الخيال الذكوري المبتور في الأدب الشائع

الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، وقد كثر الكلام في بلادنا عن بتر جزء من الجسم في عمليات الختان الشائعة للإناث والذكور، لكن نادرًا ما يتكلم أحد عن بتر الخيال في الأعمال الأدبية الشائعة.

لا شك أن بتر الجسد عمل غير إنساني أو عمل إجرامي، خاصة إذا وقع على طفل أو طفلة لا تملك القوة للدفاع عن نفسها أو عن نفسه.

لكن بتر الخيال أخطر؛ لأن الناس ترى الجسد وتتألم لألمه، لكن الخيال لا يراه أحد، الخيال لا ينزف الدم بعد البتر، ولا يتحدث عنه أحد، رغم أن الجسد بدون خيال جسد ميت أو شبه ميت، والمجتمع بدون خيال جسد مجتمع عاجز عقيم، فالخيال هو القوة الدافعة وراء الإبداع في الحب والعلم والطب والأدب والسياسة والاقتصاد والجنس والفلسفة، الخيال هو قوة اكتشاف المستقبل والتنبؤ به.

حرية الخيال وسلامته واكتماله هي الوقاية الحقيقية للمجتمع من قوى العنف والإرهاب، وحركات القهر والعودة إلى التخلف والوراء.

الخيال هو مشروع التمرد والثورة ضد الظلم والجهل وفساد الضمير، وازدواج المقاييس، والثنائيات الباطلة، التي نشأت منذ عصور العبودية حين انقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد، واندرجت النساء مع الماشية تحت بند العبيد.

خطرت لي هذه الأفكار وأنا أقرأ رواية الأعشاب التي ثارت حولها الضجة في مصر في الشهر الماضي، ثار بعض الناس وتظاهروا ضد الرواية؛ لأن فيها بعض عبارات قالوا إنها تمس المقدسات الدينية.

حين قامت الضجة لم أحاول الحصول على نسخة من الرواية أو الكتابة عنها، لكني وقفت بالفطرة والطبيعة مع حرية الإبداع وإطلاق العنان للخيال دون حدود أو قيود، إن هذا هو شرط تاريخي في مجالات الاختراعات العلمية والفنية على حدٍّ سواء.

كنت على يقين أن الضجة سوف تنتهي، بعد أن تنتصر حرية الإبداع والخيال على كل ما يعوقها أو يقيدها تحت مسميات أخلاقية ودينية.

ثم وقعت تحت يدي بالصدفة نسخة من الرواية، جاءتني هدية من شابة سورية، أرادت أن تعرف رأيي في الرواية؛ لهذا قرأتها باهتمام شديد، أدركت بعد قراءتها أنها لا تمس المقدسات الدينية، لكنها رواية مبتورة الخيال، تتحول فيها الإنسانة المرأة إلى مجرد أنثى تملك فخذين من الرخام الناعم، سواء أكانت عشيقة محتقرة أو حبيبة مقدسة.

تبدأ الرواية في أول صفحة تقول: أنا الصياد الذي لا يرتاح أبدًا، والتي أقصدها تطير أمامي، تقودني إلى ما وراء الجبال، عَبْرَ بحار بلا شموس، داخل الليل والموت. يقتبس المؤلف هذه الكلمات من رجل اسمه هومان ملفيل، أول صفحة نرى بطل الرواية يجري وراء فتاة ترفع الريح ثوبها عن فخذين كالرخام ناصعي البياض مكتنزين باللحم، يناديها باسم طفلتي الملائكية، اسمها آسيا الأخضر، بطل الرواية اسمه مهدي جواد، له أيضًا عشقية اسمها فلة، يصفها بالشهوانية والدمامة والاحتقار، امرأة يقول عنها ثرثارة مبذولة، وقد رأى ما بين فخذيها وهي تصعد الشجرة فأثارت شهوته.

منذ الطفولة ندرك أن مهدي جواد ممتلئ برغبة عارمة في الصيد وقتل الطيور والحيوانات، وقد امتدت نزعة الصيد على جنس النساء في شبابه، مع ذلك يقدم نفسه كمناضل وطني يؤمن بالاشتراكية والعدالة في حياة البشر، لكن خيال المؤلف مبتور لا يرى من البشر إلا نصفهم فقط وهم الرجال الذكور؛ لأن النساء في الرواية مجرد كائنات خلقها الله من أجل إشباع الغريزة الجنسية عند بطل الرواية وزملائه المناضلين، الذين هربوا من الاستبداد والقمع في بلدهم العراق، وهاجروا إلى الجزائر.

يدور الحوار بينهم كالتالي: خُلِق الرجل للمبيت في أكثر من عش، تلك رغبة ربنا وأنبيائه والمرسلين.

– أي عش يفضل وريث الأنبياء؟

– الدافئ والضيق.

