الفصل السادس والعشرون

«لأذرفنَّ الدمع دهرَ الداهرين،
فإني ما أبكي عاشقًا غائبًا؛
فقد يُعيد الزمن ساعات الهناء،
ويلتقي بعد الفراق العاشقان.
وما أبكي الموتى الصامِتين؛
فقد انقضت آلامهم، وانتهت أحزانهم،
وسوف يتبعُهم من أَحَبَّ خطاهم،
ويجمعهم الموت، وما بعدَه من فراق.»
ولكنها بكتْ شرًّا من الفراق وشرًّا من الموت،
بكت في حبيبها ذكرًا ملطخًا،
وبكت في الجندي اسمه الجريح،
وكرمُ أرومتها يُشعلها نارًا مُوقَدة.
من أغنية شعبية

علا صوت رتشارد الجهوري الصريح وهو يُحيي القادمين مُستبشرًا مسرورًا، ويقول: «أي توماس دي فو! يا توم جلز البدين! أُقسم برأس الملك هنري إنك لرغيبٌ إلى نفسي كقدح النبيذ إلى مدمن الخمر المرح! والله ما كان لي أن أعرف كيف أرتدي زيَّ القتال إلا إنْ كان جسمك البدين ماثلًا أمام عيني أسترشِد به في تنسيق هندامي. وسوف نقتتِل عما قريب يا توماس إن حبانا القديسون بالرضا، ولن يتمَّ القتال في غيبتِك إلا إن كنتَ معلقًا بشجر السيسبان.»

فقال توماس دي فو: «إذن لاحتملتُ الفشَل بجِلد المسيحي أكثر مما أحتملُ لو أني متُّ ميتةَ المارق عن دينه، ولكني أشكر جلالتك على ترحيبك بي، وقد أسرفتَ فيه إكرامًا لأني أتيتُك بشأن النزال، وأنت متأهب أبدًا لأن تأخذ فيه بأكبر نصيب. ولكني أتيتك برجلٍ أعرف أن جلالتك سوف توليه ترحيبًا أحرَّ ممَّا أوليتَني.»

وتقدَّم للخضوع إلى رتشارد رجل صغير السن، قصير القامة نحيل القوام، متواضع في زيه، لا تؤثر في الرائي بزته، ولكنه يلبس على قلنسوته مشبكًا من الذهب، وجوهرةً لا يُباريها بريقًا إلا تألُّق العين التي كانت تُظللها القلنسوة، وتلك العين كانت الملمح الوحيد الذي يلفتُ النظر في طلعته. وما إن رآها الناظر مرةً حتى أثَّرت فيه تأثيرًا قويًّا متواصلًا. وكان يتعلق برقبته وشاح من الحرير في زُرقة السماء، عليه مفتاح من الذهب الخالص لإحكام النغم على القيثار.

وكاد الرجل أن يجثو على رُكبتَيه إجلالًا لرتشارد لولا أنْ رفعه الملك بعجلةٍ وبِشر، وضمَّه إلى صدره بحرارةٍ وقبَّله في وجنتَيه.

وصاح مسرورًا: «مرحبًا ﺑ «بلندل دي نزل» الذي أتانا من قبرص، مرحبًا بملك المُنشدين! على الرحب والسَّعة عند ملك إنجلترا الذي لا يرفع كرامته الشخصية فوق كرامتك. لقد أصابني المرَض يا رجل، وبروحي ما كان مرَضي إلا افتقادك؛ فوالله لو أني كنتُ في منتصف الطرق إلى أبواب السماء، لردَّتْني إلى الأرض أصوات أنغامك. والآن ما وراءك من بلد القيثار يا سيدي الكريم؟ هل من جديد عن منشدي بروفنس؟ هل من نبأ عن المُغنِّين في بلد النورماندي الطروب؟ وفوق هذا وذاك، خبِّرني هل كان وراءك ما يشغلك؟ ولكن لا حاجة بي إلى سؤالك؛ إنك لا تستطيع أن تلبث خاملًا حتى إن أردت. إنَّ صفاتك النبيلة كالنار، تحترِق في أحشائك وتُكرهك على أن تخرجها من بين جنبيك غناءً وموسيقى.»

فأجاب بلندل الشهير قائلًا: «هذا شيء تعلَّمته فقلته أيها الملك النبيل.» وتراجع تواضعًا ولم يستطع رتشارد بكلِّ حماسته وإعجابه بحذقه، أن يُزيل عنه الحياء.

وقال الملك: «سوف نستمع إليك أيها الرجل؛ لنُصغيَنَّ إليك الآن.» ثم لمس كتف بلندل برفقٍ وقال: «ذلك إن لم تكن مُتعبًا من السفر، وإلا فوالله إنه لأَحَبُّ إلى نفسي أن أمتطي صهوةَ جوادي وأسير نحو الموت من أن أؤذي نغمةً من نغمات صوتك.»

