عن توفيق الحكيم في ذكراه اﻟ ١٥

(١) لإحياء الذكرى

إذا أردنا إحياء ذكرى توفيق الحكيم أو أي إنسان أو إنسانة قدمت أفكارًا جديدة تنتشل عالمنا الإنساني من الحروب أو العنف أو العدوان على حقوق الآخرين أو الأخريات، فإن أفضل ما يمكن أن نفعله هو أن نناقش أفكار هذا الإنسان، أو هذه الإنسانة مناقشة هادئة عميقة، وأن نعيد قراءة هذه الأفكار قراءة متأنية بحيث نكتشف ما فيها من إيجابيات فنبرزها ونظهرها ونطرحها للنقاش على أوسع نطاق، وعلينا أيضًا أن نبرز السلبيات أو ما نراه سلبيات مما يوضح نقاط الاختلاف في الآراء والأفكار المطروحة، وكم نتعلم أكثر من اختلاف وجهات النظر؛ لأن الاختلاف يكشف لنا عن نواحي النقص في تفكيرنا نحن، أو نواحي الغموض «وعدم الفهم» إن العنف في الحوار غالبًا ما يكون سببه «عدم الفهم»، ومنذ أيام قليلة طلبني أحد الرجال الإسلاميين (هو الذي قدَّم لي نفسه بصفته إسلامي) وبدأ كلامه لي بصوت غاضب عنيف إلى حد أن أسلاك التليفون كانت تهتز من عنف صوته، إلا أنني استمعت له حتى النهاية، ثم بدأت معه حوارًا هادئًا حول نقاط الاختلاف بيني وبينه، ثم اكتشفت أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا من كتبي الأربعين، وأنه استقى معلوماته عني من بعض الصحف التجارية المنتشرة في السوق هذه السنين، واعتذر الرجل عن عنفه وسوء فهمه أو عدم فهمه لأفكاري.

هذا مجرد مثل واحد لما يحدث في حياتنا كل يوم، ونحن نقع في هذا الخطأ ونكرره على نحو غريب، ويشجعنا على هذا تلك الحوارات العنيفة؛ التي نراها على الشاشة والقنوات الفضائية المحلية والعربية والدولية، وقد أصبح «العنف في الحوار» كأنما هو موضة العصر الأمريكي ما بعد الحديث، وأشهر برنامج للحوار في الولايات المتحدة يحمل اسم Cross fire «التراشق بالنيران»، وفيه يجلس الشخص في مواجهة الآخر، ويتراشقان بالألفاظ والأفكار كأنما هي طلقات نارية فعلًا، يحاول المذيع أو مقدم البرنامج أن يفض العراك على نحو يشبه الحرب.

وهل يمكن أن نقضي على الحروب الاقتصادية واغتصاب الأرض أو الحقوق المادية للناس من أرض أو مياه أو إنتاج زراعي أو صناعي ونحن نعيش الحرب اليومية في حياتنا الفكرية والثقافية والأدبية؟

ربما لهذا السبب أكتب اليوم لأناقش فلسفة توفيق الحكيم في ذكراه الخامسة عشر، لقد مرت خمسة عشر عامًا على وفاة توفيق الحكيم، ولم أفكر في مناقشة فلسفته إلا اليوم، ربما كتبت مقالًا واحدة أو مقالين خلال حياته، ومثلهما عند وفاته أو في الذكرى الأولى لوفاته ثم توقفت عن الكتابة عنه، ربما شعرت كأنما أنفخ في قربة مثقوبة كما يقولون، ولم أجد أحدًا متحمسًا لأفكار توفيق الحكيم بعد موته، أو ربما قلة قليلة كانت متحمسة، ثم ضعف حماسها مع مرور السنين.

