وصيفة الإمبراطورة
إذا كانت الرغبة في قضاء السهرة عند مريضة مسكينة لا ترعبك، ولم يكن لديك ما تفعله خيرًا من ذلك، فإنه سيَفتِنُني يا سيدي الكونت — أو يا أميري — أنْ أستقبلك بين الساعة السابعة والساعة العاشرة.
استقبلته آنا بافلوفنا بالعبارات التالية:
أجابها الأمير غير آبه باستقبالها: رباه، يا للحدة اللاذعة!
كان يعبِّر عن خواطره، ويُفكِّر بتلك الفرنسية التي درج كبارُ رجالات البلاط الروسي على التحدث بها، مُدخِلًا عليها تلك النَّبرةَ المترفعة، والمخارِجَ الرَّخوةَ التي يمتاز بها أولئك الذين أفنوا العمر في المجتمعات الراقية، وكانوا ذوي حظوة في البلاط.
أحنى رأسه المُضمَّخ بالعطور والأدهان على يد آنَّا بافلوفنا وقبَّلها، ثمَّ تهالك بخفَّة على الأريكة.
استطرد يقول بلهجته تلك وبصوت يخفي لامبالاةً أقرب إلى التهكم وراء ستار من التأدب واللطف: طَمْئِني صديقك قبل كل شيء، أخبريني كيف حالك يا صديقتي العزيزة.
فأجابت آنَّا بافلوفنا: كيف يحسن حال المرء … إذا كان يتألم معنويًّا؟ هل يمكن للمرء أنْ يحتفظ بهدوئه في أيامنا هذه إذا كان طيِّبَ القلب؟ أعتقد أنك ستمكث عندي طوال السهرة؟
– وحفلة المفوضية الإنجليزية؟ إننا في يوم الأربعاء، ينبغي أنْ أظهر هناك كذلك، ستأتي ابنتي لتصطحبني.
– كنتُ أعتقد أنَّ حفلة اليوم قد أُجِّلت، أعترف لكَ بأن كل هذه الحفلات والمظاهر المصطنعة أخذت تصبح تافهةً باردة.
أكَّد الأمير، الذي كان كالساعة الدقَّاقة، يبدي آراءً بحكم العادة، كان كثيرًا ما يزعجه شخصيًّا أن يراها تحمل على محمل الجد: لو علموا أنَّ هذه هي رغبتكِ، لأجَّلوها بلا شك.
أجاب الأمير بلهجة باردة متبرمة: ماذا أقول لكِ؟! لقد قرَّروا أنَّ بونابرت قد أحرق سفنه، وأعتقد أننا في سبيل إحراق سفننا كذلك.
كان الأمير بازيل يتكلم دائمًا بتثاقلِ الممثل الذي يؤدي دورًا دقَّقه ومحَّصه مائة مرة من قبل، أمَّا آنَّا بافلوفنا فكانت على العكس؛ شديدةَ الاندفاع والتحمُّس رغم أعوامها الأربعين.
أصبحت حالة التحمس عندها ميزة اجتماعية تُعرف بها، حتى إنها أحيانًا كانت تبدي ذلك الحماس مرغمةً؛ إرضاءً لرغبة معارفها، فكانت الابتسامة الصغيرة التي تشرق أبدًا على محياها — رغم ما بينها وبين تقاطيع وجهها المكدود من بعض التنافر — توحي، شأن الأطفال المدلَّلين، باعتراف صريح بخطئها اللطيف؛ ذلك الخطأ الذي كانت لا تريد ولا تستطيع الرجوعَ عنه، ولا تؤمن بضرورة تقويمه.
– على الفور.
– آه، ستسعدني معرفته!
واستطرد بلهجة رشيقة، وكأنه تذكَّر فجأةً أمرًا جوهريًّا كان الواقع الأقوى لزيارته: وبهذه المناسبة، هل صحيحٌ أنَّ الإمبراطورة الأم تدعم ترشيح البارون فونك للسكرتارية الأولى في فيينا؟ إنَّ هذا البارون سيد مفلس كما يبدو.
كان الأمير بازيل يتطلع إلى هذا المركز لتنصيب ابنه فيه، بينما كان بعضهم يستغل وساطةَ الإمبراطورة ماري فيو دو روفنا لتعيين البارون فيه.
لما نطقت آنَّا بافلوفنا باسم الإمبراطورة، أعرب وجهها فجأةً عن احترام وتبجيل عميقَيْن مخلصَيْن، لا تخالطهما سحابة من الشَّك، وكانت دائمًا تتخذ مثل ذلك الطابع التمجيدي كلما تحدَّثت عن تلك الشخصية السامية التي تحيطها برعايتها وحمايتها.

استطردت وقد أظلمت نظرتها من جديد: لقد تفضَّلت جلالتها وأحاطت البارون بتقديرها البالغ.
لزم الأمير صمتًا خليًّا، فأرادت آنَّا بافلوفنا — بما طُبِعت عليه من إحساس مرهف، وما جُبِلت عليه من طباع السيدة العريقة في شئون البلاط — أنْ تُشعِر الأمير بأنه تجاوز حدود اللباقة في التحدُّث عن شخصٍ تحميه الإمبراطورة، باللهجة والعبارة التي تحدَّث بهما، وتوخَّتْ في الوقت ذاته أنْ تغريه بالفشل الذي مُنِي به، فقالت: ولكن على ذكر أسرتك، هل تعرف أنَّ ابنتك منذ أنْ بلغت سن الرشد وانطلقت في المجتمع، أصبحت مطمعَ الأنظار وقِبلتَها؟ إنهم يجدونها كالنهار المشرق.
