كيف تصبح كاتبًا؟ وما هي أدواتك؟

مما أتذكَّره جيدًا وأنا في سن اليفاعة؛ نزولي إلى الأسواق الشعبية، أتفَقَّد الوجوه، وأبحث عن شيء غير محدَّد. أحيانًا أتوقَّف عند حلقات البيع، وأخرى أمام مُلاسَنات ومُلاكَمات، وأطول وقت وأسْعَدُه كنت أمضيه أمام مفروشات تُطرَح فوقها كُتب من كل نوع، وغالبًا في شئون دينية وعوالم أخروية، من قبيل نعيم الجنة وعذاب النار، وشجون مرَضية يوصَى للتداوي منها بالأعشاب، فضلًا عن قصص الأنبياء، وحكايات الجن والهلاليات، ومثله. على أني أتذكر أن أكثر الكتيِّبات انتشارًا، وقتها، ثلاثة: «قرعة الأنبياء» لقراءة الحظ أو الطالع، والثاني كتاب الرسائل العصرية، والثالث هو الذي زَوَّدني به أبي ذات مساء وهو عائد من قضائه في المحكمة الشرعية، أعني «عظة الناشئين» للشيخ مصطفى الغلاييني.

كان والدي رحمه الله منشغلًا — كسائر الآباء، وكواحد من خاصة القوم الورعين، سَدنة جامعة وجامع القرويين — بأفضل السُّبل لتربية أبنائه ووضعهم على الصراط المستقيم حتى لا تفسدهم مدينة كالدار البيضاء — حيث عِشنا دهرًا — مليئة ﺑ «إلهيات المدنية الغربية» على حَدِّ تعبير شيخنا عبد الله كنون، ومَرْتَع لكل طارئ وهجين، مُفسِد للأصل ومُحَرِّض على «الانحراف» والبعد عن «جادَّة الصواب» هي عند مولاي علي الالتزام بالدراسة، وتنفيذ الشعائر الدينية، والاتصاف بالأخلاق الحسنة. وعدا صفاته التي كانت «سُنَّة» حسنة لنا، فإن كتاب «عظة الناشئين» جاء عنده لينير لنا — نحن أبناءه — مَعالم الطريق فيما لم يتوفَّر هو على الوقت الكافي لشرحه وإظهار مزاياه لذرِّيته.

لكن أبي الذي امتلك خزانة عظيمة من الكتب الفقهية واللغوية والبلاغية والأصولية، لم يفكر عمومًا، في سن يفاعتي ذاك، أن يَهدِيَني إلى سواء السبيل الأدبي، مع أنه كان محبًّا للشعر ويحفظ منه الكثير، ويطرب أيما طرب لكل ما تُغنِّيه منه أم كلثوم، أبلَغُه عنده نهج البردة لأحمد شوقي، ورُباعيات الخيام؛ ولذلك وجدْتُني أمد يدي إلى بسطة السوق، وبعد أن شبعتُ شأن أترابي من أدب المنفلوطي، فأقتني كتاب الرسائل العصرية، وهذا من غير أن يحضر ببالي أني سأراسل أحدًا، أبدًا. أتذكر الآن؛ أي بعد أربعين عامًا ونيف، أنني استلطفتُ تلك الرسائل، لغةً وتعبيرًا وإيجازًا، ولعلها تضمَّنَت نموذجًا أو أكثر للمراسلة الغرامية أو العاطفية، ولعلني، أيضًا، بدأتُ أحس وقتها برعشات غامضة، وأبحث عن طريقة لتسريبها، ودليلٍ يعينني في هذا السبيل، وحسبت أن الكتاب إياه سيهديني إلى سوائه، ثم «سارت بأعناق المطيِّ الأباطح».

أما وقد وصلتُ إلى اللحظة التي لم يعد فيها القلم يستشيرني ليشق طريقه إلى القول فإني أستعيد جيدًا أنني لم أجد آنئذٍ أحدًا — خلا تشجيعات مُدرِّس العربية على التعبير الإنشائي — ليأخذ بيدي على أي نحو، بل إني ما قابلتُ على الأغلب إلا مثبِّطي العزائم، ويعلم الله أني سلكتُ درب الكتابة وحدي غير عابئ لا بهؤلاء ولا بغيرهم، ممتلئًا بالتحدِّي، انطلقتُ وواصلتُ وما أزال، وهذا ما شَجَّعَني دومًا على الصمود في جبهة الجديد والتقدم باستمرار أمامها، ومع كل جيل مِقدام. جيل أحَسَّني، رغم فارق السن الطبيعي، في قلب طموحه، وأرغب في أن أكون أكثر من عطوف عليه أو مُتعاطف مع تجاربه، بل داعمًا له بكل ما يُؤتَى الأديب من قوة.