تتعدد العلاقات الجنسية في حياة الرجل منهم تحت اسم الطبيعة الذكورية والدين، رغم سخرية البطل من بعض التناقضات في القيم الدينية والسياسية التي تحكمهم، إلا أن خياله عجز عن إدراك التناقض في علاقته بالنساء، أو إدراك ما هي الطبيعة الأنوثية، فالرجل في نظره له طبيعة الإنسان الذي يفهم القضايا السياسية الكبرى، أما المرأة فهي ليست إنسانًا، ولا تفهم هذه القضايا السياسية، وهي إما طفلة ملائكية لإشباع عاطفة الرجل العذرية المبتورة، أو أنثى محتقرة شيطانية متعددة العلاقات بالرجال.

حين تكبر هذه الطفلة الملائكية تصبح جسدًا أنثويًّا ناعمًا أو مؤخرة حريرية وحلمة ثدي، رغم أن هذه الفتاة أمسكت السكين وكادت تقتل عمها من أجل مهدي جواد، لكن مهدي جواد لا يدرك هذا الفعل الإنساني الكبير من ناحيتها، ويظل يراها مجرد جسد أنثوي، ويدوس عند الغضب على كرامتها، ويمارس الجنس مع غيرها من النساء دون أن يشعر بالخطأ، ويتحدث عن العدالة في كل شيء إلا العدالة في علاقته الخاصة بالنساء، يعجز خياله الذكوري عن تصور علاقة عادلة ديمقراطية بين الرجل والمرأة، مع ذلك يتحدث عن غياب الديمقراطية في الدولة التي هرب منها، لا يدرك أن غياب الديمقراطية تحت قبة البرلمان ترتبط بالديمقراطية في غرفة النوم.

تمتلئ غرف نوم الرجال في الرواية بالدكتاتورية، والأحادية الفكرية، والانفصام بين الحياة العامة والحياة الخاصة، دون أن يدرك أحدهم (بما فيهم بطل الرواية) أن هذا التناقض في حياتهم ينبع من خيال ذكوري مبتور موروث منذ نشوء العبودية، أو ما يسمى النظام الطبقي الأبوي، رغم سخريتهم من الدين في حياتهم العامة، فإنهم يستخدمون الدين في حياتهم الخاصة لتبرير الازدواجية الأخلاقية في علاقتهم بالنساء.

كان مهدي جواد يحارب الاستبداد والطغيان في العراق، إلا أنه في الفراش لا يرى طغيانه، إنه ذكر متضخم الذكورة مستبد في ذكورته، سواء مع الحبيبة الصغيرة ذات الفخذين من الرخام، أو مع العشيقة الدميمة الزفرة المرذولة.

يقول البطل عن النساء كل النساء إن لا شيء يهمهن في الرجل إلا هذا (يشير إلى ذكورته) وينطق ألفاظًا جارحة بالنساء، أكثر فظاظة من تلك التي يصف بها الحاكم المستبد في بلده، فهو يخاف منه رغم البعد، وهو يخاف أيضًا من الله، رغم كونه في السماء البعيدة أبعد من الحاكم في العراق، أو رجال الشرطة في الجزائر، ربما لأن عقابهم أقرب إليه وأسرع من عقاب الله، إن عقاب رجال الشرطة يتجسد في البنادق والرصاص والهراوات، لكن العقاب بعد الموت لا يتجسد إلا في الخيال.

حدث مرة أن تعارك الرجال المهاجرون في ساحة بونة، اشتبكوا في معركة يضربون بعضهم البعض بالسكاكين والشوك وزجاجات البيرة، أصيب مهيار صديق مهدي جواد بجراح وهو يدافع عن مهدي في غيابه، وقال مهيار لبطل الرواية: نحن ندافع عنك في ساحة بونة ونُجرح، وأنت تعانق حبيبتك آسيا الأخضر على البحر؟! يضحك مهدي جواد ويسخر من حبيبته آسيا الأخضر ومن كل النساء، يعبر عن احتقاره لعلاقة الحب وعلاقة الجنس مع الحبيبة الملائكية والعشيقة الشيطانية على حد سواء، ويقول لمهيار: وهل تركوا لنا أولاد القحبة غير ذلك؟! كلمة «ذلك» تعني العلاقة بالنساء، أما أولاد القحبة فهم أعوان الحاكم المستبد في العراق، الذين حالوا بينهم وبين النشاط السياسي المحترم، ولم يبق أمامهم إلا النشاط الجنسي مع النساء.

تمتلئ الرواية بكلمات من نوع آخر، أولاد الزواني، أولاد القحبة، يتوجه السباب في معظم الأحيان إلى المرأة القحبة أو الأم الوالدة وأعضائها، أو المرأة الزانية التي يمارسون معها الجنس في الليل ثم يلفظونها كالبصقة في النهار.

