عالم جديد ممكن

(١) على منصة القضاء في المحكمة الشعبية العالمية للديون

حضرت الكاتبة المصرية نوال السعداوي أخيرًا الملتقى العالمي الاجتماعي الثاني في بورتو أليغري في البرازيل، وجلست هناك على منصة القضاء في محكمة شعبية عالمية للديون.

في المقال التالي تصف الكاتبة تفاصيل حية من ذلك اللقاء العالمي، وهو يوازي لقاء دافوس وسائر قمم العولمة ومؤسساتها، والموازاة محاولة لاستشراف عالم جديد.

الشمس مشرقة وحرارتها القوية تذكرني بشمس مصر في أوائل الصيف، نحن في أوائل شباط (فبراير) العام ٢٠٠٢ في مدينة بورتو أليغري في محافظة ريوغراندي دوسول جنوب البرازيل، والصالة الواسعة الضخمة ممتدة أمامي … عيون النساء والرجال والشباب تلمع كالنجوم، الوجوه سمر وبرونزية وبيض وسود وصفر وحمر، خمسة آلاف وجه امتلأت بهم القاعة غير هؤلاء الواقفين في الممرات، جاءوا من أنحاء العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ومن مدن البرازيل وقراها، الأعلام الملونة ترفرف، واللافتات تحمل أسماء المنظمات الشعبية وشعاراتها من البرازيل ومن جميع بلاد العالم، يعلوها الشعار الرئيسي للملتقى العالمي الاجتماعي الثاني، يقول الشعار بمختلف اللغات: «عالم جديد ممكن».

Another World is Possible.
Un autre Munde est Possible.
Aqui umotio Mundo e’Possivel.

وترتفع الأصوات بالهتافات بمختلف اللهجات واللغات تقول: يسقط الاستعمار الجديد.

– لا نريد قروضًا بل تجارة عالمية.

– لسنا مديونين بل منهوبين.

– مواردنا لنا.

– لن نسدد ديونًا خادعة.

– لا للحرب والعدوان.

ألتقط وأنا جالسة فوق المنصة أصواتًا عربية، وألمح بين الأعلام المرفوعة علم فلسطين، بألوانه الأحمر والأبيض والأخضر والأسود، يحمله نساء ورجال من بلادنا العربية من مختلف الجنسيات في العالم، يهتفون بصوت واحد: «وحاكموا شارون أيضًا.» فهذه المنصة التي أجلس فوقها هي منصة القضاة الستة، ثلاث مِن النساء وثلاثة من الرجال، جاءوا من جنوب أفريقيا: القاضي دميزا سيبازا، ومن البرازيل ديميترو فالانتيني، ومن شمال أفريقيا والبلاد العربية نوال السعداوي، ومن الفلبين لوريتا روزالي، ومن الأرجنتين نورا كورتيناس، ومن الهند شاندرا سيكار.

إلى يمين منصة القضاء كانت منصة المدعي العام أليخاندرو تيتلبوم من الأرجنتين ومعه عدد من المساعدين من أوغندا، ومالي، والسنغال، والأكوادور، وجمهورية الدومينيك، ونيكاراغوا، والهند، وأنغولا، والبرازيل.

إلى يسارنا منصة هيئة المحلفين المؤلفة من اثني عشر من النساء والرجال، من الأرجنتين، والإكوادور، وكوت ديفوار، ومالي، وجنوب أفريقيا، وتانزانيا، وفيجي، وأندونيسيا، وكوبا، وهايتي، والصين، والفلبين.

(٢) ذكرى محكمة

في كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٩١ شاركت كقاضية في محكمة شعبية نظمها وزير العدل الأميركي السابق رامزي كلارك لمحاكمة جورج بوش الأب بعد أن قادت الولايات المتحدة حرب الخليج ضد العراق قتلت فيها أكثر من ربع مليون شخص.