من هذه القوة أن يطلع غيره على تجربته الخاصة من زوايا الإعداد والمِحَن والتمارين، وكل ما لقيه من عَنَت، أو صادَفه من مفاجآت حتى اشتد عوده، ففي ذلك كبير فائدة لناشئة الأدب، أو المُتطلِّعين إلى فن القول، المهمومين أو المتوهمين بمزاياه وعاقبته. والأدباء في هذا النهج أصناف وأمزجة، فيهم من يشير عليك بكتبه يعتبرها أقرب المسالك إلى فَنِّه ومذهبه، وسواها تكرار، ومنهم من يرى في التنظير والحديث عَفْو الخاطر عمَّا جرى للذات والقلم في أطوار من حياته تكملة لا يستهان بها لمعرفة أحوال النص في الصيغ والدلالة والوجود عامة. وإني أميل إلى الاختيارين معًا، وعلى الرغم من أني قطعت شوطًا من تجربة الكتابة، أو ما يسميه بعضٌ الإبداع، أحسب أن أمامي أشواطًا أهمَّ وأطول عليَّ أن أقطعها لأدَّعي الفتوى في الموضوع، وإزجاء النصح أو رسم الطريق لأي كان. هذا إن كان هناك، حقًّا، من له رأس صغير، حسب التعبير المغربي، مستعد للاستماع والاستفادة من عمل الأسلاف، فكأني بمتأدبة هذه الأيام يولدون شيوخًا وجهابذة، هم في غنًى عن الماضي والحاضر، إلا ما تجود به «قرائحهم»!

لذا، فإني قلت إنه إلى جانِب ما عرَضْناه في القسم الأول من هذا المبحث، فإن التَّعرُّف على عمل الكاتب، وسيرة كتابته لا يكتمل فائدة ومغزى إلا بإضافة ما ارتآه وارتضاه كتَّابٌ مشهود لهم بعُلُو الكعب في فنهم، هو النصح عينه والهداية للساعين إلى الإبداع الحق أو الضالين الطريق إليه. وإذا كان جيلنا وسابقون علينا أجدر منا، قد افْتقَدوا هذه المنارات والإشارات، وتَوكَّلوا على عزائمهم وقرائحهم الأصيلة، فإن أبناء الحاضر يَتوفَّرون على خير الزِّاد في موائد مبسوطة فيها كل ما تشتهي النَّفس، ليس عليهم إلا امتلاك حس التَّذوُّق، وقدرة التناول، ومن ثم الهضم وحُسن الاستساغة. من لذيذ هذه الموائد نختار بعض الأطايب لنخبة روائيين وشعراء، تختص بأربعة عناوين هي من أفضل وأجدى ما يحب ناشئة الكتابة التعرف عليه وقبس ناره، بعضها وجَدْنَا مادته الخام عند مَن فكروا في هذا الباب مثلنا، (انظر مجلة Lire الفرنسية، مايو/أيار، ١٩٩٩م)، وبعضها الآخر التمسناه في مظانِّه، وهي متفرقة ومتنوعة، وبذا نزعم أنها مفيدة لناشئة الأدب ومن لهم فيه أطول الباع. يزيد من أهمية الأقوال والإشارات والإفادات أنها صادرة عن مبدعين من حقب وأجيال ومشارب إبداعية وفكرية، ومواقع جغرافية متعددة ومتباينة؛ لذا فهي ولا شك ستتجاوب مع أكثر من ذوق، وربما لبَّت غير حاجة وطلب ملحاح.
ونحب أن نُنوِّه ونحن في مدخل القسم الجديد بأننا لن نقدِّم أي وصفة أو تمارين تطبيقية عن كيفية/كيفيات الكتابة في أي لون أو جنس من أجناسها، خلا توجيهات عامة، فلذلك كتبٌ متخصصةٌ لمن شاء، مثلها نشرات كدليل السياحة في البلدان أو طريقة تَسلُّق جبال الهملايا، قد تنفع من هو مؤهَّل سلفًا، وقد لا تضر إن لم تنفع. على أن هناك ضربًا من التصانيف من طراز مختلف، نحن نقول هي أقرب إلى النقد الأدبي، وضعها أصحابها للنظر في قضايا أدبية مُحدَّدة، ولإبداء ملاحظات حول الفنون الأدبية من خلال الاستشهاد بنصوص كبار الأعلام. وإن بين أيدينا ما نعتبره أهمَّها صدر في وقت مبكر من القرن الماضي (١٩٢٧م) كتاب الدارس الروسي فيكتور كلوفسكي (V. Chklovski ١٨٩٣–١٩٨٤م) «تقنية حرفة الكاتب» وهو العنوان الذي صدر به أخيرًا بالفرنسية: Technique du métier d’écrivain عن L’esprit des peninsules, Paris, 2006 . يتضمن الكتاب جملة فصول تتناول قضايا: النثر الأدبي؛ كيفية عرض الموضوع؛ حول الشعر … إلخ. سعى كلوفسكي من خلالها إلى بَسْط مزيد من آرائه النظرية المعروضة أولًا في سياق مدرسة الشَّكلانيين الروس، دعاة بويطيقا الأدب أو نظريته الجديدة، كما عرَّف بها وترجم نصوصها إلى الفرنسية الناقد البلغاري الأصل تزفتان تودوروف T. Todorov في كتابه الشهير: «نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس، لوسوي، باريس، ١٩٦٦م». وعمله إذ يضع النص المدروس على محك النقد، فإنه يكشف من خلال النصوص، أغلبها سردي لتشيكوف، تولستوي، دستويفسكي، عن خصائص العمل الفني وكيف يُنجِز الكُتَّاب أعمالهم، وهو طراز طريف من النَّقد والتلقين، وإن تطلب عدَّة تتجاوز الناشئة.

