أمي المثالية

لماذا غمرني هذا الهدوء الغريب، كالشعور الذي يسبق فقدان الوعي، عند تلقي ضربة مفاجئة على الرأس؟ أطفئ النور وأتمدد فوق السرير، أغمض عيني وأروح فيما يشبه الغيبوبة، كم مرة في حياتي تخيلت هذه اللحظة حين يصبح الوهم حقيقة مادية أحسها في جسدي، وليس فكرة مجردة يطردها عقلي كأنما لن تحدث أبدًا.

بالأمس احتفلت وحدي بعيد ميلادي الخمسين، الرقم يرن في أذني غريبًا! خمسين؟! لا يصح للمرأة أن تبلغ الخمسين دون أن تكون جدة، تزوجت وأنجبت أولادًا وأحفادًا، وذهبت إلى الحج لتكفر عن ذنوبها وعادت تحمل لقب «حاجة».

وأنا لم أتزوج ولم أنجب ولم أذهب إلى الحج، وإن ناداني أحد في الشارع «يا حاجة» أصحح الخطأ بصوت غاضب: «أنا مش حاجة.» وحين يناديني أحد في النادي الرياضي ويقول: «يا مدام.» أصحح الخطأ بصوت غاضب أيضًا وأقول: «أنا مش مدام.» وقد يسألني أحد بالصفاقة التي يخاطبون بها النساء في سن الخمسين: «وماذا تكونين يا مدام؟» وأقول بغضب: «أنا أستاذة محامية!»

كل شيء في حياتي يبدو غريبًا لأني امرأة لم يشغل حياتها رجل، لم يشغلها الجنس ولا الشهوة ولا الزواج، امرأة عفيفة طاهرة، بلغت الخمسين دون أن يترهل جسدها، دون أن تظهر التجاعيد على وجهها وبطنها المشدود، خطواتها فوق الأرض سريعة نشيطة، عيناها مملوءتان بالبريق والسعادة، امرأة بلغت الخمسين تبدو شابة في الثلاثين أو حتى العشرين، لم يكسر قلبها رجل، تحاول من خلال المحاماة أن تحقق العدل، كان لها مكتب في شارع صغير متفرع من ميدان التحرير، تلجأ إليها النساء المكلومات والمضروبات والمهجورات والمطلقات والمخدوعات والباحثات عن العدالة، كانت العدالة عمياء بلا عيون مثل كائن يضرب في الظلام.

كنت طفلة في السادسة من عمري حين تزوج أبي امرأة أخرى دون أن تعرف أمي، طلب مني ألا أقول الحقيقة، عودتني أمي على الصدق، قلت لها: أعطاني أبي علقة ساخنة وطلق أمي عقابًا لي، أصبحت أعيش معها بلا أهل ولا معاش، كانت أمي من أجل أبي قد تركت أهلها وعملها، فقدت وظيفتها بالشهادة العليا ولم تستطع العودة إليها بعد الطلاق، اشتغلت أمي عاملة نظافة، لم يعد لحملة الشهادات العليا قيمة، أصبحوا من عمال النظافة وهو مجال غير نظيف، لكن أمي لم يكن يهمها إلا أن تعيش ابنتها حياة نظيفة، وإن توسخت هي، لا شيء يبقى من الوسخ بعد الغسيل.

تقدم لأمي رجال يطلبون الزواج منها، رفضتهم دون أن يطرف لها جفن، كان شرط الزواج أن تتخلَّى عني، لا يطيق الرجل أن يشاركه أحد قلب زوجته وإن كانت فلذة كبدها. أدخلتني أمي المدرسة والجامعة، عشنا في حي نظيف تسكنه العائلات حيث يكون الأب هو المسئول عن الإنفاق، تكذب أمي على الناس وتقول أبي ينفق علينا، وأنه رجل مستقيم لم يطلقها ولم يتزوج عليها دون أن تعرف، وتقول أمي للناس إنها موظفة في الحكومة، تتقاضى راتبًا كل شهر مثل الموظفين، وكانت أمي موظفة فعلًا لكن تحت كادر العمال الأدنى، تشتغل ضعف الساعات التي يشتغلها الموظفون من الكادر المتوسط، وتحصل على نصف ما يحصلون عليه.

