الفصل الثالث

استراح المُحاربان قليلًا، وتناولا طعامًا خفيفًا انتعشا بعدَه، ثم هبَّا من مكانيهما وأخذ كلٌّ منهما يمدُّ يد المساعدة إلى أخيه — وهما يجهزان جواديهما بعدَّتَيهما ويحكمان الجهاز، بعد أن تخلَّص الجوادان الأمينان من هذا العبء مدةً من الزمن — وكان كِلا الرجلَين خبيرًا بهذا العمل الذي كان في ذلك العهد واجبًا لا مندوحةَ عنه ولا غناء؛ وكان الجوادان — وهما رفيقان مُلازمان لصاحبيهما في القتال والترحال — يُوليانهما ثقتهما ومحبَّتهما على قدْر ما بين الحيوان والإنسان العاقل من فرْقٍ في إظهار مثل هذا الشعور. أما العربي فقد شبَّ على هذه المودة وذلك الإلف، ففي خيام القبائل الشرقية المُحاربة كان حصان الجندي يلي في أهميته زوجَه وأهلَه؛ أما الفارس الأوروبي، فإنَّ الظروف والحاجة قد رفعت جواده إلى مكانةٍ لا تقلُّ عن مكانة زميله في الحرب؛ ولذا فلم يشقَّ على الجوادَين كثيرًا أن يبتعدا عن الطعام، ويُحرَما الحرية، بل لقد اقتربا من صاحبيهما وأخذا يصهلان جذلًا، بينما كان الرجلان يُعِدَّان عدتيهما لاستئناف الرحيل ومواصلة العمل، وكلاهما يعدُّ نفسه، أو يعاون زميله في رفق، وهو يتطلَّع إلى عدة رفيقه في السفر ويلحظ طريقته في تهيئة مُعدات الركوب.

وقبل أن يَمتطيا جواديهما لمواصلة الرحيل، بلَّل الفارس المسيحي شفتَيه، وأغرق يديه في ماء العين، ثم قال للرجل الوثني١ زميله في السفر: «وددتُ لو عرفتُ اسم هذه العين ذات الماء النمير، حتى أحفظ لها جميل الذِّكر، فوالله ما ارتوَيتُ حياتي بماءٍ أشدَّ عذوبةً من مائها الذي أطفأتُ به نار العطش الذي أحسستُ به اليوم.»

فأجاب العربي: «اسمها دُرَّة الصحراء.»

فقال المسيحي: «نِعْمَ الاسم. إنَّ بالوادي الذي أتيتُ منه ألف عين، ولكنني لن أحمِل بعد هذا لأيِّها مثل هذه الذِّكرى العزيزة التي أحملها لهذه العين النائية، التي تمدُّ النفس بكنوزها السائلة، فتسرُّ القلب وتسدُّ لبانةً من لباناته التي ليس له عنها غنًى.»

فقال العربي: «حقًّا ما قلت، ولعنة الله على ذلك البحر الميت، الذي لا يستقي منه — ولا من النهر الذي لا يفتأ يصبُّ فيه ولا يملأ جوفه — إنسانٌ أو حيوان حتى يخرج من هذه الصحراء الجافة.»

ركب صاحبانا واستأنفا المسير يقطعان أرضًا رمليةً خلاء، وقد تبدَّد وهَج الظهيرة، وأخذ يهبُّ نسيمٌ عليل، يهوِّن عليهما مشقَّة الصحراء، ولكنه يحمِل على جناحَيه ترابًا دقيقًا لم يكن يأبه له العربي، بينما كان رفيقه المُثقل بالسلاح يضجَر منه، فخلع خوذته وعلَّقها بجانب سرجه، واستبدل بها تقيَّة ركوبٍ خفيفة، تُشبه في شكلها الهاون، ثم سارا معًا برهةً من الزمن صامتَين لا يتحدَّثان، والعربي يقوم بوظيفة المُرشد أو القائد في السفر، مُستعينًا بمشاهدة دقيق العلائم ومواضع الصخور النائية التي كانا يسيران رويدًا نحو حافتها، وظلَّ كذلك فترةً قصيرة، وكأنه لا يفكر إلا في هذا العمل، كربَّان السفينة وهو يعبر قناةً عسيرة؛ ولكنه — ولمَّا يقطعا نصف فرسخ — استوثق من طريقه، وأظهر الرغبة في فتح باب الحديث بصراحةٍ غير معهودة بين بني قومه.

فقال: «لقد سألتَني اسم عينٍ ساكنة لها هيئة الكائن الحي ولكنها ليست بالكائن الحي، فهل لي أن أسأل عن اسم الزميل الذي صادفْتُه اليوم ورافقته في الضرَّاء والسراء، وما إخال إلا أنَّ هذا الاسم ذائع الصِّيت حتى هنا في صحراوات فلسطين.»

فقال المسيحي: «كلَّا، إنَّ هذا الاسم لم يحق له الذيوع بعد، ولكن اعلمْ أن جنود الصليب يُسمُّونني «كَنَثْ صاحب النمر الرابض»، ولي في بلادي ألقابٌ أخرى لا تستسيغ مَسمعها أذنٌ شرقية؛ أيها العربي المقدام! من أي قبائل العرَب أنت وما اسمك؟»

فأجاب المُسلم وقال: «يسرُّني أنَّ اسمك هيِّن على شفتيَّ أن تنطقا به يا سير كنث؛ أما أنا فلستُ بعربي، وإنما أنا أنتمي إلى جماعةٍ لا تقلُّ عن العرب إقدامًا ولا حبًّا في القتال؛ اعلم يا فارس النمر أنَّني شيركوه، أسد الجبل، وأنَّ ليس بكردستان التي أنتسِب إليها أسرة أشرَف من أسرة سلجوق.»

فأجاب المسيحي: «لقد نما إليَّ أنَّ سلطانكم العظيم يمتُّ إلى هذه الأسرة بصلة الرحم، فهل هذا صحيح؟»

قال المسلم: «حمدًا لرسول الله الذي شرَّف جبالنا بأن بعث من بطنِها رجلًا، الظفرُ معقود بمنطقته، ما أنا إلا كالدودة الحقيرة أمام ملك مصر والشام، ومع ذلك، فإنَّ لاسمي في بلادي بعض المكانة. أيها الرجل الغريب، خبِّرني مع كم من الرجال أتيتَ إلى هذه الحرب؟»

قال السير كنث: «أُقسِم لك إنني — بكلِّ ما قدَّم إليَّ أهلي وصحبي من معونة — لم أستطع أن أجمع عشرةً من الرجال المُدرَّبين على حمل الحراب، ونحوًا من خمسين رجلًا آخرين — ومنهم النبَّالون والخدَم — إلا بعد جهدٍ جهيد؛ ومن هؤلاء من لم يرُقْه أن ينضمَّ إلى لوائي التعس، ومنهم من سقط في القتال، وكثير أهلكهم المرض، ومن بينهم رجلٌ من حمَلَة السلاح أثِق فيه، وهو الآن عليل طريح الفراش، ومن أجله أتيتُ حاجًّا إلى هنا.»

فقال شيركوه: «أيها المسيحي، إنَّ في جُعبتي خمسة سهام، كلها مُريشة بأجنحة النسور، لو بعثتُ منها بواحدةٍ إلى خيامي جاءني ألفُ مُقاتل على ظهور الخيل، ولو بعثتُ بالأخرى هبَّت طائفة أخرى تعدِل الأولى عدًّا، فلو أني أرسلتُها جميعًا لأصبح تحت إمرتي خمسة آلاف رجل، وإذا أرسلتُ قوسي دبَّ في جوف الصحراء عشرة آلاف راكب؛ وأنت على رأس خمسين من أتباعك أتيتَ تغزو بلادًا، أنا من أقل أبنائها شأنًا!»

فردَّ عليه الفارس الغربي وقال: «وحقُّ الصليب، أيها العربي، لتعلمنَّ — قبل أن تفخر بنفسك — أنَّا نستطيع بقفازٍ واحدٍ من الحديد أن نقضي على حفنةٍ من هذه الحشرات التي ذَكرت.»

فقال العربي: «ولكن هذه اليد الحديدية ينبغي لها أن تمتلك هذه الحشرات في قبضتها قبل القضاء عليها!» وارتسمَتْ على شفتيه ابتسامة ساخرة كادت أن تودي بالحِلف الذي عقَداه بينهما حديثًا، لولا أنه حوَّل مجرى الحديث وأردف قائلًا: «وهل للشجاعة عند الأمراء المسيحيين مكانة عالية، فتتعهَّد — كما وعدْتَني — وأنت لا سلاح لدَيك ولا رجال، بحِمايتي وسلامتي في مُخيم زملائك؟»

فأجاب المسيحي: «أما وقد سألتني هذا، فاعلم أيها العربي، أنَّ اسم الفارس ودم الرجل الكريم يُخوِّلان له أن يرفع نفسه إلى منزلة كبار الملوك في كل أمر، عدا ما يتمتَّعون به من سلطانٍ ونفوذ؛ ولو جَرحَ رتشارد ملك إنجلترا نفسُه عزَّة فارس مسكين كمِثلي، ما كان له — وفقًا لقانون الفروسية — أن يُنكِر عليه حقَّه في النزال.»