فردَّ عليه بلندل وقال: «صوتي — كما كان أبدًا يا مولاي المليك — في خدمتك.» ثم لمح بضعة أوراق على المائدة وقال: «ولكن يبدو لي أن جلالتك مُشتغل بما هو أهم، ونحن في ساعةٍ متأخِّرة من النهار.»

«كلَّا يا رجل، كلَّا يا عزيز بلندل؛ إنما كنتُ أرسم زيًّا للقتال أرتديه حين ألاقي الأعراب، ولن يشغلني هذا أكثر من لحظةٍ قصيرة، وسوف لا يستغرق أكثر مما تستغرق هزيمتهم.»

وقال توماس دي فو: «ولكنِّي أظنُّ أنه كان من اللائق بجلالتك أن تستعلم كذلك عن الجند الذي سوف تُعدِّهم معك، لقد أتيتُ بنبأ في هذا الشأن من عسقلان.»

فقال الملك: «والله يا توماس إنك لحمار، حمار في غبائك وعنادك! تعالوا أيها النبلاء، افسحوا جميعًا، افسحوا! التفُّوا حوله، أعطوا بلندل هذا المقعد. أين حامل القيثارة! أو — مهلًا — أعيروه قَيثارتي، فلربَّما أتلف السفر قيثارته.»

وقال توماس دي فو: «وددتُ لو أنَّ جلالتك استمعتَ إلى نبئي؛ لقد سافرتُ على مطيتي طويلًا، وأنا الآن إلى الفراش أشوَقُ منِّي إلى العبَث بأذنيَّ.»

قال الملك: العبث بأذنيك! إنَّ هذا إنما يكون بريش الدجاج لا بحُلو النغم. استمع إلي يا توماس، هل تُفرِّق أذناك بين غناء بلندل ونهيق الحمار؟»

فأجابه توماس قائلًا: «حقًّا مولاي إني لا أستطيع الجواب، ولكنَّا إن أبعَدْنا عن دائرة الحديث بلندل، وهو رجل كريم المولد وذو صفات عالية بغَير مِراء، فإني من أجل صالح جلالتك لن أنظُر إلى منشدٍ إلا وكأني أنظُر إلى حمار.»

فقال رتشارد: «أفما كان من أدب اللياقة أن تستثنيني، وأنا رجل كريم المَولد كبلندل، وزميل مثله في نقابة المطربين؟»

فأجاب دي فو باسمًا وقال: «لتذكُر جلالتك أنه من العبَث أن تتطلَّبَ آداب اللياقة من حمار.»

فقال الملك: «لقد أصبتَ القول، وإنك لحيوان زرِيُّ الهيئة. ولكن تعال هنا يا سيدي الحمار، واطرح عنك عبئك حتى تستطيع أن تأوي إلى مخدعِك دون أن نُضيع في سبيلك شيئًا من الموسيقى. وأنت، أخي صاحب سولزبري، إلى أن ينتهي دي فو من ذلك، اذهب إلى فسطاط مَليكتنا وقُل لها إن بلندل قد أتانا وجُعبته مُفعمة بأحدث الأغاني، ومُرْها أن تأتي توًّا إلى هنا، وقُم على حراستها، ولاحِظ أن ابنة عمِّنا أُديث بلانتاجنت لا تتخلَّف عن الحضور.»

ثم رنا النوبي هنيهةً بنظرِه، وفي مُحيَّاه معنى الشك والارتياب، الذي يبدو على ملامحه عادة حينما يرمقه.

وقال: «أوَقد عاد رسولنا الصامت الكتوم؟ قِف أيها العبد وراء ظهر دي نفيل، وسوف تطرُق أذنَيك عمَّا قريب أنغام تحمد الله من أجلها على أنه قد أصابك بالبكم لا بالصمم.»

وما إن أتمَّ حديثه حتى أشاح عن بقية الجماعة، وقصد دي فو، واسترسل معه في الحين عن دقائق الشئون العسكرية التي عرضَها عليه هذا البارون.

وحينما أوشك اللورد جلزلاند أن ينتهي من حديثه، دخل رسول يُعلن أن الملكة ووصيفاتها دانِيات من السرادق الملكي، فقال الملك: «هيا، وأتُوني بقدَحٍ من النبيذ! ائتوني بقدح الملك إسحق القديم، ملك قبرص، الذي عاش طويلًا في أمنٍ وطمأنينة، ذلك القدح الذي غنمناه حين اقتحمنا «فجمستا». املئوا الكأس للورد جلزلاند البدين يا كرام الرجال؛ تالله ما أحرَزَ أمير خادمًا مثلَه أشدَّ عنايةً وأكثر إخلاصًا.»

