الفصل الخامس والعشرون

الأمير بولكونسكي

كان الأمير نيكولا آندريئيتش بولكونسكي ينتظر في مقاطعته ليسيا جوري — أي الجبل الأقرع — وصول الأمير الشاب آندره وزوجته من يوم إلى آخر، دون أن يُغفل — مع ذلك — النظام الدقيق الذي يتبعه في بيته الكبير الذي يقطن فيه، كان منذ عهد بول الأول، حيث أُبعد إلى أراضيه، يعيش بصورة مستمرة في الريف مع ابنته ماري والآنسة بوريين، وهي الوصيفة المرافقة للأميرة الشابة، وقد ظل الجنرال الأعلى، الأمير بولكونسكي، ملك بروسيا كما كان يسمِّيه الأشخاص العارفون في الأرياف مُعتكِفًا منذ ذلك الحين، فلما فتح له العهد الجديد طريق العاصمتين، ظل مثابرًا على انزوائه في أملاكه، زاعمًا أن الأشخاص الذين يريدون لقاءه يستطيعون قطع أربعين ميلًا للوصول إليه حيث هو في مقاطعة الجبل الأقرع، أما هو، فلم يكن في حاجة إلى شيء أو إلى أي شخص، كان يصرح أبدًا بأن البطالة والاعتقادات الخرافية كانت المصدر الأوحد لكل الشرور والآثام، وأن الفضيلتين الوحيدتين في العالم هما: الذكاء والعمل، فكان يُشرف بنفسه على تثقيف ابنته، وإنماء تَيْنِك الفضيلتين الأساسيتين في نفسها، لبث يعطيها دروسًا في الجبر والهندسة حتى بلغت سِنَّ العشرين، وجهد دائمًا على ألا يدعها تُمضي فترة واحدة من أوقاتها دون عمل تعمله، وكان بدوره لا يهدأ أبدًا، فكان يكتب مذكراته، ويناقش ويحل مسائل رياضية عالية، ويصنع الأواني الفخارية، ويعمل في بستانه، ويراقب أبنيته الكثيرة لأنه كان بنَّاءً كبيرًا.

ولما كان النظام هو الشرط الجوهري الأول في نشاطه وعمله، فإن وجوده كان منظمًا بدقة، حتى في أدق المراحل واللحظات، فكان بذلك يجلس إلى المائدة في مواعيد ثابتة يراعي فيها ليس الساعة فحسب بل الدقيقة أيضًا، ولم يكن قط قاسيًا، غير أن صلابته الملازمة التي لم تكن تفارقه مطلقًا، كانت توحي إلى من حوله — ابتداءً من ابنته وحتى أتفه الخدم — احترامًا مُفزعًا، ما كان يستطيع فرضَه أشدُّ الناس قسوة ووحشية، وعلى الرغم من أنه كان محرومًا من كل نفوذ جديد، فإن كل حاكم جديد للمقاطعة كان يعتقد عند وصوله أو قبل مغادرته المقاطعة ليحل خلف محله، بضرورة الشخوص إلى منزل الأمير وتقديم تمنياته وواجبات الاحترام إليه، فكان ذلك الموظف الكبير يُضطر إلى الانتظار في قاعة الاستقبال الفسيحة؛ أسوة بالمهندس والبستاني والأميرة ماري نفسها، ريثما تحين الساعة الثابتة لنهوض الأمير من فراشه، وعندئذٍ كان المنتظرون يشعرون، دون استثناء، شعورًا بالاحترام ممزوجًا بإحساس بالرهبة، عندما تُفتح درفتا الباب الضخم المؤدي إلى مكتب الأمير، ليبدو هذا على عتبته بشعره المستعار وقامته الصغيرة، قامة عجوز ذي يدين معروقتين وحاجبين أبيضين كَثَّينِ يحجبان كلما قطَّبهما نظرتَه المشعة ببريق الذكاء والنشاط والشباب.