جلسنا لمدة يومين كاملين ١ و٢ شباط ٢٠٠٢، نستمع إلى الشهود، ثمانية من قارة أفريقيا، وخمسة من آسيا، وخمسة من أميركا اللاتينية، نساء ورجال جاءوا إلى هذه المحكمة الشعبية العالمية الأولى من نوعها، لتقديم شهادتهم عمَّا أصاب بلادهم من جراء الديون الخارجية، ومن سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، والشركات المتعددة الجنسيات في البلاد الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

عقدت هذه المحكمة الشعبية العالمية ضمن الفعاليات الأساسية للملتقى العالمي الاجتماعي الثاني في مدينة بورتر أليغري، والتي عقد فيها الملتقى العالمي الاجتماعي الأول العام الماضي ٢٠٠١، لقد أصبحت هذه المدينة في جنوب البرازيل شعلة الحركة الشعبية العالمية الجديدة المقاومة للعولمة والاستعمار الجديد، والتي تحمل اسم: «العولمة من أسفل» Globalization form below وقد نشأت كحركة شعبية عالمية لمقاومة المؤسسات الاقتصادية الدولية واجتماعاتها العلوية في دافوس، في سويسرا، ونحن نتذكر كيف نجحت هذه الحركة الشعبية العالمية في نهاية العام ١٩٩٩ «في مدينة سياتل» في عرقلة اجتماع منظمة التجارة الدولية، وكيف تتالت هذه التظاهرات الشعبية من مختلف أنحاء العالم وفي عدد من البلاد شرقًا وغربًا، ضد ما يسمى «الملتقى الاقتصادي الدولي» الذي أصبح عاجزًا عن إنجاز أعماله واجتماعاته إلا في حماية الشرطة، والذي انتقل من دافوس إلى مدينة نيويورك، إذ تشتد قبضة الشرطة ضد التظاهرات الشعبية المنادية بسقوط الرأسمالية العالمية ومؤسساتها الاقتصادية على رأسها البنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية.

(٣) ضد دافوس

نشأ الملتقى الاجتماعي العالمي لمقاومة الملتقى الاقتصادي العالمي، وبسبب تزايد قوة الشرطة والبطش في مدينة نيويورك، فقد عُقد الملتقى الاقتصادي العالمي يوم السبت ٢ شباط ٢٠٠٢ من دون مشكلات كبيرة من المتظاهرين من النساء والرجال؛ الذين حوصروا بعيدًا عن اجتماع القمة الاستعمارية التي تحكم العالم بقوة السلاح والإعلام المضلل.

في مدينة جنوى تجمع أكثر من ٣٠٠ ألف من النساء والرجال في تظاهرة ضخمة هاجمتها الشرطة بالغازات المسيلة للدموع والضرب والاعتقال، وقتل أحد المتظاهرين في المعركة، ومن هنا كان لا بد من عقد الملتقى الاقتصادي الدولي في البلاد الأكثر ديكتاتورية، والتي تشكل فيها قوة الشرطة عنصرًا مهمًّا لإخماد التظاهرات.

بعد أحداث ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ وضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك تصاعدت قوات الشرطة والقوات العسكرية للولايات المتحدة تحت اسم «محاربة الإرهاب» مما أدى إلى خفوت صوت الحركة الشعبية العالمية المقاومة للاستعمار والعولمة، إلا أن الملتقى الاجتماعي العالمي الثاني في بورتر أليغري — في نهاية كانون الثاني وأوائل شباط ٢٠٠٢ — نجح في إحياء هذه المعركة، تجمع في هذه المدينة ما يقرب من سبعين ألف امرأة ورجل من مختلف أنحاء العالم، كانت الحركة النسائية مشاركة بكل قواتها مع حركات الشباب والعمال والفلاحين من مختلف المنظمات في العالم بما فيها مصر وفلسطين وسائر البلاد العربية.