كيفما كان نوع الكتب الموجهة، وقبل الانتقال إلى العيان والبيان لا بد من إعادة التذكير بأن النصائح وحدها، لتأخذ أي شكل ومضمون، لن تصنع من أحد كاتبًا، فما حك جلدك أبدًا مثل ظفرك، والموهبة أصل، كالوحي عند الأنبياء، ومعها الإخلاص للرسالة الذي هو عند الكاتب شحذ موهبته بكل ما يبلغ بها الأرب وحتى الأوج، ومنه أساسًا، كما نوَّه الكُتَّاب الذين تعاملنا معهم، العمل، العمل، وليس إلا العمل. والآن لنبدأ بعرض المَحاور بالتتابع، أولها:

كيف نعمل؟

يُعنى هذا السؤال بالمظهر الشكلي قبل غيره للشخص، للكاتب، مما يمكن أن يعده بعضٌ نافلًا وهو مهم في حد ذاته كشرط، أسلوب حياة. ستيفن كينغ (S. King)، مثلًا، يُحدِّثنا أن أفضل طريقة عنده للانكباب على الكتابة هي: (١) الوجود في غرفة مكتب. (٢) إغلاق الباب بإحكام. (٣) إسدال الستائر. (٤) الانقطاع عن الهاتف. وعن وقت العمل يصرح أنه يعمل الصَّبيحة إلى حدود الثانية ظهرًا، ينصرف بعدها لشئون الحياة الأخرى، عائلية وشخصية. عن الوقت، إليكم شهادة روائي بيرو الشهير ماريو فارغاس ليوسا (V. Liosa١٨٩٩–١٩٦١م) «إنني أعمل دائمًا في الصباح، وفي أول النهار تراني أكتب بيدي، إنه أفضل وقت إبداعًا، بما لا يزيد عن ساعتين، أعود إثرهما إلى رَقْن ما كتبتُ على الآلة الكاتبة عامدًا إلى تعديل نِسبي للنص، وهو ما يُمثِّل إلى حد التصحيح الأول. غير أنني أترك دائمًا بضعة أسطر بدون رقن، بما يجعلني في الغداة أبدأ يومي برقن نهاية النص المخطوط البارحة، وهذا بغية خلق حيوية ما، كرياضة. على أنَّ أصعب شيء هو البداية. ففي الصباح نستأنف اللقاء، فإذا القلق يَتلبَّسنا. لكن، إذا كانت لدينا حركات آلية ننجزها، فالعمل ينطلق وحْدَه. وأخيرًا، فإنني ألتزم بقاعدة عمل منضبطة: كل صباح، وإلى الثانية ظهرًا، أحبس نفسي في مكتبي» (عن الحياة والسياسة، بلفون، باريس، ١٩٨٩م).
يقدم لنا أرنست همنغوي (Hemingway ١٨٩٩–١٩٦١م) وصفة خاصة عن طريقته في استئناف كتابة نص، عمل ما، وهي ذات طبيعة شَكلية وفَنِّية، أيضًا، مكملة للسابقة وتُنير وجهًا آخر، يعضل على المُعلِّمين، فكيف بالمبتدئين؟ «أعمل دائمًا إلى أن أنتهي من مَقطع، ولا أتوقَّف إلا عندما أعثر على التَّتِمة. هكذا أُصبح موقنًا أني سأواصل في اليوم التالي. لكنني، أحيانًا، عندما أبدأ قصة جديدة، ولا أستطيع الدفع بها، أجلس أمام نار مشعلة وأعصر عليها قشرة برتقالات صغيرة وأنا أتأمَّل الفرقعات الزرقاء منها. أو أني أغتسل وأنظر إلى أسقف باريس مفكرًا: «لا بأس عليك، لقد كتبت حتى الآن، وستستمر. والمطلوب هو كتابة جملة واحدة حقيقية؛ اكتب الجملة الأحق التي تعرف». هكذا أكتب الجملة الحقيقية التي أعرف، وأواصل انطلاقًا من هنا. ولقد كان هذا سهلًا، ثمة دائمًا شأن حقيقي قرأتُه، أو سمعته، أو عرفته» (باريس، عيد دائم، غليمار، ١٩٦٤م).
قريب من هذه الصعوبة ما يُسمَّى بالوقوع في حالة عطَب مثل أي سيارة تقع في العطَب، تصطدم بالصعوبة، تعجز عن تَسطير ما ينبغي بعد جملة، فقرة، تشير علينا الروائية الأمريكية باتريسيا هايشميت (Highsmith) (١٩٢١–١٩٩٥م)، صاحبة الروايات المشتهرة بنزوعها التشويقي، ذي النزعة الهتشكوكية، في أحد الكُتب المعيَّنة لفن تعلُّم الكتابة، مصنفها المعنون: L’art du suspense تستعرض فيه طريقتها في القص وتقنيتها؛ تقول: «يمكن للمشاكل أن تبدأ في كل مكان، منذ الصفحة الأولى، إما لا يعجبنا الأسلوب، أو لا نقتنع بها. وهي تجر أخرى أكبر نسبيًّا عند كونها من طبيعة مختلفة. يمكن حل المشاكل الصغيرة، كجملة عادية، في دقيقتين، بإعادة كتابة الجملة، لكن ثمة الأصعب، ما يحبسك في أوضاع مستغلقة. هذه تأتي في القسم الثاني من الكتاب، وقد توقفك أيامًا، وربما أسابيع. معها تحس أنك وقعت في مصيدة، صرت مكتوف اليدين، والفكر جامد، ويخيل إليك أن شخصياتك غَدَت مشلولة، وأن القصة تموت قبل أن تكتمل. لعل العلاج يكمن في العودة إلى الفكرة الأصلية، ما كان في رأسك قبل أن تشرع في الكتابة. اطرح على نفسك السؤال: ماذا بودِّي أن يقع؟ (…)، عُد إلى ما أردْتَ أن تحدث من أثر. سترى أن الحل أو طريقة تعديل الحبكة ستأتي ربما في آن واحد» (فن التشويق، L’art du suspense، باريس، كالمان-ليفي، ١٩٨٧م).
ثمة مَظهر قد لا يبالي به كثير باعتباره، على وجه تقدير عابر، مجرَّد مَظهر خارجي لا صلة له بما يُبدعه الكاتب، الكلمات والحبكات وهي تتناسل على الورق، نعني اللباس، الهندام ضبطًا أوان الشغل، الكتابة، لكن الذين يحبون أن يَبْرُوا الأقلام ويُهيِّئوا التبوغ والغلايين (عبد الرحمن منيف، كما عرفته بين بغداد وباريس) أو يقتنوا نوعًا مميزًا من الورق والدفاتر، هم أنفسهم؛ مثل جوليان غرين، الفرنسي الأمريكي (Julien Green ١٩٠٠–١٩٩٨م) لا يجلس إلى مكتبه صباحًا إلا وهو في كامل قيافته، أو كأنه ذاهب إلى الأوبرا؛ أي بفخامة. وقد أُتيح لي مجالسته في بيته الباريسي فذُهِلتُ لهندامه كأنه لورد، ولمحيط الأبهة الذي يكتب فيه، وسواي كانوا يُلاحظون حرصه على أن يظهر كاملًا مثل الإبداع الذي يطمح إليه، وجعل الأكاديمية الفرنسية تتبناه عضوًا فيها سنة ١٩٧١م ليخلف مقعد فرانسوا مورياك. خلافًا لهذه الأناقة، المفرطة ربما، يفضل كبير رواية أمريكا اللاتينية غارسيا ماركيز (١٩٢٨–…) ارتداء لباس العمال، الميكانيكيين خاصة، المُكوَّن من قطعة واحدة (Salopette) يراه عمليًّا جدًّا، تُدخِل فيه جسدك، وتَجذِب سحَّابًا، وتفضَّل … أما الروائي الفرنسي إيف نافار (Yves Navarre ١٩٤٠–١٩٩٤م) فقد أجاب الفضوليين من هذه الناحية بأنه يكتب مرتديًا مَنامته، أو بالأحرى ثوبًا فضفاضًا كلباس الصبية، أو هندام طيار، ويحب أن يضع على قدميه جوارب صوفية فضفاضة، ومن القطن الكندي، طبعًا لمن شاء أن يسأل: ما علاقة هذا بالكتابة؟ لا جواب أو كل شيء، إنها مسألة مزاج، وله مزاجه!
آه، وماذا عن الملحوظات الواردة على الذهن أو التي يصادفها الكاتب؟ يحث فرانسيس سكوت فيتجرالد (F. S. Fitzgerald ١٨٩٦–١٩٤٠م) على تدوين كل ما يخطر ببالك، أو يعنيك في مُفكِّرة تخصه، دوَّنه في لحظته وأنت تفكر فيه، فلا يُوجد ما يضمن أنك ستمتلك الحماس ذاته في مرة ثانية.

