الفصل السابع والعشرون

طرَقَ التكبير منَّا الآذان —
والتكبير ما يُطلِقه الأعراب على نداء الهجوم،
حينما يُهلِّلون بصوتٍ عال
يدعون الله أن ينصُرَهم.
حصار دمشق

وفي صباح اليوم التالي دعا فيليب ملك فرنسا رتشارد إلى لقائه، ولمَّا التقيا أبلغ فيليب رتشارد بعد ديباجة طويلةٍ من التقدير السامي لأخيه ملك إنجلترا، وفي عبارة غاية في الرقة، ولكنها جدُّ صريحة لا يُخطئ معناها السامع، أبلغه بعزمِه المؤكد على عودته إلى أوروبا، وإلى شئون مملكته، لأنه يئس كلَّ اليأس من النجاح في الغاية ممَّا شرعوا فيه بعدما تضعضعت قواهم ودبَّ النزاع بين صفوفهم، وعارَضَه رتشارد ولكن دون جدوى. ولما انتهَيا من المقابلة، تلقَّى رتشارد بغير دهشةٍ إخطارًا من دوق النمسا وكثيرٍ غيره من الأمراء، يُعلنون فيه عزمًا كعزم فيليب، وبعبارةٍ ليس فيها شيء من التهوين، وقد عزَوا ارتدادَهم عن قضية الصليب، إلى أطماع رتشارد المُفرِطة وسيطرته وتحكُّمه؛ فضاع بعد هذا كل رجاءٍ في متابعة القتال مع الأمل في الفوز بالنصر آخِر الأمر، وتحدَّر الدمع المرير من رتشارد على خيبة آماله في الظفر والمجد، ولكنه تعزَّى قليلًا حينما ذكر أنَّ الفشَل يرجع بعضه إلى المزايا التي منحها خصومَه بسجيَّتِه المُتعجِّلة وقلَّة روِيَّته.

فقال لدي فو وهو في مرارة غضبه وحنقه: «إنهم ما كانوا ليجسُروا على هجران أبي هكذا، وما كان العالَم المسيحي يُصدِّق أنهم يلفظون هذا القذف في وجه ملكٍ حكيم مثله. أما الآن — وما أشدَّ غفلتي! — فإني لم أُيسِّر لهم الحجة لهجراني فحسْب، بل لقد أعطيتُهم كذلك سببًا لإسناد الملامة على هذا الشقاق إلى نقائصي وعيوبي.»

وكانت هذه الخواطر شديدة الإيلام على نفس الملك حتى أنَّ دي فو استبشر حينما وصل من صلاح الدين سفير حوَّل تفكيرَه إلى مجرًى آخر.

هذا الرسول الجديد كان أميرًا له لدى السلطان احترام كبير، واسمه عبد الله الحاج، وهو ينتسِب إلى أسرةٍ كريمة، وكان يلبس عمامةً كبيرة خضراء إشارةً إلى نسَبِه، وقد أدَّى الحج إلى مكة ثلاث مرَّاتٍ فاتصف ﺑ «الحاج»، ولكن عبد الله — رغم هذه المظاهر التي تدلُّ على قداسته — كان في نظر الأعراب نديمًا يُحِبُّ القصص المرِح، وينزع عن نفسه الرزانة إلى حدٍّ يجترع معه كأس الخمر — وهو يطفح بِشرًا — إذا ما تخفَّى تخفِّيًا يكفل له كتمان الفضيحة. وكان إلى ذلك سياسيًّا أفاد صلاح الدين من كفاءته في مفاوضاتٍ عدة مع الأمراء المسيحيين، وبخاصة مع رتشارد الذي كان يعرف «الحاج» معرفةً شخصية ويستظرِفه. وما إن علِم رتشارد من رسول السلطان بإذعانه عن طيب خاطرٍ لتقديم ميدانٍ للنزال على أرضٍ مُحايدة، ولقيادته كلَّ من أراد أن يشهد المبارزة آمنًا إلى هناك، مقدِّمًا نفسه ضمانًا لصِدقه، حتى امتلأ بالحياة، ونسِيَ آماله المُحطَّمة، وإيذان العصبة المسيحية بالانحلال، واسترسل في البحث المُمتِع الذي يسبق النزال في ميدان المبارزة.

وضُرب المكان الذي يُعرَف ﺑ «درَّة الصحراء» مُلتقًى للنضال، لأنه يكاد يتوسط بين معسكر المسيحيين ومعسكر الأعراب، واتُّفق على أن يظهر كُنراد منتسرا المُتهم ومؤيداه أرشدوق النمسا وكبير رجال المعبد هناك في اليوم الذي حُدِّد للمبارزة، ومعهم مائة من الأتباع المُسلَّحين ليس غير، وأن يحضُر رتشارد ملك إنجلترا وأخوه سولزبري الذي يؤيد الاتهام ومعهما هذا العدد عينُه من الرجال لحماية بطل الملك، وأن يأتي السلطان ومعه حرَس من خمسمائة من خيار الأتباع، وهي فرقة لا تَرْجح — رغم عديدها — المائتي مسيحي من رُماة الرماح. أما ذوو المكانة من الرجال الذين يختارهم أي الفريقين للدعوة لمشاهدة النزال، فكان عليهم ألا يصطحبوا سلاحًا غير سيوفهم، وأن يأتوا بغير دروعٍ للدفاع. وتعهد السلطان بإعداد الأماكن وشهيِّ الطعام من كل لونٍ لكلِّ من يحضر هذا الحفل المهيب، وقد عبَّر في رسائله بكل رقَّةٍ عن السرور الذي يرتقِبه من الأمل في مقابلة الملك رتشارد مقابلةً شخصية سِلمية، وعن رغبته الشديدة في أن يجعل استقباله لائقًا بقدْر ما يستطيع.

وبعدما تمَّ التمهيد، وعلِم بذلك المتهم وأعوانه، دخل عبد الله الحاج في مقابلةٍ خاصة استمع فيها لأغاني بلندل وانشرح لها صدرُه، وقد أخفى عن الأبصار أول الأمر عمامته الخضراء بكل عناية، واستبدلَها بتقيَّة إغريقية، ثم ردَّ على موسيقى المنشِد النورماندية بأغنية شرابٍ فارسية، واجترع كأسًا من نبيذ قبرص حتى ثُمالتها كي يُثبت أنَّ فِعاله تتَّفق ومبادئه. وفي اليوم التالي ظهر بمظهر الرصانة والصَّحو كأنه «مرجلب» الذي لم يشرب سوى الماء، وانحنى بجبينه إلى الأرض لدى موطئ قدمَي صلاح الدين وسرد للسلطان بيانًا عن سفارته.