وتدربت هذه الحركة الشعبية العالمية على العمل على رغم الصعوبات، وأخذت تعيد قوتها، وتعبر عن نفسها بطرق أكثر تنوعًا وإبداعًا وتأثيرًا، وأنها حركة تعتمد على تجاوز الفروق المفروضة على البشر تحت اسم الجنسية أو الجنس أو الدين أو اللون أو العرق أو غيرها، وهي تعتمد على مختلف أنواع التعبير الديمقراطي، والعصيان المدني السلمي، حركة شعبية عالمية تكسر الحواجز بين النساء والرجال، وبين الشباب والكهول، وبين الطلاب والأساتذة، وبين العمال والفلاحين والمهن الأخرى، حركة تناضل ليس فقط ضد العولمة الرأسمالية الاستعمارية، ولكن تناضل أيضًا ضد الحركات الإرهابية التي تدعي المعارضة تحت اسم دين معين أو جماعة تستخدم وسيلتي العنف والقتل للمعارضة.

(٤) منظمات شعبية عالمية

شارك في تنظيم هذا الملتقى الاجتماعي العالمي ٢٢ منظمة شعبية من قارات العالم، منها الاتحاد البرازيلي المركزي للعمال، والاتحادات البرازيلية الأخرى للفلاحين والنساء والشباب، والمجلس الاستشاري الدولي للملتقى الاجتماعي العالمي، والشبكات الاجتماعية، من أجل العدالة وحقوق الإنسان وغيرها من مختلف الهيئات والتنظيمات الشعبية الديمقراطية.

وشارك في تنظيم المحكمة الشعبية العالمية للديون عدد آخر من المنظمات الشعبية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية منها منظمة «جوبيلي ساوث» Jubiles South جنوب أفريقيا وفي الفلبين وفي البرازيل وفي كندا، مع الاتحاد الأميركي للعاملين في مجال القانون.

منظمات شعبية ديمقراطية في معظم بلاد العالم نبعت من معاناة الملايين من الفقر والقهر بأيدي القوى الرأسمالية الاستعمارية القديمة والجديدة، يمثلون الشعوب بفئاتها المختلفة، لا فرق بين رجل وامرأة، أو عامل أو فلاح أو أستاذ، حركة شعبية واعية أدركت خطورة اللعب بورقة الأديان في مجال السياسة، أو ورقة الثقافة وما يسمى الاختلافات الثقافية وغيرها من الاختلافات بين الناس، التي استغلتها القوة الاستعمارية لتمزيق الشعوب وتفتيت الوحدة تحت اسم احترام الأديان واحترام الثقافات المحلية.

وأنا جالسة فوق منصة القضاء، أقوم بدور القاضي (أو القاضية) مع خمسة آخرين من العالم، أشعر بالفخر لأنني أخترت بواسطة هذه الحركة الشعبية العالمية لأمثل بلادنا العربية ومنطقة شمال أفريقيا، ولأجلس يومين كاملين أستمع إلى تقارير الشهود من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، كيف أدت سياسات البنك الدولي وصندوق نقده إلى تخريب الاقتصاد في هذه البلاد وتراكم الديون الخارجية والداخلية، وكيف أدت القروض إلى نهب موارد هذه البلاد (أو ما يسمونه العالم الثالث) وذلك بسبب فرض السياسات والمشاريع المؤدية إلى اختلال الميزان التجاري، وتراكم العجز، وتزايد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وحرمان البلاد من ثرواتها الطبيعية ومن قدراتها الإنتاجية في الصناعة والزراعة، وربط عملتها بالدولار الأميركي، وكيف أدت سياسة الخصخصة للشركات والبنوك والخدمات المحلية إلى حرمان الشعوب من ضرورات الحياة، وانتشار المجاعات والأمراض.

كذلك تستخدم القروض وسائل للضغط على الحكومات المحلية وإخضاعها للسياسات الأجنبية، ودفعها للمشاركة في حروب لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلاد الاستعمارية الكبرى.