تقنية وطرائق الكتابة (في الرواية)

هل لأي عابر سبيل أن يُقرِّر متى سيصبح كاتبًا، وبأية طريقة سيفعل؟ وهل بوُسْع من شاء، على وجه التحديد، في الرواية — لأننا لا بد أن نتحدث انطلاقًا من جنس أدبي محدَّد — أن يصبح روائيًّا، كمن يُخَربِشون في هذا الزمن بعض الكلمات فيُعلِنون أنفسهم شعراء نهارًا، جهارًا؟ ما زِلْنا في العالم العربي، أو أكثرنا، نتعامل مع الكتابة، الأدبية والفكرية الخلاقة، بوصفها هواية؛ أي الفائض عن العمل الأساس، حرفة الشخص، والسبب أن لا كاتب تقريبًا، أو نادرًا، يعيش من قَلَمه لأسباب ليس هنا محل التطرق لها. إنما هل ثمة ما يمنع من التعاطي مع فِعل الكتابة بطريقة حرفية؛ أي جدية، حسب مُستلزَمات كل حرفة؟ ومع الرواية خاصة، أيُّ عدَّة ينبغي التسلح؟ ليس أفضل من الروائي الفرنسي برنار كلافل (Bernard Clavel ١٩٢٣م–…)، عضو أكاديمية الغونكور، للرد على هذه الأسئلة بما أوتي من تَعدُّد مهن وتجارب، أولها عمله كحلواني قبل أن ينسج خمسين رواية أشهرها «فواكه الشتاء» (١٩٦٨م الحائزة على الغونكور)، يقول لا فضَّ فوه: «أن تكون روائيًّا، ليس أن تعرف كيف تكتب وحسب؛ فالموهبة يمكن أن تُطَرَّقَ بقوة العمل. ولكن ماذا ستُطرِّق إن لم يكن لديك حديد؟ بوسعك دائمًا أن تضرب السندان، ستصدر موسيقى لطيفة، لكن لن تعطي أبدًا قطعة محدَّدة. اعلم أنه لكي تصبح روائيًّا فإنك تحتاج إلى مواضيع، إلى حكايات تَقصُّها، إلى شخصيات تجعلها تعيش، وبكلمة ينبغي أن تحمل عالَمًا بأكمله. لذا، فإن ما يحزنني خاصة، هي الخفة التي يدعي بها مَن شاء كل صباح أنه سينقلب روائيًّا بين عشية وضحاها. (…) إذ الفرق بين هذه الحرفة وغيرها أنه لا مناص لك من تَعلُّمها بمفردك» (من أنت؟ س J’ai lu، ١٩٨٥م).

