عيد الحب وعيد المسلمين على شاطئ هدسون

أتمشى على شاطئ نهر هدسون ما بين نيويورك ونيو جيرسي، الشمس تظهر وتختفي تحت السحب، نحن في شهر فبراير عام ٢٠٠٢، يقولون عنه الشتاء الدافئ، كانت الشمس ساطعة معظم الوقت، وأنا أحب هذه الشمس الدافئة، تلامس وجهي كأنامل أمي، تذكرني بالوطن والحب والسجن، ربما تكون هناك علاقة بين الحب والسجن، أهي الحرية نفقدها حين نعيش الحب؟ أو الوطن والحب معًا؟!

جاءني في الصباح صوت ابنتي من القاهرة، يشبه تغريد عصفورة عند ظهور أول خيوط الفجر: كل سنة وأنتِ طيبة يا أمي.

– النهاردة إيه يا مُنى؟

– عيد الحب يا أمي.

إنها ابنتي الكاتبة الأدبية «منى حلمي»، الوحيدة في أسرتي التي تذكرني بالأعياد، ولا أحد يتذكر عيد ميلادي إلا هي، ربما يُذكرني أحيانًا زوجي «الروائي شريف حتاتة» حينما لا يكون مشغولًا بشيء أهم، أما ابني «عاطف حتاتة، المخرج السينمائي» فهو ضعيف الذاكرة فيما يخص أعياد ميلاد أمه وأبيه وأخته وغيرهم من أعضاء الأسرة البيولوجية، وكنت مثل ابني منذ أربعين عامًا وأنا في ريعان الشباب، لم أكن أتذكر عيد ميلاد أمي أو أبي، أو عيد ميلادي، كان بيتنا يشهد كل عام مولد طفل جديد، وأبي يزمجر حين يُطلب منه الاحتفال بعيد ميلاد طفل من أطفاله، ويقول ساخرًا:

يعني أعمل عيد ميلاد كل شهر ولا إيه؟!

أما أمي السيدة «زينب هانم شكري» حفيدة «طلعت باشا» في إسطنبول فكانت ترى أن أبي أفضل من أبيها، وأنها لم تتزوج أبي إلا لتهرب من بيت أبيها شكري بك!

رغم كل ذلك كانت طفولتي سعيدة مليئة بالحب والدفء، أكثر سعادة من طفولة زميلاتي الأمريكيات هنا في نيويورك ونيوجيرسي، واحدة منهن تقول لي في عيد الحب (يسمونه هنا «عيد فالنتين»)، وهي أستاذة في جامعة متخصصة في الدين الإسلامي: «نشأت منذ الطفولة يا نوال في أسرة كاثوليكية، وكان أبي قسيسًا تمرد على الكنيسة واعتنق الإسلام، إلا أنه كان محافظًا متزمتًا لا يعترف بشيء اسمه «الحب».»

وكان أبي نقيضًا لأبيها يؤمن بالحب، ربما كان يعوِّض بالحب والحنان ما يفتقده الفقراء من ماديات الحياة، وقد أغرق أبي في الحب أمي، حتى أصبحت تلد طفلًا كل عام، ثم ماتت وهي في ريعان الشباب، ممسكة يدي في يدها، وعيناها تملؤهما دهشة طفولية.

– كل سنة وأنتِ طيبة يا ماما.

إنه صوت ابنتي المغردة في الصباح الباكر، وقد أدبر عيد الحب منذ أسبوع، وجاء عيد آخر هو «عيد الأضحى» (يوم ٢٢ فبراير ٢٠٠٢)، ضحكت مع ابنتي وسألتها: ذبحتم خروف يا مُنى؟

لم يكن العيد في طفولتي عيدًا دون ذبح الخروف، الذي كان يرمقني وهو يُذبح بعينين متسعتين تملؤهما دهشة طفولية، وأتصوره طفلًا مثلي يذبحه أبي في العيد، وسوف يأتي الدور عليَّ حتمًا ليذبحني أبي طاعة لأمر الله، كما فعل سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل، كنت في الثامنة من عمري لا أواظب على الصلاة، وفي أيام القيظ في رمضان أختلس من وراء أبي رشفة ماء من قُلة الفخار الباردة اللذيذة، إنه إبليس يوسوس لي: «رشفة ماء يا نوال لن يلتفت إليها ربنا الله الرحيم الغفور لجميع الذنوب (إلا أن يُشرك به).»