وقال توماس دي فو: «يسرُّني أن جلالتك قد ألفيتَ في الحمار عبدًا نافعًا، وإن يكن صوته أقلَّ في موسيقاه من أنغام الأسلاك وشَعْر الخيل.»

فقال رتشارد: «ماذا تقول؟ أفلم تقبل هذه النكتة عن الحمار؟ إذن فلتمْحُها يا رجل بكأسٍ مُفعمة حتى حافتها، وإلا غصَصْتَ بها. عجبًا! أجل، لقد أجدْتَ الاحتساء! والآن استمع إليَّ، إنك جندي مثلي، وينبغي لنا أن نُطيع ما بيننا من نكاتٍ في الإيوان كما نُطيق الضراب في المباراة، وأن نوثِّق ما بين قلبينا من محبَّةٍ كلَّما احتدَم النزال؛ تالله إنْ لم ترُدَّ على نكاتي بمِثل الشدة التي ضربتك بها حينما التقَينا أخيرًا، إذن فلقد أسلمتَ كلَّ ما بك من فطنة للطعان، ولكن هنا الفارق بينك وبين بلندل، ما أنت إلا زميلي — بل تلميذي — في فنِّ القتال، أما بلندل فأستاذي في فنون الغناء والموسيقى؛ فلك أسمح بحُرية الإخاء الحميم، أما له فعليَّ الاحترام، لأنه أرفع منِّي منزلةً في فنه. تعال يا رجل، ولا تكن ضجورًا، والبَثْ واستمع إلى جذلنا وحبورنا.»

فقال لورد جلزلاند: «إن كان لا بد أن أشهد جلالتك وأنت في نشوتِك، فوالله لألبثنَّ حتى يسرد بلندل قصة الملك آرثر الخيالية بأسرِها، وهي تستغرق ثلاثة أيام.»

فقال الملك: «كلا، إنَّا لن نُحمِّلك ما لا تطيق عليه صبرًا، ولكن انظر، هنالك ترى وَميض المشاعل خارج السرادق إيذانًا بمقدم مليكتنا. اخرُج أيها الرجل واستقبلها، وأصِبْ لنفسك الرضا في أشدِّ العيون بريقًا في العالَم المسيحي طرًّا. كلَّا، لا تتريَّث حتى تُحكِم عباءتك؛ انظر! لقد سمحتَ لنفيل أن يحُول بينك وبين أداء واجبك!»

ولم يرُق لدي فو أن يسبقه كبير الحجاب — وهو «نفيل» أوفَرُ منه نشاطًا — فقال: «إنه لم يسبقْني قطُّ في ميدان القتال.»

فقال الملك: «كلَّا، هنالك لم يسبقك لا هو ولا أحد غيره يا أخي العزيز توم جلز، اللهم إلا أنا بين الحين والآخر.»

فأجاب دي فو وقال: «أجل مولاي، ودعْنا لا نغمط التُّعَساء حقَّهم؛ لقد سبقني كذلك مرةً فارس النمر الشقي، لأنه خفيف على ظهر الجواد، ولذا …»

فعارَضَه الملك بصيغة الجزم وقال: «صه! لا تذكُرْه بكلمةٍ واحدة!» ثم تقدَّم في الحال لتحية زوجِه الملكة، وبعدما فعل ذلك، قدَّم إليها «بلندل» باعتباره ملك الغناء وأستاذه في فنِّ اللهو والمرح، وكانت برنجاريا تعلم جيدًا أن عشق زوجها الملك للشِّعر والموسيقى يكاد يوازي حُبَّه للشهرة الحربية، وأنَّ بلندل هو عزيزه الحميم، فعُنِيت واهتمَّت بلقائه لقاءً فيه من الملَق والإطراء ما يليق برجلٍ يسرُّ الملكَ أن يعلو شأنه، وردَّ بلندل بما يليق على ما أمطرتْهُ به صاحبة الجمال الملكي من وابل الثناء، ولكنه لا مِراء في أنه تلقَّى التحية الساذجة النبيلة من أُديث بإجلالٍ من الأعماق، وبالشكر والامتثال، وبدا له أنَّ ترحيبها الرقيق ربما كان خالصًا رغم إيجازه وبساطته.

وكانت الملكة وزوجها الملك كلاهما يعلَمان بهذه التفرقة. ولمَّا رأى رتشارد أن زوجه قد أغضبَها ما خُصَّت به ابنة عمه من فضل، لم يرْضَ عنه هو نفسه كثيرًا قال على مسمعٍ منهما: «نحن المُنشدين، يا برنجاريا، كما ترَين من مسلك أستاذنا بلندل، نحترِم الحَكَم الصارم كقريبتِنا هذه أكثر ممَّا نحترم صديقًا مُتميزًا رقيقًا مثلك، يطيب له أن يُسلِّم بقدرِنا جدلًا.»