فقال الأمير: «والله إني لأحبُّ أن أشهد مثل هذا المنظر العجيب، حيث يستطيع الرجل الفقير بنطاقٍ من الجلد، ومِهمازَين، أن يرتفع إلى مستوى أقوى الأقوياء.»

فأجاب المسيحي: «أضفْ إلى ذلك دمًا حرًّا، وقلبًا لا يرتاع، يُصدِّق قولك عن كرامة الفروسية.»

ثُم سأله العربي: «وهل تُخالطون نساء سادتكم وقادتكم بهذه الجرأة عينها؟»

فأجاب فارس النمر: «إنَّ أشدَّ فرسان العالم المسيحي فقرًا في كل عملٍ نبيل يقوم به، ولكنه يقف يدَه وسيفه وذِكر أعماله وإخلاص قلبه الذي لا يَحيد لأجمل من حلَّينَ جبينهنَّ بتاجٍ من أميرات.»

فقال العربي: «ألم تقُل لي منذ حينٍ إن الحب هو أعز ما يملك القلب؟ فما أشكُّ في أنك قد وهبتَ قلبك لامرأةٍ كريمة نبيلة.»

فأجاب المسيحي وقد علَتْ وجنتَيه حمرة الخجل: «أيها الغريب، اعلم أنَّنا لا نندفِع في الكلام فنتحدَّث عن موضع حُبِّنا الذي وهبناه أنفسَ ما نملك، ويكفيك أن تعرِف أن حُبي — كما قلتَ — قد خصَصْتُ به امرأةً نبيلة كريمة، بل وغاية في النُّبل والكرم؛ وإنْ كنتَ لم تسمع بالحبِّ وتكسير النصال في سبيله فخاطِر بنفسك — على حدِّ قولك — واذهب إلى معسكر الصليبيين، وهناك تسمع بأُذنيك ما يرضيك، وتجِد ليَدَيك — إنْ أردتَ — مِرانًا.»

وهنا هبَّ المقاتل الشرقي عن ركابه وهزَّ برُمحه إلى أعلى، ثم أجاب قائلًا: «إنَّني أخشى ألَّا أجد من أبناء الصليب من يُبادلني النزال بالجريد.»

فأجاب الفارس: «إنَّني لا أعدِك بذلك، رغم أنَّ بالمعسكر بعضًا من الإسبان ذوي المهارة الفائقة في هذا الفنِّ الشرقي، فن الضرب بالحراب.»

فانفجر العربي قائلًا: «هيه يا كلاب ويا أبناء الكلاب! ما لهؤلاء الإسبان يأتون إلى هنا لمنازلة المؤمنين المُخلصين، وهم في بلادهم السادة وأصحاب الرأي؟ إنَّني لن أنزل معهم في لهو الفرسان.»

فقال فارس النمر: «حذارِ أنْ يسمعك فرسان «ليدن» أو «أستورياس» وأنت تتحدَّث عنهم كذلك!» ثم ابتسم إذ تذكَّر ما كان بينه وبين العربي من قتالٍ صبيحة ذلك اليوم، وأردف قائلًا: «لو أنك قبلتَ أن تستبدل القصب بالفئوس لألفيتَ من المُقاتلين أبناء الغرب من يكفيك لسدِّ هذه اللجاجة في نفسك.»

فقال العربي وهو يتماثل للضحك: «ولحية أبي، يا سيدي كنث، إنَّ هذا الضرب من اللعب لأشدُّ عنفًا من أن يكون للَّهو المجرَّد. إنَّني لن أفرَّ منهم في ميدان القتال، ولكنَّ عقلي (وهنا وضع يدَه على جبينه) لا يسمح لي أنْ أقصدهم للَّهو حتى حين.»

فردَّ عليه المقاتل الغربي وقال: «وددتُ لو أنك رأيتَ فأس الملك رتشارد، تلك الفأس التي لو قِيست بها فأسي المعلَّقة بسرجي لم تزِد هذه الأخيرة عن وزن الريشة.»

فقال العربي: «إنَّنا سمعنا الشيء الكثير عن هذا الملك الذي يحكم في جزيرة؛ خبِّرني هل أنت من رعيته؟»

فأجاب الفارس وقال: «أنا من أتباعه في هذه الحملة، ويا لها من خدمةٍ شريفة؛ ولكنَّني لستُ من رعايا الملك مولدًا وإن كنتُ من أهل الجزيرة التي يسُود فيها.»

فقال الجندي الشرقي: «ماذا تعني؟ أفيتسوَّد عليكم ملِكان في جزيرةٍ واحدة فقيرة؟»

فأجاب السير كنث: وهو اسكتلندي المولد: «هو كذلك كما تقول، وكثيرًا ما يقتتِل أهل الشمال مع أهل الجنوب في تلك الجزيرة، ولكنَّ الأمَّة تستطيع — كما ترى — أن تبعث إلى أقاصي البلاد بكتيبةٍ من الرجال المُسلَّحين تهزُّ هذه اليد الدنِسة، يدَ سيدكم، التي تستولي على مدائن صهيون.»

«ولحية صلاح الدين، أيُّها النصراني، إنْ هذه إلا غفلة صبيانية منكم، ليس فيها لمحةٌ من سداد الرأي، وإنَّني ليُضحِكني من سُلطانكم العظيم سذاجته، وإني لأعجب كيف عنَّ له أن يطلُب الظفر في هذه الصحراوات وتلك الصخور، ويُنازِع في امتلاكها قومًا، إنْ أرادوا جمعوا من الرجال عشرة أمثال رجاله، ويُخلِّف جزءًا من جزيرته الضيقة — التي وُلِد فيها ملكًا — إلى بلادٍ الصولة فيها لغيره؛ ولكنِّي أعتقد جزمًا، يا سير كنث، أنك وغيرك من الرجال الطيِّبين من أهل بلدِك قد خضعتُم لنفوذ الملك رتشارد قبل أن ترحلوا عن وطنكم وتقوموا بهذه الحملة، وقد تركتُم بلادكم مُقسَّمة بعضها في وجه بعض.»

فأجابه كنث في حدَّةٍ ولهجة سريعة وقال: «كلا وضياء السماء المُنير! لو أنَّ ملك إنجلترا لم يقُم بهذه الحرب الصليبية إلا بعد أن يتملَّك على اسكتلندا لَما عبأت — ولا عبأ كلُّ اسكتلندي مُخلِص — بالهلال يتألَّق أبدًا على أسوار صهيون.»

واسترسل الفارس في حديثه إلى هذا الحد، ثم استجمَع ذاكرته وتمتم قائلًا: «أستغفر الله، أستغفر الله! ما لي — وأنا جندي من جنود الصليب — وما لذِكرى الحرب بين الأمم المسيحية؟»٢

هذا الشعور الفيَّاض الذي أحسَّ به المسيحي، ثم كتمَه بوحيٍ الواجب، لم يغِبْ عن الرجل المسلم، فهو، وإن لم يُدرك كلَّ ما دمدم به صاحبه، إلا أنه شاهد ما دلَّ دلالةً قاطعة على أنَّ المسيحيين — كالمسلمين — لهم من المشاعر الخاصة ما قد يُوخِز ضمائرهم، ولهم في أوطانهم من المُنازعات ما لا سبيل إلى حسمِه؛ ولكنَّ العرب أمَّةٌ مهذَّبة إلى أقصى حدٍّ يسمح به دينُهم الذي يعتنقون، وهم قادرون خاصَّة على التحلِّي بفضيلة المُجامَلة والتأدُّب، وهكذا كان صاحبنا العربي، فأبى على نفسه أن يتطلَّع إلى النزاع الذي قام بين السير كنث وبين مشاعره، إذ كان كنث يجمع في شخصه شخصَين متناقضَين: أحدهما الاسكتلندي والآخر الصليبي.

ثم ضرب صاحبانا في المَسير، وأخذت المناظر حولَهما تتغيَّر وتتبدَّل، وقد عرَّجا إذ ذاك شرقًا، وسارا حتى بلَغا سلسلةً من التلال الجرداء، شديدة الانحدار، تمتدُّ في سهلٍ قاحل، وهي تُباين بارتفاعها سطح البلاد، ولكنَّها لا تختلف عنها في إمحالها. وبدَتْ أمام المُسافرَيْن صخور ناتئة حادَّة، وبعد فترةٍ وجيزة، أشرَفا على مُنحدَراتٍ سحيقة ومرتفعات يرتاع لعلُوِّها البصر، وليس من اليسير أن تجتاز ممرَّاتها الضيقة، فكانت عقَبةً في سبيلهما، تختلف عن غيرها من العقَبات التي كانا يُغالبانها منذ حين؛ وبينما هما يَسيران، بدَتْ لهما على جانبي الطريق كهوفٌ مظلمة، وشقوق بين الصخور منفرِجة مروِّعة. وهي تلك الغِيران التي كثيرًا ما يُشار إليها في الكتاب المقدَّس؛ وهنا قال الأمير للفارس الاسكتلندي: إنَّ تلك الكهوف كثيرًا ما تأوي إليها الوحوش الضارية، أو يلجأ إليها رجالٌ أشدُّ من الوحوش شراسة، تدفعهم إلى اليأس حروب لا تنقطع، وجُور يلحَق بهم من جنود الصليب والهلال، فينقلِبون لصوصًا ينهَبون كلَّ من يُلاقون، ولا يُفلِت منهم أحد؛ رفيعًا كان أو وضيعًا، مؤمنًا أو كافرًا، رجالًا أو نساء، أو شِيبًا أو شبابًا.