ذهبت الأميرة ماري، صباح اليوم الذي كان يُنتظر فيه وصول الزوجين الشابين، إلى قاعة الانتظار كالعادة، في الساعة المعينة لتمنيات الصباح، ورسمت كالعادة إشارة الصليب على صدرها، وقرأت دعاءً صامتًا وابتهالًا سريًّا، كانت كل صباح تدخل تلك القاعة، وتبتهل إلى الله أن يؤازرها خلال المقابلة الرهيبة المنتظرة، فكان خادم عجوز ينهض دون ضجة فيستقبلها ويهمس لها قائلًا: تفضلي بالدخول.

ومن وراء الباب، كان دوي عجلة دائرة دورةً رَتيبةً يُسمع بوضوح، جذبت الأميرة بخوف مصراع الباب الذي كان ينفتح دون عناء، وتوقفت على العتبة، فالتفتَ الأمير إليها، لكنه لم يتوقف عن عمله.

كانت غرفة الأمير الشاسعة تزدحم بعدد من الأشياء التي تحمل طابع الاستعمال الدائم، فالطاولة الكبيرة كانت تنوء بالكُتب والمخططات، وخزائنُ الكُتب العالية تعجُّ بمحتوياتها، وفي قفل كل منها مفتاحه الملائم. وعلى نضد مرتفع يصلح للكتابة إذا كان الشخص واقفًا، كان دفتر كبير مفتوحًا، وبجانبه أدوات الكتابة، أما جهاز صنع الأواني الفخارية، فقد كانت الأدوات المختلفة المبعثرة فوق النشارة التي تغطي مساحة حوله، تشهد بنشاطه المستمر المتنوع المضبوط، كانت حركات ساقه على الدولاب، وضغط يده الناحلة الثابتة تشهد بالقوة العظيمة التي يمتاز بها الأمير في كهولته الناعمة، أدار العجلة بقدمه عدة دورات أخرى، ورفع ساقه عن المحرك، ومسح «إزميله» وألقاه في جيب جلدي مُعلَّقٍ إلى الجهاز، ثم اتجه نحو الطاولة، واستدعى ابنته، فقدَّم لها وجنته المتغضنة لتقبِّلها، وعلا صوته الصارم الذي تلطفه نظرة مفعمة بالحنان والعناية، قائلًا أنْ يباركها؛ لأن عادته جرَت على استنكار مثل هذه الطقوس: هل أنتِ على خير حال؟ اجلسي إذن.

دفع بقدمه مقعده الوثير وأخذ دفترًا من دفاتر الهندسة، وكتب بخط يده فيه، ثم تصفحه وهو يشير بظفره المتين إلى المقطع الذي يريد منها دراسته وحفظه: هذا واجبكِ ليوم الغد.

فانحنَت الأميرة على الدفتر، بينما قال العجوز فجأة: انتظري، لدي رسالة لكِ.

وراح يبحث في جيبٍ محدثٍ في الطاولة عن الغلاف المنشود الذي كان يحمل كتابة نسائية.

ألقى الرسالة على الطاولة، فالتقطتها الأميرة بانفعال وضمَّتها إلى صدرها، وقد تضرج وجهها فجأةً.

قال الأمير، وقد افتر ثغره عن ابتسامة باهتة كشفت عن أسنان صفراء متينة: أهي من «هيلوئيزتك»؟

فأجابت الفتاة بابتسامة ونظرة وجلة: نعم، إنها من جولي.

قال الأمير في غير أنس: سأدع رسالتين أخريين تمران، لكنني سأقرأ الثالثة، إنكن تكتبن لبعضكن سخافات، أتوجس منها خيفةً، لذلك سأقرأ الثالثة.

أجابت الأميرة، ووجهها يزداد حمرةً، وهي تمد له يدها بالرسالة: يمكنكَ قراءة هذه يا أبي.

فأجاب الأمير بلهجة حاسمة، وهو يُبعد الرسالة عنه: الثالثة، لقد قلت الثالثة.