أليس هذا هو الخيال الذكوري المبتور الذي لا يرى الرجل إلا حيوانًا سياسيًّا، أو حيوانًا جنسيًّا، وليس له نشاط آخر في الحياة.

يقول أحدهم في الرواية عن العشيقة «فلة» التي تمارس معهم الجنس، تشبع حاجتهم وحنينهم إلى الوطن والأم، تعالج جروحهم في المعركة في ساحة بونة بالغسيل والمطهرات، تزيل عنها الصديد والدم، تسهر بجانبهم طول الليل وهم مرضى بين الحياة والموت، يدفنون رءوسهم المتعبة في صدرها الكبير الحنون كصدر الأم، لكن ما أن يتماثلوا للشفاء وينهضوا من الفراش حتى يلفظونها كالبصقة، يقولون عنها امرأة مرذولة، امرأة مبوَلة، وعاء لتفريغ التوتر وما هو زائد عن الجسم، يقذفون فيها كل ما تطرده أجسادهم.

يظهر واضحًا في الرواية أن العلاقة الإنسانية الوحيدة هي بين الرجل والرجل، الحب الوحيد المحترم هو بين مهدي جواد وصديقه مهيار، هذا الحب أكثر عمقًا وأكثر صدقًا واحترامًا من حبه لآسيا الأخضر، الحبيبة الملائكية!

أما العشيقة «فلة» فهي على علاقة أيضًا بكوميسار الشرطة في الجزائر، إنه صديقها من «النوع السريري» بلغتهم التهكمية على المرأة التي ترعاهم كالأم، مع ذلك يلجئون إليها لتتوسط لدى الكوميسار لحمايتهم من الشرطة.

هذه المرأة الساقطة في نظرهم تمنحهم الحب والحنان، تعرض نفسها للخطر والموت من أجل إنقاذ حياتهم، أما هم فلا يبذلون أي جهد لحمايتها، بل يضحون بها مثل كبش الفداء من أجل إنقاذ أنفسهم، ويقولون عنها امرأة سرير ساقطة مرذولة تمارس الجنس، معهم ومع رجال الشرطة، بعضهم يتشكك في كونها جاسوسة وربما تفشي أسرارهم إن سألها الكوميسار عن علاقتها بهم.

يخاطب هؤلاء الرجال بعضهم البعض بكلمة يا حلوف، ربما يعرفون بعضهم البعض أكثر مما تظهره الرواية، أما الفتاة الطفلة الملائكية حبيبة بطل الرواية، فهي تقدم له الحب والجنس واللذة في سرير الحب النظيف، وهي الطعم في السنارة الذي يأكله السمك، هي تقع في المصيدة لأنها أحبت مهدي جواد بصدق وإخلاص، يطاردها رجال أسرتها حتى تُشهر السكين في وجه عمها، تدافع عن مهدي جواد حتى آخر نَفَس، مع ذلك لا تحظى آسيا الأخضر بما يحظى به صديقه مهيار من الاحترام أو الصداقة أو حتى الحب، هو يراها مجرد أداة لتفريغ ما هو زائد عن الجسد، وسيلة لنسيان الهزيمة والإحباط والقمع السياسي، وهي تراه إنسانًا كاملًا عاقلًا شريفًا مناضلًا وطنيًّا، يختلف عن الرجال الشرقيين.

كلمة «الشرقيين» هنا تعبر عن رؤية مهدي جواد للشرق، كأنما الشرق هو المسئول عن تخلف الرجال، وليس النظام الطبقي الأبوي الذي يحكم الشرق والغرب على حدٍّ سواء يعجز خيال الرجل عن إدراك حقيقة الظلم في الشرق والغرب، يقع في هذه الثنائية الباطلة التي تُقسِّم العالم إلى شرق وغرب، وتجعل الغرب أعلى مكانة من الشرق لمجرد أنه غرب، بمثل ما تجعل الرجل أعلى مكانة من المرأة لمجرد أنه ذكر.

رغم ما يعلنه بطل الرواية أنه غير مؤمن بالمقدسات الموروثة، إلا أنه في الحقيقة مؤمن بها فيما يخص العلاقة بين الرجال والنصف الآخر من المجتمع وهنَّ النساء، إنه يؤمن بالثنائيات الباطلة، ويعجز خياله عن إدراك التناقضات فيها.

أخطر ما في الرواية أنها تؤكد الازدواجية الأخلاقية، والنظرة الدونية لنصف البشرية من النساء، هذه الرواية تبتر الخيال أكثر مما تبتر إنسانية المرأة، وإذا كان الخيال الأدبي مبتورًا أصبح المستقبل مبتورًا يمشي على ساق واحدة، وينظر إلى الأمور بعين واحدة هي عين الذكر.

القاهرة ٢٠٠٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