وأخذ الفارس الاسكتلندي يستمِع، غير آبه، لِما يُروى له عن أعمال النَّهب التي يرتكبها الوَحش الضاري والإنسان الشرير، إذ أحسَّ في نفسه بالشجاعة وقوة البنية يطمئنُّ إليهما، ولكن لشدَّ ما كان هلَعُه حينما مرَّ بخاطره أنه كان إذ ذاك يسير في القفر المُوحِش الذي أمسك فيه المسيح أربعين يومًا عن الطعام والشراب، وأنَّ تحت بصرِه ذلك المكان الذي تسنَّى فيه للشيطان أن يهاجم المسيح ويُسرِف في إغرائه وإغوائه، فانصرَف بذِهنه شيئًا فشيئًا عن ذلك الحديث الساذَج، حديث الدُّنيا الذي كان يتحدَّث به إليه المقاتل العربي، وهو يسير إلى جانبه؛ وأحسَّ السير كنث أنه في تلك المجاهل الجافَّة الجرداء، التي تَهيم فيها الأرواح الخبيثة بعد أن تخرُج من الأبدان التي كانت تحلُّ فيها، أحوَج إلى مُرافقة قسٍّ عاري القدَمَين منه إلى ذلك المُسلم المرِح المنافق، مهما كان حبيبًا إلى النفس بروحِه الخفيفة، وشجاعته النادرة، التي قد تجعل منه زميلًا تُستحَبُّ زمالته في أيِّ مكانٍ غير هذا المكان.

استولَتْ على المسيحي هذه المشاعر فارتبك في نفسه، وزاده ارتباكًا أنه كلَّما أمعن وصاحبه في المسير، زاد العربي من مرَحِه وسروره؛ وكلَّما توغَّلا في حنايا الجبال المُظلمة، استخفَّ في حديثه؛ ولمَّا لم يفُزْ من المسيحي بجوابٍ على سؤال، أخذ يتغنَّى ويرفع الصوت في الغناء؛ وكان للسير كنث من الإلمام باللُّغات الشرقية ما يكفي لأنْ يؤكِّد له أن العربي كان يتغنَّى بأناشيد الحُبِّ المليئة بكل معنًى من معاني الثناء على الجمال، التي يُغرَم شعراء الشرق بالإغراق فيها، والتي كانت — من أجل ذلك — لا تليق البتَّة بالفكر يُحلِّق في سماء الجد والإخلاص لله، وهو ذلك الإحساس الذي ينبغي للمرء أن يُحسَّ به وهو في القفر الذي امتحن الشيطان فيه المسيح؛ ولكنَّ العربي لم يرْعَ للمكان حُرمته، فأخذ يتغنَّى كذلك بمآثِر الخمر ويُشبِّهه بالياقوت كشُعراء الفُرس؛ وهكذا استرسل العربي في نشوة السرور إلى حدٍّ لم يعُد يُطيقه السير كنث، وقد استولى عليه إحساس غير هذا الإحساس؛ ولولا أنه قطع على نفسه من قبل عهدًا أن يُبقي على المودة التي تبادلاها لما تردَّد في أن يطلُب إلى العربي أن يضرب على وترٍ آخر؛ وهكذا أحسَّ الصليبي كأنَّ إلى جانبه شيطانًا خبيثًا مُستهترًا في اللهو، يحاول أن يوقِع روحه في حباله، ويَحرِمه من غفران الله، بما كان يتمشدق به من ملذَّات الحياة الدنيا، يُلوِّث بها طهارة قلبه، في وقتٍ تُناشده فيه عقيدته المسيحية، وميثاقه كحاج، أن يذكُر الله مستغفرًا جادًّا؛ فاشتدَّت حيرتُه وتردَّد ماذا يصنع، وأخيرًا شقَّ سكون نفسه، وفي لهجة الناقِم الحادَّة اعترض العربي وهو يتغنَّى بالأنشودة الشهيرة التي يؤثِر فيها الشاعر الخال على صدر معشوقته على كنوز بخارى وسمرقند.

فقال الصليبي مُحتدًّا: «أيها العربي! مهما أظلمَتْ عيناك، ومهما ضلَّلتْك مَهامِهُ شريعة خرقاء، أفلا تُدرِك أنَّ من بين بلاد الله بلادًا أكثر تقديسًا، وأنَّ من بين الأماكن أماكن، الشيطان فيها أشدُّ سلطانًا على النفوس الأمَّارة بالسوء؟ إنَّني لن أُخبرك بالسبب المروِّع الذي من أجله اتَّخذ الشيطان هذا المكان، وهذه الصخور، وهذه الكهوف ذات القباب المُظلمة، التي تُوهِم الرائي أنها تؤدي إلى أغوارٍ سحيقة، مَرتعًا خاصًّا له ولجنوده؛ وحسبُك أنَّ رجالًا قديسين حكماء، يعلمون حقَّ العلم خصائص هذا المكان الدَّنِس، قد حذَّروني منه منذ زمنٍ بعيد؛ فهل لك أيها العربي أن تُقلِع عن غيِّك، وعن هذا الهزل الذي ليس هذا بِحينه، وأن تنصرِف بفكرك إلى ما هو أليَقُ بهذا المكان، وإن تكُنْ خير دعواتك ما هي — واحسرتاه! — إلا إثمٌ وكفران.»

وأصغى العربي لهذا الحديث بشيءٍ من الدهشة، ثم ردَّ بروحٍ من الدُّعابة والفكاهة لم يُخفِها إلا بمقدار ما تقتضيه المُجاملة وقال: «إنك يا سير كنث رجل طيب، ولكنك لم ترْعَ لرفيقك حقَّ الزمالة، وإلا، فأنتم معشر الغرب لا تكترثون بآداب اللياقة. إنَّني لم أرَ أنك قد أسأتَ إليَّ حينما أخذتَ تلتهِم لحم الخنزير وتشرَب الخمر على مرأًى مِنِّي، بل لقد سمحَتْ نفسي لك أن تستمتِع بطعامٍ قلتَ إنه من حرية المسيحية، ولم أعْدُ أن أشفقتُ عليك في نفسي من مُتعتِك الذميمة، فلماذا إذن تضجَر مِنِّي وتشكو، وأنا إنما أُسرِّي عنَّا — بكل ما وسعتُ من شعرٍ جذِل — هذه الطريق المُوحشة؟ ولقد قال الشاعر ما معناه: «إنما الغناء كقطر الندى يَسَّاقَطُ من السماء على صدر الصحراء فيجعل طريق المسافر بردًا وسلامًا.»

فأجاب المسيحي: «اسمع يا صاح! أنا لا أكرَه اللهو أو الغناء، بل إنَّا لنوليهما من قلوبنا مكانة عُليا، قد يكون أولى بها ما هو خير منهما؛ ولكنَّ الدعاء لله والأناشيد الدينية أليَقُ بك من أغاني الحبِّ وكئوس الخمر، وأنت تخترق هذا الوادي، وادي ظلِّ الموت، المليء بالأبالسة والشياطين، الذين أصابتهم دعوات القدِّيسين فطردتْهم من مساكن الإنسان يَهيمون في بلادٍ عليها وعليهم لعنة الله.»

فأجاب العربي قائلًا: «لا تتحدَّث عن الجنِّ بمثل هذا أيها المسيحي، واعلم أنك توجِّهُ الخطاب إلى رجلٍ هو وأمَّتُه يرجعون بأصلِهم إلى جنسٍ مُخلَّد، تخشَونه في مذهبكم، وتستنزلون عليه غضب الله.»

فأجاب المسيحي: أعلم أنَّ أُمَّتَكم العمياء تنتسِب إلى الشيطان الرجيم، الذي مدَّ إليكم يدَ المساعدة، فمكَّنكم من الاحتفاظ بهذه الأرض المُكرَّمة، أرض فلسطين، فوقفتُم في وجه عددٍ عديدٍ من جنود الله الأبطال. إنَّني لا أتحدَّث عنك خاصة أيها العربي، وإنما عن قومك عامة وعن دينك، وليس العجيب أنكم تنتمون إلى الشيطان، وإنما العجيب أنكم تفخرون بذلك.»

فأجاب العربي: «نحن أشجع الشجعان؛ بمن نفخر في كرَم المَحتِد إنْ لم نفخر بأشدِّ المخلوقات إقدامًا؟ نحن الجبابرة المُتكبِّرون؛ إلى من ننتمي إنْ لم ننتَمِ إلى إبليس، الذي آثَرَ أن يخرُج من الجنة مدحورًا على أن يسجُد لآدم طائعًا؟ إن إبليس ذميم مكروه، ولكنه مَهيب الجانب، وكإبليس نحن أبناؤه أهل كردستان.»

