هذا الكتاب … ولماذا؟

١

منذ مدة وأنا مُولَع بسِيَر الكبار، ممَّن حفروا أثرًا في عقول الناس، وألْهَبوا مشاعرهم، لا شك، في صدارتهم الكُتَّاب، المبدعون، ممن خبروا الحياة، وتقلَّبوا في جوانبها، ومزجوا ذلك بأحاسيسهم؛ فتركوا لنا أعمالًا جليلة تُمثِّل خصوبة الإبداع والإنسان في آنٍ. وبما أن الكبار يختلفون في وجوه شخصياتهم، وخصال تَميُّزهم، فإني صرت أميل بالنسبة للكُتَّاب خاصَّة لأتعرف على أدائهم أكثر من أي شيء آخَر ممَّا يُعْقَل، ويجوز أن يشتركوا فيه مع فصيلة النخبة في أي زمان، أو هو مبذول في الطبع الإنساني عامة.

إنني أَعْنِي هنا السِّيرة الأدبية للكاتب في كونها تُمثِّل في حدِّ ذاتها مَناط عمله، اختصاصه أو حرفته التي لن يعرف أصولها أو يمهر فيها غيره. أَجَل، إنها الحرفة أولًا وأخيرًا التي لا نُعيرُها نحن عرب اليوم كبير قيمة، مع أن أجدادنا النقاد القدامى وضعوها في عداد الصناعة، وقَنَّنوا ضوابطها؛ منهم: قدامة بن جعفر، ابن العميد، وابن الأثير، مثالًا لا حصرًا. لقد استرعى انتباهي أن الأدباء العرب المعاصرين يُسهبون في الحديث عمَّا يسمونه تجاربهم الذاتية، بنِسب معقولة أو بطرة، ساردين مقاطع من مغامرات ومفاخرات، مُعدِّدِين الأمثلة عن «نبوغهم» ومكابداتهم بأنواع، وجلُّه يندرج في باب الترجمة أو السيرة الشخصية، يفترض فيها مزيد تعريف بحياة هؤلاء الأدباء، وعند مدرسة نقدية مُعيَّنة اتِّخاذُها أداةً منهجية ومدخلًا لفهم بعض خلفيات النص وخباياه. وكله معقول ومطلوب إلى حد مُعيَّن.

بينما نظل نفتقر إلى ما يضيء الأهم، أي النص ذاته، مصدر الأداء واهتمامنا الأول، نبتغيه في خطابه ودلالته، وطرق تعبيره الفنية، تعطيه هذه العناصر خصائصه القمينة به. وما من شك أن حصر هذه العناصر واصطفاءها هو من عمل الدارسين والنُّقاد، بإعمال النظر، وتشغيل آلية التحليل وفق مناهج محدَّدة، وهي، مع الذوق الممنهج، حصيلة التلقي المحترف. بَيْدَ أن هذا لا يمنع في شيء أن يَتدخَّل المعنيون مباشرة، آخِذين بيد القراء، المتعلمين والهواة على السواء، إما ليرشدوهم إلى مَجاهل النص، أو لمساعدتهم على فتح بعض مغاليقه، وبالذات لتبيان كيف تُطرَق أواني الصنعة ويُهيَّأ الطبيخ الفني بالجودة المطلوبة أو الرداءة الممجوجة، وعلى الأرجح كيف وبمَ يَتشيَّد بناؤه، وعلى أي نحو يُصبح مستساغًا.

