مفهوم الوطن والحب في عيد الأم

كان ذلك منذ عشر أعوام، (بالضبط يوم ٢١ مارس ١٩٨٩).

وجاءتني فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها من قلب الصعيد، من قرية بالقرب من أسوان، قالت لي: أريد أن أتكلم معك، أريد منك أن تكوني أمي، وقد هربت من أبي وأمي في الصعيد، حملت حقيبتي في الليل، وركبت القطار، وجئت إلى القاهرة لأتكلم معك، وأنا تخرجت في الجامعة في كلية الآداب قسم الفلسفة، قرأت كتبًا كثيرة، وانفتح عقلي على أشياء كثيرة جديدة، ولم تعد لي حياة داخل أسرة تعيش في القرن التاسع عشر، وتؤمن بوجود الجن والعفاريت، وأن المرأة نصف الرجل واجبها الطاعة، وظيفتها الأساسية في الحياة الزواج وولادة الأطفال وأعمال البيت، حتى أخي الأكبر الذي تخرَّج في الجامعة وحصل على الدكتوراه فرض على زوجته أن تتفرغ للزواج والأمومة، ويقول لها: الأمومة عطاء وتضحية بلا مقابل مثل حب الوطن، فالوطنية هي العطاء والتضحية بلا مقابل مثل الأمومة.

كانت الفتاة تنتفض وهي جالسة، جاءتني من محطة القطار مباشرة، ليس لها أقارب في القاهرة، بشرتها سمراء شاحبة، وجهها نحيف، عيناها سوداوتان مملوءتان بريقًا، ذكرتني بنفسي حين كنت في أول الشباب والعائلة من حولي متجمعة، العمات والخالات والأعمام والأخوال وأبناؤهم وبناتهم وجيرانهم، والجميع يهتفون في نفس واحد: الزواج مصير البنت، والأمومة هي الدور الأسمى للمرأة، وإذا تعارض الزواج مع طموحك الشخصي في الطب والأدب فاختاري الزواج والأمومة، لأن المرأة التي لا تكون زوجة ولا تلد أطفالًا فهي امرأة عقيمة كالشجرة بلا ثمار.

وسمعت الفتاة تقول: لا أريد أن أتزوج، ولا أريد أن ألد أطفالًا! إن العالم مليء بالأطفال الجوعى المشردين! فهل أضيف إليهم أطفالًا آخرين؟ رأيتهم راقدين على الرصيف في محطة القطار، أطفال صغار بلا آباء ولا أمهات ولا عائلات ولا بيوت ولا مأوى إلا الشارع ورصيف المحطة، أحد الأطفال اقترب مني وأنا أهبط من القطار، عمره لا يزيد عن سبع سنوات، يرتدي جلبابًا ممزقًا، يرتعد تحت ضربات الهواء الصاقع، وأنا متدثرة بالبالطو الصوف وتحت البالطو بلوفر صوفي، قدماه حافيتان، وأنا أرتدي حذاءً جيدًا متينًا وجوربًا من الصوف، كان الطفل يقترب مني ويمد لي يده ينشج بصوت مبحوح: «حسنة يا سيدتي» قلت لنفسي: «هذا الطفل يشبه طفلي أحوطه بذراعي وآخذه إلى بيتي.»

قلت للفتاة: «تأخذيه إلى بيتك؟»

قالت: ليس عندي بيت في القاهرة، ولكني أحمل شهادة جامعية، ويمكن أن أشتغل وأفتح بيتًا، ويصبح هذا الطفل هو طفلي، إنه يشبه طفلي، عيناه بالضبط هما عيناي مملوءتان بالبريق والدموع.

قلت للفتاة: «وهل كان لك طفل؟»

قالت الفتاة: لم أتزوج ولم ألد، لكني كنت أحلم دائمًا بهذا الطفل يخطر إليَّ في الحلم بعينين مملوءتين بالبريق والدموع، وهو يشبه بالضبط الطفل الذي تقدم نحوي وأنا أهبط من القطار، أعطيته معطفي الصوفي وخمسة جنيهات وطلبت منه أن ينتظرني في المحطة حتى أعود إليه.

قلت للفتاة: وستعودين إليه؟

قالت: نعم.

قلت: وتعودين به إلى بيت أسرتك في الصعيد؟

انتفضت بذعر وقالت: يقتلني أبي إذا عدت وحدي بعد أن هربت، فما بال أن أعود ومعي طفل؟ سوف يتصورون أنه طفلي، وأنه ثمرة حب محرم أو حمل سفاح!

قلت: لكن الطفل كما تقولين في السابعة من عمره وأنت كم عمرك؟ خمسة وعشرون عامًا؟ معنى ذلك أنك كنت في الثامنة عشر وقت ولادته، ثم كيف يحدث ذلك كله وأنت في بيت أسرتك تلميذة بالمدرسة؟ لا أظن أن والدك سوف يشك في الأمر!