وفي اليوم الذي كان يسبق اليوم المُحدَّد للنزال فصل كُنراد وصحابه عند مطلع النهار يقصدون المكان المُعيَّن، وترك رتشارد المعسكر في ذات الوقت ولنفس الغرَض، ولكنه سلك في رحيله طريقًا أخرى كما اتُّفق من قبل، وهي حيطة رُؤيت ضرورتها لمنع إمكان شبوب النزاع بين أتباعهم المسلَّحين.

ولم يكن الملك الصالح نفسه على أُهبة للقتال مع أيٍّ كان، وما كان ليزيد من سروره وتطلُّعه إلى المبارزة الدامية المُستقتِلة في ساحة النزال إلا أن يكون بشخصه الملكي أحد المُتبارزَين. واستردَّ بعض رضا النفس ثانية، وهدأت ثائرته حتى نحو كُنراد منتسرا، وسار يترنَّح يمينًا ويسارًا، خفيف السلاح، نفيس اللباس، منشرحًا كالعريس ليلة زفافه، إلى جوار محفَّة الملِكة برنجاريا، مُشيرًا لها إلى المناظر العديدة التي كانا يتخلَّلانها، ومُدخِلًا بالقصص والغناء بعض البهجة على صدْر القفْر المجدِب القاحل, وكانت الطريق التي سلكت الملكة من قبل في حجِّها إلى عين جدة على الجانب الآخَر من سلسلة الجبال، فكان السيدات غريباتٍ على هذا الجانب البادي من الصحراء، وكانت برنجاريا تعلَم مَيل زوجها حقَّ الميل، وتحاول أن تظهر حبَّها لِما كان يسرُّه من قول أو غناء، إلا أنها — رغم ذلك — لم يَسعْها إلا أن تسترسل في بعض مخاوف نسوية، حينما ألفَتْ نفسها في قفرٍ بلقع مع قليلٍ من الخفراء كانوا يبدون كذرَّةٍ متحركة على صدر السهل، وحينما أدركتْ كذلك أنهم على مقربةٍ من معسكر صلاح الدين، وأنَّ هذا الوثني قد تبلُغ به الخيانة أن ينتهِز هذه الفرصة فيبعث بجيشٍ قوي من فرسانه خفاف الحركة يُباغتهم ويسحَقُهم في لحظةٍ واحدة. ولكنها ما إن ألمعَتْ إلى رتشارد بهذه الرِّيَب حتى درَأها غاضبًا مُزدريًا وقال: «إنه لشرٌّ من نكران الجميل أن نرتاب في صِدق نية السلطان الكريم.»

ولكن هذه المخاوف والشكوك عادت أكثر من مرةٍ لا إلى عقل الملكة الهيوب وحده، ولكن إلى نفس أُديث بلانتاجنت كذلك، وهي أشدُّ ثباتًا وأكثر صراحة، ولم تبلُغ بها الثقة في إخلاص المسلمين مبلغًا تطمئنُّ معه إلى هذا الحد، إن هي باتت في قبضتهم، ولو كان ما حوالَيها من أرضٍ يباب يُردِّد صدى النداء «بالله» على حين غرة، ثم تنقضُّ عليهم عصابة من فرسان العرب كما تنقضُّ النسور على الفريسة، لكانت دهشتها من ذلك أقلَّ من رُعبها بكثير. ولم تفتُر هذه الشكوك حينما أقبل المساء، ورأوا فارسًا عربيًّا — يتميَّز بعمامته ورُمحه الطويل — يحوم على حافة جبلٍ ناتئ كالصقر يُحلِّق في الهواء، وقد انطلق في الحال عندما ظهر الملك وأتباعُه انطلاق الطائر حينما يشقُّ الريح ويختفي وراء الأفق.

فقال الملك رتشارد: «لا بدَّ وأن نكون قد اقتربنا من المكان، وذلك الفارس أحد طلائع صلاح الدين. يُخيَّل لي أني أسمع أصوات الأبواق والصنوج المغربية؛ رتِّبوا صفوفكم يا أحباء قلبي، واصطفُّوا حول السيدات واثبُتوا ثبات الجنود.»

وفي خلال كلامه خفَّ كل فارسٍ وتابِع ونبَّال على عجَلٍ إلى مكانه المُعيَّن، وساروا في صفوف متلاصقة أشدَّ التلاصق حتى بدا عديدهم قليلًا. وحقًّا إن لم يسْرِ بينهم الخوف، فقد تملَّكهم الجزَع وحُب التطلع وهم يتسمَّعون مُنصتِين إلى أنغام الموسيقى المغربية وهي تصدَح، وتبلُغُهم الحين بعد الآخر واضحةً من الجهة التي اختفى فيها الخيَّال العربي.

وقال دي فو همسًا: «أما كان خيرًا لنا يا مولاي أن نبعث برسولٍ إلى قمَّة هذه الرابية الرملية؟ أم هل تُريدني أن أسبق إلى الأمام؟ يُخيَّل لي من كل هذا الضجيج وذاك الظنين أنه إن لم يكن هناك ما يربو على خمسمائة رجل وراء الكثبان الرملية، فلا بدَّ وأن يكون نصف حاشية السلطان من الطبَّالين واللاعبين بالصنوج. هل لي أن أسبق؟»

وشدَّ البارون على جواده بزمامه، وأوشك أن يُحفِّزه بمِهمازه، لولا أن صاح به الملك «كلا، لو أُعطيتُ مُلك الدنيا؛ إنَّ مثل هذا الحذَر يدلُّ على الرِّيبة ولن يحُول دون انقضاضهم علينا، وهو أمر لا أخشاه.»

وتقدَّم الجمع بعد هذا في نظامٍ مُحكم متقاربين، حتى تخطَّوا الكثبان الرملية المنخفضه، وباتوا على مرأًى من المكان المقصود، فإذا بانتظارهم مشهد رائع جليل، ولكنه يُثير الرُّعب في النفوس.

كانت «درَّة الصحراء» على عهدٍ قريب عينًا مُنعزلة لا يميزها وسط القفار سوى عددٍ من أشجار النخيل المُتباعدة، ولكنها الآن محطٌّ لخيامٍ عديدة مضروبة، وعليها أعلام مزركشة وزينات من الذهب تتألَّق تألُّقًا شديدًا وتعكس ألوفًا من الألوان الزاهية، والشمس تسطع عليها وهي ماثلة للغروب. وكانت السرادقات الضخمة مُغطَّاةً بأزهى الألوان، من قرمزي إلى أصفر فاقع، إلى أزرق شاحب، وغير ذلك من الأصباغ ذات الرونق والسناء، وأعالي عَمَدها — أو قوائم الخيام — كانت مُحلَّاة برمَّانٍ من الذهب، وأعلام صغيرة من الحرير, ولكن إلى هذه السرادقات المتميزة كان هناك، على ما رأى توماس دي فو، عددٌ كبير من خيام العرب المألوفة السوداء، تكفي — على ظنِّه — لإيواء جيشٍ من خمسة آلاف رجلٍ على الطريقة الشرقية, وكان هناك عدد من الأعراب والكرد يتناسب واتساع المخيم، يتجمَّعون على عجَل، وكلٌّ منهم يقود جواده بيدِه، ويصحب حشدَهم ضجيج يكاد يصمُّ الآذان، يصدُر عن آلاتهم الصخَّابة التي كانوا يضربون عليها موسيقاهم العسكرية، والتي أشعلت في العرب طوال العصور حماس الحرب والقتال.

