ملحق بالمقدمة
أُصيب رتشارد بالحُمَّى وهو يحارب في الأرض المقدَّسة، وعجز خير أطباء المعسكر عن
وصف الدواء
الناجع لعِلَّته، بل لقد كان دعاء الجيش له أنجع علاجًا فنقِهَ من مرضه، وكانت أولى علائم
شفائه
رغبة شديدة في أكل الخنزير، ولكن لحم الخنزير لم يكن من المَيسور أن يتوفَّر في بلدٍ
أهلُه
يَمقتُونه.
«ولو استماتَ رجالُه لم يجدوا في هذا البلد لحم الخنزير، ولو وجدوه لشرَوه بالذهب
والفضة والمال، ولحملوه إلى رتشارد الملك، فيأكل منه ما تيسَّر. وكان يقيم مع رتشارد
فارس
عجوز، لمَّا نما إليه هذا الخبر، وعرف أنَّ رغبة الملك لم تُجَب، قال للحاجب سرًّا؛ لقد
اشتدَّ
المرض بمولانا الملك، وأنا أعلَم أنه يتُوق إلى لحم الخنزير، ولكنك لن تجِدْه هنا فتشريه،
وليس
من بين الرجال من تبلُغ به الشجاعة أن يُخبِره بهذا، ولئن فعل، لكان في قوله حتْفُه،
والآن ينبغي
لكم أن تفعلوا كما أقول لكم، ولكن بربِّكم لا تُخبروه بشيءٍ منه: خُذوا عربيًّا شابًّا
سمينًا،
وتعجَّلوا بقتله، وافتحوا جَوفه، واسلُخوا جِلدَه، واسلقوه بأسرِه سريعًا بالدقيق والتوابل،
وبالزعفران الزاهي، فإذا ما اشتمَّ الملك نكهته فستزول عنه الحُمَّى ويثوب إلى رُشده،
وإذا ما
استساغ الطعام وأكل أكلةً طيبة وتعشَّى بالحساء ثم استغرق في النوم وابتل بالعرَق، فإنه
بعون
الله، وبمَشورتي، سوف ينتعِش عمَّا قريبٍ ويُشفى. وإليك صِدق ما تمَّ في موجَزٍ من اللفظ:
قُتل الكافر
الزنيم، ثُم سُلِق وجيء به إلى المليك، وقال له رجاله؛ مولانا، لقد أتيناك بلحم الخنزير،
فكُلْ
واطعَم من حلو الحساء، وبفضل الله وبركته ليكوننَّ لك فيه الشفاء. وقبل أن يشرَع رتشارد
الملك،
شرَّح اللحمَ فارسٌ، وأخذ يلتهِمه التهامًا، وأكل الملك اللحم، وقرض العظام، ثم أدمن
في الشراب
ساعة، وبعدما تناول ما أشبَعه، خلَّفه قومه، وأخذوا يتضاحكون، ثم استلقى ساكنًا، وجذب
إليه
ذراعه، ولفَّه حاجبُه وأدفأه، ثم رقد ونام، وتصبَّب منه العرق، ودبَّت فيه الصحة والعافية،
ثم
ارتدى ملبسه، وهبَّ من مرقَدِه، وأخذ يمشي هنا وهناك فيما جاوره.»
١ ا.ﻫ.
ودحر رتشارد بنفسه جماعةً من الأعراب أتَوا مهاجمين. وتروي لنا الأسطر التالية ما
انتهت
إليه المعركة:
«استراح الملك قليلًا، ثم شرَع أحد الفرسان ينزِع عنه أسلحته، كي يُريحه ويُلهِّيه،
ثم
جيء له بنقيع النبيذ، وأمرَ طاهيه قائلًا: هاتِ لي رأسَ ذلك الخنزير عينه الذي أكلتُ
منه! فإني
ضعيفٌ واهن مجنون، وإني الآن لفي خَوفٍ من آثامي. قدِّم لي ذلك الرأس مع طعام العشاء!
فقال
الطاهي: «ليس عندي هذا الرأس.» فقال الملك، رُحماك اللهم! إني أرى رأس ذلك الخنزير، فهاتِه
وإلا فتالله لتَفقدنَّ رأسك!» ولم يرَ الطاهي من مطلب المليك مَهربًا فأعدَّ الرأس، وقدَّمه
إليه،
فخرَّ على رُكبتَيه وصاح: «هيا، هيا! هذا هو الرأس! رحماك ربَّاه!»