لكن أبي كان يؤكد لي أن الله يلتفت إلى كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، ولا شيء يفوته، وإن كان رشفة ماء أو كلمة واحدة يهمس بها إبليس إليَّ، وهكذا تحمَّل ضميري منذ الطفولة عبء ذنوب كثيرة، وتصوَّرت أنه سوف يأتي عيد الأضحى في العام المقبل (أو الذي بعده)، ويأمره الله أبي بذبحي بدلًا من خروف العيد.

وغضبتُ من زميلتي الأستاذة الأمريكية المتخصصة في الدين الإسلامي، والتي كتبت مقالًا تقول فيه إن مشكلة العالم الإسلامي هو أن الإسلام لم يتحضر أو لم يتطور بالقدر الكافي (كما حدث لليهودية والمسيحية)، وسألتها: وماذا تعنين بهذا التحضر يا سيدتي؟!

– قالت: «أعني الموديرنيتي» أو modernity باللغة الإنجليزية.

وطال الحوار بيني وبينها عن معنى الموديرنيتي أو «الحداثة» باللغة العربية، سألتها ماذا تعني بالحداثة؟ وهل أثر هذه الحداثة على «اليهودية» ما يحدث في إسرائيل من ذبح للفلسطينيين الأطفال مثل خروف العيد؟ وهل أثر هذه الحداثة على «المسيحية» ما يحدث اليوم في أفغانستان من قتل المدنيين نساءً ورجالًا؟

– فقالت الأستاذة الأمريكية: «هناك فرق بين «اليهودية» ودولة إسرائيل، وهناك فرق بين «المسيحية» وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.»

– وقلت: «وبالمثل أيضًا يا سيدتي، هناك فرق بين الإسلام وبين الدول الإسلامية أو العربية.»

إلا أن هذه الأستاذة المتخصصة في الدين الإسلامي، والتي يدعونها إلى بلادنا العربية لتكون ضيفة الشرف في الاحتفالات والمهرجانات النقابية والأعياد بما فيها اليوم العالمي للمرأة، (وهي متخصصة أيضًا في موضوع المرأة والإسلام) هذه الأستاذة لم تدرس الإسلام دراسة صحيحة؛ لأن دراسة الدين الإسلامي في الولايات المتحدة (وفي جامعات أوروبا أيضًا) تقوم على دراسة القرآن والأحاديث وغيرهما مما يتعلق بالإسلام والتاريخ الإسلامي فحسب، ويتخرج الأساتذة (نساءً ورجالًا) ويصبحون خبراء في الدين الإسلامي دون أي دراسة مقارنة بين الأديان السماوية الثلاثة، لكن الدراسة المقارنة للأديان هي الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الأديان، خاصة الأديان السماوية الثلاثة، والتي يتزعمها شخص واحد هو «النبي إبراهيم»، وتتشابه مبادئها تشابهًا كبيرًا.

(١) سيل المقالات والكتب عن الإسلام والمسلمين

منذ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك (والبنتاجون في واشنطن)، وهناك سيل من المقالات والكتب المنشورة في الولايات المتحدة حول الإسلام وعلاقته بالغرب، هناك مقالات وكتب تصور الإسلام (دون غيره من الأديان السماوية وغير السماوية) كأنما هو دين «متعطش للدماء» يحرِّض على قتل المخالفين له باعتبارهم «الكفار»، ويحرِّض على «الإرهاب» تحت اسم «الجهاد في سبيل الله»، ويقهر «النساء» ويفرض عليهن الحجاب والختان، وتعدد الزوجات وضرب الأزواج، … إلخ إلخ.

إلا أن الدراسة المقارنة للأديان تؤكد الجهل الذي يغرق فيه المتخصصون في الدين الإسلامي، ذلك أن الديانة اليهودية مثلًا حسب الآيات في كتاب «التوراة» تحرِّض «شعب الله المختار» على قتل أهل كنعان (فلسطين) الكفار، والاستيلاء على أرضهم تحت اسم «الأرض الموعودة من الله إلى آل إبراهيم» مقابل قطع الغرلة أو ختان الذكور، كما أن فكرة «حجاب المرأة» نشأت من آية في التلمود تؤكد أن «شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري»، وأن «حواء» هي سبب «الإثم» وخروج آدم من الجنة، وقد عاقبها الله «بالأسى والألم» (في ولادة الأطفال) «والخضوع» لزوجها.