ثمة شاغل أو حيرة تنتاب كل من يقف عند عتبة الكتابة، ويريد تشييد بناء في مضمارها الواسع، مناطه الموضوع تارة، والفكرة تارة أخرى. هل يكتب الكاتب انطلاقًا منهما، من أجلهما، أم من مصدر آخر غيرهما، وكيف؟ لنقتصر على مسألة الفكرة، باعتبارها المنطلق الأول للنص، كما يحب البعض، لجميع الأجناس الأدبية لا الرواية وحدها. ترى «هايشمت» أن بعض الكُتَّاب يستلهمون التيمات الكبرى «زولا، هوغو»، وآخرون من تفاصيل الحياة اليومية «موبسان». أما أنا فمنهما معًا، التفصيل يأخذني غالبًا إلى القصة القصيرة، والتيمة أو الفكرة «المجردة» إلى الرواية «م. س». وللشاعر النمساوي ماريا راينر ريلكه (١٨٧٥–١٩٢٦م) رأي على النقيض تمامًا، نسمعه يتضرع إلى الناشئة راجيًا منهم على الخصوص في شخص مراسله الباحث عن النُّصح: «تَجنَّب المواضيع الكبيرة لصالح ما تقدمه الحياة اليومية. قُلْ أحزانك ورغباتك، أَفصِح عن الأفكار التي ترِد على خاطرك، عن إيمانك، في جمال. قل هذا كله بصراحة حميمة، هادئة ومفعمة. واستعمل للتعبير الأشياء التي تحيط بك، والصور التي تتخايل، والمواد المشكَّلة من ذكرياتك. وإذا تبيَّن لك أن يومك فقير، فلا تتهمه. اتَّهِم نفسك بأنك لستَ بعدُ شاعرًا لتستدعي إليك ثراء اليوم. لا شيء فقير أمام المبدِع، كما ليس ثمة أماكن فقيرة لا دلالة لها. فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالَم، أفلا تبقى لك طفولتك، هذه الثمينة، هذا الغنى الملكي. هذا الكنز من الذكريات؟ (…) آوِ إلى نفسك، وارصد أعماقك حيث تجد نبعها، هنا ستعثر على جواب للسؤال: هل عليَّ أن أبدع؟» (ريلكه؛ يوسا، رسائل إلى شاعر ناشئ، إلى روائي ناشئ، ترجمة أحمد المديني، عمان، دار أزمنة، ٢٠٠٥م، ص١٦).

إنما الرواية خاصة، كيف تتولَّد فكرتها؟ يجيب الروائي والقاص الفرنسي Jean Echenoz (١٩٤٧م–…) أنها عنده: «تبدأ عمومًا من مشهد. هناك مشهد في ذهني، أو دوَّنته، لكن دائمًا قبل وقت؛ أي سنوات سابقة على البدء في الكتاب، وهو ما يصلح رحِمًا للرواية. ولا علاقة للمشهد بما ستصبح عليه، إنها عسفية جدًّا، لكنها نقطة انطلاق. وفي نهاية المطاف لن نجده في الكتاب، أو لن نتعرَّف عليه: لن يكون لا المكان نفسه، ولا الحقبة ذاتها، ولا الأشخاص عينهم، وما سيحدث شيء مغاير تمامًا. إنما هذا المشهد هو قدح الزناد، به ننطلق. أضِف إلى هذا أمورًا أخرى تتراكَم، بمثابة أفكار لشخصيات ونُتفٍ من حِوار. وحين يتهيأ لي أن لدي ما يكفي من المَعالم، وأن الأشياء بِصدَد التنظيم، عندئذٍ يبدأ الكتاب. أما الجملة الأولى فلا أهتم بها إلا وأنا سأبدأ، وهي، في الأخير، تفرض نفسها عليَّ بشكل أو بآخر» (كيف يكتبون؟ مزارين، ١٩٨٦م).

صنعة الروائي وخفاياه

تُحِيلُنا الفقرة السابقة على بعض ما يُعتَبر من أسرار الصنعة وخفاياها، تتراوح أهميتها وقيمتها من روائي لآخَر. منها البداية دائمًا، كيف ينطلق العمل دائمًا، ويتبلور، ومن المفيد أن نستمع إلى ذوي المِراس الشديد في هذا الفن الوَعر، ومنهم عملاق روائي لا يقل جدارة عن ماركيز إن لم يَبزَّه، ماريو فارغاس ليوسا (١٩٣٦م–…). لعل روائي بيرو الشهير أحد القلائل الذين دَوَّنوا وثيقة نَقدِيَّة في أصول كتابة الرواية، ومفاصلها الأساس، لا غنى لكل من يسير على هذا الدرب من الاطلاع عليها. والحق أنها تحفل بثقافة موسوعية في بابها امتزجَت بجماع تجربة صاحبها، وجاءت على صورة رسائل إلى روائي ناشئ، نظير ريلكه مع شاعره المرسل إليه، الشاب المجند كابُّوس (انظر: م. س). وفي مدونة ثانية يعلمنا يوسا فن البداية، كيف تبدأ في كتابة رواية، بصفة خاصة.