وهذه عادة سيئة نتوارثها جيلًا عن جيل منذ عهود الفراعنة، أو السلطة المطلقة في المجتمع الكبير والعائلة الصغيرة، إن «السلطة السياسية» هي التي تحدد لنا الأفكار والقيم والثقافة والأدب والفلسفة، ويطغى على الساحة الفكرية رجال ونساء السياسة وليس رجال ونساء الفكر.

ربما لهذا السبب شعرت بالزهد والابتعاد عن تلك الضجة الإعلامية الكبيرة لإعادة مناقشة فلسفة جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وشعراوي جمعة وغيرهم من القيادات السياسية لثورة يوليو ١٩٥٢، وأنا بالطبع لست ضد مناقشة أفكار رجال ونساء السياسة؛ لأن الفكر والسياسة والثقافة والأخلاق والاقتصاد وغيرها كلها متشابكة، ويجب أن تكون متشابكة نظريًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، فالواقع اليومي المعاش يؤكد تشابكها وتلاحمها.

ولكني ضد تركيز الأضواء أو معظم الأضواء على أصحاب السلطة السياسية، واعتبارهم قادة الفكر والفلاسفة، على حين نهيل تراب النسيان على المفكرين الحقيقيين من الرجال والنساء، الذين زهدوا في السلطة من أجل التعمق في الفكر والفلسفة.

وكان توفيق الحكيم واحدًا من هؤلاء الزاهدين، وقد عرفته عن قرب شديد في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، ولمدة ثلاثة أو أربعة أعوام من عام ١٩٦٩ حتى عام ١٩٧٢، وكان هو رئيس اللجنة، وكنت أنا عضوة بهذه اللجنة مع آخرين وأخريات من الأدباء والأديبات، أذكر منهم يوسف الشاروني ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ولطيفة الزيات وثروت أباظة وغيرهم، كان أغلبهم من الشباب وأنا كنت شابة أنظر إلى توفيق الحكيم باعتباره من الكهول بشعره الأبيض وشاربه الأبيض وعصاه التي يتكئ بها حين يمشي، وصوته المبحوح قليلًا، وأسنانه الصفراء من الدخان ربما، وخوفه من قيادة السيارات، وكانت قيادة سيارتي كفتاة شابة تجعلني أكثر استقلالًا من توفيق الحكيم، إذ أركبها وأقودها وحدي إلى بيتي في الجيزة بعد انتهاء اجتماع لجنة القصة في الزمالك، أما توفيق الحكيم فكان ينتظر ثروت أباظة ليأخذه بسيارته إلى بيته.

ومع ذلك كان توفيق الحكيم أقرب إليَّ من الشباب أعضاء اللجنة، عيونهم كانت باهتة قليلًا إلى جانب عينيه المتقدتين بالبريق الأشبه بالطفولي، أقرأ في عينيه شقاوة الطفل الذي أصبح كهلًا، ومع ذلك يحتفظ بطفولته وسذاجته ومكره، وكان توفيق الحكيم ماكرًا مثل معظم الفنانين الحقيقيين، ذلك المكر النابع من دهاء الفن وذكاء الإبداع، وكان يحكي علينا الحكايات مثل شهرزاد في ذكائها ومحولتها ترويض السلطة المطلقة لشهريار، كان يحكي لنا النكت السياسية التي تنقد السلطة المطلقة للحكم دون أن يتعرض لمضايقات رجال الأمن، وكان مثل الأطفال يضحك على النكتة قبل أن يحكيها لنا، بل كثيرًا ما كانت سخريته تمتد من السلطة المطلقة فوق الأرض إلى السلطات المطلقة في السماوات وإلى الفراعنة الآلهة في مصر القديمة.

وكم أود لو عندي الوقت أن أكتب كتابًا كاملًا عن توفيق الحكيم؛ كإنسان وفنان وصاحب فكر وفلسفة، ربما نُشرت بعض الكتب عن توفيق الحكيم، لم أقرأها ربما، إلا أن ما قرأته عن توفيق الحكيم قد سقط عنه أهم عناصر توفيق الحكيم الفكرية أو الفنية أو الإنسانية.