فثارت نفس أُديث لهذا التهكُّم من قريبها الملك، وتردَّدت في الجواب، ولكنها قالت: «ما حُكمي الصارم الجازم بالصفة التي أتَّصِف بها وحدي من بين أبناء بلانتاجنت جميعًا.»

وأُديث فتاة عليها مسحةٌ من مِزاج ذلك الليث الذي يشتقُّ اسمه وشعاره من عُشبٍ وضيع١ زعموا أنه شارة الذلَّة والخضوع، ولكنه من البيوتات الشديدة الأنفة، الشامخة، التي حكمَتِ إنجلترا، ولذا فلربما تفوَّهت بأكثر ممَّا قالت، لولا أن عينَيها — وهي تتَّقِد في جوابها — التقتا بغتةً بعينَي النوبي رغم محاولته التخفِّي وراء النبلاء الحاضرين، فارتمَتْ على مقعد، وشحب لونُها شحوبًا اضطرَّ الملكة أن تطلب الماء والعطور، وأن تقوم بغير ذلك من الشعائر التي تليق بسيدةٍ سقطت مغشيًّا عليها. أما رتشارد، فكان يُقدِّر قوى أُديث العقلية خيرًا من ذلك، فأومأ إلى بلندل أن يعود إلى مقعده ويشرع في النشيد، مُعلنًا أن الغناء خيرٌ من كلِّ دواءٍ آخَر لإعادة الرجل أو المرأة من بيت بلانتاجنت إلى الحياة. ثم قال: «غَنِّنا أنشودة «الثوب الدامي» التي حدَّثْتَني عنها مرة قبل أن أغادر قبرص، ولا بدَّ وأن تكون الآن قد بلغتَ بها حدَّ الإتقان، أو انكسرتْ قوسُك — كما يقول العامة.»

ولكن عينَي المنشد الشفيقتَين اتجَّهتا نحو أُديث، ولم يُطع أوامر الملك المتكررة إلا بعد أن رآها تستردُّ احمرار خدَّيها، فأخذ حينئذٍ يتغنَّى — وكأنه يتلو قصةً محفوظة — بإحدى مغامرات الحُب والفروسية القديمة التي كانت أبدًا في قديم الزمان تملك على الناس قلوبهم، وصحِبَ صوتَه بالضرب على القيثارة ضربًا يحلو معه معنى النشيد ولا يغيض الصوت. وما إنْ شرَع في الديباجة حتى اختفى عن الرائي ظاهره الزَّري، وتألَّقَت ملامحه بالنشاط والوحي، وأطرب الآذان والقلوب بصوته العريض المُسترجل الليِّن الذي كان مُشبعًا كل التشبُّع بالذوق الرفيع، فابتهج رتشارد وتهلَّل كما يتهلَّل بعد النصر، ونادى بالصمت نداءً يليق بالمقام وقال:

«أنصتوا يا كرام القوم في المخادع والأبهاء.»

وبحماس الحامي للفنِّ المُتتلمِذ فيه صفَّ الحاضرين في دائرة، وألزمَهم الصمتَ وأسْكَتَهم، وجلس هو نفسه وعلى مُحيَّاه أمارات التسمُّع واللذَّة ممزوجة بعض الشيء برزانة الناقد الفني، وحوَّل رجال البلاط أبصارهم نحو الملك حتى يكونوا على استعدادٍ لتقفِّي ما قد يبدو على ملامحه من عواطف ثم مُحاكاته، وتثاءب توماس دي فو طويلًا كأنه يستسلِم — كارهًا — لكفَّارة شاقة، وكانت أنشودة بلندل بطبيعة الحال باللسان النورماندي، ولكنَّا فيما يلي نُعرِّبها معنًى وأسلوبًا.

الثوب الدامي

على مقربة من مدينة، «بَنَفَنْت» الجميلة،
والشمس تغيب فوق الأغصان والثنايا،
والفوارس تتأهَّب في المخادع والخيام
ليلة الاستباق إلى العماد،
حينما أرسلتِ الأميرة غلامًا فتيًّا
يلبس حرير «لنكلن» الأخضر اللامع،
ويحكي بزيِّه الحاجب،
فجاس خلال الخيام
باحثًا أنَّى سار عن الإنجليزي «توماس بن كنت».