وكان العِلم السائد في هذا العصر هو قصص السِّحر والاتصال بالأرواح، ولذا فقد استمع السر كنث إلى رفيقة حينما اعترف بأصلِه الشيطاني، ولم تساور نفسه خلجةٌ من شك، أو أثَر من عجب، ولكنه مع ذلك قد أحسَّ بفرائصه ترتعِد، حينما ألفى نفسه في هذا المكان المُروِّع برفقة رجلٍ أعلن صراحة عن أصلِه الذي ذكَرْنا؛ وكان السير كنث لا يعرِف الخوف بطبعه، فرسَم علامة الصليب على نفسه، وطلَب إلى العربي في جرأةٍ أن يُحدِّثه شيئًا عن أصلِه الذي يفتخر به، وسرعان ما لبَّى العربي مطلَبَه فقال:

«اعلم أيها الغريب الشجاع أنَّ «الضحاك»، أحد أبناء جمشيد، لمَّا اعتلى عرش فارس، عقد مجمعًا من الشياطين تحت قباب «اصطخر» الخفيَّة، تلك القباب التي نحتَتْها الأرواح الأولى في عين الصخر، قبل أنْ يخلُق الله آدم نفسه، وهناك كان للضحَّاك حيَّتان ضارِيتان، أخذ يُطعمهما ويقدِّم لهما القُربان كلَّ يومٍ من دم الإنسان؛ حتى صارا — كما يُحدِّثنا الشعراء — جزءًا من نفسه، وأراد أن يُبقي عليهما، فأخذ يجمَع لهما الضحايا البشرية كلَّ يوم، حتى نفد صبر رعيته؛ فرفعوا في وجهه راية العصيان، وكان من بينهم أمثال الحدَّاد المِقدام، و«فريدون» الظافر، اللذَين استطاعا آخِر الأمر أن يخلعا هذا الظالم المُستبدَّ عن عرشه، ويحبِساه طوال حياته في الكهوف المُظلمة في جبال «راموند»، ولكنَّ هذا الرجل المُتعطِّش للدماء كان قد بعث وهو في أوْج قوته — قبل أن تخلص البلاد من حَيفِه — بثُلَّةٍ من أتباعه اللصوص، كي يأتوه بالفرائس يقدِّمها ضحايا كما اعتاد كلَّ يوم، فجاءوا إلى أبهاء قصر «اصطخر» بسبع أخوات، تحسبهنَّ من فرْط جمالهنَّ من حور الجنان. هاتيك الفتيات السبع هنَّ بنات رجلٍ حكيم، لا يملك من الثروة غير حِكمته وجمال بناته ولكنه — على حكمته — لم يستطع أن يتوقَّع الكرْب الذي حلَّ به، والبنات لم يملكنَ أن يدفعنَ الشر، ولم تعدُ كُبراهُنَّ العشرين، ولم تكَدْ تبلُغ صُغراهنَّ الثالثة عشرة، وكنَّ جميعًا على صورةٍ واحدة، لا تستطيع أن تُفرِّق بين الواحدة والأخرى إلا باختلاف القد، إذ كنَّ يتوالَين في طولهنَّ مُتتابِعات، مثلهنَّ في ذلك مثل المصعد الذي يؤدِّي إلى أبواب الجنة؛ وما كان أجمَلَهنَّ حين وقفْنَ تحت القبَّة المظلمة، وقد خلعنَ ثيابهن، ولم يتستَّرن إلا بقمصٍ من الحرير الأبيض، يهزُزْنَ بجمالهن قلوبَ البشر؛ إذ ذاك جلجل الرعد، وزلزلت الأرض، وتشقَّق حائط البهو، ومن بين تلك الشقوق تسلَّل رجلٌ في زي صائد، بيدِه قَوس ونشاب، وفي إثره ستة من إخوته، وكانوا جميعًا رجالًا طوالًا، سُود الوجوه، مُحيَّاهم جميل الطلعة، إلا أنَّ في أعينهم بريقًا كبريق الموت، لا كذلك الضياء الذي يتألَّق تحت جفون الأحياء؛ ثم أمسك زعيمهم بيدِ كُبرى الأخوات السبع، وقال في صوتٍ ناعم خافِتٍ فيه رنة الأسى: «زينب! أنا «كُثْرب» ملك العالَم السُّفلي، ورئيس الجن الأعلى؛ أنا وإخوتي هؤلاء — وقد خلَقَنا الله من النار الأولى — قد أبَيْنا، حينما أمرَنا العزيز القادر، أن نسجُد لكائنٍ خلقَه من طينٍ وسمَّاه الإنسان. وما أخالك قد سمعتِ عنَّا إلا أنَّا قُساة لا نلين، نوقِع الشر بالنفوس، وما هذا إلا باطل، إنما نحن بطبيعتِنا كرام رحيمون، لا ننقِم إلا إذا لحِقتْنا إهانة، ولا نقسو إلا إذا مسَّنا أذى، من وثِق فينا أخلصْنا له، وقد دعانا أبوك، «مِثْرَاب» الحكيم، فلبَّينا الدعاء، وأبوك بحكمته لا يُعيد أصل الخير فحسْب، وإنما يُعيد منبتَ الشرِّ كذلك؛ إنك وأخوتك على حافة الموت، ولكنكنَّ إن أعطتْنا كلُّ واحدةٍ منكنَّ شعرة من فرعها الجميل، دليل على الولاء، حملناكنَّ فراسِخ من هنا إلى مكانٍ آمنٍ تتحدَّين منه الضحاك ووزراءه.» ولقد قال الشاعر إنَّ الخوف من الموت العاجل كالخوف من عصا موسى نبي الله، التي ابتلعَتْ كل عصًا انقلبت أمام فرعون الملك إلى حيةٍ تسعى؛ وهكذا كان بنات الحكيم الفارسي، فلم يرَعْنَ لخطاب كثرب، كما ارتاع غيرهن، فأعطينه ما فرض عليهن، وفي أسرع من لمح البصر انتقل الأخوات إلى قصرٍ مسحور فوق جبل «تَجْرَتْ» بكردستان، ولم تقع عليهن من بعدُ عينُ إنسان؛ ثم انقضى زمن طويل، وذات يوم ظهر إلى جوار هذا القصر — قصر العفاريت — سبعة شباب، لهم صِيتٌ في الحرب والطراد، أشدُّ حلوكةً وأعلى ارتفاعًا وأشدُّ بأسًا وأقوى عزيمة من كل من نزل بأودية كردستان من إنسان، فاتخذوا البنات السبع زوجاتٍ لهم، وأصبحوا آباء لقبائل الكرد السبع، التي طبَّق ذكر شجاعتها الآفاق.»

استمع الفارس المسيحي متعجبًا إلى هذه القصة الوحشية، التي ما زال لها أثر بأرض كردستان، ثم أطرقَ هُنيهة وقال: «أصبتَ فيما قلتَ أيها الفارس؛ قد يخشى المرء مَنبتكم وينبذه، ولكنه لا يستطيع أن يُحقِّر من شأنه، ولن أعجب، بعد الذي سمعت، من تشبُّثكم بدينٍ باطل، فلا رَيب أنَّ ذلك ما هو إلا ناحيةٍ من مُيولكم الشيطانية، التي ورثتموها عن آبائكم، الذين وصفتَهم كأنهم صيَّادون من الجحيم؛ مُيولكم التي تُحبِّب إليكم الباطل دون الحق، ولن أعجب بعدُ منك تنتشي وتطرب وتُنفِّس عن مكنون نفسك برواية الشعر، مُترنمًا به في آونةٍ أنت تدنو فيها من أمكنة ترتادها الأرواح الخبيثة التي توعِّرُ مسالكها؛ تلك الأرواح التي تبعث فيك مرحًا وجذلًا يحسُّ بهما المرء وهو يدنو من موطن أسلافه.»

هذه الحرية التي عبَّر بها المسيحي عن رأيه سُرَّ منها العربي، ولم تجرح كرامته، فقال «حقًّا ما قلتَ ولحية أبي، فإنَّنا، على خلاف غيرنا من المُسلمين، لا نُريد أن نقضي بضربة لازبٍ على تلك الأرواح الأولى القوية العالية التي نعتقد أنَّا منها نأشنا، وذلك رغم أنَّ النبي قد أتانا بدينٍ خير من دين آبائنا الذي تعلَّموه في أبهاء «تجرت» المُفعمة بالأشباح؛ نحن نعتقِد ونؤمن أنَّ هؤلاء الجن لم يتردَّوا في شرٍّ لا محيص عنه، وإنما هم ما برحوا في طريق المحنة والاختبار، وقد يُجزَون في الآخرة خيرًا، وقد يُجزون شرًّا؛ ولكن دع هذا «لرجال الدين» والأئمة، وحسبُنا أنَّ تقديس هذه الأرواح لم يُحرِّمه ما تعلَّمنا من القرآن كل التحريم، وأنَّ كثيرًا منَّا ما فتئ يتغنَّى بمثل هذا الشعر الذي يُذكِّر بدين آبائنا الأوَّلين.»