وفي هذا المقال الموجز عن توفيق الحكيم، وفي ذكراه الخامسة عشر أود أن أناقش فكرة واحدة من أفكاره، وهي فكرته عن تحقيق السلام فوق الكرة الأرضية، هذه الفكرة شغلت المفكرين من النساء والرجال منذ نشوء العبودية وحتى اليوم، انشغل الفلاسفة من الرجال والنساء بهذه الفكرة منذ عصور الفراعنة في مصر القديمة وحتى اليوم.

ونحن نعيش اليوم هذه المشكلة الكبيرة المتعلقة بمشروع السلام أو عملية السلام الممطوطة بين دول إسرائيل والشعب الفلسطيني، وكيف يُذبح هذا الشعب أمام عيوننا كل يوم تحت اسم السلام، وهذه الكلمة «السلام» أصبحت مراوغة وثعبانية ومفزعة ومرعبة أكثر من كلمة «الحرب»، بل قد تبدو كلمة «الحرب» أحيانًا بريئة وإنسانية إلى جانب كلمة السلام.

وما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءة أفكار توفيق الحكيم وغيره من المفكرين والمفكرات عن كيف يمكن للسلام الحقيقي أن يتحقق في عالمنا، الذي يسير نحو مزيد من الحروب والدمار الشامل.

(٢) وماذا يقول توفيق الحكيم عن تحقيق السلام؟

كان توفيق الحكيم متحمسًا شديد الحماس لفكرة تحقيق السلام في عالمنا البشري كله، وليس فقط في عالمنا العربي، كان مثل «أرسطو» الذي انشغل طوال حياته بالفكرة ذاتها، وكيف يتحقق السلام فوق الكرة الأرضية، إلا أن أرسطو عاش في العصر اليوناني العبودي (٣٨٤–٢٢٢ق.م) وكان جزءًا من هذا العصر، وحين يكون الإنسان جزءًا من شيء فإنه لا يرى إلا هذا الشيء أو لا يراه كله، العين لا ترى نفسها، رغم أنها الجهاز الذي يرى، وهذه مشكلة تعترض جميع الفلاسفة من الرجال والنساء هناك قول قديم يقول: إن آلهة السماء أعطوا المعرفة للعميان، وأكثر الفلاسفة في الريف المصري كانوا من العميان، ومن أشهر الفلاسفة في مصر «طه حسين» وكان لا يرى بعينه، ولكن بالعقل والفكر والبصيرة.

ليس معنى ذلك أنني أدعو المفكرين والمفكرات في بلادنا إلى خلع عيونهم؛ ولكني أود أن أقول إن العين لا ترى نفسها، هذه بديهية تغيب عن عقولنا ضمن بديهيات أخرى كثيرة وبسيطة، ولأنها بسيطة فإنها تفوت علينا ونحن نبحث عن المعقد والمركب، وهذه عادة فلسفية سيئة، إذ نتصوَّر أن الفكرة المعقدة المركبة هي الفلسفة، في حين أن الفلسفة الحقيقية هي الواضحة البسيطة بساطة الحياة والطبيعة والجمال الطبيعي وضوء الشمس.

من الأشياء الواضحة أننا لا نرى ظهورنا على نحو كامل كما يراها الآخرون والأخريات، وكم نحاول من خلال المرآة أن نرى ظهورنا دون جدوى، وهذه حقيقة شغلتني في أول الشباب، كنت أحس نظرات الآخرين والأخريات فوق ظهري بعد أن أستدير، وأدرك (بغيظ شديد) أنهم الغرباء عني أقدر على رؤية ظهري أكثر مني.