هي مهمة لا نجد، من أسفٍ، نماذج كثيرة ومُعتبَرة لها في سياق التجربة الأدبية العربية كلًّا، والمتوَفِّر منها، القليل، لا تجد أصحابه يخوضون فيما يُسمَّى بالمختَبَر أو المحتَرَف الإبداعي، بالمعنى الصناعي الحرفي المذكور، مُولِين أكثر الاهتمام للموضوع والمشاغل العامة التي تَمْتَح منها القصيدة أو تعالجها الرواية. ليس ذلك عن استخفاف أو بسبب لا مبالاة، وإنما في تقديرنا راجع لأمرين؛ أولهما: كون الأديب يعتبر هذه الخلفية حديقته السِّرِّية لا يحب أو يتمنع في أن يدخل إليها «الغرباء» رغم أنهم قراؤه الأوفياء. ثانيهما: مُسايرة تصوُّر عام لدى جمهور لا يسأل عن مراحل إعداد النص وكيفياتها، بقدر ما يَنكبُّ على اختبارها مباشرة على ضوء القراءة الآنية. سلوك يُرضي الكاتب، أو الشاعر، الذي يحلو له الاستظلال بفيء ربة الإلهام، والانخطاف إلى جاذبيات السحر المبهمة. ومن المؤكد أن هناك سببًا ثالثًا يُعتَد به، مرجعه حسب الأديب أن ينجز عمله، على الوجه الأفضل ما أمكن، فقولُه كلُّه فيه والباقي من تعليق وحَواشٍ لغيره من أصناف المُتلقِّين.

هذه الاعتبارات في مجملها مقبولة أو على الأقل غير مردودة، إنما لا بد من القول بأن قيمة العمل الأدبي يمكن أن تتعزَّز أكثر، ربما تحصل الفائدة على الوجه الأكمل حين يطلعنا الكاتب نفسه، أو يتوسط واحد من عالمه ناقدًا أو كاتبًا مثله فيسلط الضوء على الخلفي ويفتح الأبواب المُغلَقة. لكن لنعلم أن وجود هذه الحلقة الإضافية في منظومة التَّلقِّي يحتاج إلى وجود وضْع قَبْلي يحضر فيه الأدب ضمن مؤسَّسة ثقافية كبرى تتداول الخبرات والقيم الرمزية، توليها اعتبارها، وتسهم في إغنائها بما يكفل ترويج الإبداع وإشباع الذوق وتنويع طرق المقروئية، وفوق هذا وذاك تبجيل الأدب كعطاء إنساني، من جهة، وكنشاط ذي إواليات مُهيْكَلة ومُقنَّنة في مجتمع طغت عليه مقاييس التقويم المادي، ولها يعلن الولاء مسبقًا، من جهة أخرى.

هذا ما هو مُتحقِّق في العالَم الغربي، ونطمح أن يرقى إليه الحال في العالَم العربي، ليُنظر إلى الأدب بكل جدية، ولينال الأدباء الوضع الاعتباري المُستحَق إبداعيًّا وكرامة. عندئذٍ سنجد المكتبات الوطنية، مثلًا، تفرد جناحًا لحفظ وعرض مخطوطات الكُتاب كتراث ونفائس، أو نجد شُعبًا جامعية تُوصِي الطلبة بإعداد أطاريح في تَقصِّي أثر إنجاز الأعمال الأدبية، وترى دُور نشرٍ، ولا تتردد في طبع مُذكِّرات الأدباء ومراسلاتهم، وحتى مُسوَّداتهم، تحيط بحياتهم من وجوهها المختلفة، في قلبها حِرفتهم ككُتَّاب، وباعتبارها شأنًا جدِّيًّا لا مجرَّد تطريز فقط ﮐ «الرسم بالكلمات»، بعبارة الشاعر الفَذِّ نزار قبَّاني.