وسرعان ما تجمَّعوا أمام خيامهم في حشدٍ مُضطرب شديد الزحام من الفرسان المترجِّلين، وما إن أُشير إليهم بصيحةٍ عالية تعلو رنين الموسيقى، حتى خفَّ كل فارس إلى ظهر جواده، وثار النقع سُحبًا حينما قاموا بهذه الحركة العسكرية، فاختفى عن ناظر رتشارد وأتباعه المعسكر والنخيل وحافة الجبل البعيدة، كما اختفى الجند الذين أثاروا سُحب التراب بحركتهم المُباغتة. وارتفع الغبار فوق رءوسهم، واتَّخذ أشكالًا عجيبةً من عمدٍ ملتوية وقبابٍ ومآذن، وارتفعت صيحة عالية أخرى مُنبعثة عن صدر هذا الهيكل المُنشأ من سُحب التراب، وكانت هذه الصيحة إشارة للفرسان بأن يتقدَّموا؛ وقد فعلوا، راكِضين بأقصى سرعة. وكلَّما ساروا إلى الأمام اصطفُّوا مُحيطين بالمقدِّمة والجناحَين والمؤخِّرة من حرَّاس رتشارد القليلين، وقد باتوا مُحاصَرين، ويكادون يختنقون بسُحب التراب الكثيفة التي تغشَّتهم من كل جانب، والتي كانت تتبيَّن من خلالها حينًا وتختفي حينًا آخر جسوم الأعراب الكالِحة، ووجوههم البربرية، وهم يلوِّحون برماحهم، ويهزُّون بها في كل مُتَّجهٍ مُهلِّلين هاتفين، ولا يُمسكون بزمام خيولهم إلا غرارًا، وذلك حينما يبيتون على قيد رمح من المسيحيين، بينما كانت مؤخِّرتهم تمطِر على رءوس الفريقين وابلًا من السهام، وقد أصاب أحدَهَم المحفَّة التي كانت تجلس فيها الملكة، فعلا صياحُها واحمرَّ جبين رتشارد في لمح البصر.

فصاح مذعورًا: «وحقُّ القديس جورج ليكوننَّ لنا مع هذه الطُّغمة من الكفَّار شأن!»

أما أُديث التي كانت محفَّتها على كثب، فقد أطلَّت برأسها، وأمسكَت بإحدى يدَيها نبلةً وصاحت: «أي رتشارد المليك، حذارِ ممَّا أنت فاعل! انظُر، إنَّ هذه السهام بغَير رءوس!»

فصاح بها رتشارد: «ما أنبلَك وأحكمك من امرأة! والله إنك لتُخجِليننا جميعًا بسرعة خاطرك ونفاذ بصرِك.» وصاح بأتباعه: «لا تتحرَّكوا يا أعزاء قلبي من الإنجليز، إن سهومهم ليس لها رءوس، وإنَّ رِماحهم كذلك تنقُصها أطراف الحديد. إنما جاءونا مُرحِّبين ترحيبًا وحشيًّا على طريقتِهم البربرية، ولكنهم رغم هذا — لا مراء — يبتهجون إذا رأونا مُرتاعِين أو مُضطربين. سيروا إلى الأمام بتُؤدةٍ وثبات.»

فسارت الكتيبة الصغيرة قُدُمًا، يصحبها الأعراب من كل جانب، وهم يصيحون صياحًا نافذًا أجش، وحملة القسي يعرضون حذقهم وخفَّتَهم فيرمون بسهامهم على قيد شعرةٍ من رءوس المسيحيِّين دون أن يُصيبوهم بأذًى، والرمَّاحون يتقارَعون بغلظةٍ بأسلحتِهم الكليلة، حتى كثُر منهم من فقد سرجَه وكاد يفقد حياته في هذا اللعب الهمجي. وقد أرادوا بهذا كلِّه إلى التعبير عن ترحابهم، ولكن ظاهر الأمر كان مُريبًا في أعيُن أبناء أوروبا.

وما إن بلغوا منتصف الطريق نحو المعسكر، والملك رتشارد وأتباعه يؤلِّفون النواة التي تجمَّع حولها هذا العدد الصخَّاب من الخيَّالة، مُهلِّلين هاتفين، ومناوشين ومُهطعين، وهم على صورةٍ من الاضطراب لا يُحيط بها وصف، حتى انبعثت صيحةٌ عالية أخرى، كرَّ لمَسمعها الجنود المُختلُّون، الذين كانوا بالمُقدِّمة وعند الجناحَين من الكتيبة الأوروبية الصغيرة، وألَّفوا من أنفسهم صفًّا طويلًا عريضًا، وساروا في مؤخِّرة عسكر رتشارد، وهم أكثر نظامًا وألزم صمتًا، وبدأ التراب الآن ينقشع أمامهم حينما تقدَّم للقائهم خلال ذلك الحجاب القاتم جماعةٌ من الفرسان يختلفون عنهم هيئةً ويفوقونهم نظامًا، مُسلَّحين إلى الأطراف بأسلحة الدفاع والهجوم، يليق بهم أن يكونوا حرَّاسًا لأكثر ملوك الشرق صلفًا وكبرًا. وهذه الفرقة الفاخرة كانت تتألَّف من خمسمائة رجل، وكل جوادٍ من جيادهم يليق فداءً لرجلٍ شريف، والركبان رقيق من أهل جورجيا أو جراكسة في ريعان الشباب، وخوذاتهم وقمصانهم المصنوعة من الزرد كلها من حِلَق الحديد، شديدة البريق، تتألَّق كالفضة، ونُطُقهم مجدولة بالحرير والذهب، وعمائمهم الغالية مرصَّعة بالريش والجواهر، وسيوفهم وخناجرهم من الصلب المُحلَّى بالفضة، مزينة بالذهب واللآلئ على مقابضها وأغمدتها.