وهي مشكلة فلسفية أزلية، تعرَّض لها أرسطو، وغيره من الفلاسفة، وقد عاش أرسطو القيم العبودية (أو القيم الطبقية الأبوية) ورضعها من أمه في طفولته، دخلت هذه القيم والأفكار إلى عقله وجسده مع لبن الأم؛ ولهذا عجز أرسطو عن رؤية النقص بعض خرافاته العبودية تسربت إلى فلسفته، ومنها فكرة أن الله خلق العبيد والنساء من أجل الخدمة والأعمال الجسدية، أما الأعمال الفكرية فهي من اختصاص الأسياد من طبقة النبلاء ومنهم أرسطو.

وربما لو عاش أرسطو في زماننا هذا ما كان له أن يؤمن بهذه الأفكار التي ثبت خطؤها بعد أن تحرر العبيد والنساء، وظهرت لهم ولهن أعمالٌ فكرية غيرت مسيرة العالم.

وكان النقاش يدور بيني وبين توفيق الحكيم عاجزًا عن رؤية المرأة المفكرة مثله، كان يتصور دائمًا أن عقل المرأة أقل من عقل الرجل، وأن قيمة المرأة في جمالها الجسدي الظاهر وليس في عقلها، كنت أختلف معه في هذه الفكرة، ومع ذلك ظل الحوار بيننا متصلًا رغم الاختلاف، وهناك رجال أدباء انقطع الحوار بيني وبينهم، بسبب عنفهم في الكلام، أو اتهامهم لي «بالرجولة» ومنهم يوسف إدريس، الذي كان يتصور أن ذكاء المرأة يتناقض مع أنوثتها.

لا شك أن أغلب الأدباء والمفكرين الرجال في بلادنا عاجزون حتى اليوم عن فهم المرأة الحرة المستقلة عقليًّا عن الفكر الذكوري الطبقي، بمثل ما هم عاجزون عن فهم الرجل الأجير في الأرض أو المصنع الذي يقاوم استغلال الطبقة الإقطاعية أو الطبقية الرأسمالية.

ربما كان توفيق الحكيم أكثر تحررًا وتقدمًا في أفكاره عن كثير من الرجال المعاصرين لنا اليوم، وكان يدرك القهر الاقتصادي الواقع على الفقراء في بلادنا وفي العالم كله، وكان يدعو إلى إلغاء الفقر أو الرجوع كشرط أساسي لتحقيق السلام على الأرض، وهذه فكرة هامة تربط بين السلام السياسي أو العسكري وبين العدل الاقتصادي، إلا أنه وقف عند هذه الحدود وعجز عن تجاوزها بحكم انتمائه إلى قيم عصره التي رضعها في طفولته، وهي القيم الطبقية الأبوية، المختلفة كثيرًا عن القيم التي عاشها أرسطو، إلا أن الأساس الفكري لها يظل متشابهًا.

ويمكن في إيجاز شديد تلخيص فكرة توفيق الحكيم عن تحقيق السلام على النحو التالي:
  • (١)

    تحقيق السلام عن طريق القضاء على الجوع، وإلغاء الحدود الدولية والخوف وعدم الثقة بين الدول.

  • (٢)

    فصل موضوع السلام عن السياسة والأخلاق والقيم والعواطف.

  • (٣)

    تحقيق السلام على أساس علمي بحت.

  • (٤)

    استخدام الخيال العلمي والفني لصياغة مشروع السلام.

هذه النقاط الأربعة الأساسية لمشروع توفيق الحكيم تستحق الدراسة والتأمل بعمق، وبها إيجابيات لا شك، وبها أيضًا سلبيات، وأنا أتفق مع توفيق الحكيم في أن الخيال سواء في العلم أو الأدب أو الفن يسبق دائمًا أي مشروع علمي أو أدبي أو فني، وهل يمكن أن يكون هناك إبداع جديد في أي مجال دون خيال؟ ولعل أهم ما ينقص النظم التعليمية في العالم هو عجزها عن تنمية خيال الطفل والطفلة، تحت اسم المحظورات السياسية أو الدينية أو الأخلاقية.

