قصة الفتية المغررين

اتجهت بعض الأبحاث العلمية الحديثة إلى القول بأن المسلمين عرفوا أمريكا قبل أن يكشفها كولومبس. وأشار أصحاب هذه النظرية إلى وجود كلمات عربية في لغة هنود أمريكا، وإلى أن كولومبس وجد في رحلته الثالثة زنوجًا وذهبًا إفريقيًّا في جزائر الهند الشرقية، وأن مدينة بعض الجماعات الوطنية في أمريكا تشبه المدينة الإسلامية إلى حد كبير.١

ولسنا نعرض هنا لبحث هذه النظرية، ولكنا لا نشك في أن العرب اتخذوا الأساطيل في المحيط الأطلسي الدفاع عن ملكهم في المغرب والأندلس. وطبيعي أنهم عرفوا شيئًا عن سواحل هذا المحيط وعن الجزائر غير البعيدة عنها. ولكن في بعض المصادر التاريخية العربية ما يشهد بأنهم حاولوا النفوذ إليه والتوغل فيه.

ومن ذلك حديث فتية من مدينة لشبونة حول القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، قاموا في المحيط برحلة جريئة، وعادوا منها بعد تجارب قاسية وأهوال شديدة. ولم يصلنا من أخبار هذه الرحلة إلا ما كتبه الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق». وقد علق عليه الأمير شكيب أرسلان في كتابه «الحلل السندسية»، والأستاذ عبد الحميد العبادي في مقال عن قصة أولئك الفتية المغررين (أو المغربين؟) قال الإدريسي: «ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه … ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد. وذلك أنهم اجتمعوا، ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشأوا مركبًا حمالًا وأدخلوا فيه من الماء والزاد وما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية (أي: هبوبها) فجروا بها نحوًا من أحد عشر يومًا. فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير التروش (أي: الصخور التي لا يكاد يسترها الماء) قليل الضوء؛ فأيقنوا بالتلف، فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يومًا، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها، فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يومًا، إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غري بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك، فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها في دار، فرأوا بها رجالًا شقرًا، زعروا شعور رؤوسهم، شعورهم سبطة وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب. فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام. ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي. فسألهم عن حالهم، وفيم جاءوا، وأين بلدهم. فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرًا، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.

فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قومًا من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهرًا، إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي. ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيرًا وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدا جري الريح الغربية فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر. قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر، فأخرجنا وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا؛ فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلوا من وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا؛ فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفى! فسمي المكان إلى اليوم «أسفى» وهو المرسى الذي في أقصى المغرب.»

وعلى كل حال فإن هؤلاء الفتية استطاعوا العودة إلى لشبونة، كما يؤخذ من سياق الكلام في الإدريسي، وحدثوا أهلها بأخبار رحلتهم، ولكن مواطنيهم لم يروا فيهم إلا شبابًا مخاطرين مغررين (أو مغربين، من الاتجاه إلى المغرب؟) حتى عرف الدرب الذي كانوا يسكنونه بهذا الاسم.

وإن تكن معالم هذه القصة صادقة، فإننا لا نستطيع أن نتتبع سير هؤلاء الفتية؛ لنتبين الجزر التي وطئتها أقدامهم في هذه الرحلة، ولكننا نرجح أنهم وصلوا أولًا إلى مقربة من إحدى جزائر أزور Azores التي تبعد عن غربي البرتغال نحو ١٣٧٠ كيلومترًا، والواقعة بين خط ٣٧ وخط ٤٠ من العرض الشمالي وبين خط ٢٥ وخط ٣٢ من الطول الغربي. والظاهر أنها لم تكن مجهولة عند الفينيقيين والقرطاجنيين والنورمنديين والعرب، وإن نسب كشفها في القرن الخامس عشر الميلادي إلى الفلمنكيين في رواية، وإلى البرتغاليين في قول آخر. ولما انحدر الفتية إلى الجنوب وساروا اثني عشر يومًا فالمحتمل أنهم وصلوا إلى جزر ماديرا. وقد نقل الأستاذ عبد الحميد العبادي عن بعض العلماء الأوروبيين أن بهذه الجزيرة كثيرًا من المعز تقتات بنوع من العشب، هو السبب في مرارة لحومها. أما الجزيرة التي انتهى إليها المغرورون وقبض عليهم فيها، فلعلها إحدى جزر الخالدات أو كناري، التي تبعد عن الساحل الشمالي الغربي لإفريقية بنحو مائة كيلومتر والواقعة بين خطي ٢٧ و٢٩ من العرض الشمالي وبين خط ١٣ وخط ١٨ من الطول الغربي. والراجح أن هذه الجزائر كانت معروفة عند الفينيقيين ثم العرب، وذلك قبل أن يكشفها الأوروبيون ثانية في القرن الرابع عشر الميلادي.

ولعل هذه القصة لم تكن مجهولة في العصور الوسطى؛ بل لعل كولومبس كان يعرفها، ويعرف قصصًا أخرى من أخبار من حاولوا ركوب المحيط الأطلسي وكشف غوامضه، ومن روايات بعض البحارة في السفن التي كانت تسيرها بعض البيوت التجارية إلى ساحل أفريقية الغربي، وإلى بعض جزر المحيط الأطلسي، لجلب الذهب والعاج والأحجار الكريمة وغير ذلك. وكانت تلك البيوت التجارية تخفي أعمالها استئثارًا بالكسب، واحتكارًا للتجارة مع تلك الأصقاع.

وأكبر الظن أن هذه القصة أساس رحلة تنسب إلى راهب إيرلندي اسمه القديس براندان. توفي سنة (٥٧٨م)؛ ولكن حديث رحلته لم يظهر إلا في القرن الحادي عشر الميلادي. والأرجح أنه خرافة، قامت على بعض عناصر من قصة الفتية المغررين، وعلى عناصر أخرى من الأخبار العجيبة المعروفة في أسفار السندباد البحري،٢ فضلًا عن قصص أخرى في الأدب الكلتي عن رحلات وهمية إلى ما وراء البحار، وقد اشتهر هذا الراهب بإنشاء عدة أديرة في إيرلندة. ويزعمون أنه أراد أن يبلغ الجنة التي جعلها الله مأوى لعباده الصالحين. أو أنه أراد أن يجد مكانًا قصيًّا يعتزل فيه الحياة الدنيا، فركب سفينة ومعه سبعة عشر من زملائه الرهبان يقصدون إحدى جزر المحيط الأطلسي، ولعلهم وصلوا إلى جزيرة من جزر الخالدات، ولكنهم لم يستقروا بها بل عادوا إلى إيرلندة. وقص براندان ما شاهد من العجائب والغرائب في قصيدة طويلة يظن النقاد أنها ترجع إلى القرن الحادي عشر، أو الثاني عشر بعد الميلاد. وقد ظل القوم يعتقدون بوجود جزيرة يطلقون عليها اسم هذا القديس، ويظنونها غربي جزائر الخالدات؛ بل كانوا يرسلون البعثات لكشفها حتى بداءة القرن الثامن عشر.
١  راجع مقال «عرف العرب أميركا قبل أن يعرفها أبناء الغرب» للأب أنستاس ماري الكرملي (عدد ٢ مجلد ١٠٦، فبراير سنة ١٩٤٥ من مجلة المقتطف).
٢  راجع J. De Goeje: La Legende de saint Brandan (tiree des actes du 8e Congres international des Orientalistes, teun en 1889 a Stock–hollm et a Christiania, Leyde. 1890).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