ثم أخذ يُنشد — في لغةٍ قديمة جدًّا في لفظها ومعناها — أبياتًا من الشعر، يعتقد بعض الناس أنها ترجع في أصلِها إلى عَبَدةِ «أهرمان أصل الشر».

أهرمان

أي أهرمان الأسود،
يا من يرى فيك العراق منبع الشر والسوء!
إذا ما سجدْنا لك عند معبدك،
شهِدنا الدنيا بِعيون كليلة،
وعلِمنا أن ليس تحت قبة السماء
دولة تنافِس دولتك!

•••

إذا كانت بقوَّة الرحمن الرحيم،
تتفجَّر العيون في أرضٍ خلاء،
يرتوي منها رحَّالة مُتعَبون،
فعنك تصدُر الأمواج ترطم الصخور،
ومنك تهبُّ رياح صرصرٌ عاتية،
فتتكفَّن في جوف الماء جنود البحار.

•••

وإذا أنبتَ الرحمن من الأرض بلسمًا،
تشتفي منه النفوس الخائرة،
فيا ما أقل من تشفيه البلاسِم
من ألمٍ لا يبرَح ومن عذابٍ مُقيم،
ومن نار الحُمَّى ومن فتك الطاعون:
وتلك هي سِهامك في جُعبتك!

•••

في قلوب البشر لك سلطان فوق كلِّ سلطان،
وإذا ما ابتهَلْنا بالصلاة
إلى عرشٍ غير عرشك،
ودعَونا فأسرفْنا في الدعاء،
فإنَّ خَفيَّ المعنى في الصلاة
لك وحدَك يا أهرمان.

•••

خبرني إنْ يكن لك حسٌّ أو شكل أو شعور،
وهل صوتك الرعد وجلبابك العواصف،
كما يُحدِّثنا في الشرق المجوس؛
وهل لك قلبٌ ينبض بالبغضاء والشحناء،
وأجنحةٌ ترفرف بها في طريقك، طريق الموت،
وأسنان تنفُث منها في فريستك السُّمَّ الزعاف؟

•••

وهل أنت من بدء الخليقة مُنقلِب الطباع،
قوة لا تكلُّ ولا تني،
تُحوِّل شرًّا كلَّ خبر؟
عنصر الأذى في دمائك،
إذا أصابنا خير تُصارِعه،
وأنت أبدًا تصرَعُه.
ومهما يكن فلا طائل تحت النضال؛
لك سُلطان على كل ما ظهَر،
ونفوذ على كلِّ ما بطن؛
كلُّ عاطفة قوية في قلب البشر،
من حبٍّ أو بُغضٍ أو طموح أو خَوف أو جذل،
تدفع بها نحو الإثم والرذيلة.

•••

كلَّما بدتْ بارقة من ضياء
تُنير ما يتحدَّر من مآقي الدموع،
إذا أنت قريبُ المنال،
وسط هذه الغبطة في بيداء الحياة،
تُرهِف كلَّ سكينٍ على مائدة الطعام
وتجعل منها آلةً للحرب والفناء.
مُذ نفخ الله فينا الحياة،
ومدَّ لنا على وجه الأرض الأجل،
وأنت تقضي في الرجال؛
وإذا صار للموت حين،
منك كان الألم؛
فهل انقضى في الأرض سُلطانك يا روح الظلام؛
عجبًا! من ذا الذي يتصدَّى للجواب؟٣

ولربَّما كانت هذه الأنشودة تعبيرًا طبيعيًّا صادرًا عن قلب فيلسوفٍ لا يملأ النور كل أرجاء صدره، فيلسوف لا يرى في ألوهية أهرمان الكاذبة إلا سيادة الشر الخلقي والأذى الجثماني، ولكنها في أُذُني السير كنث كان لها أثر آخَر، فقد كان لها في مسمعِه — إذ كان يتغنَّى بها رجل يفخر بانتسابه إلى الجن — رنين كأنه رنين الدعاء إلى الشيطان عَينه، وقد استمع كنث إلى هذا الكفران في قلب الصحراء عينها، التي وقف فيها الشيطان يطلُب إلى الناس الولاء له، فصبَّ الله عليه نقمته، فأخذ «كنث» يوازن بين نفسه ونفسه إن كان خيرًا له أن يفصِل في الحال عن رفقة العربي الكافر، كي يُشعِره بضجَره، أو يتحدَّاه للنزال دون توان، ويتركه في القفر طعامًا للوحوش — إن كان حتمًا عليه ذلك وفاء لمِيثاقه كمُحاربٍ صليبي — وإذ هو كذلك، إذا بشبحٍ لم يكن في الحُسبان يجذِب منه التفاتَه.

وكانت الشمس إذ ذاك آيلةً للغروب، ولكنَّ فارسنا استطاع رغم ذلك أن يرى أنه لم يعُد وصاحبه وحدهما في الغاب، وإنما كان يرقبهما عن كثبٍ جسم بالِغ الطول، جدُّ نحيل، يقفز على الصخور وفوق الأشجار، ويُذكِّر الفارس — بخفَّته ومظهره الخشِن الغليظ — بآلهة الحقول وأرباب الغاب، الذين شاهد لهم صوَرًا في معابد روما القديمة؛ وكان هذا الرجل الاسكتلندي ساذج القلب، لم يشك لحظة في أنَّ آلهة القُدامى المارقين على الدين كانت أبالسةً في حقيقتها، وهو الآن كذلك يعتقد دون تردُّدٍ أنَّ المقطوعة اللعينة، التي تغنَّى بها العربي، قد أخرجت روحًا من أرواح الجحيم.

فقال لنفسه في صراحة: «وماذا يعنيني! ليهلك الشيطان وعبدة الشيطان.»

ولكنه — بطبيعة الحال — لم يرَ ضرورة لأن يُنذِر عدوَّين ويتحدَّاهما باللهجة عينها التي يُخاطب بها عدوًّا واحدًا؛ وامتدَّت يدُه إلى عصاه، وكاد العربي أن يلقى جزاء شعره الفارسي، وهو غافل، بتهشيم رأسِه في الحين تهشيمًا لا مُبرِّر له؛ ولكن الفارس الاسكتلندي تحاشى إثمًا لو اقترفه لكان ثلمةً في شرفِه الحربي، وذلك أنَّ الشبح، الذي ظلَّ الفارس مُدَّةً وعيناه لا تحيدان عنه، كان يعترض طريقهما بادئ الأمر، مُتخفِّيًا خلف الصخور والأشجار، مستغلًّا طبيعة الأرض بحذقٍ شديد، ومتغلبًا على نشازها بخفةٍ عجيبة؛ ولكنه — حينما سكت العربي عن الغناء — تبدَّى عن رجلٍ طويل القامة، يرتدي جلد عنز، ثم قفز إلى وسط الطريق، وأمسك بزمامٍ من أزِمَّة العربي بكلتا يديه، وجابه الجواد النبيل، وردَّه إلى الوراء، فرأى الجواد أنه غير قادر على أن يصمد لمُهاجِمه — وقد أتاه على حين غرةٍ وضغط على طرف عنانه المسنون الطويل، وسلسلته المتينة التي كانت على الطراز الشرقي — فتقهقر لِساعتِه، ثم سقط إلى الخلف فوق صاحبه، ولكنَّ صاحبه أسرع وقفز جانبًا كي ينجو من خطر الوقوع.

حينئذٍ رفع المُهاجم قبضته عن زمام الجواد ومكَّنها من حلْق راكبه، وهوى بنفسه فوق العربي وهو يدفع عن نفسه، واستطاع أن يُبقيه تحته طريح الأرض، وطوَّقه بذراعَيه الطويلتَين، فبات العربي في قبضته، وصاح غاضبًا وهو يتكلَّف الضحك: «أي «هاماكو» يا لَعين، اطلِقْني، ليس هذا من حقك. اغرب عني وإلا سللتُ خنجري.»

فأجاب الرجل المُرتدي جلد العنز: «أي خنجرٍ أيها الوغد الخائن، اقبض عليه إنِ استطعتَ.» وبأسرع من لمح البصر استلَّ خنجر العربي من يدِه، وهزَّه فوق رأسه.

فصاح شيركوه مذعورًا: «النجدة! النجدة! أيها النصراني، وإلا قتلَني هاماكو.»

فأجاب ساكن الصحراء: «أقتلك! حقًّا إنك لتستحقُّ الموت؛ كيف تتغنَّى بهذه الأناشيد اللعينة، وتترنَّم بمآثر إله الشر؟»

وكان الفارس المسيحي حتى ذلك الحين يتطلَّع في دهشةٍ وذهول، ولشدَّ ما كان عجبه، لأنَّ هذه الملحمة في تطوُّرها ونهايتها قد أتتْ على خلاف ما كان يتوقَّع من قبل؛ ولكنه لم يلبَثْ طويلًا حتى أحسَّ بأن الكرامة تقضي عليه بأن ينضمَّ إلى جانب زميله المهزوم، فالتفتَ إلى الرجل المرتدي جلد العنز، وقد ظفر، ووجَّه إليه الخطاب قائلًا: «كنْ من شئت، كنْ من أبناء الخير أو من أبناء السوء؛ ولكن اعلمْ أنَّني قد أخذتُ على نفسي في هذا الظرف أن أُخلِص في صُحبتي لهذا العربي الذي أرْديتَه تحتك، ولذا فإني أتوسَّل إليك أن تُخلِّي عنه، وإلا قاتلتُك دفاعًا عنه.»