٢
ولا مِراء في أنَّ الطاهي كان له بعض المعذِرة في خَوفه من سيِّدِه؛ يُصعَق ذعرًا
لو عرف حقيقة
الأكلة المروِّعة التي يَدين لها بشفائه، ولكن سرعان ما تقشَّعت مَخاوفه.
«ولمَّا رأى الملك الوجه الأسود، ولحيتَه السوداء، وأسنانه البيض، وكيف تجهَّم
وانفرجَتْ شفتاه صاح: «أي شيطان هذا؟» وشرع يضحك كعادته ثم قال: «ماذا! هل لحم الأعراب
لذيذ
هكذا؟ والله ما عرفتُ من قبل هذا! أُقسِم بقضاء الله وقدَرِه إنَّا لن نموت قطُّ جوعًا،
ما دُمْنا كلَّما
هجمْنا استطعنا أن نقتُل العرب، ونأخذ لحمهم؛ ونَطهيه ونشويه، ونُجفِّفه ونقرض لحمه حتى
العظام!
والآن وقد جرَّبتُه مرةً فلآكُلنَّ وقومي منه مزيدًا، ونسدُّ رمق الجوع قبل أن يَقتلنا.»
٣
وتقدَّم المُحاصَرون يُسلِّمون ويشرطون تأمين أهل البلاد، وقدَّموا للظافرين ثروة
الجمهور بأسرها،
والآلات الحربية والأسلحة، وفديةً قيمتها مائة ألف بيزنط. وبعد التسليم وقع الحادث الغريب
الذي نرويه فيما يلي، وسوف نسُوقه إليك في أسلوب «جورج أليس» الفَكِه المحبوب، وهو جامع
هذه
القصص الخُرافية وناشِرها.
«أخلصت الحامية في تنفيذ شروط الاتفاق جميعًا، إلا أنها عجزت عن ردِّ الصليب، إذ إنه
لم يكن
بحيازتها، فأغلظ لها المسيحيُّون في المعاملة، ونمَتْ إلى صلاح الدين الأنباء كلَّ يومٍ
عما يُكابد
مقاتلوه. ولمَّا كان الكثير منهم رجالًا ذوي مكانة عالية، فقد بعَث ملكهم، نزولًا عند
رجاء
أصدقائهم، بالرُّسل إلى الملك رتشارد، ومعهم جليل الهدايا التي قدَّمها فداءً للأسرى.
وكان
السفراء رجالًا ذوي هيبةٍ ووقار، سنًّا ومرتبة وفصاحة، فبلَّغوا رسالتهم بكلِّ آيات الخضوع،
ولم
يتَّهِموا عدالة الظافر في معاملته الخشِنة لبني جلدتهم، وإنما اكتفَوا بالتوسُّل إليه
كي يُحدِّد
لهذه الشدَّة أجلًا، ووضعوا لدى قدَمَيه الكنوز التي كانت أمانةً في أعناقهم، وقدَّموا
أنفسهم
وزعيمهم رهائن لأي مبلغٍ آخر يُريده الملك ثمنًا لرحمته.»
«فقال الملك رتشارد بعذْبِ اللفظ: كيف لي أن آخُذ الذهب؟ رُحماك اللهم! قسِّموا بينكم
كل ما حملتُم، فلقد أتيتُ معي في السفن والمراكب بذهبٍ وفضَّة أكثر مما يملك زعيمكم وثلاثة
من
أمثاله. ما بي إلى كنوزه حاجة! لكن آمُرُكم حبًّا لي أن تُقيموا معي زمنًا، ثم أُخبركم
بعدَ هذا
بنبأ، وأُجيبكم برأيٍ سديد، وأقول لكم بأية رسالة تعودون إلى مولاكم.»
٤
«فقبِل الوفد الدعوة شاكرًا، وأصدر رتشارد في ذات الوقت أمرًا سريًّا إلى قائده بأن
يتوجَّه
إلى السجن، وينتقي عددًا محدودًا من خير الأسرى، وبعدما يُسجِّل أسماءهم بعنايةٍ في سِجلٍّ
من
الورق، يأمر بحزِّ رقابهم فورًا، ثم تُسلَّم رءوسهم إلى الطاهي، ويؤمَر بأن يزيل شعورهم.