هو الشأن الذي حفَّزنا لوضع هذا الكتاب، وإعداد موادِّه، والتماس مصادره في المظانِّ المطلوبة والأنسب. كان قد صادف هوًى في النَّفْس، أولًا، وجاءت الصدفة لتحرض على المُضيِّ فيه ممثَّلةً في صدور كتاب الروائي الأمريكي البارز فليب رُوث Shop Talk «لنتحدث عن العمل» وبترجمته الفرنسية Parlons travail (باريس، غليمار، ٢٠٠٦م)؛ وهو مؤلِّف معروف بعلوِّ كعبه في الرواية والقصة القصيرة والدراسة الأدبية، أيضًا. في هذه الأنواع وَضَع آثارًا اشتهرت كلها، منذ مجموعته القصصية الأولى «وداعًا كلومبوس» (١٩٥٩م) حصلت على الجائزة الوطنية للكتاب، ومرورًا بنصوصه السردية المبرزة «اللطخة»، و«الدابة التي تموت» يمزج فيها بين السرد التَّخْيِيلي والمعالَجة السيرذاتية وأسلوب الاعترافات، من منظور نقد اجتماعي صارم للسلوك النسوي، والوسط اليهودي الأمريكي، من حيث ينحدر. وقد ساعده تكوينه الجامعي تخرجًا من شيكاغو، وتدريسًا بجامعة بنسلفانيا، على الإحاطة بأدب عصره، والبروز بمظهر الروائي المُتتبِّع بنباهة لكتابات زملائه، العارف بأطوارها وخصائصها معرفة نقدية مُحكَمة، تجلَّت في كتابه «الرواية الأمريكية الكبرى» (١٩٧٣م).
يعالج كتاب رُوث «لنتحدث عن العمل» هذا المفهوم من زاويتين: العمل الذي يقابله الأثر، أو الكتاب، work بالإنجليزية، وOuevre بالفرنسية، وبوصفه الفعل الذي يمارسه شخص ما وهو ينجز كتابته لتصبح أخيرًا مضمومة بين دفَّتَي كتاب، كأي عمل آخر. وقد همنا الكتاب – المصنف لانشغاله أساسًا بالفكرة التي عنتنا في البداية، ولاحتوائه على أمثلة مُعتبَرة في تشخيص حالة/حالات الكتابة بما هي عمل يتم وفق برنامج ونظام، وبأدوات وخطط محسوبة، وكما عكف عليها أفراد فهموها ومارسوها كفعل حياتي إبداعي مباشر، أولًا، يلي ذلك الأبعاد الأخرى المُحتمَلة، ذاتية ووجودية. وهذان، في الحقيقة، قُطبان يجعلان التعبير الأدبي، الفن، عمومًا، تمتد جذوره في الأرض قبل أن يرسل أغصانه إلى السماء. ما يُمثِّل، من نحو آخَر، منظورًا واقعيًّا وجماليًّا في آنٍ للكتابة الأدبية يضعها في صميم الحياة. وأمثلة فليب رُوث على درجة من الاستقطاب حدًّا يؤهلها لمرتبة النموذج، وذلك رغم قصدية الاختيار فيها، بل وبسببه، فلا بد لكل كاتب، لكل دارس، من اختيار مُحدَّد، وله أن يَتحمَّل دواعيه ووزره. نعتقد أن نقطة الجاذبية تكمن بعد هذا في امتلاك النماذج، وطريقة عرضها واستنباط قواعد عملها، قوة الحفز على الحوار والمساءلة المنتجة هي الباني الحقيقي للموضوع تراه يَقبَل الاتساع والنمو كلما دخلَت فيه أطراف أخرى، وتعدَّدتْ إلى جانبه النماذج.

لقد تشابكنا مع أفكار ومساءلات رُوث بنظائرها ونقيضها، حتى نتصور قضية كتابه وكتابنا، لنعيد بناء فِعْل عمل الكاتب بمعناه المزدوج. ثم ما لبثنا أن جئنا بأمثلة تزيد في تغوير القضية لتَغتَني بتجارب من هم محترفون، ويعطون للأدب حتى ولو لم يكن مصدر عيشهم، المكانة الجديرة به كعمل كامل، وباعتبارهم، أيضًا، يؤمنون إلى حد الاعتقاد الديني ونفحته الروحية، تقريبًا، بقيمة العمل في حياة الإنسان. إن بريمو ليفي أشد الراسخين في هذه التربة، هاكم عُملته الذهبية: «إن الإنسان مصوغ بيولوجيًّا لكي يتعاطى نشاطًا ينزع نحو هدف، وإن التعطل، أو العمل العبثي، لهو مصدر ألَم وضمور.» أمثلة ثانية تُوسِّع الحقل وتُغذِّيه وتُنوِّعه ليظهر إلى أي حد هو قابِل للتعدد، ولنعلم أن الإبداع الذي هو مضمار تجارِب لا تنقطع ما يَنِي يصنع بدائل في بابه ما دام قائمًا على قاعدة الإنتاج المتجدِّد، والصناعة الواعية بمقاصدها ورؤيتها.