فأجاب هاماكو قائلًا: «مرحبًا بالقتال! مرحبًا بالقتال يعترِك فيه صليبي ويشتجِر مع واحدٍ من أبناء دِينه الحنيف في سبيل وغدٍ لم يتعنِق دين المسيح! هل أتيتَ إلى هذا القفر تُحارب للهلال ضدَّ الصليب؟ أكرِمْ بك جنديًّا من جنود الله تُنصِت إلى أولئك الذين يتغنَّون بمحامد الشيطان!»

وانتصب قائمًا وهو يَفُوه بهذا الحديث، فسمح للعربي كذلك أن يهبَّ من مرقَدِه، وردَّ إليه خنجره. ثم واصل الحديث موجِّهًا خطابه الآن إلى شيركوه وقال: «لقد رأيتَ كيف أدَّى بك ادِّعاؤك إلى شفا الخطر، ورأيتَ كيف — إنْ أراد الله بك سوءًا — يكون اندِحارُك بأضعف الوسائل، على حذقِك ومهارتك وخفَّتِك التي تفخَر بها، فحذارِ يا «ضريم» واعلَمْ أنه لولا لمحة من بريقٍ تألَّق بها نجمُك يوم مولِدِك بشيرًا لك بخيرٍ ونعمة قدَّرهما لك الله في عُلاه، لما افترَقْنا إلا بعد أن مزَّقتُ حلقك هذا، الذي كان يلفظ آيات الكفر منذ حين.»

فأجاب العربي، ولم تبدُ عليه أمارات البُغض لهذا اللفظ الشديد وذاك التهجُّم العنيف الذي صُوِّب إليه، وقال: «أي هاماكو أيها الرجل الطيب، حذارِ أن تزهوَ ثانية بفضائلك إلى هذا الحد، واعلمْ أنني كمُسلم مؤمن بالله أُجلُّ المرء إذا أعاضه الله بروح التنبُّؤ عن نعمة العقل، ولكنِّي لا أحبُّ أن تمتدَّ إلى زمام جوادي أو إلى شخصي يدٌ غير يدي. خبِّرني إذن ماذا تريد، وثِقْ أنك في مأمنٍ من غضبي، واعلم أنك إنْ هدَّدْتني بالعنف دققتُ رأسك المُشعَّث وفصلتُه عن كتفَيك النحيلتين.» ثم اعتلى صهوةَ جواده واستطرد قائلًا: «أما أنت يا صديقي كنث، فاعلم أنَّني أحبُّ في رفيق الصحراء الإخلاص في العمل أكثر ممَّا أحبُّ التظرُّف في الكلام، وحسبي ما أسمعْتَني من طيِّب الحديث، وإنما كان خيرًا لي أن تُسارع إلى نجدتي في عراكي مع هاماكو، وقد أوشك أن يقضي على حياتي وهو في نشوة الجنون.»

قال الفارس: «حقًّا لقد خارت عزيمتي، بل قُل لقد أبطأت في إسعافك بالنجدة، ولكن غرابة مهاجمك ومفاجأته بالقتال — وكأنَّ أنشودتك الذميمة بتوحُّشها قد أنبتت بيننا شيطانًا — أربكت عقلي، فانقضت دقيقتان أو ثلاث قبل أن أسلَّ سلاحي.»

فأجاب العربي: «ما أنت يا صاح إلا رفيق مُتبلِّد الإحساس، شديد الحِرص. لو أن هاماكو تغالى في جنونه ذرَّةً واحدة، ولبِثتَ ممتطيًا جوادك، شاهرًا سلاحك دون أن تُحرك إصبعًا لنجدتي، لخرَّ زميلك إلى جوارك صريعًا، ولحِقكَ العار ما دُمتَ حيًّا.»

فأجاب المسيحي: «وحقُّ مهندي أيها العربي لأصارحك القول، لقد ظننتُ ذلك الجسم الغريب شيطانًا من بني جِنسك، ولم أدْرِ أيَّ سرٍّ عائلي بينكما تتبادلان فيه الحديث، وأنتما تتمرَّغان معًا فوق الرمال.»

فقال العربي: «هذه السخرية منك يا أخي كنث ردٌّ غير مقبول؛ ولتعلم أن لو كان مهاجمي هو الشيطان عينه، لكان حتمًا عليك — مع ذلك — أن تُنازله القتال في سبيل رفيقك، واعلم كذلك أنه إن كان بهاماكو مسٌّ من جنٍّ أو شيطان، فهو أقرب إلى مَنبتك منه إلى مَنبتي، فما هاماكو هذا في الحق إلا الناسك الذي أتيتَ إليه حاجًّا.»

فأجاب السير كنث، وقد نظَر إلى الجسم الماثِل أمامه ممشوق القد، وإن يكن منهوك القوي، وقال: «هذا! هذا! إنما أنت تهزأ أيُّها العربي، وما هذا بتيودوريك الوقور!»

فردَّ عليه شيركوه وقال: «سلْهُ إن كنتَ لا تصدقني!» ولم تكد تخرج الكلمات من فيه حتى شهد الناسِك على نفسه وقال:

«أنا تيودوريك، رجل عين جدَّة، أنا المشَّاء في الصحراء، أنا صاحب الصليب، وسَوط الكبار والمنافقين وأتباع الشيطان. عنِّي! عنِّي! ليهلك الكفرة جميعًا.» ثم استلَّ — وهو يتكلم — من تحت جلبابه المُشعَّث شيئًا يُشبه أن يكون مطرقةً أو هراوة ذات مفاصل موثوقة بالحديد، وهزَّها فوق رأسه بمهارةٍ فائقة.»

وقال العربي: «ها أنت ذا تشهد قدِّيسك!» ثم ضحك لأول مرةٍ من السير كنث، وقد نظر «كنث» بدهشةٍ ما بعدها دهشة إلى حركات تيودوريك الوحشية، وأنصت إليه يُتمتِم تمتمةً عجيبة، بعدما لوَّح بعصاه هنا وهناك، وكأنه لا يعبأ أَعَلى رأس العربي وقعتْ أم على رأس المسيحي، وأخيرًا ضرب بها صخرًا إلى جانبه، فتهشَّم الصخر فُتاتًا، وظهرت من الرجل قوَّتُه ومتانة سلاحه.

فقال السير كنث: «هذا رجل مجنون.»

وردَّ عليه المسلم، وتكلَّم وفقًا للعقيدة الشرقية المعروفة، التي ترى أنَّ المجنون رجل تحت تأثير الوحي المباشر وقال: «وليس هذا أسوأ القدِّيسين. اعلم أيها المسيحي أنه إذا انطفأ من إحدى العَينَين نور اتَّقد في الأخرى الضياء، وإذا بُتِرت إحدى اليدين قَوِيَت اليد الأخرى، وكذلك إذا اضطرب العقل أو فسد تفكيرُه في أمور البشر، اتَّجَهَت البصيرة نحو السماء وهي أشدُّ نفاذًا وأتمُّ كمالًا.»

وهنا غاص صوت العربي في صوت الراهب إذ أخذ هذا يُهلِّل بصوتٍ عالٍ ويترنَّم بنغمٍ خشِن ويقول: «أنا تيودوريك، رجل عين جدَّة، أنا جَذوة الصحراء، أنا سوط المنافقين، الأسد والنمر — رفيقاي — يدنوان من غارتي يَحتمِيان، ولن تَخشى مخالبهما بعد اليوم عنز؛ أنا المِشعَل والمصباح، رُحماك اللهم!»

ولمَّا فرغ من غنائه هرول قليلًا، ثم قفز إلى الأمام ثلاث قفزات، لو أنه أدَّاها في حفلٍ رياضي لحازَ عليها كثير الثناء، ولكنها لم تَلِقْ به كراهب، حتى إنَّ الفارس الاسكتلندي تحيَّر وارتبك.

وكأنَّ العربي قد كان لحركاته هذه أدقَّ فهمًا فقال: «ألا ترى أنه يُريدنا على أن نتبَعَه إلى غارهِ فنحتمي هناك ليلتنا؛ أنت النمر، ويشهد بذلك هذا الرسم فوق درعك؛ وأنا الأسد، ويدلُّ على هذا اسمي؛ وبالعنز يُشير إلى ردائه — وهو من جلدِها — ويعني نفسه؛ لنجعله أبدًا تحت أبصارنا فهو سريع العدو كالهجين.»