ثم اتكأ على الطاولة، وجذب إليه دفتر الهندسة، وشرع يشرح وهو ينحني فوقه، مستندًا بإحدى يديه على مسند المقعد الذي جلست عليه ابنته: انتبهي يا آنسة، انظري إلى هذه المثلثات، إنها متساوية، لذلك اعتبري أن زاوية أ ب ج …

كانت الأميرة، في جلستها تلك، تحسُّ برائحة التبغ تنفذ إلى صدرها، وتشعر بالعفن الحاد الذي ينبعث من أجسام الكهول يختلط بأنفاسها، كانت ماري تختلس بين الحين والحين نظرات فَزِعَةً إلى عينيه الملتمعتين القريبتين من وجهها، لكنها ما كانت تفقه شيئًا؛ لأن الخوف كان يمنعها من فهم شرح أبيها مهما بلغ من وضوح وإسهاب، وسواء أكان الخطأ مصدره الأستاذ أم التلميذ، فإن ذلك المشهد كان يتكرر كل يوم؛ تضطرب عينا الفتاة وتعجز عن رؤية الأحرف والخطوط وسماع البيانات، فلا ترى إلا ذلك الوجه الأعجف الصارم القريب من وجهها، ولا تُحسُّ إلا بأنفاسه، وبتلك الرائحة التي تنبعث منه، ولا تفكر إلا في الفرار بأسرع ما يمكن، واللجوء إلى غرفتها؛ لتدرس أمثولتها بهدوء، وتحلَّ النظرية الهندسية باطمئنان. وكان العجوز يبرم بها وينفد صبره فيُبعد المقعد ويقرِّبه بصخب ويكبت غضبه، لكنه في كل مرة كان ينتهي به الأمر إلى الثورة والانفعال والتأنيب، فيلقي بالدفتر إلى كل الشياطين!

أخطأت ماري في جوابها، فصاح الأمير العجوز وهو يلقي بالدفتر بعيدًا ويستدير بغضب: هل يمكن أنْ تكون فتاةٌ أشد غباءً منكِ!

لكنه نهض بعد ذلك وراح يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، ثم اقترب من ابنته وراح يداعب شعرها ملاطفًا، وأخيرًا عاد إلى مقعده وباشر بشرح نظريته مُجدَّدًا.

وبعد أنْ أخذت التلميذة ملاحظاتٍ على النظرية سجَّلها على الدفتر، تأهبتْ للخروج، فقال الأمير: ينبغي أنْ تكوني دءوبة يا أميرة، إنَّ الرياضيات أهم شيء في الوجود، إنني لن أسمح لكِ أن تكوني سخيفةً كَسَيداتنا النبيلات في هذا العصر، سوف تشعرين بميل إلى العلوم الرياضية بعد قليل من الصبر.

ثم أردف، وهو يُربت على وجنتها: وبذلك فقط تخرج التُّرهات والخرافات من رأسك إلى الأبد.

همَّت الأميرة بالخروج، لكنه استوقفها بإشارة، ووضع على النضد المرتفع كتابًا جديدًا لم تُقطع أوراقه بعد، وقال: وهذا أيضًا واحد من «مفتاح السر» ترسله لك صديقتك هيلوئيز، إنه كتاب يؤيد العقيدة الدينية، إنني لا أتدخل في معتقدات أحد، وقد تصفحته فيمكنك أخْذُه، اذهبي الآن، اذهبي.

وربت على كتفها، وأغلق بنفسه الباب وراءها.

عادت الأميرة ماري إلى غرفتها وعلى وجهها أمارات حزن وشرود ما كانت تفارقه، بل كانت تُضفي على ذلك الوجه المريض محدود الجاذبية والفتنة سِترًا من البشاعة، جلست إلى مكتبها الذي تَراكم فوقه خَليطٌ من الكُتب والدفاتر والمخطوطات يَشهد بأنها على نقيض أبيها؛ لا تحب النظام الذي كان مهووسًا به. وألقت دفتر الهندسة جانبًا، وراحت تفضُّ الرسالة التي بعثت بها صديقة طفولتها المفضلة بصبر نافدٍ؛ لتطَّلع على ما أوردت فيها؛ ولا يفوتنا هنا أن نُنوِّه بأن صديقتها جولي، هي بعينها جولي كاراجين التي مرَّ بنا الدور الذي لعبته في حفلة آل روستوف.