هكذا سوف يلتقي القارئ بكوكبة من كبار الكُتَّاب، في حقل الإبداع الغربي ومن الروائيين على الخصوص. إن الاقتصار على معشر الكتابة السردية مردُّه إلى إمكان تقريب أدوات هؤلاء، ومَناط اشتغالهم من مَدارك القارئ، ولأن الأمثلة حاضرة ودارجة هنا باستمرار، وقد لا تَتطلَّب ذلك القدر من الدِّقَّة الصارمة في إخضاع البحور والتفاعيل، أي موسيقى الشعر، إلى جانب تَشكُّلاته البلاغية، إلى شرح ورَسْم هما من شأن ذوي الاختصاص وحْدَهم. لكن الفيصل عندنا في هذا الحصر عائد إلى ضرورة توحيد المرجع، علمًا بأن الروائي والشاعر يَسبحان معًا في نهر الوجود المتدَفِّق، ويُلزمان نفسيهما بالمُعتقد الصارم هنا وهناك. إن الأخلاق والمبادئ غير قابلة للتجزيء ولا التكييف حسب أنواع القول، كما أن مفهوم العملية الأدبية ومقتضياتها التطبيقية تُعَد مسألة حرفية، أو هكذا ينبغي النظر إليها، بعيدًا عن أي إسقاط عسفي.

هذه الكوكبة يَتقدَّمها الأسماء التالية: بريمو ليفي؛ كليما؛ كونديرا، أولًا، ثم: نايبول؛ ستيفن كينغ لاحقًا. في محيط كل واحد من هؤلاء يتوالد أعلام، وأفذاذ تَعلَّموا منهم أو تأثَّروا بهم، أو حدَث التفاعل الخلَّاق لولادة الأفكار وتناسُج طرائق العمل وتقاطع أحاسيس الذات ورؤى العالم. ولذلك سيجد القارئ نفسه فعلًا في خضم أسماء تتدافع بالمناكب تعابير وآراء ومواقف، لكن تلتقي في وحول المصطلح المشتَرك للعمل بوصفه سيرة الذات العاملة والواعية للكاتب، وهذا هو الأساس. أي إنَّنا إلى جوار السيرة الذاتية المعتادة للشخص، الكاتب هنا، نستخلص ثانيةً توازيها وتدعمها، هي السيرة الأدبية، هي الخليقة الإبداعية المُعوَّل عليها عادة ما يبخل بأسرارها الأدباء؛ لأنها معدنهم الأصيل. وما لنا لا نذهب هنا إلى القول بأن السيرة التي يكتبها الأدباء، أو تُكتب عنهم، طبقات تنهض الواحدة فوق الأخرى لتمنح كلًّا منصهِرًا في وحدة، فما حياة الكاتب وأدبه إلا وجهان لعملة واحدة. أظن أن هذا بعض ما حقَّقه الباحث السيميائي، ودارس السرديات الحديثة البروفيسور جيرار جنيت لدى وضْعِه لكتابه الصادر أخيرًا Bardadrac (باريس، لوسوي، ٢٠٠٦م) حيث انتهج طريقة طريفة اعتمدت اختيار الترتيب الأبجدي، واستحضار محمول الذاكرة إزاء كل كلمة تحيل إليها، والحصيلة غِنًى باهِر في تجربة حياة وثقافة والمِراس الجامعي الطويل لهذا وضَع في الوقت نفسه، على غرار روث، تقريبًا، سيرة لأساتذته ومجايليه محورها ومثلها الأعلى العمل وليس إلا العمل.