وكان ذلك عليهما شاقًّا، إذ إنَّ قائدهما الوقور كان حقًّا يقِف الفَينة بعد الفينة، ويلوِّح بيده يحثهما على المَسير، ولكنه كان جد خبير بالأودية المُلتوية وطُرق الصحراء، وقد وهبه الله خفَّةً غير مألوفة، ربما ساعده على الإبقاء عليها دائبةَ النشاط عقلٌ غير متَّزِن؛ ولكنه كان يسير بهما في خلواتٍ وطرقات، أحسَّ فيها العربي — على خفة سلاحه ودُربة جواده — بالخطر الشديد، فما بالك بالأوروبي، وهو مُدرَّع بالحديد، وجواده مُثقَل بالأحمال؛ لقد ألفى نفسه والخطر يُحدِق به فودَّ لو استعاض بهذه المخاطر معركةً حامية الوطيس؛ ولشدَّ ما كان سروره حينما رأى — بعد هذا العدو الوحشي — ذلك الرجل المقدَّس، الذي هداهما الطريق، وقد وقفَ لدى كهف، وبيدِه مِشعل يتألَّف من عصا خشبية مُنغمِسة في القار، يشعُّ منها ضياء يتذبذب في شدَّة، وتفُوح منه رائحة الكبريت في قوة.

لم يَرتدَّ الفارس من هذا البخار الخانق، وإنما رمى بنفسه من فوق جواده وولج الكهف الذي كان ظاهره لا يدلُّ على توفُّر الراحة فيه؛ وكان الغار مُقسَّمًا قِسمَين: خارجيًّا به مذبح من الحجَر وصليب من القصَب، وكان الناسِك يتَّخِذ من هذا المكان كنيسةً له؛ وإلى جانب هذا الكهف الخارجي وثَّق الفارس المسيحي جواده، وأعدَّه للمبيت، مُحتذيًا في ذلك حذو العربي الذي أفهمَه أن هذا من تقاليد ذلك المكان، ولكن المسيحي لم يخلُ من وسواس الشك، دبَّ فيه مما كان يُحيطه من مظاهر كان لها في نفسه احترام ديني؛ وفي غضون ذلك كان الناسِك يشتغل بتنسيق الغرفة الداخلية كي يستقبل ضيفَيه، وسرعان ما لحِقا به هناك؛ وكان في داخل الكهف الخارجي فرجةٌ صغيرة تُغلَق ببابٍ من الخشب الخشِن، وتؤدي إلى غرفة فسيحة كان يتَّخِذها الناسك للنوم؛ وكان سطح الأرض بالكهف خشِنًا رغم جُهد ساكنه في تسويته، مفروشًا برملٍ أبيض اعتاد أن ينثُر الناسك الماء فوقه كلَّ يوم، يأتي به من عينٍ صغيرة تنفجر في الصخر في إحدى زوايا المكان، وتمدُّ الإنسان في ذلك الجو الخانق بماءٍ عذب المذاق، خريرُه لذيذ المسمع؛ وفي جانبٍ من جوانب الغار وُضِعت بعض الحشايا المصنوعة من الأعلام المُلتفَّة؛ وجُدُر الكهف — كأدِيمِه — خشِنة المَلمس، رغم جهدٍ بادٍ في تسويتها، وقد علقت عليها الأعشاب والزهور، وأشعل الناسِك مِشعَلَين من الشمع نشرا جوًّا طيبًا في المكان، الذي بات بشذاه وبرودته حبيبًا إلى النفس.

وكانت في إحدى زوايا الغرفة أدوات من آلات العمل، وفي زوايا أخرى فجوة ينتصِب فيها تمثال العذراء خشِن غليظ؛ وبالغرفة كذلك مائدة ومِقعدان، يدلُّ ظاهرها على أنها من صُنع الناسك، فهي تختلف في هيئتها عن الأثاث الشرقي. أما المائدة فكان يَنتثِر عليها القصَب والبقل، وعليها لحم مجفَّف، أحكم تيودوريك وضعَه بحيث يسيل لُعاب زائريه؛ ولم يستطع السير كنث البتَّة أن يوفِّق بين مظاهر الجُود هذه — على أنَّ الناسك كان يقوم بها في صمت، ولا يُعبِّر عنها إلا بالإشارة — وبين مسلكه المُتوحِّش العنيف من قبل؛ وقد أضحى الراهب بعد ذلك مُتَّزِن الحركات؛ ولئن كان هزيل الملامح من أثر العَيش الشظيف، لا تبدو عليه أمارات النُّبل والجلال، فما ذلك إلا لإحساسه بضرورة التواضُع الذي يُمليه عليه الدين؛ وكان ينتقل في كهفه، وكأنه رجل وُلِد ليَحكُم بين الناس، ولكنه تخلَّى عن دولته كي يُخلِص لعبادة الله؛ ولكنه كان رغم ذلك رجلًا كبير الحجم، له خُصَل من الشعر مُرسلة طويلة، ولحية لم يَمدَّ إليها يدَه بالتشذيب، وعينان وحشيَّتان غائرتان يتطايَر منهما الشرر، وهذه من صفات الجندية لا من صفات الرهبنة.

حتى إنَّ العربي نفسه لم يسَعْه إلا أن ينظر إلى هذا الناسك — وهو مُشتغِل بعمله — بعَين التبجيل، فأسرَّ إلى السير كنث في صوتٍ خافت، وقال: «ألا ترى أنَّ هاماكو الآن هادئ البال، إنه لن يتحدَّث إلينا حتى نفرغ من الطعام، وهذا عهدٌ أخذَه على نفسه.»

وبعدئذٍ أشار تيودوريك في صمتٍ إلى الرجل الاسكتلندي كي يستوي على مقعدٍ من المقاعد المُنخفضة، بينما جلس شيركوه — كما يجلس بنو قومه — على حشيَّةٍ من الحصير، وعندئذٍ رفع الراهب بكِلتا يدَيه كأنه يُبارك الطعام الذي قدَّمه إلى ضيفَيه، وشرعا يأكُلان في صمتٍ عميق كصمت المُضيف، وكان هذا الجدُّ المُخيِّم فوق المكان أمرًا طبيعيًّا للرجل العربي، فلبِثَ صامتًا، وحذا المسيحي حذوَه، ولكنه أخذ يُفكِّر في هذا الموقف الشاذِّ الذي انتهى إليه، وفي التبايُن الشاسع بين تيودوريك، لمَّا التقيا به أول الأمر، وهو كالوحش يلوِّح بالإشارة من شدَّة الغضب، عالي الصرخات، عنيف الحركات، وبينَه الآن، وهو يقوم بواجب الجود والضيافة في ثباتٍ وحزْم، وقورًا كريم الوفادة.

وفَرَغا من تناول الطعام، ولم يتبلَّغ الناسك بلُقمة، وأخذ يُزيل الفتات من المائدة، ثم وضَعَ أمام العربي إبريقًا من شرابٍ سائغ، وخصَّ الاسكتلندي بزجاجةٍ من النبيذ.

وشقَّ صمتُه بهذا الخطاب: «اشربا، ابنيَّ، فإنَّ لنا أن نستمتع بنعم الله ما دُمنا له ذاكرين.»

ولمَّا أتمَّ حديثه أوى إلى الكهف الخارجي كي يؤدِّي صلاته لله، وخلَّف ضيفَيه معًا في الغرفة الداخلية؛ وحينئذٍ أخذ السير كنث يحاول بمختلف الأسئلة أن يستخلِص من الأمير شيركوه كلَّ ما يعرف عن مُضيفه، ولم يكن في استجوابه هذا مدفوعًا بحبِّ التطلُّع فحسْب؛ إذ كان عسيرًا على السير كنث أن يُلائم بين الراهب في تهوُّر خلقه حينما بدا لهما بادئ الأمر، وبينه وهو في تواضُعه وسُكونه من بعد، ومُحالٌ عليه أن يوفِّق بين ذلك وبين ما كان يعلَم من قبل ممَّا لهذا الراهب من المكانة العالية في قلوب الكثير من رجال الدين المُستنيرين في العالَم المسيحي، فلقد كان تيودوريك راهب عين جدَّة — كما عرفه السير كنث — يُراسل البابوات ومجامع الدين، ويصِف لهم في رسائله، في بلاغةٍ وحماسة، ما كان يُصيب به الكافرون المسيحيِّين اللاتين في الأرض المقدَّسة من ألوان مِن الشقاء لا تكاد تقلُّ شدَّةً عمَّا كان يوقعه بطرس الناسك في مجمع «كليرمنت» حينما كان يُبشِّر بالحرب الصليبية الأولى؛ فلمَّا رأى الفارس المسيحي من تيودوريك — وهو ذلك الرجل الوقور، وذلك الشخص المُبجَّل — من حركات الجنون ما لا يليق إلا «بفقير» مخبول، تردَّد قبل أن تَصِحَّ عزيمته على أن يُبلِّغه تلك الأمور الهامة التي حمَّلَها إيَّاه جماعة من قواد الحرب الصليبية.