تقدَّم هؤلاء الجند ذوو الأزياء الفاخرة على أنغام الموسيقى العسكرية، ولمَّا التقَوا بفرقة المسيحيين فتحوا صفوفهم يمينًا ويسارًا، وأدخلوهم بينهم، واتَّخذ رتشارد الآن مكانة في طليعة جنده، وهو يعلم أنَّ صلاح الدين نفسه يدنو. ولم يمضِ زمنٌ طويل حتى أقبل السلطان وسط حرِسِه، وكأنه بملامحه وهيئته رجلٌ كتَبَتِ الطبيعة على جبينه «هذا ملك»، وأحاط به خدَمُه من الضبَّاط وأولئك الزنوج الدميمين الذين يخفرون الحريم في الشرق، والذين زاد قُبحَ أشكالهم رعبًا نفاسةُ ملبسِهم. وصلاح الدين بعمامته الناصعة البياض، وصداره وسراويله الشرقية الفضفاضة، ونطاقه الحريري القرمزي، دون أية زينةٍ أخرى، ربما كان أكثر من حرَسِه سذاجةً في لباسه؛ ولكنك إنْ دنوتَ منه وأمعنت فيه، رأيتَ في عمامته تلك الجوهرة التي لا تُقدَّر، والتي سمَّاها الشعراء «بحر النور»، واللؤلؤة المنقوشة باسمه، والتي كان يلبسها في خاتمه، ربما كانت تساوي في قيمتها كلَّ ما بالتاج الإنجليزي من جواهر، والياقوت الذي ينتهي به مقبض سيفه لا يقلُّ عنها في قيمتها كثيرًا؛ وفوق ذلك كان السلطان يلبس نوعًا من القناع يتَّصل بعمامته، ويحجب عن الأنظار جانبًا من ملامحه النبيلة، وذلك إما وقايةً له من التراب الذي يُشبه في جِوار البحر الميت أدقَّ الرمال، أو ربما كان ضربًا من الكبرياء الشرقي. وكان يمتطي حصانًا عربيًّا ناصع البياض، يحمله وكأنه يحسُّ ويفخر براكبه النبيل.

ولم تكن هناك حاجة إلى تَقدِمة جديدة، فلقد نزل الملِكان الشهمان — وحقًّا لقد كانا كذلك — عن ظهري جواديهما توًّا، ووقف الجند، وسكتت الموسيقى بغتة، وتقدَّما للِّقاء في صمتٍ رهيب، وبعدما انحنى كل منهما مُجاملة تعانَقا كأخوَين ونِدَّين، ولم تعُدِ الأبَّهة والمظهر لدى أيهما لتجتذِب النظر، إذ لم يرَ أحدٌ شيئًا غير رتشارد وصلاح الدين، ولم يرَ أحدهما غير الآخر، ولكن النظرةَ التي كان يرمق بها رتشارد صلاح الدين كانت أكثر إمعانًا وتطلُّعًا من نظرات السلطان التي صوَّبها نحوه. وكان السلطان كذلك أول من شقَّ ما كان يسُود من سكون.

وقال: «إنَّ صلاح الدين يرحِّب بالملك رتشارد كما يرحِّب بالماء لهذه الصحراء! وإني على يقينٍ من أنه لا يرتاب في هذا العدد العديد من الجنود، فإذا استثنيت العبيد المسلحين من حاشيتي، فإن أولئك الذين يُحيطونك بنظراتٍ من العجب والترحاب هم جميعًا — حتى أكثرهم خضوعًا — من النُّبلاء ذوي المكانة في القبائل الألف التي تتبَعُني؛ إذ مَن ذا الذي يكون له حق المثول ويلبَث في بيته، والأمير القادم رتشارد، وهو الذي بمخاوف اسمه — حتى فوق رمال اليمن — تُدلِّل المُرضعة الوليد ويُخضِع العربيُّ جواده الجموح!»

فأجاب رتشارد وقال: «وكل هؤلاء نُبلاء من الأعراب؟» وتلفَّت حوالَيه، ووقع بصره على جسومٍ خشنة، ورجال مُتلفِّعين بالثياب، اسودَّت من حرارة الشمس ملامحهم، وأسنانهم بيضاء كالعاج، وعيونهم السُّود يتألَّق فيها بريقٌ نافذ غير طبيعي تحت ظلال عمائمهم، ولباسهم على الجملة ساذج بل وضيع.

فقال السلطان: «أجل إنَّ لهم لَهذه المرتبة، وهم وإن يكونوا عديدين إلا أنهم يخضعون لشروط المعاهدة، ولا يحملون سلاحًا غير السيوف، وحتى حديد رماحهم قد خلَّفوه وراءهم.»

فتمتم دي فو بالإنجليزية قائلًا: «إني أخشى أن يكونوا قد خلَّفوه حيث يتيسَّر لهم إنْ أرادوه سريعًا. إني أقرُّ بأنهم مجلس من الشيوخ جليل، وربما ضاقت بهم قاعة وستمنستر.»

وقال رتشارد: «صهٍ يا دي فو؛ إني آمُرُك بالصمت.» ثم قال: «أيها السلطان، إنك والشكُّ لا توجدان على أرضٍ واحدة.» وأشار إلى المحفَّات وقال: «ألا ترى أني كذلك قد أتيتُ معي ببعض الأبطال، ولكنهم مُسلَّحين. ولربما كان في ذلك إخلال بالاتفاق؛ ولكن العيون النُّجل، والملامح الفاتنة، أسلحة لا نستطيع أن نُخلِّفها وراءنا.»

فالتفتَ السلطان نحو المحفَّات، وطأطأ رأسه إجلالًا كأنه يُولِّي وجهه شطر مكة، ولثَم الرمال إشارةً على الاحترام والتبجيل.

وقال رتشارد: «كلا، إنهنَّ يا أخي لا يخشَينَ لقاءً أقرب من هذا. هلَّا ركبتَ صوب محفَّاتهن، وسترفع الستر بعد زمنٍ وجيز؟»

فقال صلاح الدين: «حرام عليَّ هذا! وليس للعربي أن ينظُر إلى النساء، وعارٌ على السيدات النبيلات أن يُبدِين وجوههنَّ بغير قناع.»

فأجاب رتشارد: «إذن لتراهُنَّ في خلوةٍ يا أخي المليك.»

فأجابه صلاح الدين محزونًا وقال: «لِمَ أراهن؟ لقد كانت رسالتك الأخيرة لآمالي التي أشدْتُ كالماء للنار، فما لي بعدَ هذا أُشعل لهيبًا قد يحرِق قلبي ولا يُدخل السرور على نفسي؟ ولكن هلَّا سار أخي إلى الفسطاط الذي أعدَّه له خادمه؟ إنَّ عبدي الأسود الخاص قد تلقَّى الأمر للقاء الأميرات، وسوف يستقبل الضبَّاط من حاشيتي تابعيك، وسأقف بنفسي على خدمة رتشارد المليك.»