ومن هنا عدم انفصال الأخلاق عن السياسة وعن الاقتصاد، وعن مشروع السلام الذي يمكن أن يتحقق على الأرض، وربما أشير هنا إلى فكرة توفيق الحكيم التي تفصل بين السلام والأخلاق والقيم والعواطف، أو التي تفصل بين ما هو علمي بحت وما هو اجتماعي وثقافي وأخلاقي، وهل هناك شيء اسمه علمي بحت بعيدًا عن السياسة أو الأخلاق والقيم والعواطف؟ وهل يختلف الخيال العلمي عن الخيال الأدبي أو الفني؟ وهل يمكن فصل التفكير عن الإحساس والعاطفة؟ هل يمكن فصل العقل عن الجسد؟!

هنا وقع توفيق الحكيم في الثغرة الفكرية ذاتها التي وقع فيها أرسطو، وفصل بين الجسد والعقل، وجعل الأعمال الجسدية من نصيب الفقراء والنساء، وجعل الأعمال الفكرية من نصيب طبقة النبلاء الأسياد الرجال.

ربما لهذا السبب ظل مشروع توفيق الحكيم مشروعًا خياليًّا غارقًا في الوهم والتعميمات دون النزول إلى أرض الواقع.

ظل مشروعه مجرد رؤية أدبية مثل أعمال جول فرن وويلز وزيولكو فسكي وغيرها من الأعمال التي استشهد بها، وهي أعمال ريادية فعلًا في عالم الأدب والفن، وربما ساهمت في تغيير مسيرة العالم الإنسان على نحو ما، إلا أنها عجزت عن تحقيق السلام المنشود الذي نحلم به، ويحلم به توفيق الحكيم.

وقد ظل توفيق الحكيم يتحدث عن مشروعه للسلام في لجنة القصة بالزمالك وفي مكتبه بجريدة الأهرام، كان يطلب لي فنجان القهوة (رغم ما أشيع عن بخله) ويتحدث معي الساعة وراء الساعة عن مشروعه الخيالي لتحقيق السلام في العالم.

– ولكن يا أستاذ توفيق مشروعك ده غير قابل للتحقيق.

– ليه يا دكتورة؟ (كان خجولًا يتحرج من أن ينطق اسمي).

– لأنك تفصل بين العلم والسياسة والأخلاق.

– لازم نفصل، إنتي طبيبة درست الطب يمكنك عمل مشروع طبي علمي، لكن أنا لم أدرس الطب ولا يمكن أعمل مشروع طبي علمي، مش كده؟!

– لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن دراسة الطب وحده (كعلم منفصل عن المجتمع والسياسة والأخلاق) لا يمكن تؤهلني لعمل مشروع طبي علمي ناجح يقضي على الأمراض أبدًا.

– ليه أبدًا؟

– لأن الأمراض هي ظواهر سياسية واجتماعية وأخلاقية، ولا يمكن أعرف الأسباب الحقيقية للأمراض الجسمية أو النفسية إلا بدراسة المجتمع والسياسة والاقتصاد، مثلًا أغلب الأمراض في بلادنا بسبب الجوع والفقر.

– برافو أنا معاكي الجوع أكبر مشكلة؛ ولذلك لا بد من القضاء على الجوع.

– أيوه يا أستاذ توفيق، لكن كيف نقضي على الجوع بالعلم البحت المنفصل عن السياسة والأخلاق والعواطف؟

– أن قصدي لازم مشروع السلام يقوم على فروض علمية، ووضوح الهدف مثل هدف الصعود إلى القمر، ليه ما يكونش هدفنا «الطعام لكل فم»، كل الأفواه في العالم لو أكلت وامتلأت، فإن الحروب تنتهي ويتحقق السلام، مش كده؟

– لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن المشكلة مش الطعام وخلاص، لأن الإنسان رجل أو امرأة لا يمكن يعيش على الأكل بس، ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.

– ده كلام نظري يا دكتورة.

– لا يا أستاذ توفيق، ده كلام عملي.