كتبت جولي ما يلي:

عزيزتي الصديقة الممتازة، إنَّ الغياب أمر مخيف مرعب! لقد قلتُ دومًا إن نصف وجودي وسعادتي كامن في شخصك، وإنه على الرغم من المسافة التي تفرِّق بيننا، فإن قلبينا متصلان برباط لا يُفصم عراه، إنَّ قلبي يتمرد على القدر فلا أستطيع — رغم المسرَّاتِ التي تحيط بي والتي تساعدني على الترويح عن نفسي — أن أهزم وأبدد لونًا من الحزن الدفين الذي أحسُّ به قابعًا في أعماق قلبي منذ فراقنا، لِمَ يا تُرى لم نجتمع هذه المرة كما وقع لنا ذلك الصيف في غرفتك الكبرى على الأريكة الزرقاء؛ أريكة الاعترافات؟ لِمَ لا أستطيع منذ ثلاثة شهور أن أحصل على قوًى معنويةٍ جديدة أستمدها من نظرتِك شديدةِ الوداعة شديدةِ الهدوء وشديدةِ التعمق، تلك النظرة التي أحببتها حبًّا جمًّا، والتي يُخيل إليَّ أنها ماثلة أمامي ساعةَ أكتب إليك هذه الرسالة!

لما بلغت الأميرة هذا المقطع، رفعت نظرها إلى مرآةٍ مقامة إلى يمينها في فراغ بين نافذتين، فعكست المرآة صورة هزيلةً محزنةً راحت عيناها المكتئبتان تتأملانها بكثير من الأسى والحزن، قالت في سِرِّها: «إنها تمتدحني»، وأشاحت بوجهها عن المرآة لتتابع القراءة، غير أن جولي ما كانت تُغدق المديح الكاذب على أحد وخصوصًا على صديقتها؛ إذ إن عينَي الأميرة الكبيرتين العميقتين كانتا أحيانًا تشعان بإشعاعات دافئة حامية، تسبغ على وجهها المهزول جاذبية يعجز الجمال عن مثلها، ولما كانت الأميرة ماري تعرف أن تلك النظرة الدافئة الفتانة لا تشع من عينيها إلا في أوقاتٍ تكون فيها أبعد الناس عن التفكير في نفسها؛ لذلك فقد كانت لا ترى تلك البادرة أبدًا ولا تعتقد بوجودها، كانت ككل الناس تقريبًا، إذا وقفت أمام المرآة، اتخذت طابع التَّرقُّبِ اللاإرادي الذي يرتسم عادةً على كل وجه أمام المرآة، فكان ذلك الطابع يشوِّهُ حسنها. تابعت قراءة الرسالة:

إن موسكو كلها لا تتحدث إلا عن الحرب، وإن واحدًا من أخوَيَّ أصبح الآن خارج البلاد، أما الثاني فإنه مع فرقة الحرس التي تتجه نحو الحدود. إن إمبراطورنا العزيز قد ترك بيترسبورج وهو يرمي — على ما نمى إليَّ — إلى تعريض ذاته السَّنيةِ لخطر الحرب، فعسى أن يقدِّر الله أن يُسحق الوحش الكورسيكي الذي أقلق سلام أوروبا ودمَّرَهُ، من قِبل الملَك الذي أرسله الله لنا برحمته ملكًا وإمبراطورًا! إن هذه الحرب قد حَرَمتني علاقات حبيبة إلى قلبي، بصرف النظر عن أخوي اللذين يخوضان غمارها، ذلك أن نيكولا روستوف، الشاب الذي دفعته حماسته إلى الانخراط في الجيش وترك الجامعة، قد ذهب في عِدادِ الذاهبين، ثقي يا عزيزتي ماري أنه على الرغم من سنِّه الفتي الرَّيانِ، فإنني أستطيع أن أصرح لك بأن ذهابه سبَّب لي حزنًا كبيرًا، إن ذلك الشاب — وقد حدثتك عنه في الصيف الماضي — شديد النُّبل؛ نبل يندر أن يلاقي المرءُ مثلَه في هذا العصر؛ حيث نعيش بين شيوخ في العشرين من أعمارهم. إنه طيب القلب جدًّا، صريح إلى أبعد حدود الصراحة، وهو نقي السريرة، شاعري الإحساس، حتى إن علاقاتي معه مهما بلغت من تفاهتها — وكانت علاقات عابرة — كانت أجمل المباهج التي مرت على قلبي المسكين المفعم بالألم.