وعلى إثر هذا شقَّ طريقه إلى سرادقٍ فخمٍ أُعِدَّ به كلُّ طريفٍ من ترَف الملوك، وكان دي فو حاضرًا فأزال عباءة الركوب الطويلة التي كان يلبسها رتشارد، ووقف الملك أمام صلاح الدين في لباسه الضيق الذي أبان عن متانة قوته وجمال اتِّساق جسمه، وهو يُباين كلَّ التبايُن الثياب الفضفاضة التي كانت تستُر جسم الملك الشرقي النحيل. وكان أشدَّ ما استرعى انتباه الملك العربي سيف رتشارد الطويل ذو المِقبضَين، وظباته العريضة المستقيمة الي يمتدُّ طولها الفارط من كتِف حامله إلى عقِبه.

فقال السلطان: «والله لولا أني رأيتُ هذا المهند يتألَّق في طليعة المعركة كسيف عزرائيل لما كدتُ أُصدِّق أن ذراعًا بشريةً تستطيع أن تهزَّ به، وهل لي أن ألتمس رؤية الملك رتشارد وهو يضرب ضربةً واحدة سلمية لمَحْض امتحان قوته؟»

فأجابه رتشارد: «لك هذا منِّي راغبًا أيها السلطان النبيل.» وتلفَّت حوالَيه يبحث عن شيءٍ يختبر به قوته، فوقعتْ عينُه على صولجانٍ من الصلب يُمسك به أحد الواقفين، له مقبض كذلك من الصُّلب، قُطره نحو بوصةٍ ونصف البوصة، فأخذه ووضعه على كتلة من الخشب.

وأدَّى بدي فو جزَعُه على شرَف سيده أن يهمس بالإنجليزية قائلًا: «وحقُّ العذراء البتول، حذارِ مولاي ممَّا أنت مُقدِم عليه! إنك لم تستردَّ بعد كامل قواك. لا تُشمِت فيك هذا الكافر.»

فقال رتشارد وقد ثبت في مكانه ورنا حواليه بنظرةٍ حادة: «أنصِت أيها الغافل، أفتظنُّ أني أُحبَط في حضرته؟»

وأمسك مُهنَّدَه العريض البراق بكلتا يديه، ورفعه عاليًا إلى كتفه اليسرى، وأداره حول رأسه، وهوى بقوَّةٍ كأنه قوة آلة مروِّعة، فتدحرج القضيب الصلب فوق الأديم وقد قصمه نصفَين كما يبتُر الحاطب الشجيرة بفأسه.

فأخذ السلطان القضيب الصُّلب الذي انكسر شطرين، وفحصه بدقَّةٍ وإمعان، وقال: «والله إنها لضربة عجيبة!» وكانت ظباة السيف من اللِّين بحيث لم يبدُ عليها أقلُّ إشارة إلى تأثُّرها بالعمل الجليل الذي أنجزته. ثم تناول يدَ الملك وحدَّق في حجمها وقواها العضلية التي بدت عليها، وضحك حينما وضعها بجانب يدِه الضامرة الهزيلة التي لا تدانيها قوةً ولا عصبًا.

وقال دي فو بالإنجليزية: «أجل، انظُر وأمعِن في النظر، إنَّ أصابعك التي تُشبه أصابع القرد لن تستطيع أن تقوم بمِثل هذا العمل الباهر بسيفك هذا الرقيق المُموَّه بالذهب.»

فقال رتشارد: «الزم الصمت يا دي فو، أُقسم بالعذراء إنه قد يُدرِك أو يتخرَّص بما تعني، وإني أرجوك ألا تكون فظًّا كذلك.»

وحقًّا لقد أسرع السلطان بقوله: «إني أريد أن أحاول أمرًا، ورغم أن الضعيف ليس له أن يظهر ضعفه أمام القوي، إلا أنَّ لكلِّ بلدٍ ما ألِف من مران، وقد يكون هذا جديدًا على الملك رتشارد.» وبعدما أتمَّ حديثه رفع عن الأديم وسادة من الحرير والزغب، ووضعها مستقيمة على أحد أطرافها، وقال للملك رتشارد: «هل تستطيع بسلاحك يا أخي أن تقصم هذه الوسادة؟»

فأجابه الملك: «كلَّا، وايم الحق، وما على الأرض سيف — حتى ولا حسام الملك أرثر — يستطيع أن يقطع شيئًا لا يثبُت لوقْع الضربة الراسخة.»

فقال صلاح الدين: «إذن فانظُر إليَّ.» وشمَّر عن ساعده، فبدَتْ منه ذراع نحيلة، هزيلة حقًّا، ولكنها من أثر المِران تصلَّبَت وباتت كتلةً ليس بها غير العظام والعضلات والأعصاب؛ ثم جرَّد سيفه الأحدب من غمده، وهو نصْل مُنحنٍ ضيق ليس له بريق سيوف الفرنجة، وأما لونه فأزرق قاتم، عليه عشرة ملايين من الخطوط المُلتوية، مما يدلُّ على أن صانعه أحمى المعدن بالنار وطرقه بكلِّ عناية. ووقف السلطان مرتكزًا بثقله على قدمه اليسرى، وقد قدَّمها إلى الأمام قليلًا، وهزَّ بسلاحه وظاهره الضعف إذا قيس بمهنَّد رتشارد، واتزن السلطان قليلًا كأنه يريد أن يتثبَّت من هدفه، ثم خطا إلى الأمام بغتةً وجذب الأحدب فوق الوسادة مُطبقًا شفرته عليها بحذقٍ وبقليلٍ من الجهد، حتى لكأنَّ الوسادة قد انقصمت من تلقائها شطرَين ولم يُمزِّقها العُنف والقوة.

فانطلق دي فو إلى الأمام، واختطف نصف الوسادة التي انفصمت كأنه يريد أن يتثبَّت من صِدق ما وقع، وقال: «إنْ هذه إلا حيلة مشعوِذ، وإنَّ في هذا لسحرا.»

ويظهر أنَّ السلطان قد أدرك قوله، لأنه أزال ذلك الضرب من اللثام الذي كان يتلثم به حتى آنئذٍ، ونزعه عن وجهه، وعلَّقه بطرف سيفه، ومدَّ حسامه في الجو مُستعرض الشفرتَين، وجذبه بغتةً من خلال اللثام رغم تعلُّقه بالظباة مُرسَلًا غير موثوق، فمزَّق اللثام كذلك نصفَين، وتطاير في ناحيتَين مختلفتَين في الفسطاط، مُبينًا كذلك عن لِين السلاح وحدَّته الفائقة، ومهارة حامله مهارةً رائعة.