رغم ذلك فإن الكتب والمقالات تنهمر كالسيل (منذ أحداث سبتمبر) تصوِّر الإسلام والمسلمين كأنهم قوم من القتلة والجهلة المتخلفين، وأن علاجهم الوحيد هو «التحضر» أو الموردرنيتي، باللغة العربية «الحداثة».

حاولت الرد على بعض المقالات التي نُشرت في النيويورك تايمز، والتي لا تزال تُنشر حتى اليوم، إلا أنهم لا ينشرون مقالاتي رغم تشدقهم بالديمقراطية والليبرالية.

إن الديمقراطية الأمريكية هي الديمقراطية «الوحيدة» في العالم — كما يقولون هنا — وكذلك الديمقراطية الإسرائيلية، يقولون إنها الديمقراطية «الوحيدة» في الشرق الأوسط.

ويضحك الطلاب والطالبات في «اللجنة ضد الحرب» التي تم تشكيلها في الجامعة التي أحاضر فيها في ولاية نيوجيرسي، ويقولون: «أجل أيها السادة، هذه الديمقراطية الأمريكية والإسرائيلية تشبه ديمقراطية الحكومة العنصرية «الأبارثايد» في جنوب أفريقيا، التي صوَّرت نفسها للعالم سنين طويلة على أنها الديمقراطية «الوحيدة» في قارة أفريقيا.»

ولا شيء يواسيني عن البعد الأهل والوطن إلا هؤلاء الطلبة والطالبات، أشعر بالبهجة حين أدخل الفصل وأرى وجوههم الباسمة، وعقولهم المتفتحة للإبداع، قلت لهم في أول حصة: «أنا أكره التدريس، كما أن الإبداع لا يمكن تدريسه، وكل ما سأفعله هنا في الفصل هو: أن أساعدكم على نسيان ما لقنه لكم المدرسون منذ طفولتكم.»

وفي احتفال الجامعة بقدومي من مصر في أول سبتمبر ٢٠٠١، وكانت الإدارة كلها حاضرة، «صاحبة السلطة» ردَّدت هذه العبارة السابقة، التي أدت إلى «عدم تجديد العقد» لي مرة أخرى، إنهم يدفعون لي راتبًا كبيرًا كي ألقن الطلاب الأمريكيين دروسًا تمكنهم من الإبداع، لكني لا أؤمن بالتلقين، وقد مارست الإبداع في حياتي دون تلقين أحد، اللهم إلا جدتي الفلاحة، في قرية كفر طحلة، التي كنت أراها (وأنا في الخامسة من العمر) واقفة أمام العمدة حافية القدمين، شامخة الرأس، مكشوفة الوجه، تشوِّح بيديها الكبيرتين المشققتين المحروقتين بالشمس في وجهه وهي تقول: إحنا مش عبيد يا عمدة، وربنا هو العدل عرفوه بالعقل!

(٢) غياب الذكاء الفطري

لم تكن جدتي الفلاحة قد ذهبت إلى المدرسة وتعلمت القراءة والكتابة، لم تقرأ جدتي القرآن أو أحاديث الرسول، لكنها أدركت بالذكاء الفطري أن الله هو العدل، وأن العقل هو منبع الإيمان بهذه الفلسفة الرفيعة المستوى، والتي لا يفطن إليها أغلب الأساتذة من حاملي الدكتوراه، والذين يفقدون الإبداع أو الذكاء الفطري عن طريق التلقين في المدارس في الغرب والشرق.

ويدور حوار من خلال شاشة الإنترنت في جامعتنا حول أمور السياسة والفكر والإبداع وغيرها، أصبحت الشاشة الصغيرة في مكتبي أو بيتي تنقل إليَّ من كل أنحاء العالم مختلف الآراء والأفكار، أدوس على «الزر» كل يوم، وتضيء الشاشة أمامي، وأتابع كل ما يحدث في العالم، وكل ما يصدر من كتب جديدة، ومناقشات حولها، وأتابع كل ما يحدث في العالم، وكل ما يصدر من كتب جديدة، ومناقشات حولها، أحدث هذه الكتب من تأليف أستاذ أمريكي (برنار لويس) وهو متخصص في الدراسات الإسلامية، الكتاب عنوانه: «ما هو الخطأ في علاقة الإسلام بالغرب؟» يغلف المؤلف أفكاره المبتورة غير الموضوعية بكلمات عامة رنانة عن عشقه للشرق والإسلام، والحضارة الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى حين غرقت أوروبا في الجهل والتعصب ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية … إلخ إلخ، ثم يتساءل المؤلف: ما الذي حدث لينقلب الوضع وتتفوق المسيحية والحضارة الغربية على الإسلام والمسلمين؟! لماذا حدثت جميع الاكتشافات العلمية في الغرب المسيحي وليس في الشرق الإسلامي؟!