«هناك قبل كل شيء حالة حلم، نوع من الاجترار حول شخصية، وضعية، شيء ما يحدث في الذهن وحده. بعد ذلك أشرع في تدوين ملحوظات. أعدُّ جذاذات، خُلاصات لحلقات سردية: شخصية تدخل إلى هذا المشهد، تخرج هنا، تفعل هذا أو ذاك، بعدئذٍ أُطوِّر هذه الحلقات. وحين أستعد للعمل في الكتاب بالذات فإنني أرسم أولًا خطاطة عامة للقصة لا أفي بها على الإطلاق، أظل أعدِّلها وإن صلحت لانطلاق العمل. ثم أشرع في الصياغة، وبسرعة، دون أي وقفة، دونما اهتمام بالأسلوب، حتى ولو قصصتُ الشيء مرات، واختلقتُ أوضاعًا متناقضة … إن هذه المواد الخام تخدمني، تطمئنني، وهذا القسم من الشغل هو الذي يتعبني أكثر. حين أصل إلى هذه المرحلة أسير وأنا نَهْبٌ لقلق مريع، متشككًا دومًا في النتيجة. وحين تنتهي هذه المُسوَّدة — ما يأخذ أحيانًا وقتا طويلًا، روايتي «حرب نهاية العالم» مثلًا استغرقت عامين — يتغير كل شيء. وقتها أتيَقَّن أن القصة أصبحت هنا، مبثوثة فيما أسميه مصهري» (يوسا، عن الحياة والسياسة، باريس، بلفون، ١٩٨٩م).

واضحٌ هنا أن عملية الكتابة لا تأتي كما لا تتم دفعة واحدة؛ أي إنها تمر بمراحل، إحداها الأهم هي البلورة القرينة بتطوير ما أنت بصدده، قصة أو قصيدة أو لوحة؛ أي عملًا فنيًّا بالكامل. عند الشاعر الحداثي الفرنسي ماكس جاكوب (Max Jacob ١٨٧٦–١٩٤٤م) أن تُطوِّر معناه أن تفهم، أن تُحلِّل فكرك الشخصي. الفن كله قائم في هذه الكلمة. فالسمفونية الخامسة بمثابة تطوير لغناء طائر الوقواق. واللوحة التشكيلية هي رسم مُطوَّر. والنبتة تطوير للبذرة، والكتاب للفصول، وفكرة صغيرة محفورة جيدًا تُعطي أربعمائة صفحة في عمل كلاسيكي حسن التركيب. «(م. جاكوب، رسائل إلى شاعر ناشئ، غليمار، ١٩٧٢م).
يتفق حمَلَة القلم جميعًا على أن حِرفتهم تعتمد أساسًا على اللغة، تنهض بالكلمات، فلا داعي للإسهاب فيما حوله إجماع، إنما لا بأس من التساؤل عن كيفية استعمال هذه الأداة القطب المسماة: كلمة. يرى برنار كلافيل (Bernard Clavel) إن الكلمات موجودة لتعطي لمشاعرنا فرصة ردم الهوة التي تفصلنا عن الجمهور. هذا إن استطعنا تَجنُّب ما تنصبه لنا من أفخاخ، واعتبارها لا كخادمة بطاعة عمياء، ولكن بوصفها دائمة التَّمرُّد (…) فاختيار كلمة هو قبل كل شيء بذل كل الجهد لقطف الأفضل، أحسن ما يناسب ما نريد التعبير عنه. وكذلك حين تتاح أمامنا الكثير منها تتنافس على دور واحد، هنا تكمن، ربما، إحدى أكبر صعوبات هذه المهنة. ولقد عرفت منذ وقت بعيد أن الحب الحقيقي للكلمات ذاك الذي يأخذ أَيْسَر السبل، أما الأبحاث المُغوِّرة، والرغبة في الإتيان دومًا بالأصيل، فهي تُجهِز على الإيقاع والحياة» (من أنت؟ م. س).

من ضربه طريقة استعمال الكلمات حسب الهيئة التي تظهر بها، أو ما يميزه ماكس جاكوب في ضرورة التفريق بين المُجرَّد والمحسوس، حاثًّا على الثاني، مبرزًا رجحانه بحرارة: «عليكم بالمحسوس! تَذكَّروا الكلمة جيدًا. المجرَّد سيئ ومُمِل. ليكن لكم أسلوب محسوس مَناطه الأشياء والموجودات والناس. إن خالِق المَلَاك هو خالق الدَّابَّة، يقول باسكال، أجل عليكم بالحسيِّ!» (نصائح، م. س).