وقال رتشارد: «والآن وايم الحق يا أخي إنك في حِيَل السيف لا تبارى، وإنك لجدُّ خطرٍ لِمَن يلاقيك! ولكني ما زلتُ رغم هذا أثق بعض الثقة في الضربة الإنجليزية القاصمة، فإنَّ ما لم نستطعه بالدهاء نُدبِّره بالقوة، وعلى ذلك فحقًّا إنك في ثلم الجروح لحاذق حذْق حكيمي النطاسي في ضمدِها؛ إني أعتقد أني سوف أرى الطبيب العالم. إن عليَّ له لشكرًا جزيلًا، وقد أتيتُ له بهديةٍ صغيرة.»

وبينما هو يتكلَّم، استبدل صلاح الدين عمامته بتقيَّة تترية، وما إن فعل ذلك حتى فغر دي فو في الحال فمه العريض وعينَيه الكبيرتَين المُستديرتَين، وحملق رتشارد بما لا يقلُّ عن ذلك دهشة، بينما أخذ السلطان يتكلَّم بصوتٍ رزين مُتغيِّر ويقول: «يقول الشاعر ما معناه: إن المريض ما دام عليلًا يعرِف طبيبَه بخُطاه، ولكنه إن عُوفي لا يعرف منه حتى وجهه حينما ينظُر إليه.»

فصاح رتشارد: «إنها لمعجزة! إنها لمعجزة!»

وقال توماس دي فو: «معجزة من فعل محمد ولا مراء.»

وقال رتشارد: «كيف لي أن أفتقد حكيمي النطاسي لمجرد غياب تقيَّتِه وثوبه، ثم أجده ثانيةً في شخص أخي المليك صلاح الدين!»

فأجابه السلطان: «هذه حال الدنيا في كثيرٍ من الأحيان؛ إنَّ الثياب البالية لا تنمُّ عن الدرويش في كل حين.»

فقال رتشارد: «وإذن لقد كنتَ الوسيط في نجاة فارس النمر من الموت، وبحيلتِك كانت عودته إلى المعسكر مُتنكرًا؟»

قال صلاح الدين: «أجل، لقد كان ذلك، وقد علَّمني طبِّي أنَّ جراح شرفه الدامي، إن لم تلتئم، فإنَّ أيام حياته سوف لا تطول. ولقد كان كشف تنكُّره أيسر ممَّا توقعتُ لنجاح تنكُّري.»

فقال الملك رتشارد: «إنَّ حادثًا قد وقع حدا بي أول الأمر إلى أن أُدرك أن بشرته كانت ملوَّنة بلونٍ مصطنع (وربما يُشير بهذا إلى الظرف الذي دفعه إلى أن يطبق شفتَيه على جرح النوبي المزعوم)، وما إن أدركتُ هذه الإشارة حتى أصبح كشف الأمر سهلًا ميسورًا، فإنَّ هيئته وجسمه لا يغيبان عن الذكر، وإني على ثقةٍ من أنه سوف يتقدَّم للنزال في الغد.»

فقال السلطان: «إنه على تمام الأُهبة وعلى أملٍ عظيم، فلقد أعددتُه بالسلاح والحصان لأني أُحسِن به الظنَّ مما رأيتُ وأنا متخفٍّ في مختلف الأزياء.»

فقال رتشارد: «وهل يعرف هو الآن لمن هو مدين؟»

فأجاب العربي: «أجل فلقد اضطررتُ إلى الاعتراف له بشخصي حينما كشفتُ له عن غرَضي.»

فقال ملك إنجلترا: «وهل أقرَّ لك بشيء ما؟»

فأجاب السلطان: «لم يُقِرَّ بشيء صراحًا، ولكن من كثيرٍ مما دار بيننا، أدركتُ أن حُبَّه معقود بفتاةٍ من بيتٍ كريم أرفع من أن ينتهي وإيَّاها إلى السعادة والرفاهية.»

فقال رتشارد: «وهل تعلم أن حُبَّه هذا الوقح الجريء يتعارَض ورغبتك؟»

فقال صلاح الدين: «قد يبلُغ بي الظنُّ إلى هذا الحد، ولكن حُبَّه قد ظهر إلى حيِّز الوجود قبل أن تنشأ فيَّ الرغبة، وينبغي أن أقول إن حُبَّه أبقى على الزمن من حُبي، وإنَّ شرَفي لا يسمح لي بأن أنتقم لخَيبتي ممَّن لم تكن له يدٌ فيها، ولئن كانت هذه الكريمة النَّسَب تُحبُّه أكثر مما تُحبني فمن ذا الذي يقول إنها لم تنصف فارسًا من دينها كلُّه شرَف ونبل؟»

فقال رتشارد شامخًا بأنفه: «ولكنه من ذُرية أوضع من أن تختلط بدم بلانتاجنت.»

فأجابه السلطان: «ربما كانت هذه مبادئكم في بلاد الفرنجة، أما نحن فشعراؤنا من أهل الشرق يقولون بأنَّ الحادي المِقدام جدير بتقبيل ثغر الملكة الحسناء، أما الأمير النذل فليس قمينًا بأن يحيي أهداب ثيابها. ولكني أستأذنك أخي النبيل في أنْ أفارقك الآن، كي أستقبل دوق النمسا وذلك الفارس النصراني، وهما أقلُّ منك حقًّا بالإكرام، ولكنا ينبغي لنا أن نُحسن لقاءهم، لا إجلالًا لهم، ولكن احتفاظًا بشرَفي. ولقد قال في ذلك الحكيم لقمان: «إنَّ الطعام الذي تُقدِّمه للغريب لا يضيع، فإنِ اشتدَّ به جسمه وقوي، ارتفع اسمُك عزةً وشهرة.»

ثم فصل الملك العربي عن سرادق الملك رتشارد، وبعد أن أومأ إليه بالإشارة لا بالكلام عن المكان الذي ضُرب به سرادق الملكة ووصيفاتها، ذهب للقاء مركيز منتسرا وحاشيته الذين أعدَّ لهم السلطان كذلك أماكن يستقرُّون فيها، تُوازي ما أُعدَّ لغيرهما أبَّهة وعظمة، ولكن بقلبٍ أقلَّ ترحيبًا. وقدَّم الطعام الوفير على الطريقة الشرقية وعلى النمط الغربي لضيوف صلاح الدين من الملوك والأمراء، كلٍّ في سرادقه الخاص. وكان السلطان شديد التنبُّه لعادات زائريه وأذواقهم، فأوقف رقيقًا من اليونان يُقدِّمون لهم كئوس الخمر، وهي حرام على المسلمين، وقبل أن يفرغ رتشارد من طعامه دخل «عبد الله» الذي كان قد حمل رسالة صلاح الدين إلى معسكر المسيحيين، ومعه خطة الطقوس والرسوم التي سوف تُتَّبع في اليوم الذي يلي يوم النزال؛ وكان رتشارد يعرف هوى صاحبه القديم، فدعاه لأن يُشاركه في قدَح من نبيذ «شيراز»، ولكن «عبد الله» أومأ إليه — وعلى وجهه سيماء الحزن والأسى — بأنَّ إنكار الذات في الظرف الراهن أمر يتعلَّق بحياته، لأن صلاح الدين — رغم تسامُحه في كثيرٍ من الشئون — كان يرعى شريعة النبي ويُنفِّذها بالعقوبة القاسية.