– عملي إزاي؟

– مثلًا إنت عندك طعام مش كده؟

– طبعًا، خصوصًا صينية البطاطس أهم عندي من أرسطو!

وضحك توفيق الحكيم مقهقهًا، كنت أحب فكاهته كثيرًا وأضحك معه، لكني أعود إلى المناقشة، وكان يرمقني بعينيه مندهشًا قليلًا كيف يمكن لامرأة أن تجادله على هذا النحو، وهي امرأة شابة جميلة كما يقول لي، وهذه المناقشة العقلية الجادة تُفسد جمالها وأنوثتها، لكني رغم ذلك كنت أواصل النقاش، ومن أجل المعرفة أو الوصول إلى الحقيقة كنت مستعدة للتضحية بشبابي وجمالي وأنوثتي، وكل شيء بما فيها الدعوة إلى تناول الغذاء.

– إيه رأيك تأكلي معايا صينية البطاطس بدل المناقشة دي؟

– يا أستاذ توفيق أنا شايفة إن المشكلة ليس فقط الطعام، صحيح الطعام ضروري، لا يمكن أفكر أو أكتب رواية على معدة فاضية، لكن ممكن أكل واملأ نفسي بالطعام ويظل عقلي خاويًا وتظل عواطفي خاوية، وأظل أؤمن بالقيم الطبقية الأبوية التي تنظر إليَّ كامرأة شابة جميلة بلا عقل أو ناقصة العقل!

– أنا قلت كده؟ أبدًا والله ما قلت كده!

– أنت يا أستاذ توفيق تفصل بين العلم والعاطفة، أو بين العقل والعاطفة، وده مستحيل لأن العاطفة جزء من العقل؛ لأن الخيال جزء من العاطفة، ولا يمكن فصل الخيال عن العقل عن العاطفة.

– أنا عندي سؤال لك يا دكتورة؟ هل خيال الرجل مثل خيال المرأة؟ هل عاطفة الأم مثل عاطفة الأب؟ الأمومة كلها عواطف وإنسانية، لكن الرجل هو العقل.

– وعدم الإنسانية؟!

– أيوه المرأة أكثر إنسانية من الرجل وأكثر حنانًا وعطفًا.

– على الفقراء والجوعى؟

– أيوه.

– إذن المرأة أقدر من الرجل على عمل مشروع للقضاء على الجوع؛ لأن العاطفة أو الخيال لازم يسبق التفكير في المشروع زي ما أنت بتقول يا أستاذ توفيق؟

– أنا معاكي المرأة أقدر من الرجل إذا أصبح لها فرصة في الحرية أو التحرر من القيود، لكن النساء عندنا عندهم عشق للقيود، المرأة تفضل الرجل الحمش اللي يخمشها مش كده؟

– لأ مش كده، فيه نساء مصريات عندهم وعي وكرامة، ويفضلوا الرجل الإنسان القادر على احترام المرأة ومعاملتها كإنسان أو إنسانة كاملة العقل والجسم.

– يمكن الأقلية القليلة لكن الأغلبية.

– أيوه الأغلبية خاضعة للقيم العبودية، لكن عدد النساء المتحررات في تزايد مستمر، ولازم نشجعهم لأن المجتمع نصفه نساء، وأي مشروع للسلام أو للتنمية لا يخاطب النساء ولا يتعرض لمشكلة القهر الأبوي والجنسي مثل ما يتعرض لمشكلة الفقر أو الجوع أو القهر الطبقي أو الاقتصادي لا يمكن لمثل هذا المشروع أن يكون واقعيًّا، وسيظل مشروعًا خياليًّا وهميًّا لأنه يتجاهل نصف المجتمع الحقيقي وهن النساء.

– فيه مجتمعات نسائية ومشروعات كثيرة للمرأة يا دكتورة.

– أغلبها مشروعات خيرية أو اجتماعية لا تدخل ضمن القضايا السياسية الهامة مثل قضية الديمقراطية أو قضية الفقر أو الجوع أو قضية السلام أو الاشتراكية.