قالت الفتاة: أنت لا تعرفين أبي، إنه يشك في أخلاقي منذ ولدت، لم أخرج من البيت إلا تحت رقابته أو رقابة أخي الأكبر أو أخي الأصغر الذي يصغرني بخمس سنوات، وكنت في الخامسة عشر من عمري، وأخي الأصغر طفل في العاشرة، مع ذلك يخرج معي لحمايتي!

قلت: وأمك؟ أليس لها دور؟

قالت الفتاة: أمي تخاف من أبي وتعمل حساب ابنها الأكبر، وتقول لي تحملِّي يا ابنتي كما تحملَّت أمك وجدتك وخالتك وعمتك وكل النساء، هذا مصيرنا يا ابنتي فاصبري لعل الله يرزقك بعريس الهنا يعوضك عن قسوة أبيك، لكني لم أسمع كلام أمي، ولم أنتظر عريس الهنا، قررت عدم الزواج وعدم الإنجاب، وكيف ألد أطفالًا يتعذبون كما عُذبت، وكيف أضيف إلى هؤلاء الأطفال الراقدين على الأرصفة طفلًا جديدًا؟!

•••

كان ذلك في بيتي بالجيزة منذ عشر سنوات (٢١ مارس ١٩٨٩) وكنت أعرف أنه عيد الأم، وأن الإذاعات تحتفل به بالأغاني والهدايا يقدمها الأطفال لأمهاتهم، وقد جاءتني هذه الفتاة من أقاصي الصعيد تطلب مني أن أكون أمها، وتقول إنها سوف تعود إلى محطة القطار لتحمل بين ذراعيها طفلًا فقيرًا يتيمًا في السابعة من العمر، سوف تكون هي أمه، وسوف تشتغل وتفتح بيتًا وتعيش معه، وسوف تعلمه في أحسن المدارس ولن تفرض عليه القيود التي فرضتها عليها أسرتها، سوف تتركه حرًّا طليقًا ينعم بالحرية التي حُرمت منها، وهي فتاة ناضجة في الخامسة والعشرين من عمرها تحمل شهادة الليسانس من كلية الآداب قسم الفلسفة، سوف تشتغل، وسوف تتحدى الكون ولن يقف في طريقها أحد هكذا تقول لي.

وقالت الفتاة: أريدك أن تكوني أمي.

قلت: وماذا أفعل بالضبط؟

قالت: لا شيء! مجرد إدراكي أنك موجودة في الحياة.

•••

كان ذلك منذ عشرة أعوام، وقد وضعتني الفتاة أمام اختبار صعب في الحياة، هل أشجعها على التمرد والتحدي والسباحة في المياه الخطرة ضد التيار؟! أم أتبع نصيحة صديقتي الأستاذة الدكتورة؟!

في مثل هذه اللحظات الحرجة يبدأ الصوت الخافت من أعماقي، قال لي الصوت: ألم تكوني في عمر هذه الفتاة وتمردت وسبحت في المياه الخطرة ضد التيار؟ لماذا تحاولين الآن الوقوف في طريقها؟ وليس لك منصب كبير في الدولة يساعدك في البحث لها عن وظيفة في الحكومة، وليس لك أصدقاء رؤساء الشركات في القطاع الخاص، وإن حاولت التوسط لها ربما تكون هذه الوساطة ضدها؛ لأنك من المغضوب عليهم، ولن تفيديها في شيء، فاتركيها تشق طريقها في الحياة ولا تثبطي همتها.

كانت الفتاة جالسة أمامي لا تزال، عيناها سوداوان مملوءتان بالبريق، تذكرني بنفسي حين كنت في عمرها، العينان نافذتان أطل منهما على معدن الإنسان أو الإنسانة، غمرني إحساس جارف بالثقة في هاتين العينين المشعتين بالضوء القوي.

قالت الفتاة: لا أريد منك إلا أن تمنحيني الثقة في نفسي، منذ ولدت وأنا أحس أن أبي شك في أخلاقي، يتصور أنني مثل الفتيات لا يشغلني إلا الحب أو الرجل، وقد كرهت الرجال جميعًا بسبب أبي، لم أقع في حب رجل واحد، ولا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب، سوف أعود إلى الطفل اليتيم الذي ينتظرني في محطة القطار، وسوف أشتغل وأفتح بيتًا، وأكون أمه التي يحتفل بها في عيد الأم!