٢

في القسم الثاني من هذا الكتاب نَنتقل إلى مرحلة أخرى من عمل الكاتب، ذات مَظهرين، الأخذ والعطاء. فهو بعد أن خاض تجربته الشخصية، وراكَم الخبرة في مَيدانه، أصبح مؤهلًا ومرجعًا، إما بجدارة المنشور من أعماله في جنس أدبي مُعيَّن، أو لوقوع إجماع أهل الحِرفة على إمكان اعتباره حجة في ميدان إبداعه. هذه الصفة تشجع البعض، لمناسبةٍ ما، على البَذْل ورسم علامات طريق خبروا طويلًا صعوبته، ويعرفون أي نَصَب وحيرة تعترض سبيل المبتدئين، يتعثرون في مسلكه، ومنهم من يضيع أبدًا. ترى أصحاب الخبرة، من الرَّاسخين، يتحدثون في هذا الشأن أو ذاك من الأمور والمُعضلات الأدبية، سبق أن واجهتهم أنفسهم، يُبدون فيها الرأي، ويُقدِّمون النُّصح، ابن الخبرة. والنصيحة سَند وزادٌ في الطريق على كل حال، وهي تنفع طالبها، والغافل عنها معًا. وما ينبغي النظر إليها وصاية أو من قبيل التوجيه الأخلاقي الصارم، بات يستهجنه بقوة متأدبة اليوم، حتى وهُم في أشد الحاجة إليه. هي، في الحقيقة، أقرب إلى وجهة النظر، وثمرة تجربة مُفرَدة تتيحها أريحية كاتب، ويمكن أن ترقى، حين تتجرَّد عن صاحبها إلى مَرتبة النقد الأدبي الخالص، بل هي النَّقد عَينُه ما دامت مُحتكَّة بالنصوص، من رحمها تُولَد وعلى ضوئها تُصاغ. ونحن حين نضم النص والرأي النقدي لمؤلِّفه عن جنس عمله نحصل في الحقيقة على ذخيرة ما أشدَّ نفعها لفهم العمل وعمل الكاتب!

لقد سُقْنا في هذا القِسم آراء وملاحظات عدد من الكُتَّاب والشعراء ذوي الباع الطويل في الإبداع الأدبي، وهم من جنسيات غربية وحِقَب وأذواق مختلفة، وتقويماتهم تخص أنواعًا أدبية عديدة، وجوانب مُتباينة تتضافر في تكوين العمل، وإن غلب الجنس السردي على غيره، وسوف يُلاحِظ المَعنيون مُباشرة بالنُّصح والتوجيه أنها لم تترك مَنزعًا أو مأزقًا إلا وأفتَت فيه بشيء، من غير أن يكون هناك عَسف أو عَنَت. ومثلهم الذين قطعوا خطوات في درب التعبير ليسوا في غنًى عن هذه الأقوال، إن لم نقل إنهم أحوج إليها، تختبر لديهم ما أنجزوه، وتطرح على نصوصهم الحاضرة والمستقبلية أسئلة جوهرية، مُساءَلات التكوين الفني، تلك التي يحب الصانع أن يمهر فيها ليأتي مَنتوجه على أجمل وألطف ما يكون إتقانًا. ولنا في كتاب ريلكه الشهير «رسائل إلى شاعر ناشئ» خير مثال في هذا الباب، يجد فيه الكبار زبدة التجربة الشعرية لشاعر عبقري يمكن أن تُقتدى، أما ناشئة الأدب فحدِّث ولا حرج. ومثلها «رسائل يوسا إلى روائي ناشئ»، نظنها تَناوُش الكبار قبل الأغرار، تشريح طولًا وعرضًا لمفاصل السرد التَّخْيِيلي، وقراءة فاحصة في النماذج الروائية المؤسسة مرآة كتابة وطرائق إنجاز ومَزالق. أما هنا فقد اقتصَرْنا على اللُّمَع، واهتدينا بالإشارات المقتضَبة الدالة، تطلبت منا كثيرًا من التَّقصِّي لحصرها، وتقديمها لقمة سائغة لمن يحتاج. والحق أن توجيهات الكتَّاب والنُّقاد المحصورة لدينا، والمُوزَّعة على عناصر الإنشاء اللغوي والبناء الفني بالدرجة الأولى، تليها شذرات عن مسائل موضوعية وخارجية، لتنتمي إلى عديد تيارات أدبية، وتمثل نزوعات مختلفة في فَهْم العملية الإبداعية وتشكيلاتها، وهذا مَصدَر غنًى إضافي لها. وفي الأحوال كلها فالنصائح أو التوجيهات تَصب في القالب المشترَك لما ينبغي أن يكون عليه عمل الكاتب في التطويع لموضوعه، والتجويد لفَنِّه، والفَلَاح في تحقيق مبتغاه بين أقرانه ولذيوع صيته.