وأوضحت الشهادات التي توالت على المنصة من ممثلي البلاد المختلفة كيف أن البلاد (أو المستعمرات الجديدة) التي تتلقى القروض، كيف أنها تدفع مبلغًا يصل إلى ثلاثة عشر دولارًا أميركيًّا في مقابل دولار واحد تقترضه.

وقدَّم الدكتور شريف حتاتة (من مصر) شهادته عن تاريخ الاستعمار وعلاقته بالديون الخارجية والحرب، كيف أن الاستعمار البريطاني دخل مصر في السبعينيات من القرن التاسع عشر من طريق القروض، و«احتل بلادنا» وفي العام ١٩٥٦ رفض جمال عبد الناصر شروط البنك الدولي لفرض مراقبة على الاقتصاد المصري في مقابل القرض لبناء السد العالي، مما دفع عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس، وما حدث بعد ذلك من حرب ١٩٥٦، واعتداء جيوش إنكلترا وفرنسا وإسرائيل على بورسعيد.

وأشار حتاتة أيضًا إلى أن مصر دفعت إلى المشاركة في حرب الخليج (كانون الثاني ١٩٩١) التي أدت إلى مزيد من تفتيت القوى العربية، وتثبيت القبضة الأميركية العسكرية والاقتصادية على «بلادنا العربية» وكان الإغراء الذي قدم لمصر هو خفض الدين الخارجي بمقدار سبعة بلايين دولار، سرعان ما استعادتها الولايات المتحدة الأميركية من طريق العجز في الميزان التجاري، وكان الدين الخارجي لمصر في نهاية السبعينيات من القرن الماضي لا يتجاوز ثلاثة بلايين دولار، وصل في زمن حرب الخليج إلى ما يقرب من خمسة وأربعين بليون دولار، وارتفع سعر صرف الدولار بالجنيه المصري من ٣٤ قرشًا في مطلع السبعينيات إلى ٥٦٠ قرشًا في السوق السوداء حاليًا، وهذا يعكس مدى التضخم الذي يُعاني منه الشعب المصري اليوم بجميع فئاته، وتتحمل النساء الفقيرات العبء الأكبر من المعاناة بسبب ضعفهن السياسي والاقتصادي ووضعهن الأدنى في الأسرة والمجتمع.

(٥) عالم متشابه

أثناء الاستماع إلى بقية الشهود من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية اتضح لنا أن هذه الصورة تكاد تكون واحدة في جميع البلاد، ونظرًا إلى أهمية هذه المحكمة الشعبية العالمية الأولى من نوعها فقد حضرها حاكم محافظة جنوب البرازيل واسمه أوليفيو دوتر قبل أن يلقي كلمته أو شهادته عما تعانيه البرازيل من جراء الرأسمالية العالمية والاستعمار الجديد.

وفي النهاية أصدرت هيئة المحلفين قرارها من أربع صفحات و١٠ بنود بإدانة البنك الدولي وصندوق نقده، ومنظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسيات والحكومات في البلاد الرأسمالية الكبرى، والحكومات في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية المتعاونة مع هذه الهيئات والحكومات.

وافقنا، نحن القضاة الستة (هيئة المحكمة)، على قرار هيئة المحلفين على أن يُبلغ به المسئولون في الحكومات والهيئات، وسماع دفاعهم في جلسة مقبلة ستعقد في شهر نيسان (أبريل) هذا العام ٢٠٠٢ في مدينة واشنطن.

كانت هذه المحكمة الشعبية العالمية خطوة مهمة لتعبئة الرأي العام الشعبي ضد السياسات التي تؤدي إلى تراكم الديون وتخريب اقتصاد بلادنا وتضر بمصالح الشعوب نساءً ورجالًا في بلاد الجنوب.

بورتو أليجري
البرازيل، فبراير ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