•••

مضت الأعوام واضطرتني الظروف إلى مغادرة الوطن لأعيش المنفى خمس سنوات، وفي عيد الأم ٢١ مارس ١٩٩٥، جاءتني رسالة من الفتاة، كانت هي أجمل هدية أتلقاها في عيد الأم، كتبت في رسالتها تقول: بلغت يا أمي الواحد والثلاثين عامًا أصبحت مديرة في شركة لصناعة الملابس القطنية في طنطا، لي شقة جميلة تطل على الحقول الخضراء، ويعيش معي ابني عمره الآن ثلاثة عشر عامًا، أعطيته اسم أمي «رجاء»، متفوق في المدرسة، ويريد أن يكون عالمًا في الذرة، ويكتب الشعر، أول قصيدة أهداها لي في عيد الأم منذ أيام، مطلعها: أمي يا أجمل كلمة في قاموس اللغة، وقد رأيت أن أرسل إليك هذه الرسالة وأنت بعيدة عن الوطن، لا بد أن بك حنينًا للوطن والأهل؛ لهذا أكتب إليك وأقول لك: إنني لم أنس اليوم الذي جئت إليك هاربة من الأهل، كنت أرتعد بالخوف والبرد بعد أن تركت معطفي الصوفي للطفل اليتيم، لم يعد يتيمًا يا أمي، وأصبح اسمه رجاء.

وجاءت أمي من الصعيد، ورأت بيتي الجميل في طنطا، وفرحت حين سمعتني أناديه باسمها رجاء، وجاء أبي أيضًا واطمأن عليَّ، أكثر ما أسعده أنني أصبحت مديرة لشركة صناعية كبيرة، أتقاضى كل شهر مرتبًا كبيرًا ثلاثة أضعاف مرتب أبي، لكن فرحة أمي كانت بحفيدها رجاء الذي يحمل اسمها، أكتب إليك يا أمي قبل عيد الأم بأسبوعين، أعرف أن البريد بين مصر وولاية نورث كارولينا يستغرق على الأقل عشرة أيام، أرجو أن تصلك الرسالة في يوم عيد الأم، لتعرفي أن ابنتك «رشيدة» تذكرك، وتذكر اليوم الذي فتحت فيه قلبك وبيتك لها، كان هو يوم مولدي الحقيقي، لقد ولدت من جديد في هذا اليوم، مملوءة بالثقة في نفسي، قادرة على أن أتحدى العالم!

ابنتك رشيدة أم رجاء

•••

أمسكت الرسالة في يدي، ألامسها بأطراف أصابعي، كأنما أُلامس وجه الوطن، راحت الغربة، تبدد الحزن، فتحت نوافذ بيتي لتدخله الشمس، إنها الشمس ذاتها التي تشرق في كل بلاد العالم، أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين، الوطن ليس قطعة أرض تسقط عليه الرأس، الوطن هو رسالة مليئة بالحب يأتيني من البعد.

•••

لا يكون الحب حبًّا حقيقيًّا إلا إذا كان متبادلًا، الحب من طرف واحد نوع من العبودية، الهوان والعذاب والاحتراق بنار الحب كلها من بقايا عصر الرق والعبيد، حين كان يُفرض على العبد أن يحب سيده الذي يضربه بالكرباج، ويفرض على المرأة أن تحب زوجها الذي يقهرها ويضربها ويشدها من شعرها.

الحب إن اختلفت أنواعه فهو واحد؛ منبعه القلب والعقل والجسد والروح في كيان واحد، وأساسه الأول هو الأخذ والعطاء؛ أي التبادل بالعدل والحرية، وليس بالإجبار والقوة والجبروت.

وإن حدث الحب من أول لقاء أو آخر لقاء فهو ينشد السعادة واللذة والحرية، لا يعيش الحب في التعاسة والألم والقيود، لا يختلف حب الوطن عن حب الأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة أو الابن أو الابنة، وكلها أنواع من الحب لا تعيش إلا بالتبادل المتساوي أخذًا وعطاءً.

إن الأب الذي يقسو على أبنائه وبناته لا يمكن أن يتوقع منهم الحب، إن الوطن الذي يجرد الإنسان من كرامته وحريته وطعامه وشرابه لا يكون وطنًا.

الوطن هو حيث يكون العدل، وحيث تكون الحرية، وحيث يكون الحب، الوطن ليس هو المكان حيث مسقط الرأس، بل هو دفء الإنسانية والمحبة والتعاون والصدق والعمل المنتج، ولذة الإبداع والفرحة بالجديد والتجديد.

لقد مللنا الأغاني الوطنية التي كان يغنيها العبيد أمام المماليك والسلاطين، ولم نعد نغني إلا للملك في عيد ميلاده، أو الملكة في عيد زواجها، فما هذه الأغاني التي تشدنا إلى الوراء إلى عصور الرق؟ وما هذه الأصوات التي تأمرنا بحب الوطن بالكرباج؟ وكيف أحب رجلًا يذيقني ألوان الهوان؟ وما هذه الأغاني في عيد الأم دون أن يكون للأم حقوق الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