سأحدثك ذات يوم عن كل ما تحدثنا به عند الوداع، وما دار بيننا خلاله، إنه لا زال حتى الآن عالقًا في ذاكرتي؛ لأنه حدث بالأمس القريب. آه يا صديقتي الحميمة! إنني أغبطك لجهلك المَبَاهج والآلام الممضة التي أتحدث عنها في هذه الرسالة، إنك سعيدة لأن المتأخرات في هذا المضمار هن دائمًا الأكثر سعادة والأشد ساعدًا وقوة! إنني أعرف تمامًا أن الكونت نيكولا صغير جدًّا لا أمل لي في بناء آمالي عليه في شيء أكثر من الصداقة العادية، غير أن تلك الصداقة الهادئة الوادعة، وتلك العلاقات شديدة الطُّهر والشاعرية، كانت كلها من متطلبات قلبي، ولكن لنترك هذا الأمر جانبًا، ولنتحدث في غيره، إن الخبر الأخير الذي يشغل بال أهل موسكو جميعًا وهو موت الكونت بيزوخوف الهرم وإرثه. تصوَّري أنَّ الأميرات الثلاث لم يرثن إلا نزرًا تافهًا، وأن الأمير بازيل حُرِم من كل شيء، وأن السيد بيير قد ورث كل شيء وأصبح — علاوة على ذلك — ابنَ الكونت الشرعيَّ، ومن ثَمَّ الكونت بيزوخوف، مالِك أكبر ثروة في كل روسيا، إنهم يزعمون أن الأمير بازيل لعب دورًا مرذولًا في هذه القضية، وأنه انسحب عائدًا إلى بيترسبورج وهو حائر شديد الخجل.

أصرِّح لكِ بأنني لا أفهم من هذه الأمور شيئًا يُذكر، لكنني أرى وأعرف أنه منذ أن أضحى الشاب الذي كنا نعرفه تحت اسم السيد بيير فقط، كونت بيزوخوف مالك أكبر الثروات الروسية، فإنني أتسلى بالنظر إلى السيدات والأوانس ومراقبة التبديلات والتغيرات في اللهجات وأساليب التحدث التي طرأت على الأمهات اللاتي ينؤن بأعناد بناتهن، البالغات سن الزواج، حيال هذه الشخصية الجديدة الذي ظل يبدو لي رغم ذلك، كما كان من قبل، سيدًا مسكينًا.

ولما كانوا منذ عامين يزعمون دائمًا أنني سأزَوَّجُ لفلان أو فلان من المجهولين مني، فإن آخر إشاعة راجت في موسكو جعلتني الكونتيس بيزوخوف المنتظرة، لكنك تشعرين — ولا شكَّ — بشعوري، وتعرفين أنني لا أفكر قط في مثل هذا المركز. ولما كنا نتحدث عن الزواج فإنني أُعْلمك «أن العمة الجماعية» آنا ميخائيلوفنا أسرَّت إليَّ أخيرًا تقول إنَّ هناك مشروعَ زواج يتعلق بكِ يحاكُ في الخفاء، فهل تعرفين الزوج المنتظر؟ خمني، إنه ليس إلَّا ابن الأمير بازيل، الشاب آناتول الذي يفكر أبوه في إيجاد مركز رفيع له، وإقحامه في صُلب المجتمع، بتزويجه من فتاة غنية راقية ومرموقة، وقد وقع اختيارهم واختيار ذويه عليك، ولستُ أدري كيف تنظرين إلى الأمر، لكنني أظن أن من واجبي — رغم السرية التامة التي أحيطُ المشروعَ بها — أن أبلغك وأنذرك بما يقال وما يشاع عن زوجك المُنتظَر؛ إنهم يقولون إنه جميل جدًّا وشاب رديء جدًّا، هذا كل ما أستطيع قوله وما أعرفه عنه.

ولكن كفانا ثرثرة حتى الآن، لقد ملأتُ الورقة الثانية من رسالتي، وها إن أمي أرسلت في طلبي لأذهب معها عند آل آبراكسين، اقرئي الكتاب الديني الذي يبحث في شئون العبادة والذي أرسلتُه لكِ مع كتابي هذا؛ لأنه شديد الرواج عندنا، وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يحفل ببعض الأمور التي يصعب علينا فهمها بإمكانيتنا الإنسانية المحدودة الضعيفة، فإنه كتاب رائع تسمو النفس عند قراءته. وداعًا. احتراماتي للسيد أبيك وتمنياتي للآنسة بوريين. أقبِّلك كما أُحبك.