٣

فيما يكمل القسم الثالث من كتابنا الغرض المرصود له، والغايات المتوَّخاة منه، فإنه يُمثِّل وجاهة خاصة. نعم إنه يستقي مادته بل يُمحْوِرها حول كتاب يحمل عنوانًا تعليميًّا «مهنة الكاتب»، بمعنى مجموعة ما يحكم الكتابة الأدبية من قواعد وشروط لا غِنى عنها تُوصل صاحبها إلى التحكُّم في عمله واستحقاق القيمة الإبداعية. لكن قيمته تتعدَّى هذ الطرح المباشر؛ نظرًا لأن مؤلِّف الكتاب عضو مؤسِّس في إحدى أهم المدارس الأدبية في القرن العشرين، الرائدة في ميدان وَضْع الأدب في دائرة الخصائص الفنية والجمالية البحت، وإخضاعه لما هو خالص فيه مجرَّدًا عن المعنى، بالأحرى ليست الأغراض والدلالات سؤاله، وإنما أدواته وكيفياتها؛ من ثم سُمِّيَت الحركة التي تزعمها فيكتور كلوفسكي في عشرينيات القرن الماضي ﺑ «المدرسة الشَّكلانية». وقد ضمت ثلاثة أقطاب؛ هم: بوريس إيخنباوم، يوري تنيانوف، هؤلاء الثلاثة الذين اجتمعوا حول ما سماه إيخنباوم ﺑ «الرغبة في خَلْق علم أدبي مستقل، انطلاقًا من الخصائص المفصلية للأدوات الأدبية»، بمعنى الانكباب على النص المحسوس، ومجافاة النقد الانتقائي الجامعي، والنزعة التعميمية للأفكار من كل اتجاه. وأهمية كلوفسكي، فضلًا عن الريادة، مزاوجته بين الإبداع الروائي والتنظير النقدي، واضعًا كليهما في خدمة الثاني، ما أعطى لآرائه أكبر رجحان. وقد وُصِف صاحبنا بأنه من طرف تروتسكي بأنه «مُنظِّر المستقبلية» في الشعر الذي جعل الإيقاع في صلبه، إلى جانب عنايته القصوى بأصناف الكتابات النثرية، من هنا كتابه الحاسم «حول نظرية النثر» (١٩٢٤م).

استنادًا إلى هذه الاعتبارات يظهر كتاب كلوفسكي عن مهنة الكتابة دليلًا دقيقًا في ميدانه، من ناحية، ولا عجب أن يذكرنا — مع الفارق طبعًا — بتلك الشروط المفحمة التي يلزم بها ابن الأثير في كتابه «أدب الكاتب» كل من يريد الإجادة في صناعتَي الشعر والنثر، لعَمْري كم هي مطلوبة أيامنا هذه اختلط فيها حابل الأدب المزعوم بنابله! كما يظهر، من ناحية ثانية، وثيقة في النقد الأدبي إلى جانب النصوص اللاحقة المؤسِّسة للتيارات البنيوية والسيميائية ومثلها. على ضوء هذين المُرتَكزَين يأتي احتكامنا إلى نص كلوفسكي حاسمًا في تكملة صرح هذا الكتاب، ورسم خريطة عمل الكاتب، كيف هو، وينبغي أن يكون، بين حدَّي الخبرة والنُّضج والتماس بدايات الطريق؛ أي بين النبوغ والنشوء في ارتقاء سُلَّم الإبداع الأدبي.

