عن هذا الكتاب

يتميز الإبداع في أي مجال بأنَّه يكسر الحدود والقواعد السَّابقة عَلَيه، بتجاوز الخطوط الحمراء كلها، ويأتي بالجديد من الأفكار والأشكال والتعبيرات التي لا تخطر على بال؛ لأنَّ الإبداع يعني الجديد والتمرد على القديم.

وخلال العشر سنوات الماضية كنت أستاذة زائرة في عدد من الجامعات غربًا وشرقًا، كنت أدرس مادة أعطيتها اسم «الإبداع والتمرد»، تقوم على فكرة أن لا حد للإبداع، ولا سقف للعقل البشري المبدع تحت أي حُجة سياسية أو دينية أو غيرهما.

ولأنني طبيبة وأديبة في آن واحد؛ فقد حاولت أن أكسر الحدود بين العلم والفن، أو بين الطب والأدب، وفي كليات الطب في الجامعات المتقدمة أصبح الطلاب والطالبات يدرسون الموسيقى والأدب والشعر، إلى جانب التشريح وعلم الأمراض والفيروسات والاقتصاد والسياسة والفلسفة وغيرها.

لقد تربينا منذ الطفولة على تقديس الحدود والخوف من تجاوز الخطوط الحمراء في كل مجال، خاصة مجال القوى السياسية والدينية المسيطرة؛ ولهذا السبب لم يخرج من بلادنا مبدعون أو مبدعات في مجال العلوم والفنون.

لقد تربينا على التقليد والمحاكاة والنقل والترجمة عن الآخرين، وليس الإبداع بعقولنا والمغامرة والخوض في المحرمات.

ومن المحرمات الموروثة في عالم الأدب هو الفواصل والحدود التي رُسمت بين الرواية والقصة والشعر والمسرحية وغيرها، وكذلك الحدود بين العلم والفن، لكن اللغة الإبداعية تكسر هذه الحدود وتعبر عن نفسها بطرق جديدة ومختلفة، الإبداع يحطم النظام السابق عليه ويخلق نظامًا جديدًا، الذي لا يلبث أن يتحطم مع الإبداعات الجديدة المتكررة دون انقطاع.

يواجه المبدع أو المبدعة ما تسمى مرحلة «الفوضى» بين النظامين القديم والجديد، إنها المرحلة التي تسبق قيام النظام الجديد وتلي زوال القديم، وهي مرحلة مؤقتة وقصيرة، إلا أنَّها مخيفة وضرورية لأي إبداع.

لقد أصبحت نظرية الفوضى في النظريات العلمية والفنية التي تكمل أي نظام، فليس هناك نظام دون أن يكون هناك فوضى، والفوضى لا تعني الجنون والخروج عن العقل؛ بل تعني كسر الجمود العقلي وتحرير العقل من القواعد السابقة والمقدسات الموروثة في العلم أو الأدب أو الفن أو غيرها.

وهذا الكتاب هو مرحلة من مراحل كسر الحدود بين الرواية والقصة والشعر والمسرحية والمقال العلمي، أو الأدب أو السياسة، إنَّه محاولة جديدة جاءت وحدها تلقائيًّا بعد أن شعرت بضرورة تواجدها؛ لأن الأشكال الأدبية الموروثة لم تعد كافية للتعبير عما يجيش في النفس من تغيرات وتحولات في عالم يعيش التغيرات والتحولات بأسرع مما نتخيل.

إن خيالنا يعيش في خوف من الإقدام على الجديد، والخيال جزء من العقل، يرث الخوف والنفاق بمثل ما يرث الشَّجاعة والصِّدق.

نوال السعداوي
نوفمبر ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