ثم ماذا نفعل بالكلمات أيضًا؟ كثير. بها يتم تشييد البناء لا اللغوي وحسب، لكن معمار العمل، شَكْل المادة، وتجسيد الإحساس. الكلمات تصنع النظام حين تقع في يد الصانع الماهر، وإلا فإن أسهل شيء هو تقديم الفوضى. الصعب عند شارل جوليى (Charles Juliet) الشاعر والمسرحي الفرنسي (١٩٣٤–…) هو محاولة إدخال النظام إلى الفوضى الداخلية، في فوضى الأحاسيس والانطباعات «أن تكتب معناه أنك تصنع الموسيقى بالكلمات؛ إذْ لا بد من التوفُّر على صرامة الشكل هاته. أن تكتب يتطلب الإجابة على عدة إلزامات تخص بنية الجملة، إيقاعها، وترابطاتها … هو أن تسمع الصوت الداخلي، وتخضع للإيقاع. الكتابة عندي هي أن تعثر دائمًا على إيقاع القول. إنه جوهري» (دروبي، باريس، أرليا، ١٩٩٥م).
غني عن القول، بعد هذا أن الكتابة، كأي عمل جدي واحترافي آخَر، تحتاج إلى خطة لها، إلى تصميم. ليست الكتابة، الإبداع الأدبي، وضع الرواية، بكل ما قد يدخل فيها من استيهامات وجو تخييل، وحتى وهي مسبوقة باستيحاءات متموجة، ليست ولن تنتظم بدون خُطَّة مُحدَّدة ومُحكَمة. لنفهم هذه الضرورة سنتعرف على رأي واحد من أخطر روائِيِّي القرن العشرين عنايةً وإيمانًا بالتصاميم المُحكَمة، الفرنسي أحد أعمدة ما سمِّي في الستينيات الماضية ﺑ «الرواية الجديدة» ميشيل بوتور (Michel Butor ١٩٢٦–…): «أعرف أين أذهب، وإن جهلت كيف سأذهب! هنا يتدخل الخيال، أو الصدفة، أو الهوى. ليس باستطاعتي أن أكتب أي عمل تخييل إلا بعد أن أدرس ترابطه طيلة شهور. في البداية، هناك دائمًا منطقة غموض تحتاج إلى إضاءة، ومجاهل لتخترق. ومن أجل أن أرى بشكل أوضح فإنني أراكِم، أولًا، كل الخطط الممكنة. عقب ذلك أقتحم عملي، وبعد مراجعات متتالية؛ لأن خُططي ما تنفك تَتطوَّر تدريجيًّا، وعلى ضوء كشوفاتي، فإن الشَّكل يَتغيَّر في وقت واحد مع التنظيم، وأي تعديل في تفصيل سيلحق تغييرات في المجموع. نتيجة لهذا فأنا لا أعرف على وجه التحديد ما يحدث في كتاب، ولا أستطيع تلخيصه إلا وقد اكتمل. ويكمل الكتاب حين يستقر. حين يظهر لي إثر قراءات وقراءات، أن لا مجال بعدُ لإدخال أي تغيير؛ أي تعديل. أن النص أصبح أملس، لا يتبرعم قط» (Curriculum vitae، باريس، بلون، ١٩٩٦م).

حالات وعوارض أمام الكتَّاب

ما سجَّلْناه أعلاه غَيْض من فَيْض ما يحتاج كل كاتب ناشئ، في النثر والشعر معًا، أن يتعرف عليه ويهتدي به في الطريق الوَعر لشحذ الموهبة والوصول إلى صنع العمل الفني المأمول. ثمة كثير غير تلك التوجيهات والعلامات، هي ما نحب أن نضعه في إطار الإشارات العامة، وهي لطيفة وطريفة، ومتفاوتة الأهمية، حسب تجربة كل كاتب، أو ناشئ مُبتلًى.