في الليل تعود أمي إلى البيت منهوكة القوى، وتخرج عند الفجر وأنا نائمة في الفراش، تجهز الطعام فوق المائدة، اللبن الحليب الدافئ في الصبح مع عسل النحل وفطيرة ساخنة في الفرن، أقضمها بأسناني وأبكي كأنما أقضم على جسد أمي المنهوك، لا أعرف كيف أرد لها الجميل، وهي لا تطلب مني أي رد، تفرح بنجاحي كل سنة كأنه نجاحها، وحين تقدم أحد الأساتذة ليتزوجني أشرق وجهها، تزوجي يا ابنتي واسعدي في حياتك. قلت: كيف أتزوج يا أمي وأتركك أنت التي رفضت الزواج وعشت من أجلي، كيف أتركك يا أمي؟ مَن يرعاك في الليل إذا مرضت؟ كم سهرت إلى جواري وأنا مريضة؟ كيف أتركك وحدك وأعيش مع رجل؟ قالت أمي: ستعيشين مع الحب يا ابنتي والزواج ويكون لك أسرة، وأنا سوف أموت يومًا وتصبحين وحدك. قلت: يا أمي أنت شابة في الأربعين وسوف نعيش معًا حتى يأتي رجل غير أناني ويقبل أن تشاركينا الحياة. قالت أمي: يا ابنتي لا يقبل الرجال الأساتذة أن يعيشوا الحياة مع الزوجة وأمها، فتزوجي يا ابنتي ولا تفكري فيَّ. قلت: يا أمي كيف لا أفكر فيك وأنت لم يشغلك في حياتك إلا أنا؟ أين العدل وأين المنطق يا أمي؟ قالت: يا ابنتي إن الحياة غير منطقية وغير عادلة وإلا ما فعل أبوك ما فعل، وليس هو الرجل الوحيد الذي يفعل ذلك، كثيرون من الرجال يا ابنتي يفعلون ذلك. قلت: إنه القانون غير العادل يا أمي وليس الحياة؛ لهذا سأبقى معك وأعيش من أجلك كما عشت من أجلي. قالت أمي: يا ابنتي على الأم أن تعطي حياتها لأولادها وبناتها، وليس عليهم أن يعطوا حياتهم للأم. قلت: يا أمي هذا ظلم لا أقبله، لقد آمنت بالعدل الذي هو الله، ولا يمكن أن أتخلى عنك من أجل رجل.

كان ذلك وأنا طالبة بكلية الحقوق، وتقدم لي أساتذة آخرون يرغبون في الزواج، لكن ما إن أذكر أمي حتى يتلاشوا، أدركت أن الحب وهم، والزواج وهم، والأسرة وهم، ولا شيء حقيقي إلا أنانية الرجل، عرفت هذه الحقيقة وأنا في السادسة من العمر حين تركني أبي مع أمي وتزوج امرأة أخرى، فتحت عيني في الصباح فلم أجد أبي، اختفى من حياتنا كما يختفي الوهم، الزواج والحب والأسرة والأبوة، وكل شيء من هذه الأشياء ليس إلا خيالًا يتبدد في لحظة خاطفة، وتجد المرأة نفسها وحيدة ولا شيء يضمن لها الحياة النظيفة إلا عمل نظيف.

جاءت أمي ذات ليلة منهوكة القوى بللها العرق والدمع؛ تم الاستغناء عنها مع عدد من عاملات النظافة، زاد الإنفاق الحكومي على الحفلات وتعليق الزينات في أعياد النصر وسفر الكادر الأعلى إلى الخارج، ولم تعد الميزانية تكفي أجور الكادر الأدنى، لم أكن تخرجت بعد في كلية الحقوق، وأصبحنا بلا معاش، وأسمع أمي تبكي وأنا نائمة، وفي ليلة تحول بكاؤها إلى صوت غريب أشبه بحيوان جريح، ونهضت من فراشي حافية أمشي على أطراف أصابعي، رأيتها في الصالة عارية مستلقية تحت جسد غليظ يطأ جسدها المنهوك بعنف غريب كأنما هي ممسحة بلاط، وفي الصباح ناولتني الورقة ذات العشرة جنيهات، لأدفع القسط الأخير من مصاريف الكلية.