فقال رتشارد: «إذن إن كان لا يُحب الخمر — وهي ذلك الشراب الذي يخفف عن قلب الإنسان — فإن اعتناق المسيحية لا أمَل فيه، ولسوف تذهبنَّ نبوءة كاهن عين جدة المجنون أدراج الرياح.»

ثم شرع الملك يُعدُّ أدوات المبارزة، واستغرق في ذلك وقتًا طويلًا؛ إذ كان لزامًا عليه أن يتشاور في بعض الأمور مع الفريق المنازل ومع السلطان.

وأخيرًا تمَّ بينهم الاتفاق في كل شيء، وسوَّوا ما بينهم في ميثاقٍ بالفرنسية والعربية، وقَّع عليه صلاح الدين كحَكَم في ميدان القتال، ورتشارد وليوبولد كضامِنَين للمُتبارِزَين؛ ودخل دي فو و«عبد الله» يستأذن من الملك رتشارد بالانصراف نهائيًّا ذلك المساء.

وقال دي فو: «إنَّ الفارس الكريم الذي سوف يشترك في النزال غدًا يرجو أن يعرف إن كان يجوز له هذه الليلة أن يُقدِّم ولاءه لمَتبوعه المليك.»

فقال الملك باسمًا: «وهل رأيتَه يا دي فو؟ وهل عرفتَ فيه صديقًا قديمًا؟»

فأجابه دي فو «أُقسم بسيدة «لانركست» إنَّ بهذه البلاد من المفاجآت والتغييرات الكثيرة ما يضطرب له عقلي الضعيف. والله ما كدتُ أن أعرف السير كنث الاسكتلندي حتى جاءني كلبه الصالح، الذي لبث تحت رعايتي زمنًا قصيرًا، وتمسَّح بي، وحتى حينئذٍ ما عرفت الكلب إلا باتِّساع صدره واستدارة قدمه وأسلوب نباحه، فلقد كان الكلب المسكين مُصطبغًا بالألوان كعاهرات البندقية.»

فقال الملك: «إنك في معرفة الحيوان أحذق منك في معرفة الرجال يا دي فو.»

فقال دي فو: «لا أُنكر. كثيرًا ما ألفيتُهم أكثر الفريقَين أمانةً وإخلاصًا، وفوق ذلك فإنَّ جلالتك قد يسرُّك أحيانًا أن تدعوني بالوحش، وفضلًا عن هذا فإني أخدم الأسد الذي يعترِف له الرجال جميعًا بأنه ملك الوحوش.»

فقال الملك: «أقسم بالقديس جورج إنك حقًّا هنا قد كسرتَ رمحك على جبيني (أي غلبتَني)، لقد كنتُ أبدًا أقول إن لدَيك شيئًا من الفطنة يا دي فو. ولكن ينبغي للمرء أن يضربك بالمطرقة قبل أن يتطاير منها الشرَر، أما هذا الترس … قل لي هل الفارس الكريم كامل التسليح والعدة؟»

فأجابه دي فو: «أجل، مولاي، وإنه لكامل النُّبل كذلك. إني أعرف الدرقة جيدًا، إنها تلك التي قدَّمها إلى جلالتك رسول البندقية قبل مرضك بقليلٍ نظير خمسمائة بيزنطة.»

«ويقينًا لقد باعها السلطانَ المشرك وربح فيها بضع دنانير وتسلَّم الثمن فورًا؛ والله إن أهل البندقية هؤلاء ليبيعنَّ القبر المقدَّس ذاته!»

فقال دي فو «إنَّ الدرقة لن تُحمَل في أمرٍ أنبلَ من هذا.»

وقال الملك: «والفضل في هذا لنُبل العربي لا لجشَع البندقي.»

فقال دي فو وهو قلق: «إني لأرجو الله أن تكون جلالتك أشدَّ حذرًا، وها نحن وقد هجرْنا أحلافُنا لإساءةٍ لحقت بهذا أو بذاك؛ إنا لا أمَل لنا في النجاح برًّا، وإذا اشتبكْنا مع الجمهورية البرية البحرية فسوف نفقد سبيل التراجُع بحرًا.»

فأجاب رتشارد جازعًا وقال: «سوف أحذَر، ولكن لا تقِف منِّي موقف المُعلم بعد هذا، وإنما قل لي هل لدى الفارس قسيس؟ فإنَّ هذا الأمر يُهمُّني.»

فأجاب دي فو قائلًا: «أجل، وذلك هو ناسك عين جدة الذي قام له بهذه الخدمة من قبل وهو يتأهَّب للموت، وهو يقِف بجانبه في هذا الظرف، وقد أتت به إلى هنا شهرة المبارزة.»

فقال رتشارد: «نِعم الخبر، والآن ماذا يطلُب الفارس؟ قل له إن رتشارد سوف يقابله بعدما يقوم بواجبه بجانب «درة الصحراء» تكفيرًا عن إثمه بجانب جبل القديس جورج. وإذا ما مررتَ بالمعسكر فقل للملكة إني سوف أزور سرادقها، وقل لبلندل أن يلقاني هناك.»

وفصل دي فو، وبعد نصف ساعة تلفَّع رتشارد بعباءته، وأخذ بيدِه حُسامه، وسار في طريقه إلى سرادق الملكة، ومرَّ به كثير من الأعراب، ولكنهم كانوا دائمًا ينصرِفون عنه بوجوههم، ويعقدون بالأديم أبصارهم، ومع ذلك فقد استطاع أن يرى أنهم جميعًا يتبعونه بالنظر مُتطلعين، بعدما ينأى عنهم, وقد حدا به هذا إلى الظنِّ حقًّا بأن شخصَه كان معروفًا لهم، ولكنهم تحاشَوا أن يبدو عليهم أنهم يراقِبون ملكًا أراد أن يتنكَّر، إما لأمرٍ من صلاح الدين أو لآدابهم الشرقية.

ولمَّا بلغ الملك سرادق الملكة، ألفاه مخفورًا بأولئك الضبَّاط الأشقياء الذين تُوقِفهم الغيرة الشرقية على حراسة الحريم، وكان بلندل يسير لدى المدخل، ويتغنَّى بين الفينة والأخرى بأسلوبٍ يجعل هؤلاء الإفريقيين يُبرِزون أسنانهم العاجية، ويقومون بحركاتهم الغريبة مُهلِّلين بأصواتهم المُجلجِلة العجيبة.»