•••

فأمعن في الرحيل، وسيُمعن ويُمعن،
حتى يجد سرادقه، وما هو بذي أبَّهة أو سناء.
وما هناك سوى الصلب والحديد إلا القليل،
والفارس الكريم لا يملك المال يستأجر به صانع السلاح
كي يُعنى له بسلاحه؛
فبساعِدَين مفتولَين، إلى الكتفَين عاريتَين،
انكبَّ يصلح بالمطرقة والمسحل
زردًا سوف يراه الغدُ وهو يرتديه
إجلالًا «لسنت جون» ولمحبوبته الحسناء.

•••

قال الرسول، وأحنى له الفارس رأسه وركبته،
«هذا ما تقول سيدتي: هي أميرة بنفنت عالية المقام،
وأنت وضيع كأوضع الفرسان؛
من يتسلَّق مثل هذه الشجرة العالية،
أو يثب فوق مثل هذا الحاجز يفصل ما بينها وبينك،
ينبغي أن يخاطر بعملٍ جليل
حتى يرى أطماعه الناسُ جميعًا
تؤيدها الفروسية العلياء.

•••

وقال الحاجب، والفارس خافض الرأس واليدين،
«ولذا هذا ما تقول سيدتي:
ألقِ عنك السلاح الكريم الذي ترتدي،
والبَس هذا العشب من ردائها بديلًا عنه،
واستعِضْ بثوبها الخيطي زرد الحديد،
واخرُج بهذا الزيِّ إلى فزع السجال.
وقاتِل كما ألِفتَ حيث تري أكثر الدماء،
وعُد بالشرَف أو البَثْ مع الموتى.»

•••

فما بدا على الفارس في مُحيَّاه الجزع،
وما لعِب في صدره القلق،
والعشبَ استلم، وبإجلال لثم:
«بارك الله في ذا الزمن، وبارك الله في ذا الرسول!
ما أراني إنْ صدعتُ بأمر سيدتي العالي إلا عظيم الشرف؛
قُل لسيدتي إني بهذا اللباس العزيز
لن أضنَّ بشجاعتي على خير الأبطال المُسلحين؛
ولكني إن حييت، وأجدت القتال،
فعليها تدور الدائرة وتؤدي الاختبار.»

وهنا، كرام الرجال، ينتهي من أنشودة الثوب الدامي نصفها الأول.

فقال الملك: «لقد غيَّرتَ لنا وزن النشيد في البيت الأخير يا عزيز بلندل ونحن غافلون!»

فقال بلندل: «حقًّا مولاي، فلقد نقلتُ الأبيات عن الإيطالية، وكنتُ سمعتُها من رجلٍ هرم يضرب على القيثارة لاقيتُه في قبرص. ولمَّا كنتُ لا أجد من الوقت ما يكفي لنقلها نقلًا صحيحًا، أو لحفظها عن ظهر قلب، فإني أكتفي بأن أسدَّ ما في الموسيقى والنظم من عجزٍ بداهةً على قدْر ما أستطيع، كما ترى أهل الريف وهم يصلحون بالحطَب السياج على عجَل.»

فقال الملك: «كلَّا وربي، إني لأحب هذه الأبيات الطويلة ذات الرنين، وأرى أنها أكثر ائتلافًا مع نغم الموسيقى من الأبيات القصيرة.»

فأجابه بلندل قائلًا: «لنا في كليهما حرية الوزن كما تعرف جلالتك جيدًا.»

فقال رتشارد: «أجل إنهما لكذلك يا بلندل، ولكني أظن رغم هذا أن المنظر — إذا كان فيه احتمال القتال — يتَّسق خير اتِّساق مع البحر الطويل والأبيات الرنانة التي لها جرس كانطلاق الفرسان. أما الوزن الآخر فليس إلا كَسَير خيول الآنسات لِينًا وانحرافًا.»

فردَّ عليه بلندل وقال: «لتكن إرادة جلالتك.» وشرع يقدِّم للنشيد من جديد.

وقال الملك: «أجل، ولكن هلَّا أرهفتَ خيالك أولًا بقدَحٍ من نبيذ «كيوس». أصغِ إليَّ، إني أريدك أن تطرح عنك هذه القيود الجديدة التي كبَّلتَ بها نفسك، وهي انتهاؤك بقوافٍ متشابهة مُحكمة، فما هي إلا قيود لخيالك المتدفِّق تجعلك أشبَهَ برجلٍ يرقص في الأصفاد.»

فقال بلندل: «إنَّ الأصفاد يتيسَّر على الأقل نزعها.» وشرع يُجيل أصابعه ثانيةً بين الأوتار كأنَّ العزف أحبُّ إليه من النقد.

وواصل الملك كلامه وقال: «لِمَ تكبِّل نفسك بها يا رجل؟ لِمَ ترمي بنبوغك في سوار من حديد؟ إني لأعجَب لك كيف تقدَّمت، وإني على يقينٍ أني ما كنتُ بمستطيع أن أُنشد بيتًا واحدًا في هذا البحر المُقيَّد.»