ملاحظة: أطلعيني على أخبار أخيك وزوجته الصغيرة الفتانة.

جولي
راحت الأميرة ماري تفكر، وأخيرًا ابتسمت وهي شاردة الذهن، وانبسطت أسارير وجهها الذي أضاءه ذلك الإشعاع المُنبعِث من عينيها، نهضت فجأةً ومَضَتْ إلى مكتبها بخطوات ثقيلة، فأخذت ورقة، وراحت يدها تجري بالقلم عليها جريًا؛ كان الجواب الذي حررته ما يلي:

عزيزتي وصديقتي الممتازة، لقد أحدثتْ رسالتك المؤرخة في ١٣ الجاري سرورًا بالغًا في نفسي، إنكِ إذن لا زلت تحبينني يا جوليتي الشاعرية، والفِراق الذي تتحدثين عن كل مساوئه لم يؤثر في نفسك أثَرَه المباشر الطبيعي؛ لأنك لم تنسَيْني. إنك تشتكين من الفراق، فماذا أقول أنا إذا «جاز لي» أن أشكو، وأنا المحرومة من كل مَن هُم أعزاء على نفسي؟! آه! لو لم يكن لدينا الدين عزاءً، لكانت الحياة شاقة لا تطاق، حزينة كئيبة. لِمَ توقعتِ مني نظرة صارمة عندما حدثتِني عن إعجابك بفتاك الشاب؟ إنني على هذا الأساس، لستُ قوية ولا قاسية إلا على نفسي، إنني أفهم هذه الإحساسات التي تعتلج في نفوس الآخرين، ولما كنتُ لا أستطيع تأييدها، خصوصًا وأنني أشعر بها بنفسي، فإنني لا أحكم عليكم على ضوئها. يبدو لي أن الحبَّ المسيحي فقط، حبَّ المستقبل والآخرة، حبَّ أعدائنا؛ هو الحبُّ الوحيد الأكثر فائدة وجدارة، وهو أجمل حب وأنبل إحساس لا تستطيع العيون الجميلة وأثرها في نفس فتاة شاعرية عاشقة مثلك، أن تُحدث مثلها.

إن موت الكونت بيزوخوف قد بلغنا قبل وصول رسالتك، ولقد حزن أبي حزنًا عميقًا لموته، وقال إنه كان قبل الأخير بين ممثلي القرن المشرق الباهر، وإنه الآن بات يتحين دوره، لكنه سيعمل ما في طاقته لتأخير حلول ذلك الدور ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ليحفظنا الله من ذلك البلاء المريع! إنني لا أشاطرك رأيك حول بيير الذي عرفته طفلًا، لقد كان يبدو لي دائمًا ذا قلب ودود ممتاز، وهذه الصفة هي التي أقدِّرها أكثر من غيرها في نفوس البشر، أما فيما يتعلق بإرثه وبالدور الذي لعبه الأمير بازيل، فإن الأمر ذو عناء ونصَب للاثنين معًا. آه يا صديقتي الحبيبة! إن كلمة مخلِّصنا الإلهي التي تقول «إنَّ دخول جَمَلٍ في سَمِّ الخياط أسهل من دخول غني في ملكوت السماوات»؛ لَرهيبةٌ في حقيقتها وصدقها، وإنني أشفق على الأمير بازيل وآسَفُ من أجل بيير أسفًا أكثر عمقًا. إنه يافع بعد، تبهره مثل هذه الثروة، فكم من مغريات سيتعرض لها بسببها! لو أنهم سألوني عما أفضِّله في هذا العالم على سواه من الأمور، لقلت إنني أرغب أن أكون أشد فقرًا من أفقر المتسولين.

