من وحي قرار مفتي الديار المصرية

(١) وإذا أفتى المفتي فماذا يكون؟

إذا أفتى مفتي مصر الدكتور أحمد الطيب بأن الزوجة وحدها التي تُعاقب في جريمة الزنا والخيانة الزوجية، وأن الزوج لا يُعاقب إن قام بالجريمة ذاتها، فهل يكون حكمه هذا حكمًا أخلاقيًّا أم إسلاميًّا؟

ورد هذا السؤال في عقلي وأنا أقرأ الصحف المصرية في ٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٢، عما حدث في مجلس الشعب (البرلمان) في اليوم السابق عند عرض مشروع جديد لتعديل قانون العقوبات من أجل معاقبة الزوج على جريمة الزنا بالحبس لمدة لا تزيد عن سنتين، وقد أُرسل المشروع إلى المفتي الذي تشاور فيه مع «مجمع البحوث الإسلامية» التابع لمؤسسة الأزهر، ثم جاء حكمه برفض المشروع، لماذا؟ لأن الأصل في القضية هو تجريم الزنا «وهذا المشروع يتعلق بموضوع لم يُجرم أصله في القانون، وهو جريمة الزنا، كما جاءت به النصوص الشرعية، وبناء عليه فإن دار الإفتاء المصرية ترى عدم الموافقة على المشروع (عدم الأخذ بالاقتراح الوارد) لارتباط الرأي الشرعي في المشروع بتجريم الأصل، وهو جريمة الزنا.» هذا هو نص ما قاله المفتي ردًّا على المشروع.

خلال المناقشات داخل مجلس الشعب رفضت وزارة العدل المشروع بحجة أن الزوج له الحق في تعدد الزوجات؛ ولذلك يمكنه أن يتزوج المرأة التي ضبطتها زوجته معه، لكن هذه الحجة باطلة قانونًا؛ لأن القانون يُلزم الزوج إبلاغ زوجته الأولى بزواجه من امرأة أخرى.

لقد تخرَّج أبي في الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي، وقد اشتغل قاضيًا شرعيًّا بعض الوقت، وحكم ضد الأزواج الخائنين، وكان يقول: الخيانة ليست من الأخلاق الرفيعة أو الإسلام الصحيح؛ لأن المسئولية تتناقض مع الخيانة، لأن الحرية تعني المسئولية وليس الفوضى.

في مصر اليوم حملة كبيرة من أجل النهوض بالتربية والتعليم، وقد أصبحنا نشهد كل يوم مظاهر التدهور الأخلاقي أو الفساد داخل الأسرة أو خارجها في المجتمع المصري أو المجتمع الدولي، وهل هناك فساد أكثر من ذلك الفساد الدولي الذي يتبنى الازدواجية الأخلاقية، فيعاقب العراق مثلًا بالحرب أو بالعقوبات الاقتصادية على حين يُبرئ إسرائيل التي تذبح الشعب الفلسطيني أمام أعيننا كل يوم؟

إن مبدأ الأخلاق الصحيحة هو العدل، وهو المسئولية وهو الحرية، باعتبار أن الحرية والمسئولية لا ينفصلان، وأين هي المسئولية في حالة الزوج الذي يخون زوجته ثم يخرج بريئًا؟ أليس في ذلك إهدار للأخلاق، بل إهدار للأسرة وتشجيع الرجال على عدم المحافظة عليها؟

وهل تكون المرأة هي المسئولة الوحيدة عن الأخلاق وعن الحفاظ على الأسرة على رغم أنها لا تملك أي سلطة ويملكها الرجل؟!

قرأت في جريدة «الأهرام» «٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٢» عن تلك الزوجة المصرية التي منحت زوجها كل مالها ليخرج من أزمته المالية، وأخلصت له ثلاثين عامًا، إلا أنه تنكر لها وتزوج فتاة صغيرة السن، وطرد الزوجة إلى الشارع بلا مأوى، مع ذلك خرج هذا الزوج بريئًا في نظر القانون؛ لأن الزوجة لم تأخذ إيصالًا مكتوبًا من زوجها عن مالها؛ لأن القانون لا يحمي المغفلين الذين يجهلون القانون، وخرج الزوج بريئًا أيضًا في نظر رجال الدين، باعتبار أنه يمارس حقه الشرعي في تعدد الزوجات.

وفي الوقت الذي يتم فيه التساهل الأخلاقي الشديد مع الرجال إلى حد الفوضى وعدم المسئولية، فإن التشديد والتزمت هما من نصيب النساء فقط، وفي الوقت الذي يتمسك فيه رجال الدين بحرفية الشرع فيما يخص المرأة، فإنهم يتساهلون مع الرجل تحت اسم الاجتهاد وإعمال العقل.