فقال الملك: «ماذا تريد من هذا القطيع من الماشية السوداء يا بلندل؟ ولماذا لا تدخل السرادق؟»

فأجابه بلندل وقال: «لأنَّ صناعتي لا تُغنيني عن رأسي ولا عن أصابعي، وهؤلاء المغاربة السُّود الأمناء هدَّدوني بتقطيعي إربًا إربًا إنْ أنا تقدَّمتُ إلى الأمام.»

فقال الملك: «إذن فلتدخُل معي وسوف أكون لك حارسًا.»

ثم نكَّس هؤلاء السُّود حِرابهم وسيوفهم إجلالًا للملك رتشارد، وطأطئوا رءوسهم كأنهم لا يليق بهم أن ينظروا إليه. وفي داخل السرادق ألفى الملك توماس دي فو قائمًا على خدمة الملكة. وبينا برنجاريا تُرحِّب ببلندل، انتحى رتشارد وقريبته الحسناء ناحية، وأخذ يحادثها سرًّا فترة من الزمن.

وقال لها همسًا «أوما زلنا بعد هذا خصومًا يا أُديث الحسناء؟»

فقالت أُديث بصوتٍ خافت لا يعارِض الموسيقى: «كلا يا سيدي، إنَّ أحدًا لن يسَعَه أن يحمل في نفسه العدواة للملك رتشارد، وهو يتعطَّف علينا بالكرم والنُّبل، وهما من شيمته حقًّا، كما أنه رجل شهم كريم.»

وما إن فرغت من حديثها حتى مدَّت يدَها إليه، فلثمَها الملك إيماءً إلى التئام القلوب ثم قال:

«إنك تحسبين يا ابنة عمي الحسناء أني كنتُ أتكلَّف الغضب في هذا الأمر؛ كلا، لقد خدَعَتْك نفسُك؛ إنَّ العقوبة التي وقعت على هذا الفارس كانت عادلة، ومهما بلغ به الإغراء يا ابنة عمي الفاتنة فلقد خدَعَنا فيما وَكَلْنا إليه من ثقة، ولكنَّ سروري كسرورك عظيم بأنَّا الغد سوف يُهيِّئ له الفرصة ليكسب المعركة ويرُد العار — الذي التصق به زمنًا — إلى السارق والخائن الحق. كلَّا! إن المستقبل قد يعذل رتشارد على تهوُّره وحُمقه، ولكنهم سوف يقولون إنه في حُكمه كان يعدل حين تجِب العدالة، ويرحَم حينما يجِدُ إلى الرحمة سبيلًا.»

فقالت أُديث: «لا تُسبِّح بحمد نفسك يا ابن عمي، فلربَّما رأوا في عدالتك القسوة، وفي رحمتك الهوى.»

فقال لها الملك: «وأنت لا تفخَري بنفسك، كأنَّ فارسك الذي لمَّا يمتشِق سلاحه قد أخذ ينزِعه بعد الظفر والانتصار؛ إن كُنراد منتسرا معروف بمهارته في الضرب بالرِّماح، فماذا لو خسِر الاسكتلندي في النزال؟»

فأجابت أُديث مؤكدةً مُتثبِّتة وقالت: «هذا محال! لقد شهدتُ بعيني رأسي كُنراد هذا وهو يرتعِد ويتغيَّر لونه كاللِّص الدنيء. إنه آثِم، وامتحانه بالمبارزة احتكام إلى عدالة السماء، لو كان لي أنا نفسي أنْ أُنازله في مثل هذا الأمر لنازلتُه بغير وجَل.»

فقال الملك: «وحقُّ القدَّاس إني لأظنُّكِ تستطيعين ذلك أيتها المرأة، ثم تُوقِعين به الهزيمة؛ فما تنفَّس من أبناء بلانتاجنت من هو أصدَقُ منك قولًا.»

وسكَتَ قليلًا ثم قال في نغمة الجد الصارم: «ولكني أوصيك أن تذكُري أبدًا ما يجِب لكرَم منبتك.»

فقالت أُديث: «وماذا تعني بهذا النُّصح الذي تنصحُني به في هذه اللحظة جادًّا؟ هل أنا من خفَّة الطبع بحيث أنسى اسمي، وحالي؟»

فأجابها الملك قائلًا: «سوف أُكلِّمكِ صريحًا يا أُديث، وكما يكلم الصديق الصديق؛ ما شأن هذا الفارس بك لو أنه خرج من هذه المبارزة ظافرًا؟»

فاشتدَّ احمرار أُديث خجلًا وغضبًا وقالت: «شأنه بي؟ ماذا عساه أن يكون لي أكثرَ من فارسٍ كريم، قمين بما قد تُوليه الملكة برنجاريا من رضًا وعطف، لو أنه اختارها سيدةً له بدلًا من انتقائه مَن هي أقلُّ منها قدرًا؟» ثم قالت وهي تفخر: «إنَّ أدنى فارس قد يكرِّس نفسه لخدمة العاهلة، ويكفيه منها عظمتها جزاءً.»

فقال الملك: «ولكنه قد قام بخدمتك وعانى من أجلك كثيرًا.»

فأجابته أُديث بقولها: «ولقد جازيتُه على خدماته شرفًا وثناءً، وعلى آلامه دموعًا وبكاءً؛ فلئن كان يطمح إلى غير هذا من ثوابٍ فمن الحكمة أن يعقِد حبَّهُ بفتاةٍ من مرتبته.»

فقال لها الملك رتشارد: «إنك إذن لا تلبسين قميص الليل الدامي من أجله؟»

فأجابته أُديث قائلة: «كلَّا، وما كان لي أن أطلُب إليه أن يستهدف بحياته للخطر بعملٍ فيه من الجنون أكثر مما فيه من الشرَف.»

فقال الملك: «هكذا أبدًا تتكلَّم العذارى, وإذا ما تقدَّم العشيق المحبوب يطلُب يد فتاته تنهَّدَت وقالت له إنَّ نجمها يحكُم بغير هذا.»

فأجابت أُديث عزيزة النفس وقالت: «إنَّ جلالتك الآن تُهدِّدني للمرة الثانية بتأثير طالعي؛ صدِّقني، مولاي، إنه مهما يكن من سلطان النجوم، فإنَّ قريبتك المسكينة لن تقترِن بكافرٍ أو مُغامر مجهول. اسمح لي أن أُصغي إلى موسيقى بلندل، لأنَّ نغم تخديرك الملَكي لا يُشنِّف الآذان.»

ولم يحدُث بقية المساء ما يستحقُّ الذكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