لنبدأ بما يرغب فيه الجميع، أولًا النجاح، وهنا لا أدقَّ مما قاله أبو الحداثة الشعرية شارل بودلير (Baudelaire ١٨٢١–١٨٦٧م): «سمعت كتَّابًا شبابًا يتحدثون عن زميل لهم بنبرة ممزوجة بالغيرة: «إنها بداية طيبة، ولقد سعد لذلك!» من غير أن يَعُوا أن كل بداية كانت مسبوقة يومًا، وأنها فعل عشرين بداية أخرى سابقة عليها لم يعرفوها (…) أعتقد أن النجاح بالأحرى، بالنِّسَب الهندسية والحسابية، متوقِّف على قوة الكاتب، ونتيجة نجاحات سابقة، غالبًا ترى بالعين المُجرَّدة. هناك دومًا بروز نجاحات ذرية، أما أجيالٌ معجزة وتلقائية، فأبدًا» (نصائح إلى ناشئة الأدب، لابلياد، م II، ١٩٧٦م). ويرغب الكل، ثانيًا، تقريبًا، أيضًا، في ذيوع الصِّيت وقوة المبيع. هناك من يتساءل كيف نكتب كتابًا واسع الانتشار (best-seller)، وهل لهذا علاقة بالموهبة أم بالسوق، أم بِسِرٍّ؟ بعد أن تُقر باتريسسا اشميت، الآنفة الذِّكر، بأنها لم تُجرِّب هذا النوع تعلن: «إنني أسعى جاهدة في كل مرة إلى وَضْع كتاب يعكف عليه الجمهور من الصفحة الأولى، ويغريه بقلب الصفحة. ربما أصبح هذا الكتاب مشتهرًا، ربما … على كل، لا يوجد أي من التوابل السِّرية، ولا صيغة سحرية هي ضمان النجاح. وعند عديد الكتاب الناشئين أن المؤلِّف الراسخ يتوفَّر على صيغة سحرية للنجاح. بداية أحب أن أُبدِّد هذا الوهم. ثانيًا، إن السِّر الوحيد للروائي يكمن في فرديته، في شخصيته» (م. س).
وما هي الفردية يا تُرى؟ هل لها صلة بالموهبة أم أبعدُ منها؟ تساؤل مصدره الاعتقاد بأن كل ما يأتيه المبدع، شعرًا ونثرًا وتشكيلًا ولحنًا، ينبثق من الموهبة، أولًا وقبل كل شيء. ومعلوم أننا مع صيغة غير قابلة للتحديد، وهي فضفاضة ومَرِنة لتنضوي تحتها تسميات وأحوال وأحاسيس، جميعها لا تخضع لأي مقياس موضوعي ما دامَت مرتبطة إما بتهويمات شخصية أو بتأويلات لما يعتري كل كاتب وجدانيًّا وهو يتأهب للكتابة وخاضع لطقسها، وعمومًا ثمة ما هو غامض، حتى لدى النُّقَّاد أنفسهم حين يقوِّمون شخصًا أو عملًا ما بأن صاحبه ضعيف أو عديم الموهبة أو مفتقر إليها. مستندين إلى نوع من الذائقة المشتركة، تكونت وتنامت بفعل تراكُم أذواق وقراءات وانطباعات وأحكام مُتواترة مَبنِيَّة على مقاييس ذاتية ونقدية متفاوتة، في الأحوال كلها هي بنت زمانها والذَّوق العام المُكرَّس فيه. لا عجب إذا وجَدْنا من يَقلِب ظهر المجنِّ لهذه الصيغ الملتبسة، ويسعى للتحديد بواسطة النقيض، وهكذا لن يقف الناشئ طويلًا أمام باب الوهم ينتظر الذي يأتي ولا يأتي لأنه مدعو لأن يشمر عن ساعد الجد لا أن تتخطفه الجن إلى وادي عبقر ليتلقى الإلهام. على كلٍّ، فإن الروائي الفرنسي الكلاسيكي، والكاتب المحنك جول رونار (Jules Renard ١٨٦٤–١٩١٠م) يؤمن بالعكس تمامًا؛ عنده أن «الموهبة مسألة كمٍّ. الموهبة لا أن تكتب صفحة واحدة، بل ثلاثمائة. لا تُوجَد رواية ليس بوُسْع أي ذكاء عادي أن يتصورها، ولا جملة لطيفة يعجز مبتدئ عن صياغتها. ما يبقى هو حمل القلم، وترتيب الورق، وحصول الصبر لملئها. لنعلم أن الأقوياء لا يَتردَّدون هنا. تراهم يجلسون إلى مناضدهم ويَعرقُون. يذهبون إلى أقصى نقطة. يَستنفِدون الورق والحبر. هذا ما يُميِّز أفراد الموهبة عن الجُبناء الذين لا يَبدءون أبدًا. لا يُوجَد في ميدان الأدب إلا الثيران، والعَباقرة هم السِّمان، الذين يُمضون ثماني عشرة ساعة في عَملِهم بلا كلل، كما أن الَمجد مجهودٌ دائم» (مذكرات ١٨٨٧–١٩١٠م، روبيرفون، ١٩٩٠م). لا شك أن رأي جوليان، هذا، مُستمَد من تجرته الشخصية، وخاصة من الخبرة التي اكتسبها في عضوية جائزة الغونكور للرواية مبكرًا (١٩٠٧م)، ووجاهته كعضو في الأكاديمية الفرنسية، ولأنه بدوره كان «ثورًا» دءوبًا على الإنتاج بما يناهز ثلاثين عملًا روائيًّا ومسرحيًّا، وقد انتزع كل شيء في الحياة بقسوة، وهذا مَردُّ اعتداده بالقوة الشخصية، واستخفافه بأي موهبة غير مدركة، تعيش في دائرة التَّموُّج واللامحسوس، حسب استعدادات الأفراد، والناشئة ذوي الخيال الخصب.

في الأحوال كلها يظل الكاتب، والناشئ على الخصوص، موسوسًا بمدى تَقدُّمه في مسار الكتابة، وأي حظ ناله منتوجه بين أقرانه، وفي بيئته والسوق عامة. قد يشمله إحساس نشوة أو غرور، فهي فَورة الشباب، لكنه في السريرة مضطرم بالرغبة في أن يعرف هل يمشي حقًّا، وإلى أين. عن هذين السؤالين، وأبعد، يجيب ريلكه في الرسائل المشار إليها بنباهته ونُبوغه، وهو ما نَعتبره من أقوى ما يمكن تقديمه بصَدَد توجيه ناشئة الأدب والإبداع عمومًا: «إنك تسألني [الجندي المراسل] ما إن كانت أبياتك جيدة، وتطلب هذا مني أنا، ولقد طلبت هذا من آخَرِين. وإنك أرسلتَ الأبيات نفسها إلى المجلَّات، وقارنتها بأشعار أخرى، واستبدَّ بك الإزعاج لدى تنحية المحررين لمحاولاتك الشعرية. ومن الآن فصاعدًا (وبما أنك سمحتَ لي إسداء النصح لك) أرجوك أن تتخلى عن هذا كله. إن نظرتك مُتَّجِهة إلى الخارج، وهذا ما عليك أن تَتجنَّبه من الآن. فلا أحد يستطيع أن يمنحك العون أو النصح، لا أحد. إنه لا يوجد سوى طريق واحد التمسه بنفسك، ابحث عن الحاجة التي تجعلك تكتب: اختبر إن كانت تدفع جذورها إلى أعماق قلبك، اعترف لنفسك بنفسك: هل ستموت لو مُنِعتَ من الكتابة؟ واطرح على نفسك هذا السؤال بالذات: (…) «هل أنا مُرْغَم حقًّا على أن أكتب؟» واحفر عميقًا في داخلك بحثًا عن الجواب، فإن كان إيجابًا، وإذا استطعت أن تتصدى لسؤال خطير كهذا بعبارة قوية وخطيرة هي: «أَجَل، ينبغي عليَّ.» فابنِ حياتك وفق هذه الضرورة» (م. س).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