعدت المقادير توليت قياسه بنفسي.»

وأشار البغدادي إلى المغارات الموجودة على ضفة النيل الشرقية جنوبي القاهرة وقال: إنها «مقابر كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار متداخلة وفيها ما هو ذو طبقات ثلاث، وتسمى المدينة، حتى لعل الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يومًا أجمع، ولا ينهيها، لكثرتها وسعتها وبعدها، ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام».

وشاهد عبد اللطيف أبا الهول وأعجب بتناسب وجهه وباستطاعة الفنان أن يحفظ نظام التناسب في الأعضاء مع عظمها.

وصفوة القول: أن البغدادي أطنب في وصفه آثار مصر وأعمل الفكر في بيان عظمتها، وحسبنا أنه ختم ما كتبه عنها بعبارة أودعها كل شعوره في هذا الصدد. قال: «وإذا رأى اللبيب هذه الآثار، عذر العوام في اعتقادهم عن الأوائل بأن أعمارهم كانت طويلة وجثثهم عظيمة، أو أنه كان لهم عصًا إذا ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم، وذلك أن الأذهان تقصر عن مقدار ما يحتاج إليه في ذلك من علم الهندسة، واجتماع الهمة، وتوفر العزيمة، ومصابرة العمل، والتمكن من الآلات، والتفرغ للأعمال، والعلم بمعرفة أعضاء الحيوان، وخاصة الإنسان، ومقاديرها، ونسب بعضها من بعض، وكيفية تركيبها، وبصفاتها، ومقادير وضع بعضها من بعض.»

وقد أطنب عبد اللطيف في وصف حمامات مصر وقال: إنه لم يشاهد «أتقن منها وصفًا ولا أتم حكمة ولا أحسن منظرًا ومخبرًا. أما أولًا فإن أحواضها يسع الواحد منها ما بين روايتين إلى أربع روايا وأكثر من ذلك، يصب فيه ميزابان ثجاجان حار وبارد، وقبل ذلك يصبان في حوض صغير جدًّا مرتفع، فإذا اختلطا فيه جرى منه إلى الحوض الكبير، وهذا الحوض نحو ربعه فوق الأرض وسائره في عمقها ينزل إليه المستحم فيستنقع فيه. وداخل الحمام مقاصير بأبواب، وفي المسلح أيضًا مقاصير لأرباب التخصص حتى لا يختلطوا بالعوام ولا يظهروا على عوراتهم. وهذا المسلح بمقاصيره حسن القسمة مليح البنية وفي وسطه بركة مرخمة وعليها أعمدة وقبة وجميع ذلك نرزوق السقوف مفوف الجدران مبيضها مرخم الأرض بأصناف الرخام مجزع باختلاف ألوانه، وترخيم الداخل يكون أبدًا أحسن من ترخيم الخارج، وهو مع ذلك كثير الضياء مرتفع الآذاج، جاماته مختلفة الألوان ضافية الأصباغ بحيث إذا دخله الإنسان لم يؤثر الخروج منه؛ لأنه إذا بالغ بعض الرؤساء أن يتخذ دارًا لجلوسه، وتناهى في ذلك لم تكن أحسن منه».

والواقع أن عبد اللطيف البغدادي أعجب بكل ما شاهد في القاهرة من غرائب الأبنية ووسائل الراحة التي قرنها أحد العلماء المحدثين بما نعرفه في الفنادق الحديثة من أرقى المخترعات وأساليب الترف.١
figure
الإسكندر الأكبر في حديقة، أشجارها من الذهب، وقباب معابدها مغطاة بالذهب ومرصعة بالأحجار الثمينة. صورة من مخطوط فارسي من تاريخ الإسكندر للشاعر نظامي، كتب في القرن الحادي عشر الهجري (١٧م). (عن بلوشيه).
١  انظر Th. De la Ronciere: La decouverte de l’Afrique Moyen Age ج٢ ص٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