وبعدما
يغلي رءوسهم في دست، يوزِّعها على صحافٍ عديدة، ويُقدِّم لكلِّ ضيفٍ صحفة، ويربط على
جبين كل رأس
قطعة من الورق تُبيِّن اسم صاحبه وقبيلته.»
«وهات
٥ لي قبلَهم جميعًا رأسًا حارًّا، كأني دفعتُ له ثمنًا عاليًا، ولآكلنَّ منه
التهامًا، كأنه فرخٌ طري، ثم أرى ماذا يفعل الآخرون.»
«ونُفِّذ هذا الأمر المروِّع في حِينه، وفي منتصف النهار دُعيَ الضيوف ليغتسلوا على
أنغام
الموسيقى يعزِف بها الخَدَم، ثُمَّ اتخذ الملك له مقعدًا، وتبِعَه كبار ضباط بلاطه، عند
المائدة
العُليا، واصطفَّتْ بقية الحشد لدى مائدةٍ طويلة دونه؛ وعلى كساء الموائد وُضِعت مقادير
من الملح
على الأبعاد المألوفة، ولم يكن هناك خُبز ولا نبيذ ولا ماء، فدُهِش السفراء لهذا النقص،
ولكنهم
ما برحوا من الخوف خليِّين، ولبثوا يرتقبون في صمتٍ تقديم الغداء، وقد أعلنَتْ مَقدِمَه
أصوات
المزامير والأبواق والدفوف. ولشدَّ ما كان رُعبهم وفزَعهم حينما رأوا وليمةً غير معهودة
يقدِّمها
شيخ الحجَّاب وضباطه، وغلبهم التشوُّف، فثارت مشاعرهم بالتقزُّز والاشمئزاز، كما لبِثَتْ
مخاوفهم
مكبوتةً فترةً من الزمن، ووجَّهوا نحو الملك أبصارهم، وما تغيَّرت ملامحه قيدَ شعرةٍ
وهو يبتلِع
اللقمات مُتلهفًا، كلما شرَّح الفارس قطعةً وقدَّمها إليه.»
«فتغامز
٦ الرجال وقالوا إنْ هذا إلا أخو الشيطان، يقتُل رجالنا ويأكلهم كما نرى!»
«ثُم وجَّهوا بعد هذا انتباههم مُكرَهين إلى الرءوس التي قُدِّمت إليهم، وقد تصاعد
منها الدخان؛
وأرادوا أن يتعرَّفوا من ملامح الوجوه المُنتفِخة المشوَّهة علائم الشَّبَه بصديقٍ لهم
أو قريب
حميم، فعرفوا من العبارات التي كانت تصحَب الأطباق ما أكدَّ لهم أن هذا الشَّبَه لم يكن
وهمًا ولا
خيالًا، فعَرَتْهم الكآبة وجلسوا في صمتٍ وجمود يترقَّبون قضاءهم، كما قُضي على بني وطنهم
من قبل،
بينما كان مُضيفهم الضاري، والغضب ملء عينيه، والظُّرف على شفتَيه، يُسيء إليهم بالإلحاح
في
دعوتهم إلى اللَّهو والمرَح؛ وبعد لأيٍ أُزيل هذا السماط الأول، وجيء مكانه بلَحْم الغزال
والكراكي، وغيرها ممَّا لذَّ وطاب، مصحوبًا بأطيب الخمور، واعتذر لهم الملك عمَّا فات،
وعزاه إلى
جهله بذوقِهم، وأكَّد لهم احترامه الدِّيني لأشخاصهم كسفراء، واستعداده لأنْ يُمِدَّهم
بمرشدٍ يهديهم
في عودتهم وهم آمِنون، وكانت هذه المنحة هي كل ما رغبوا إذ ذاك في طلبِه.»