بقيت لنا ملاحظتان في ختام هذا التقديم:
  • الأولى: إن الاطلاع على آراء الكتَّاب حول تنظيم عملهم، واستقصاء نظرهم عن الطرائق والأساليب الفنية، وعن مهارات الأداء، ومجمل ما يصنع عدة الكاتب ويصنع وضعه الأدبي؛ هذا كله لا يغني البتة عن قراءة الأعمال نفسها، ومداومة الاتصال بها، بجعلها وسيلة وغاية معًا. كان النص وسيبقى العمدة، ومحاولة اختصار الطريق إليها بالتعليقات الموضوعة عنه، أو بما يصدر عن أصحابه يُخِل بالتلقي الأدبي السليم، ويوقع في العثرات. أحسب أن كثيرًا مِن فَهْم بعضنا للحداثة الإبداعية إجمالًا ناجم عن اضطراب العلاقة مع أمهات النصوص، وأحيانًا انعدامها، أو قراءتها مبعثرة وخارج سياقها حيث يحضر تاريخ الأفكار، معه التبلور المنهجي والنظري العلمي للمفاهيم. وهو ما سيظهر لنا جليًّا من قراءة فليب رُوث للكُتَّاب المُختارين، الملتصقة بالنصوص، والمُحتكِمة إليها في كل حين. وسائر الكُتَّاب الذين عرضْنَا إليهم، آخرهم كلوفسكي، يضع القراءة الناضجة بالنسبة للناشئة شرطًا أول للأخذ بالزمام.
  • الثانية: خُلُو هذا التأليف من المرجعية العربية؛ إذ خلا إشارات محدودة فجميع الكُتَّاب المُعتمَدين غربيون أولًا وأخيرًا. ليس هذا غفلةً منا ولا تقصيرًا. لقد فكَّرْنا بأنَّ طَرْق موضوع عمل الكاتب من زوايا متعدِّدة، وإبلاغ الرسالة منه على الوجه الملائم يحتاج إلى متن مُنسجِم قَدْر حاجته إلى نَسق موحَّد، فلزم التحرك في مدار الأدب الغربي، خاصة أنه مصدر كثير من أفكارنا وتطبيقنا للإبداع العصري، كما أن تمثيلاته كانت ونراها تبقى النموذج المحتذى والمبجَّل. نضيف إلى هذا افتقار مكتبتنا الأدبية لمصنَّفات تُتابِع مَسالك الكُتَّاب، وتتحدث عن منظوراتهم فيما يُنجِزون. والرائج عندنا ضرب من الحوارات (المقابلات) الصحفية السريعة والعرضية، غالبًا، يُنفِّذها صحفيون مُتعجِّلون من أمرهم، تَتضمَّن إشارات ولفَتات في هذا النطاق وتَفْنى مع نشرها. يقينًا، أيضًا، أن للمحيط الثقافي دوره، وهو ما يمكن أن يصحح وينضج لتنتظم فيه المراتب، ويفرز الصحيح من الزائف، وأن يصبح لفردية الكاتب مكانتها اللائقة بوصفها وضعًا قابلًا للدرس، وإنجازه حرفة جدية وذات مردودية، بلا أي تبخيس.

وعليه، فإننا عاقدون العزم في المستقبل لوضَع كتاب في الموضوع ذاته، نُخصِّصه للكاتب العربي وحده، مع ابتغاء الشمول ما أمكن، ونسعى فيه كذلك إلى استقصاء ما يسهم في إفادة ناشئة الأدب من خبرة السلف، إذا كان للخلف استعداد وصبر ونبذ خفة، كي يعلموا، كما قال كلوفسكي، ويستحضروا في أذهانهم الجهد الجبار لعباقرة الزمن الماضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