انحنى الأمير للتدليل على امتثاله وامتنانه.
وبعد فترة صمت، اقتربت آنَّا بافلوفنا من الأمير وعلى شفتيها ابتسامة أنيسة، وكأنها تَلفتُ انتباهَه إلى أنَّ المواضيعَ السياسيَّةَ والاجتماعيَّةَ أتاحت السَّبيلَ للمُناجَيات الوديَّة الخاصَّة.
أردفت تقول: إنني أحدِّث نفسي غالبًا، بأنَّ الحياة تبدو أحيانًا باغية في تقسيم السعادة.
وأضافت عرضيًّا — بلهجة لا تدع مجالًا للرد — وهي تُقطِّب حاجبَيْها: لِمَ حباك القدَرُ بولدَيْن فاتنين جميلين — باستثناء آناتول، ولدك الأصغر الذي لا يعجبني مطلقًا — ولدَيْن على هذا القسط من اللطف والجمال؟ إنك أقلُّ الناسِ اهتمامًا بهما، حتى إنك لا تستحقهما.
– كُفَّ عن الهزل، إنني أرغب في التحدُّث إليك جديًّا، هل تعرف أنني غير راضية عن صغيرك؟
وعلت وجهَها سحابةٌ من الغم، وأردفت: لقد تحدثوا عنه في حضرة صاحبة الجلالة الإمبراطورة — والحديث بيننا — وقد أشفقوا عليكَ ورثوا لحالكَ.
ولما لم يُحِرِ الأمير جوابًا، حضَّته على الجواب بنظرة من عينيها، فعبس الأمير وقال أخيرًا: ماذا تريدينني أنْ أفعل؟ لقد بذلت كل ما في وسعي كأبٍ لتثقيفهما، إنهما ليسا إلَّا سخيفَيْن أحمقَيْن؛ إنَّ هيبوليت سخيف هادئ على الأقل، أمَّا آناتول، فإنه سخيف طائش عربيد.
وابتسم ابتسامةً أكثر تبرمًا من العادة، بينما ارتسمت على أطراف شفتيه خطوطٌ عميقة، تُنبِئ بغضبةٍ مُرَّة، وأضاف: هذا هو الفارق الوحيد بينهما.
قالت آنَّا بافلوفنا وهي ترفع إليه عينين حالمتين: لِمَ يُنجِب الأشخاص الذين من نوعك أولادًا؟ لو لم تكن أبًا، لَمَا وجدتُ شيئًا آخذُه عليك.
– إنني خادمكِ المخلص، أستطيع أنْ أُصرِّح لكِ وحدكِ بأن أولادي هم قيود وجودي وحياتي، إنهم مصدر عذابي، إني أرى الأمور على هذه الصورة، ماذا تريدين؟
صمت، وأشار بيديه متممًا حديثه، معلنًا استسلامه لمصيره القاسي. فاستغرقت آنَّا بافلوفنا في التفكير: ألم تخطر ببالك فكرة تزويج «أناتولك»، هذا الولد الضال؟ يشاع أنَّ العانسات مهووسات بالزواج. إنني لم أشعر بعدُ بمثل هذا الضَّعْف، لكنني أعرف فتاةً ما، جعل أبوها حياتها جحيمًا، إنها قريبة لنا؛ إحدى أميرات بولكونسكي.
كان جواب الأمير بازيل إشارةً من رأسه، أعرَبَ بها ببداهة الرجل الراقي الخبير عن استيعابه الغاية والعرض، واستتلى مسترسلًا في سياق آرائه الكئيبة قائلًا: أتعرفين أنَّ هذا اﻟ «آناتول» يكلِّفني أربعين ألف روبل كل عام؟
وصمت فترةً ثم عاد يقول: ماذا يحدث إذا استمرَّ الحال خمس سنين على هذا المنوال؟ هذا ما يجنيه المرء عندما يكون أبًا! هل أميرتك شابَّةٌ غنيَّة؟
– إنَّ أباها غنيٌ بقدْرِ ما هو بخيل، إنه يقطن في الريف، إنه ذلك الأمير بولكونسكي العتيد، الذي ترك الخدمةَ منذ عهد الإمبراطور المرحوم، والذي كانوا يلقبونه بملك بروسيا. إنه شديد الذكاء، لكنه شاذٌّ سيئ العِشرة، والصغيرة المسكينة تعيسة تعاسةَ الحجارة، إنَّ لها أخًا تزوَّج مؤخرًا بليزمينن وهو مرافق كوتوزوف، إنني أنتظره هذا المساء.
أمسك الأمير فجأةً بيد مخاطِبته، وأدناها — والله أعلم بالسبب — حتى لامست الأرض وقال: أصغي إليَّ يا عزيزتي آنيت، رتِّبي لي هذه المسألة، فأكون خادمك المطيع إلى الأبد: (أ … ب … د)، كما يكتب إليَّ وكيلي في تقاريره. إنها غنيَّة ومن أسرة جيدة، وهذا كل ما أبغيه.
وانحنى بحركاته الرفيعة الكيِّسة التي يمتاز بها وحده، على يد وصيفة الشرف ليقبِّلها، وراح يهزُّها فترة طويلة، وهو جالس على أريكته يتأملها عن البعد.
قالت آنَّا بافلوفنا ساهمة: انتظر، سأتحدث هذا المساء إلى ليز، زوجة بولكونسكي الشاب، ولعلني أستطيع تسوية هذه القضية. إنني سأقوم بتدريبي الأول كفتاة عانس في إقامة أول زواج لواحد من أعضاء أسرتك.