«ثم قال
٧ الملك رتشارد إلى رجل عجوز، امضِ نحو بلدك إلى سُلطانك وخفِّف من أحزانه، وقُلْ له
إنك جئتنا مُتأخِّرًا، وإنك أخطأتَ تقدير الزمن فأبطأت، وإنَّا، قبل أن تأتينا، كنَّا
قد طَهَينا
اللحم، وأعدَّه الرجال ليُقدِّموه لي ولصحابي في منتصف النهار. قل له أنْ ليس وراء مسعاه
من
جدوى، حتى وإن حبس عنَّا طعامنا من خُبز وخمر وسمَك ولحمٍ وحوت سليمان وثعابين البحر،
فإنَّ أحدًا
منَّا لن يموت جوعًا ما دُمنا نستطيع أن نسير إلى الحروب ونقتل الأعراب تقتيلًا، فنطهو
لحومهم،
ونشوي رءوسهم. إني بعربيٍّ واحدٍ أستطيع أن أُطعم تسعةً أو عشرة من خيار رجالي المسيحيين
وأُشبعهم. إنَّ الملك رتشارد يشهد أن ليس هناك لحم من حَجَل أو قطقاط أو مالك الحزين
أو الإوز
العراقي، أو الأبقار والثيرة، أو الأغنام والخنازير، أكثر تغذيةً للرجل الإنجليزي من
رأس
العربي، فإنه سمينٌ طري، ورجالي هزيلون نحيلون. ما دام فوق سوريا هذه عربي واحد حي فإنَّا
لن
نفكر في اللحوم، فعليه لنَنقضَّنَّ سريعًا، وكل يوم نأكل منه بقدْر ما نستطيع، ولن نعود
إلى
إنجلترا حتى نأكلهم جميعًا واحدًا بعد الآخر» (من كتاب «أليس»، «أمثلة من القصص الخيالية
الإنجليزية القديمة المنظومة»، الجزء الثاني،
صفحة ٢٣٦).
وربما تشوَّق القارئ إلى معرفة الظروف التي أدَّت إلى أن يختلط هذا الخيال الجامح
— الذي يعزو
أكل اللحوم البشرية إلى ملك إنجلترا — بتاريخ الملك. ويظهر أنَّ المستر «جيمس»، الذي
نحن
مدينون له بالكثير ممَّا هو عجيب غريب، قد وصل إلى أصل هذه الإشاعة العجيبة.
يقول هذا المؤلف «… وكان مع جيش الصليب كذلك جمهور من الرجال لا عمَل لهم إلا الإفلاس،
يسيرون حُفاة ولا يحملون سلاحًا، بل ويسبقون دوابَّ الحمْل في المسير، ويعيشون على الجذور
والأعشاب، ويظهرون بمظهرٍ تشمئزُّ له النفوس وتُشفِق منه.»
«واعتزم رجل نورماندي كان — كما روى — شريف النَّسَب، ولكنه أضاع جواده فتابع المسير
كجندي
من المُشاة، أن يضع نفسه على رأس هذه الشرذمة من المُتشرِّدين الذين رضوا به ملكًا عليهم
عن
طواعية، وبات هؤلاء الرجال يُعرفون بين الأعراب باسم «الظافرين» (ويترجمها جويبرت إلى
Trudentes)، وكانوا ينظرون إليهم برُعبٍ شديد، لأنهم كانوا جميعًا يميلون إلى الاعتقاد بأنهم
يعيشون على جُثَث أعدائهم، وهو نبأ كان يتحقَّق الحين بعد الآخر، وكان ملك «الظافرين»
يُعنى
بتشجيعه، وهذا الملك المبجَّل كثيرًا ما تعود أن يصُفَّ أتباعه واحدًا بعد الآخر في خطٍّ
واحدٍ ضيق،
ثم يأمر بالبحث فيما يحملون بحثًا دقيقًا، خشية أن يكون بحيازتهم ولو قليل من المال،
فلا
يجدُر بهم أن يكونوا من رعيَّته، وإذا ألفى مع أحدهم دانقًا واحدًا أبعدَه في الحال عن
مخالطة
أبناء قبيله، وأمره بازدراءٍ أن يشتري السلاح ويشترك في القتال.»
«وهذه الكتيبة لم تكن بأية حالٍ من عراقيل الجيش، بل لقد كانت خدماتها لا تُعَد؛
فهم يحملون
الأثقال، ويأتون بالكلأ والمئونة والخراج، ويُسيِّرون الآلات وقت الحصار، وفوق كل هذا،
كانوا
ينشرون الرُّعب بين الأتراك، وكان هؤلاء يخشَون الموت من رماح الفرسان أقلَّ ممَّا يخشون
هذا الفناء
الشامل تحت أسنان «الظافرين».»
٨
ومن اليسير أن نتصوَّر أنَّ منشدًا جاهلًا يجد أذواق هذه الطائفة وضراوتها مسجَّلةً
في روايات
تاريخ الحروب المقدَّسة فينسِب أعمالها ونزواتها إلى ملك إنجلترا الذي كانت شراسته من
الموضوعات التي تجوز فيها المُبالَغة كما تجوز في شجاعته وإقدامه.