وكان من أولى الأغراض التي أتى من أجلها السير كنث حاجًّا، سالكًا طريقًا غير مطروقة، أن يُبلِّغ الناسك ما حمَل من رسائل، ولكن ما شاهده في ذلك المساء دفعه إلى الصمت والتبصُّر قبل أن يبُوح بما عُهِد إليه؛ ولم يستخلِص من الأمير كثيرًا من الحقائق، ومُجمَل ما قال العربي إنَّ الناسك — كما روى له — كان في يومٍ من الأيام جنديًّا شجاعًا جسورًا، حكيمًا في مشورته، ومجدودًا في ساحات القتال؛ وأنه (أي العربي) آمَنَ بذلك لِما شاهد مِن القوة البارِعة والحركة الخفيفة يُبدِيهما الناسك في كثيرٍ من الأحيان، وقال: «إنه لم يظهر في بيت المقدس في شخص حاج، وإنما في شخص رجلٍ وقفَ بقية العمر للإقامة بالأرض المقدَّسة، وبعد زمنٍ وجيز استقرَّ به المُقام وسط تلك المجاهل المهجورة التي ألفَيَاه بها، وأنَّ اللاتين يُبجِّلونه لشدَّة إخلاصه لربِّه، كما يحترِمه الترك والعرب لما يبدو عليه من أعراض الجنون التي ينسبونها إلى الوحي، وهُم الذين أطلقوا عليه اسم «هاماكو» وهي كلمة تركية تدلُّ على هذه الصفات، وقد تحيَّر شيركوه نفسه كيف يُقدِّر مُضيفه، فقد كان — كما قال — رجلًا حكيمًا، يستطيع حينًا أن يُلقي دروسًا في الفضيلة والحِكمة ساعاتٍ مُتواصِلة دون أن يزلَّ ولو قليلًا، وحينًا آخَر تراه مُتوحِّشًا عنيفًا؛ ولكنه لم يُشاهده قطُّ من قبلُ شديد المَيل لفعل الشرِّ كما بدا لهما في ذلك اليوم؛ وأشدُّ ما كان يُثير غضبه إهانةٌ تلحَق بدينه. وممَّا يروى عنه أن جماعةً من العرب الرُّحَّل اعتدوا عليه في الصلاة، وشوَّهوا له ظاهر مذبحه، فهاجمهم وقضى عليهم بسَوطِه القصير الذي كان يَحمِله عِوَضًا عن كل سلاحٍ آخر. وقد أثار هذا الحادث ضجيجًا قويًّا، وباتت القبائل الجوَّالة تخشى من الناسِك وقْع مطرقته الحديدية، كما تنظُر إليه ﮐ «هاماكو»، فأصبحوا يحترمون مسكنَه ومعبدَه؛ وقد اتَّسع مدى صِيته حتى إنَّ صلاح الدين أصدر أمرًا خاصًّا بحمايته والتخلِّي عنه، قد أتى بنفسه أكثر من مرة، مع غيره من كبار المسلمين، زائرين للغار، مدفوعين بحبِّ التطلُّع من ناحية، ومُرتقِبين من ناحيةٍ أخرى، من رجلٍ عليم كهاماكو المسيحي أن ينفُذ ببصيرته في غياهِب الغيب؛ ثم استطرد العربي قائلًا: «وكان له مرصد عظيم الارتفاع، يرقُب منه نجوم السماء وكواكبها، وهي التي بحركاتها وتأثيرها، تُسيِّر كلَّ ما يقع للإنسان من أحداث، وتُعيننا على التنبُّؤ، وذلك من عقائد المسيحيين والمُسلمين على السواء.»

هذي خُلاصة ما كان يعلم الأمير شيركوه عن الناسك، سمِعَها السير كنث فداخلتْه الرِّيبة في طبيعة الجنون الذي تلبَّس به الراهب: هل هو من فرْط حُمَّى الحماسة تنتابُه الحين بعد الآخر، أو هو وهْم يتكلَّفُه كي يُفيد من حصانته. وعلى أي الحالَين، يظهر أنَّ المسلمين قد بالَغوا في احترامه مُبالغةً شديدة رغم عداوته الصريحة لِما يعتقدون، وظنَّ السير كنث كذلك أنَّ بَين العربي والناسك تعارُفًا وقُربى أكثر ممَّا كان العربي بكلِماته يُريده على أن يعتقِد، ولم يَفُته أنَّ الناسك كان يدعو العربي باسمٍ يختلف عمَّا ادَّعى هذا لنفسه؛ هذه الظروف جميعًا أوحَتْ إلى السير كنث بالحِرص، بل وبالشك، فعزم على أن يرقُب مُضيفه عن كثَبٍ وألَّا يتعجَّل بإبلاغه الرسالة الهامَّة التي وُكِلت إليه.

فقال: «حذارِ أيها العربي! إنني يُخيَّل لي أن مُضيفنا يسبح بخياله في الأسماء كما يسبح في غيرها من أمور، أليس اسمُك شيركوه، وقد ناداك الآن باسمٍ آخر؟»

فأجاب الكردي: «كان اسمي في خباء أبي «الضريم» وما زال الكثير يُناديني بهذا الاسم؛ أما في ساحة الوَغى وبين الجنود، فأنا أُعرَف ﺑ «أسد الجبل»، وهو اسم أكسبَنيه حُسامي الباتر، ولكن صَهٍ الآن يا صاح، فإني أرى هاماكو مُقبلًا يدعونا إلى الراحة، وأنا أعرِف عادته، وهي ألَّا يرقُبه أحدٌ وهو ساهر على ذكر الله.»

وآنئذٍ دخل الناسك ومثَلَ أمامهما، ويداه على صدرِه، ثم قال بصوتٍ وقور «الحمد لله الذي جعل الليل لباسًا، وجعل النهار معاشًا؛ وجعل لنا في هدأة النوم راحةً للجسم المنهوك، وطمأنينة للنفس المُضطربة.»

فردَّ عليه المُحاربان معًا وقالا: «اللهم آمين.» ثُم نهضا من المائدة وتأهَّبا لأنْ يأوِيا إلى فراشهما، وقد أشار إليه مُضيفهما بيدِه، ثم ترك الغرفة ثانية بعد أن حيَّاهما معًا.

و حينئذٍ جرَّد فارس النمر نفسه من سلاحه الثقيل، وقد أخذ زميله العربي يُعاونه برفقٍ في خلع درعِه وحلِّ أربطته، حتى لم يعُدْ يستتِر إلا برداءٍ ضيِّقٍ من جلد الغزال، كان الفرسان ورجال الحرب يلبسونه تحت السلاح. وإذا كان العربي قد أُعجِب بقوَّة نِدِّه — وهو مُسلَّح بالحديد — فهو الآن أشدُّ إعجابًا بدقَّة التناسُق البادية في جِسمه المعروق المفتول العضل؛ وكأنَّ الفارس بدَوره قد أراد أنْ يردَّ الجميل بالجميل، فمدَّ يدَ المعونة إلى العربي يُعينه على خلع ما تدثَّر به من لباسٍ حتى يستطيع أنْ ينام وهو طليق الجسم، ولشدَّ ما كانت دهشته إذ رأى أطرافًا رقيقةً وجسمًا نحيلًا، لا يتَّفِق وما أبدى صاحبه من بأسٍ في النزال.

وقبل أنْ يأوي الفارسان إلى الفراش توجَّها إلى الله بالصلاة؛ أما المُسلم فيمَّم شطر «القبلة» وهي المركز الذي يتوجَّه إليه أتباع محمد في الصلاة، وتمتَمَ بالدعاء — بينما انسلخ المسيحي من المكان — وقد تدنَّس بجوار صاحِبه المُلحد٤ ونصَب حُسامًا ضخمًا، له يدٌ على هيئة الصليب، جعل منه رمزًا للخلاص، وسجَدَ أمامه وأخذ يدعو الله بقلبٍ خاشع، زادَه خشوعًا ذِكرى الفيافي التي شقَّ عبابها، والمخاطر التي نجا منها أثناء النهار؛ وسرعان ما غلَبَ على صاحِبَينا النُّعاس، وقد رقد كلٌّ منهما على سريرٍ من الحطَب، منهوكًا من تعَبِ الرحيل وشِدَّة الإعياء.
١  هكذا يُشير «سكوت» إلى الرجل العربي، ولا غرابة في ذلك فقد كان يجهل الإسلام والمسلمين.
٢  يقصد الحرب التي كانت قائمة بين إنجلترا واسكتلندا.
٣  ترجم هذه الأنشودة إلى الإنجليزية قس عالم ذو منزلة رفيعة، وقد طلب إليَّ تفاديًا لسُوء الفهم، أن أُذكِّر القارئ بأنَّ هذه القطعة من وضع رجل يُنكر وجودًا لله، ولا يعرف لانحطاط الخلق وشرور الجسد من سببٍ حق، وإنما هو ينظُر إلى سلطانها على نظام الكون، كما ينظُر من لا يُعمِّر قلبه نور المسيحية إلى هذه الحقيقة المرَّة؛ وأنا من ناحيتي أزيد على ذلك أني أعلَم أنَّ المترجِم قد تصرَّف في الترجمة وزاد فيها زيادةً لا يوافِقه عليها أولئك الذين يعرفون القطعة في أصلِها العجيب الفريد، ويُخيَّل لي أن المترجِم قد يئس من أن ينقل إلى نظمٍ إنجليزي شعرًا شرقيًّا يُحلِّق في الخيال، وربما استعاض بمعانيه الخاصة معاني كانت في الأصل وأدرك استحالة الكشف عن معناها؛ وهكذا يفعل الكثير من عباقرة العلم. (المؤلف)
٤  هذا ما كان يراه السير كنث في زميله العربي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