فحسر بلندل بصرَه، واشتغل بأوتار قيثارته كي يُخفي بسمةً ارتسمت على طلعتِه رغمًا عنه، ولكنها لم تغِب عن عين رتشارد.

فقال: «أُقسِم يا بلندل أنك لتضحك منِّي، وحقًّا إنَّ كل من يزعم أنه أستاذ — وهو لم يزل تلميذًا — لقمينٌ بالسخرية. ولَكِنَّا نحن الملوك نكتسب حُسن الظن بالنفس، وهي عادة ذميمة. هيا، وشنِّف آذاننا بغنائك يا عزيزي بلندل، وغنِّنا كما شئت، فإنه لخير مما نقترِح، وإن يكن لا بدَّ لنا من التعليق.»

فعاود بلندل الغناء، ولمَّا كان يألَف ارتجال النشيد فإنه لم يعجز عن أن ينصاع لما أشار به الملك، وربما سرَّهُ أن يُبيِّن السهولة التي يستطيع أن يُكيِّف بها القصيد من جديد حتى وهو يُلقيه.

الثوب الدامي النصف الثاني

شهد صباح العماد الجميلُ جليل الفعال؛
فكان اكتسابٌ للشرف، وكان ضياع للمنازل،
وكان ضرب بالسيوف، وكان قرْع بالعِصي،
وأحرز الظافرون مجدًا، وفاز بالقبور المُنهزِم
كم من فارسٍ استبسل وأجاد القتال،
ولكنَّ واحدًا من بين أقرانه برز وبرَع،
وذلك من لم يكن على جسمه وصدره درع
سوى قميص فتاة ترتديه حين تأوي إلى الفراش.

•••

وكان من أصابه بمُرِّ الجراح ورامي الكلوم،
وأشفق لحاله الآخرون فكرُّوا راجعين،
وقالوا: «إنها يمين الشرف أقسمها،
ومن النذالة أن نقتُلَه وهو يُبِرُّ باليمين.»
ثم من أجله أوقف الأمير النزال
ورمى بحارسه، ونفخوا في البوق بالسِّلم مؤذنين،
وكان للقضاة الحُكم، وعلى المُبارين التسليم؛
وكان الفارس، وترسُه القميص، في الحلبة المجلى.

•••

ودنت ساعة المأدبة واحتشد الجميع،
وأمام الأميرة الحسناء انحنى الوصيف خاشعًا،
وأسلمها قميصًا تعافُه العيون
مزَّقَتْه السيوف، ووخزته الرماح، وكله خروق وكله ثقوب،
مهلهلًا مُشقَّقًا، بالدماء ملطخًا،
عليه زبد الخيول وأثر الوحل والأديم،
لو لمَسَتْه السيدة بطرف خنصرها
ما وقع الطرف على مكان نقي لم يلوَّث.
«سيدي سير توماس كَنْتْ»
إلى أميرة بنفت الحسناء يرد هذا الشعار؛
من يصعد عالي الشجر ينَلْ حقًّا منه الثمر؛
من يثِب فوق الحواجز ينجح فيما سعى؛
استهدفتُ حياتي لأشد المخاطر فنلتُ الجزاء،
والآن على سيدتي بيان الولاء.
مَن تُحفِّز الفرسان لمِثل هذا الخطر،
تقرُّ لهم بخالص الفِعال أمام الشمس.

•••

يقول سيدي: «إني أردُّ القميص الذي ارتديت،
وإلى الأميرة أطلُب ارتداءه بدَورها،
وليعْلُ في عينها قدرُه لِما به من خروق،
فعارٌ إن لم يُلوَّثْ أو يصطبغ قرمزًا ولو بخاثر الدماء.»
فاحمرَّت الأميرة خجلًا،
ولثمتِ الثوب وقد تلطَّخ بالدماء،
وعلى شفتَيها وإلى صدرها ضمَّتْه.
اذهب وقُل لفارسي الأمين لتظهرنَّ الدولة والكنيسة
إن كنتُ أقدِّرُ أو لا أُقدِّر ما على هذا القميص من دماء.

•••

وحان الحين للنُّبلاء أن يسيروا
في موكبٍ مُوقَّر إلى القس والقدَّاس
وسارت في المقدمة الأميرة في بساط الرحمة والأرجوان،
وفوقها تلفَّعت برداء الليل الملطَّخ بالدماء؛
بل وفي الردهة حيث التأم الجمع للغداء،
وعلى رُكبتَيها جثت لأبيها وقدَّمت النبيذ،
وفوق كلِّ غالي الثياب وثمين الجواهر
لبست ذاك الوشاح المعيب المخضَّب بالدماء.