إنها أسئلة واردة للعقل يمكن الرد عليها بالذكاء الفطري، فالمشكلة ليست دينية أو الاختلافات في الأديان أو الثقافة أو اللغة، بل هي مشكلة سياسية واقتصادية أساسًا، ذلك أن الاستعمار القديم والجديد قد تعاون مع حكومتنا المحلية من أجل إضعاف قدرتنا الإبداعية في العلوم والفنون، أصبح التعليم في بلادنا أحد الأجهزة البوليسية لقمع الخلق والإبداع وتدمير الذكاء الفطري منذ الطفولة، يكفي أن كل مفكر مبدع في بلادنا قد عرف زنزانة السجن مرة واحدة على الأقل في حياته، ينطبق ذلك على النساء والرجال، إنه المجال الوحيد الذي تتساوى فيه المرأة بالرجل، ويكفي أن متوسطي الذكاء هم الذين يصعدون إلى مقاعد الحكم، وهم الذين يحصلون على الجوائز التقديرية، والحوافز والمناصب وكل شيء، حتى الأضواء الإعلامية.

لكن السيد برنارد لويس (مثل غيره من فلاسفة ما بعد الحداثة) يتجاهل وجود شيء اسمه استعمار أو احتلال أجنبي، ويفصل بينه وبين الحكومات المحلية، كأنما هي فقط وحدها مسئولة عن المشكلة، أو الشعوب ذاتها هي المسئولة، وهو يضع كل المسلمين في العالم في سلة واحدة ثم يصدر أحكامه المبتورة، واتهاماته للمسلمين، بأنهم تخلفوا عن موكب الحضارة لأن العيب فيهم هم وليس في القوى الخارجية، ويقول في كتابه: «لقد انتهى الاستعمار منذ نصف قرن، وأصبح العالم الإسلامي يعيش في عصر ما بعد الاستعمار Post-Colonial لكن المسلمين لا يزالون يعلقون المشكلة على شماعة الاستعمار ويتساءلون على الدوام (مَن فعل بنا هذا؟) كأنهم ضحايا طول الوقت للقوى الخارجية، والمفروض أن يسألوا أنفسهم ما الخطأ فينا نحن، وماذا نفعل لنغير أنفسنا، أما أن يحملوا الخطأ على غيرهم فهذا هو الخطأ.
وهناك بعض الحقائق التاريخية في كتاب برنارد لويس، كما أنني أتفق معه في أن النقد الذاتي ضروري، لكني أختلف في فكرته أننا نعيش «عصر ما بعد الاستعمار» هذه خديعة فكرية كبيرة؛ لأننا نعيش عصر «الاستعمار الجديد»، Neo-Colonial وليس ما يسمونه Post-Colonial.

في الجامعات الأمريكية يسود هذا التعبير الخاطئ عن «عصر ما بعد الكولونالية»، وتنقله الجامعات العربية والأفريقية عن الجامعات الأمريكية دون تحليل أو نقد علمي.

تكمن الخديعة أيضًا في أن «برنارد لويس» يُعتبر هنا في أمريكا من أهم الخبراء في الإسلام وأكثر المدافعين عن الإسلام والحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، وهو يختلف هنا عن مفكرين آخرين، منهم «هنتنجتون وفرانسيس فوكاياما» الذين يرون أن المشكلة في الإسلام ذاته، وأنه دين يناقض الحضارة والتحضر، وفي حاجة إلى تغيير جذري حتى يتحضر.

ويُدافع بعض النخب العربية والإسلامية عن برنارد لويس (وأمثاله)؛ لأنه لا يدين الإسلام ذاته، لكن منطق برنارد لويس لا يقل خطورة عن منطق الآخرين؛ لأنه يتجاهل أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف البلاد العربية والإسلامية في مواجهة أوروبا وأمريكا، على رأسها الاستعمار الأوروبي والأمريكي (الاقتصادي والسياسي والعسكري والفكري) والحكومات المحلية المتعاونة مع هذا الاستعمار والقاهرة لشعوبها رجالًا ونساءً وأطفالًا.