وفي جريدة «الأهرام» (٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٢ ص٣٦) يُعلن المفتي أن وجود حجاب المرأة المسلمة في الثوابت الشرعية، وليس فيه اجتهاد أو إعمال للعقل، لماذا؟ لأن حجاب المرأة يدخل في إطار التوجيه الإسلامي العام المؤسس على مراعاة الفطر المستقيمة والأخلاق، وهل غطاء الرأس دليل الأخلاق، أم استقامة السلوك والأفكار؟ ولماذا لا يحكم المفتي بالمثل فيما يخص جريمة الزنا للرجال؟! وهل تدخل جريمة الزنا أو خيانة الزوج لزوجته في إطار الأخلاق أو التوجيه الإسلامي العام؟ (الذي يُساوي بين الرجل والمرأة التي ضبط معها! ألا يشبه ذلك تبرئة الرجل الذي يغتصب فتاة إذا تزوجها؟!)

وفي جريدة «أخبار اليوم» (٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٢ ص١٥) تحت عنوان «نبت الجريمة» نقرأ قصة الفتاة «سلوى» التي اغتصبها رجل وحملت منه واضطرتها أسرتها للزواج منه حتى لا تجلب العار لأشقائها وأمها، ولكن بعد شهرين فقط هرب الزوج تاركًا لها ورقة الطلاق، وتحملت سلوى الجرائم الثلاث: الاغتصاب ثم الزواج ثم الطلاق، وكان من الطبيعي أن تكره الرجل والجنين الذي منه، فأقدمت على قتل مولودها، وأُحيلت سلوى إلى النيابة التي قررت حبسها وتقديمها للمحاكمة العاجلة بتهمة «القتل». وقد اتهمت سلوى بأنها فاقدة «الأمومة» أيضًا، فكيف تقتل أم طفلها أو طفلتها؟ وتغنى الكثيرون ﺑ «الأمومة»، أما «الأبوة» أو مسئولية ذلك الرجل الذي اغتصبها، ويقولون إنه تزوجها وطلقها حسب القانون والشرع، فهو إذن بريء، أما هي فتستحق الإعدام؟

وكم من الأمثلة التي نشهدها كل يوم من هذا النوع، والتي تكشف لنا عن مدى الفساد الأخلاقي أو الازدواجية الأخلاقية التي تسود في مجتمعاتنا تحت اسم القانون، وكم من محاولات لتعديل مثل هذا القانون، إلا أن غالبية القيادات الدينية تقف ضد أي تعديل للقانون تحت اسم الشريعة أو الثوابت أو حسب مبدأ «لا اجتهاد مع النص».

والسؤال الآن هو: أين ذلك النص الذي يبيح هذه الازدواجية الأخلاقية؟!

دراسة القرآن تؤكد أن هذا النص غير موجود، وعلى رجال الدين في بلادنا أن يقولوا لنا أين هذا النص وماذا يقول؟ إن هذا هو التحدي الذي أمامهم الآن. (نرجو إخراج هذا النص إلى الوجود أيها السادة، إن استطعتم!)

وسؤال آخر: إذا كان تعدد الزوجات من الثوابت غير القابلة للتغيير، فلماذا تم تعديل القانون في عدد من البلاد الإسلامية، وألغى تعدد الزوجات تمامًا، وكذلك حق الطلاق إلا أمام القاضي ولسبب معقول، وليس لمجرد النزوة الجنسية أو الخيانات الزوجية والزنا.

على رغم الدراسات الاجتماعية المتعددة، والتي كشفت عن مآسي النساء المطلقات في المحاكم، وتشريد الأطفال وتفكيك الأسرة بسبب تعدد الزوجات أو ضربهن، أو هجرانهن أو مجرد التخلي عن مسئولية الأبوة، على رغم كل ذلك فإن قانون الأسرة أو قانون العقوبات لم يُعدلا بالقدر الكافي الذي يعاقب الرجل الذي يتخلى عن مسئولية الأبوة.

لا تزال القيم الاجتماعية والتعليمية والإعلامية في بلادنا قائمة على تحميل المرأة وحدها المسئولية تحت اسم «الأمومة» المقدسة العظيمة.

أما «الأبوة» فهي لا تزال قاصرة أو محدودة بالاتفاق، أو غائبة تمامًا في ما يخص المسئولية والأخلاق.

ونحن نشهد اليوم حملة كبيرة للنهوض بالتعليم في مصر، وهل ينفصل التعليم عن التربية؟ وهل تقوم التربية الصحيحة على شيء آخر إلا المسئولية الأخلاقية؟

(٢) تتحمل المرأة وحدها في بلادنا مسئولية الأخلاق؟

لأن الرجل لا يعيبه إلا جيبه، ولأنه يستطيع أن يخون ويزني ويظل شريفًا بريئًا، وهذا هو الدليل على انعدام الأخلاق في بلادنا.

يوليو ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