•••

وحقًّا لقد همس للسيدات كرام الرجال،
وبالإيماء والبسمات وغمزات العيون أجاب السيدات؛
وأطرق الأمير غضبًا وخِزيًا،
ثم التفت إلى ابنته أخيرًا وكلَّمَها مُقطب الجبين:
«الآن وقد صدرَتْ عنكِ الحماقة والذنوب،
فلتُكفِّري بيدك عما أرقتِ من دماء؛
ولتَنْدَمان كلاكما على القِحة أشدَّ الندَم،
وتهيمان من بنفنت الجميلة شريدَين.»

•••

وفي الردهة وقف توماس البدين،
منهوكًا مخذولًا ولكن قلبه جسور مِقدام،
وبأعلى صوته صاح: «إنَّ ما أرقتُ من دماءٍ في سبيل ابنتك
قذفتَ به راغبًا، كما يلفظ الوعاء النبيذ؛
ولئن عانَتْ من قِبلي عقوبة أو عذلًا،
فثِق أني لأنجِّينها من العناء والعار،
ولن تأبه بالإمارة أو ريعها إلا قليلًا،
فلسوف أُنادِينَّ بها في إنجلترا أميرة كنت!»

فسَرَت بين الحاضرين دمدمة الاستحسان، مُتابعين في ذلك رتشارد نفسه الذي أخذ يكيل لمُنشدِه المحبوب الثناء كيلًا، واختتم بتقديم خاتمٍ عظيم القيمة إليه، وسارعت الملكة إلى التعطُّف على هذا المُغني العزيز بسوارٍ نفيس، وتبع كثيرٌ من النبلاء الحاضرين هذه السابقة الملكية.

وقال الملك: «هل باتت ابنة عمِّنا أُديث لا تستسيغ نغم القيثار الذي عشقتْهُ يومًا؟»

فأجابت أُديث قائلة: «إنها تشكر بلندل على أغنيته، وتُضاعف الشكر لرقَّة قريبها الذي أشار إليها.»

وقال الملك: «إنك لغاضبة يا ابنة عمي، غاضبة لأنك سمِعتِ بامرأةٍ أشدَّ منك عنادًا، ولكنك لن تُفلتي منِّي، سوف أسير معك بضع خطوات نحو مَبيتك من سرادق الملكة؛ ينبغي أن نتشاور معًا قبل أن يشحب ظلام الليل ويسطع نور النهار.»

وكانت الملكة ووصيفاتها إذ ذاك قد نهضنَ على أقدامهن، وانسحب الضيوف الآخرون من فسطاط الملك، وكان ينتظر برنجاريا خارج السرادق رتلٌ من الناس يحمِلون المشاعل الوهَّاجة، وحرَس من رُماة السهام، وسرعان ما كانت في طريقها إلى بيتها. وسار رتشارد إلى جوار قريبته كما اقترح وأكرهها على أن تَقبَل ذراعه مُتَّكأ لها حتى يستطيعا أن يتحادثا دون أن يسمعهما أحد.

وقال رتشارد: «أي جواب إذن أردُّ به على السلطان النبيل؟ إنَّ الملوك والأمراء ينصرفون عنِّي يا أُديث, وهذا النزاع الجديد قد باعدَهم عني ثانية، إني قد أستطيع أن أقوم ببعض الواجب نحو القبر المقدَّس بالاتفاق إن لم يكن بالظفر، وتتوقَّف — واحسرتاه! — فرصة قيامي بهذا على امرأة. والله لَخير لي أن أنازل بحربةٍ واحدة عشرةً من خيرة الرمَّاحين في العالَم المسيحي من أن أجادل امرأةً عنيدة لا تعرف صالح نفسها. أي جوابٍ يا ابنة العم أردُّ به على السلطان؟ ينبغي أن يكون الجواب حاسمًا.»

فقالت أُديث: «قل له إن أفقر بنات بلانتاجنت خيرٌ لها أن تتزوَّج من البؤس والشقاء من أن تقترن بالشِّرك والكفران.»

فقال الملك: «أو«بالرق» يا أُديث، والله ما أظنُّ إلا أن هذا أقرب إلى ذهنك.»

فأجابت أُديث قائلة: «ليس هذا مجال الشكِّ الذي تُشير إليه بهذه الغلظة؛ إن استرقاق الجسم قد يدعو إلى الإشفاق، ولكن استرقاق الروح يَستثير التحقير والازدراء. عار عليك يا ملك إنجلترا الطروبة! لقد استعبدتَ فارسًا جسمًا وروحًا، وكان يومًا يكاد لا يقلُّ عنك صيتًا وذكرًا.»