– إنتي ناصرية يا دكتورة نوال؟

– لأ.

– إنتي ماركسية؟

– لأ.

– يا ترى إيه خلافك مع كارل ماركس؟

– كارل ماركس لم يشمل نصف المجتمع من النساء في نظريته الماركسية.

– أنا معاكي، لكن فريدريك إنجلز كتب عن النساء في كتابه «أصل العائلة» مش كده؟

– أيوه، لكن إنجلز تصوَّر أن خروج النساء للعمل في الصناعة سوف يحررهن، ولم يدرك أن النساء الفلاحات يخرجن للعمل في الحقول دون أن يتحررن، وأن الرجال يعملون في الصناعة دون أن يتحرروا، فالمسألة ليست مجرد خروج المرأة للعمل بأجر خارج البيت.

– أمال إيه؟ الأجر يعني الطعام، وإذا أطعمت المرأة نفسها تحررت، مش كده؟

– أيوه، لكن الطعام لا يكفي للتحرر، المرأة إنسان لا يمكن أن تعيش بالطعام وحده، بالطبع يجب إشباع المعدة، لكن العقل أيضًا في حاجة إلى إشباع عن طريق الوعي والمعرفة والفكر والثقافة.

– الأول نملأ المعدة ونملأ الأفواه الجائعة، ثم بعد ذلك نملأ العقول، خطوة خطوة مش كده؟

– لأ مش كده يا أستاذ توفيق، في رأيي أن نقدم الغذاء للمعدة والعقل في آن واحد، هل هناك مانع أن نقدم مع رغيف الخبز فكرة جديدة تدخل المخ؟

– برافو يا دكتورة، أنا معاكي في عدم فصل الثقافة عن السياسة، وده يمكن يكون خلافي مع رجال الثورة.

– لكن إنت تفصل أيضًا في مشروعك لتحقيق السلام بين السياسة والثقافة والأخلاق والعواطف، مش كده؟

– أنا مؤمن بإلغاء الجوع والخوف والحدود الدولية، وكل شيء في حياتنا لازم يكون في وحدة كما لو كانت الأرض وحدة بلا فروق بين البشر على أساس الجنس أو الجنسية أو الطبقية أو الدين أو العرق أو أي شيء آخر، موافقة يا دكتورة؟

– أيوه يا أستاذ توفيق، لكن دي فكرة أخرى غير مشروعك للسلام.

كانت الساعة قد قاربت على الثانية والنصف بعد الظهر، وكان ثروت أباظة قد جاء ليأخذ توفيق الحكيم إلى بيته، وتذكر توفيق الحكيم صينية البطاطس فجأة.

– أنا داعي الدكتورة نوال على صينية البطاطس.

واتسعت عينا ثروت أباظة قليلًا وقال: أول مرة في حياتي أسمع توفيق بيه يعزم حد ع الغدا!

ولمعت عينا توفيق الحكيم بالبريق الطفولي وقال ضاحكًا: أنا عزمتها لكن انتَ حاتدفع!

– أنا مستعد يا توفيق بيه وعندنا صينية بطاطس معتبرة!

– أيوه الصواني الأباظية والألماظية!

– خلاص يا توفيق بيه الصواني دي كانت زمان من عشرين سنة قبل الثورة المباركة!

– أصله رأسمالي يا دكتورة.

وضحك توفيق الحكيم وهو يمشي مع ثروت أباظة، الذي كان يسحبه من يده إلى الباب، وقبل أن يخرج توفيق الحكيم لوَّح لي بيده مودعًا قائلًا: أهو انتصر عليكي وأخذني منك.

كان ذلك آخر لقاء لي مع توفيق الحكيم، لوَّحت له بيدي مودِّعة، وأقول له اليوم «وداعًا» بعد أن تأخرت في وداعك خمسة عشر عامًا.

القاهرة، ٢٧ يوليو ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