(٣) التجول في مسارح برودواي

علاقتي بمدينة نيويورك قديمة منذ صيف عام ١٩٦٥، بالضبط أغسطس ١٩٦٥، فقد جئت لأحصل على درجة الماجيستير من جامعة كولومبيا، وقد عشت في نيويورك أحداث حرب فيتنام، وخرجت مع الطلبة والطالبات في المظاهرات ضد هذه الحرب، التي انتهت بانتصار الشعب الفيتنامي نساءً ورجالًا، وكنت أرى الفتيات الفيتناميات الصغيرات (مثل الأطفال الفلسطينيين اليوم) يرشقون الطائرات الحربية الأمريكية الضخمة، ويسقطونها إلى الأرض ببندقية فيتنامية صغيرة، لقد انتصرت إرادة الشعب نساءً ورجالًا على أقوى الأسلحة العسكرية في العالم، فلماذا لا يتكرر هذا فيما يخص الشعب الفلسطيني؟! سوف يتكرر! لا بد! وها هي دولة إسرائيل (وجيشها المدعم بأمريكا) تقاوم الانتفاضة الفلسطينية محاولة القضاء عليها دون جدوى.

منذ جئت هذه المرة إلى نيويورك ونيوجيرسي في أوائل شهر سبتمبر، وأنا أبحث عن رواية جديدة أو مسرحية تستحق الرؤية أو فيلم سينمائي جيد أو أي شيء من الإبداع الفني، دون جدوى، هناك جدب غريب يسود العالم غربًا وشرقًا، فيما يخص الأعمال الإبداعية الجديدة، حتى الصحف في نيويورك والمجلات أصبحت خاوية حتى من الأخبار الصحيحة، وكنت في عام ١٩٦٥ أجدها دسمة مليئة بالمقالات النقدية العميقة.

والسؤال يدور في رأسي وأنا أتجول بين مسارح شارع بروداوي: هل كنت في عام ١٩٦٥ فتاة غريرة تبهرها مسارح نيويورك وأنشطتها الثقافية رغم سطحيتها؟ أم أنني اليوم في عام ٢٠٠٢ امرأة ناضجة العقل لا يبهرها شيء وإن كان عميقًا؟

هناك تنافس واضح بين مؤلفي الدراما الدينية والدراما الجنسية على مسارح برودواي، والعناوين الضخمة تشبه الإعلانات التجارية عن بضائع الشركات المتعددة الجنسيات، وقررت أخيرًا مشاهدة الجنسيات، وقررت أخيرًا مشاهدة مسرحية دينية وأخرى جنسية من أجل الترويح عن النفس، وقد أديت جميع الواجبات والمسئوليات تجاه الله والوطن والعائلة وكل شيء لم أحصل في حياتي على إجازات من العمل خارج البيت أو داخله، واليوم إجازة عيد الأضحى، حين كنت طالبة في جامعة كولومبيا منذ سبعة وثلاثين عامًا لم تكن الجامعات في نيويورك تحترم أجازات المسلمين، وكان علينا أن نشتغل في أيام العيد الكبير والصغير، ثم نأخذ أجازات في أعياد المسيحيين واليهود، يمكن القول إن نيويورك مدينة يهودية مسيحية، نيويورك تغيرت بعد أحداث ١١ سبتمبر وسقوط برجي التجارة العالمية في مانهاتن، بدأت جامعات كثيرة تهتم بدراسة الإسلام والمسلمين والعرب؛ بل ارتفعت أصوات تطلب إدخال اللغة العربية ضمن المقررات في المدارس الأمريكية على أساس: اعرف عدوك! راجت الكتب التي تحمل عناوين من نوع الإسلام والغرب، الإسلام والمرأة، الإسلام والإرهاب، والإسلام والعنف … إلخ إلخ.

وأيضًا بدأت بعض الجامعات تعطي أجازة في أعياد المسلمين للطلبة والأساتذة، وربما هذه واحدة من إيجابيات ما بعد سقوط البرجين في ١١ سبتمبر، فقد بدأ الأمريكيون يحترمون المسلمين «وأعيادهم»، باعتبار أنهم أصبحوا قادرين على توجيه ضربات إليهم تُسقط أعلى أبراجهم الشامخة في السماء.

دارت المسرحية الدينية حول فتاة صغيرة اسمها «كاتي» وُلدت من أم مسيحية وأب يهودي، وأصبحت الفتاة حائرة بين الدين المسيحي واليهودي، ثم زادت حيرتها حين أمرها أبوها ذات يوم بألا تذكر اسم «المسيح» أمام جدتها، واندهشت الفتاة وسألت عن السبب، فقال أبوها: «لأن جدتك لا تحب المسيح»، وتصورت الفتاة الصغيرة أن جدتها العجوز قد قابلت في شبابها المسيح ولم تحبه منذ ذلك الحين.