كانت ورقة مهلهلة غير نظيفة تفوح منها رائحة عرق وتعب وبصمات دم قديم، أخفيتها داخل ورقة نظيفة من كشكول المحاضرات، لم ألمسها بيدي، كأنما في لحظة التلامس ستنتقل إليَّ عدوى مرض جلدي، خبأتها داخل حقيبتي الجلدية بين الكشاكيل، ثم تخلصت منها في مكتب شئون الطلبة، ألقيت بها في يد الموظف المسئول وسددت القسط الأخير، أحس بخزي غريب يغمرني، كالشعور الذي يسبق فقدان الوعي بعد ضربة فوق الرأس، أمشي بين زميلاتي في فناء الكلية منكسة صامتة لا يصدر عني صوت، أقول لنفسي: سأطوي السر في طيات أعماقي العميقة بحيث لا يصل إليه إنس ولا جن. كم فكرت بلحظة كهذي منذ سمعت بكاء أمي في الليل، كنت سأواجه اللحظة حين تأتي، ها هي تأخذني على حين غرة، كنت واثقة أن أمي شريفة أشرف امرأة في العالم، منذ تركنا أبي لم أشعر أنها شريفة كما أشعر الآن، أكتم الصوت في أعماقي الذي لا يريد أن يهتف ويقول: أمي أشرف نساء العالمين مثل العذراء مريم. أضغط بيدي على فمي حتى لا يخرج صوتي، زميلاتي مشغولات عني بحكايات عن الحب والرجل والزواج، تشع عيونهن ببريق الفرح والأمل، أكاد أقول إنه الوهم ولا شيء إلا الوهم لكن صوتي محبوس، أنسحب من بينهم وأختفي في دورة المياه، أعود إلى البيت مبكرًا وألوذ بالصمت، أعرف أني سأستيقظ في الليل كما أفعل حين أخفي شيئًا، يدق قلبي خوفًا من تلك اللحظة، أنام نومًا متقطعًا مليئًا بالأحلام المخيفة، أستيقظ، أنظر إلى الساعة فوق معصمي، منتصف الليل إلا خمس دقائق، أتمدد على ظهري وأغمض عيني، أسمع صوت بوق سيارة في الشارع وفرملة شديدة، واصطدام شيء؟! أنتفض من الفراش، أتكون هي أمي؟ أمشي حافية إلى غرفتها، سريرها يخلو منها كأنما راحت ولن تعود، قلبي يغوص في أعماقي، والسؤال الذي أخفيته يطفو إلى سطح الوعي، إذا كانت أمي فماذا أفعل؟ أسمع دقات قلبي، أمنع نفسي من التفكير، السؤال يلح عليَّ، أحاول التنفس العميق المنظم، أعد على أصابعي واحد اثنين ثلاثة، كأنما سيحدث شيء قبل أن أصل إلى رقم عشرة، أسقط في غيبوبة النوم، أسمع الصوت الغريب، أنين الحيوان الجريح، أنهض من الفراش حافية أمشي على أطراف أصابعي، رأيته في الصالة عاري، إنه أبي بجسده الضخم، عنقه الغليظ من الخلف، شعره الأسود المجعد، راقد فوق فتاة ليست أمي، يطأ جسدها المنهوك بعنف غريب كأنما هي ممسحة بلاط، أمسكت السكين من المطبخ، رفعته إلى أعلى ما أستطيع وهويت به على عنق أبي من الخلف، أصحو من النوم مبللة بالعرق، يداي غير ملوثتين بالدم، كم مرة رأيت هذا الحلم منذ طفولتي، رأيته المرة وراء المرة، مائة مرة، ألف مرة منذ تركنا أبي.

أختفي تحت الأغطية أرتجف كأنني مصابة بالحمى، أسقط في غيبوبة النوم ثم أصحو، الساعة الواحدة صباحًا، أتذكر فيلمًا رأيته الشهر الماضي، كان الابن يعيش مع أمه، أبوه طلق أمه ليتزوج امرأة أخرى، اشتغلت أمه عاملة نظافة لتدفع له مصاريف المدرسة، وطعامه وملابسه وحذاءه الجديد بدل القديم المهترئ، رفضت الزواج وعاشت من أجله، تعرضت للهوان لتضمن له الكرامة، تلاشى كل ذلك كأن لم يكن، أمسك السكين وقتلها حين رآها مع رجل.

أختفي تحت الأغطية أرتجف كأنني مصابة بالحمى، أغمض عيني وأمنع نفسي من التفكير، أعد على أصابعي واحد اثنين ثلاثة، كأنما سيحدث شيء قبل أن أصل إلى رقم عشرة، كأنما سيتفكك عقلي إلى ذرات مبعثرة فوق الوسادة، كأنما السكين في يد الابن يقطع جسدي أنا، بقع دم أراها في الفراش، هل اقترفت الجريمة وأنا نائمة؟

أسناني تصطك ودقات قلبي تتصاعد، لا أعرف الحلم من الحقيقة، لا أعرف هل أنا القاتلة أم المقتولة، أنشج بلا صوت في صمت الليل، لا أريد العطف من أحد أو الإشفاق، لا أريد الإدانة ولا أريد البراءة، ولا الاحترام ولا الاحتقار، لا أحد يستطيع مساعدتي في محنتي، لا أحد يقتسم الألم في جسدي.

أسمع صوت المفتاح يدور بالباب، أرهف السمع لوقع القدمين الحافيتين على بلاط الصالة، هل خلعت أمي حذاءها لتذوب في الصمت؟ أخفي رأسي تحت الغطاء، أنا الآن في الوضع الذي كان فيه الابن، أسمع الأنين المكتوم في صدر الحيوان الجريح، واصطدام الجسدين بالأرض، لا أكاد أميز صوت الرجل من صوت أمي، ألغي عقلي المصنوع بكلام الناس، أحاول إلغاء اللحظة الراهنة واستبدالها بلحظة أخرى زال عنها العار، كلمة العار تخرق أذني كالسيخ المحمي في النار.

الألم! الألم يسري في عقلي، يفككه، يعيد تفكيكه، يصبح عقلًا آخر، أكثر صفاء، عقلًا مولودًا نظيفًا، أغفو عند الفجر ثم أستيقظ، ضوء الشمس يبدد الظلمة، أسمع صوت أمي يناديني لأشرب حليب الصبح، اليوم أول الربيع، وعيد الأم، أنا الآن عند لحظة الحقيقة، أقوم إلى الحمام، أنظر في المرآة، تطالعني العينان المليئتان بضوء الشمس.

القاهرة ١٩٩٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