فردَّ عليها الملك وقال: «هلَّا ينبغي لي أن أمنع قريبتي عن شُرب السم، فألوِّث الإناء الذي يحتويه، إنْ لم أرَ وسيلةً أخرى تُقزِّزها من الشراب القاتل؟»

فأجابت أُديث وقالت: «إنما هو أنت الذي تدفع بي إلى شُرب السُّم لأنه يقدَّم إليَّ في كأسٍ من الذهب.»

وقال رتشارد: «أي أُديث، إني لا أستطيع أن أقسُركِ على البتِّ قسرًا، ولكن حذارِ من إغلاق الباب الذي تفتحه السماء؛ إنَّ ناسك عين جدة، الذي يعتبِره البابا وتعتبِره المجامع رسولًا، قد استطلع النجم، ورأى أنَّ قرانك سوف يُصلِح ما بيني وبين خصمٍ قوي، وأن زوجك سوف يكون مسيحيًّا، ولذا فالأمَل قوي في أنَّ زواجك من السلطان سوف يؤدي إلى اعتناقه المسيحية والإتيان بأبناء إسماعيل إلى حظيرة الكنيسة. هيا، هيا، إنما ينبغي أن تُقدِّمي بعض الفداء، ولا تقفي في سبيل مثل هذا المطمح السعيد.»

فقالت أُديث: «قد يُضحِّي الرجال بالأكباش والماعز، لا بالشرَف والضمير. وقد نما إليَّ أن الأعراب ما دخلوا إسبانيا إلا عن سبيل عار فتاةٍ مسيحية، وليس عار الأخرى بالسبيل التي يُرجى منها إخراجهم من فلسطين.»

فقال الملك: «هل ترَين من العار أن تَبيتي عاهلة؟»

«إنما عارٌ وخزي أن ننتهِك حرمة السرِّ المسيحي المقدَّس بأن نُدخل فيه مشركًا لا يرتبط به, وأقول إنه عار وشنار أن أبيت راضيةً — وأنا سليلة أميرة مسيحية — على رأس حريمٍ من الإماء المُشركات.»

فسكتَ الملك قليلًا ثم قال: «إذن ينبغي لي يا قريبتي ألا أشتبِك معكِ في الجدل، وإن كنتُ أظنُّ أن اعتمادك عليَّ كان ينبغي أن يُملي عليك الطاعة أكثر من ذلك.»

فأجابت أُديث قائلة: «مولاي، إن جلالتك قد ورثتَ بحقٍّ كل ما كان لبيت بلانتاجنت من ثروةٍ وجاه ومُلك، فلا تضنَّنَّ على قريبتك المسكينة بنصيبٍ زهيد من عزِّهم وفخارهم.»

فأجابها الملك وقال: «أُقسم أيَّتُها المرأة لقد أنزلتِني من عليائي بهذه الكلمة! إذن فلنتصافَح وليُقبِّل أحدُنا الآخر؛ سوف أبعث بجوابك قريبًا إلى صلاح الدين. ولكن بعد هذا كله، ألم يكن خيرًا يا ابنة العم أن تُعلِّقي جوابك حتى ترَينه؟ فإن الرجال يقولون عنه إنه فائق الملاحة والظُّرف.»

فقالت أُديث: «ليست هناك يا مولاي فرصة للقائنا.»

وقال الملك: «وحقُّ القديس جورج إنَّ اللقاء لا بدَّ منه، فإن صلاح الدين لا مِراء في أنه سوف يُعطينا ميدانًا طلقًا نقوم فيه بهذه المعركة الجديدة، معركة العَلَم، وسوف يشهدها بنفسه، وإنَّ برنجاريا لتتحرَّق شوقًا لرؤياها؛ وأقسم أنكنَّ، رفيقاتها ووصيفاتها، سوف لا تتخلَّف مِنكنَّ ريشة. أنتِ في مُقدمتهنَّ جميعًا يا ابنة العم الحسناء؛ ولكن دَعينا من هذا وهيَّا بنا، لقد بلغْنا السرادق وينبغي أن نفترِق، بل وأن نفترِق على غير عداء. كلا بل يجِب أن تؤيدي يا أُديث، يا ذات الحسن، مودَّتنا بشفتَيك وبكِلتا يديك؛ إنه من حقِّي كملكٍ أن أُقبِّل أتباعي من ذوات الحسن.»

وعانقها بإقبالٍ ومحبة، وعاد خلال المعسكر والقمر يسطع، وهو يُهمهِم لنفسه بضع فقراتٍ مما يذكر من أنشودة بلندل.

ولما بلغ السرادق خفَّ إلى إنشاء رسائله إلى صلاح الدين، وأسلمها إلى النوبي، وأمرَه أن يرحل عند مُنبثَق النهار عائدًا إلى السلطان.

١  «بلانتاجنت» عُشب تصنَع منه المكانس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