توحي المسرحية منذ البداية الدرامية بالعمق الفلسفي، إلا أنه للأسف تضيع الفلسفة ويضيع العمق (ربما بسبب الرقابة الخفية التي تمارسها إدارة جورج بوش) إن جورج بوش الابن قد ورث عن أبيه النزعة الدينية، والإيمان بأن التيارات الأصولية الدينية هي خير مَن يحمي مكاسب الرأسمالية الدولية، ويضرب قوى الشر والشيطان الدينية في الخارج والداخل (في الداخل تتجسد قوى الشر في الحركات الطلابية المعارضة للحرب، والحركات النسائية المطالبة بتحرير النساء الأمريكيات من اليمين الأمريكي بزعامة الحزب الجمهوري).

تتهكم الفتاة الصغيرة على ما تقرأه في الكتب على أن الكاثوليك لا يستحمون! أما والدها اليهودي فقد تخلى عن دينه من أجل زوجته المسيحية «لورا»، وكانت لورا تخفي تاريخ زوجها الماضي عن الناس كأنما هو «عورة»، وتحاول كاتي الصغيرة أن تشرح للشاب الذي تحبه لماذا يذهب الكاثوليك إلى كرسي الاعتراف أمام القسيس في الكنيسة، ويسألها صديقها: ولماذا يذهبون للاعتراف؟

وترد الفتاة الصغيرة: من أجل أن يقترفوا كل الآثام ثم يمسحونها بالاعتراف من حين إلى حين.

ويذكرني هذا المشهد بقصة كتبتها عام ١٩٤٤، وأنا تلميذة صغيرة، عنوانها «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، كانت سعاد تعيش في أسرة شديدة التدين، تلقت تعاليم الصلاة والصوم منذ السابعة من عمرها، وأيضًا تعلمت التوبة، وكيف تتوب عن ذنوبها عن طريق الطقوس المتكررة، وهكذا تكررت آثامها وتكررت توبتها لتمسح الذنوب من حين إلى حين. (نُشرت القصة بالعنوان ذاته بعد ثلاثين عامًا من كتابتها.)

أما صديقها الفتى الصغير فيقول لها في براءة إن مشاكل اليهود تكمن في أن الغدد في أجسامهم تفرز هرمونات أكثر من المسيحيين، ويضحك الجمهور الأمريكي على تلك الفتاة الصغيرة «كاتي» التي تحتفل بعيد ميلادها (حين تبلغ الرابعة عشر من عمرها) بعد أن تتوقع من صديقها أن يفض بكارتها في أول ممارسة جنسية، كما تفعل زميلاتها في المدرسة.

تحمل المسرحية عنوان «السلم الذهبي»، ولم أشترك مع الجمهور في الضحك على هذه الفتاة الصغيرة الحائرة بين الأديان، والتي تحاول البحث عن هويتها الدينية، لقد طغت فكرة تأكيد الهوية الدينية في أمريكا منذ اعتلى جورج بوش العرش، وبدأ يستخدم اللغة الدينية في جميع الأمور السياسية والاقتصادية بما فيها الحرب ضد محور الشر، والرقابة على الإعلام والفكر والرأي، مع إطلاق حريات الأديان والأموال في البورصة والشركات العابرة للقارات.

أما المسرحية الثانية فهي تحمل اسم «مونولوج المهبل» ويعتبرونها مسرحية ناجحة بسبب الإقبال عليها، وكلمة «المهبل» كلمة طبية تعني أحد أعضاء المرأة التناسلية/الجنسية، ومنذ نجاح هذه المسرحية (المؤلفة والممثلة امرأة اسمها إيف إنسلر) بدأت مسرحيات أخرى تزحف إلى برودواي تحمل أسماء الأعضاء الجنسية للرجال والنساء، وأيضًا الجهاز البولي، هناك مسرحية اسمها: «مدينة البول» Urine Town ومسرحية أخرى تحمل اسم «ديالوج القضيب» وغيرها.

ويتساءل الناس في نيويورك ونيوجيرسي: أهو التدهور الذي أصاب الفكر والثقافة بعد ضربة ١١ سبتمبر، أم أنها الحضارة الرأسمالية تتهاوى مع تهاوي رمزها التجاري؟

نيويورك ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