ألف شكر يا صديقتي العزيزة على الكتاب الذي أرسلتِه لي، والذي هو في أوج رواجه عندكم. ولما كنتِ تنوِّهين بأنه يحوي، بين العديد من الأمور الطيبة التي فيه، على شئون لا يستطيع إدراكنا البشري بلوغ مداها، فإنه يبدو لي عبث الاستغراق وضياع الوقت في قراءة يصعب فهمها، يمكن أن تكون نتيجتها عديمة الجدوى. إنني لم أفهم قطُّ سبب الولع الذي يبديه بعض الناس في تشويش مداركهم بالتعلق ببعض الكُتب اللاهوتية التي لا تخلع على نفوسهم إلا أطيافًا من الشكوك والارتياب، فيسمو خيالهم ويعطيهم نفسية متعنتة متطرفة، تتناقض مع البساطة المسيحية، لنقرأِ الأسفارَ والإنجيل وأقوال الرسل، ولْنترك البحث في محاولة التعمُّقِ فيما وراء ذلك من أسرار؛ لأننا لا يجوز لنا — ونحن الخاطئون الحقيرون — أن ندخل أو أن نزعم أننا نستطيع الدخول في الأسرار الرهيبة المقدسة التي اختصت بها القدرة الإلهية، طالما أننا نرفُلُ في ثوبنا الجسدي الذي يرفع بيننا وبين الواحد الأزلي ستارًا لا يُخرق، فلنكرس جهودنا إذن لدراسة المبادئ السامية التي خلَّفها مخلِّصنا الرباني وراءه لتكون سُنتنا على هذه الأرض، ولنسعَ في إجادة القدوة وتأثر خطاه الشريفة، ولنضع نُصْب أعيننا أننا كلما اعتدلنا في إرهاق فكرنا البشري الضعيف، كان ذلك أكثر تقبلًا من الله ورضوانًا منه؛ لأن الله يستبعد كل علم لا يبلغ بالمرء إليه، وإننا كلما حاولنا التعمق في الأمور التي طاب له أن يبعدها عن نطاق معرفتنا، أسرع في تقريبها وكشفها بروحه السامية.

لقد حدثني أبي عن الزوج المنتظر، لكنه لم يُسْهِبْ، بل اكتفى بالقول إنه تلقَّى رسالته وإنه ينتظر الأمير بازيل. أما رأيي في مشروع الزواج الذي يتعلق بي، فإنني أعتقد بأن الزواج سُنة ربانية ينبغي على المرء أن يخضع لها، وإنني واثقة من أن الله القدير، إذا فرض عليَّ واجب الزواج والأمومة، فإنه سيعطيني القوة الكافية لأداء تلك الواجبات بكل ما في طاقتي من إخلاص، دون أن أبالي بالاختبار الذي ستجتازه عواطفي حيال الشخص الذي سيصبح زوجي.

لقد تلقيت رسالة من أخي يُعلمني فيها بأنه سيحضر إلى الجبل الأقرع مع زوجته، لكنها ستكون بهجة قصيرة الأمد؛ لأنه سيغادرنا بعدها ليشترك في الحرب التَّعِسةِ التي اندفعنا فيها، والتي لا يعلم إلا اللهُ كيف ولماذا اشتركنا فيها، والحديث عن الحرب لا يقتصر على وسطكم الحافل بالأعمال والمنتديات، بل إنه تعداه إلينا وسط أعمال الحقول وهدوء الطبيعة، كما يتصور أهلُ المدن حياةَ الأرياف. إن الحديث عن الحرب قد بلغ إلينا وأحدث أثرَه السيئ الأليم، وأبي لا يتحدث إلا عن هجوم وهجوم مضاد، وما إلى ذلك من أمور لا أفقه منها شيئًا! وأمس الأول، بينما كنت أتنزه في شارع القرية كعادتي، وقعت أبصاري على مشهد أليم مروع؛ لقد شهدتُ بأم عيني قافلة من المجندين الذين أُدخلوا في أسلحة الجيش يغادرون القرية إلى مراكزهم التي تنتظرهم، ولو أنكِ شهدتِ مثلي حالة أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم؛ أولئك النساء المُلتاعات اللواتي شهدن ذهاب رجالهن إلى الحرب، وهن ينتحبن ويبكين، لاعتقدتِ معي أن الإنسانية نسيت قوانين مخلِّصها الرباني الذي بشَّر بالمحبة والعفو عن الإساءات؛ تلك الإنسانية التي باتت تتنافس بينها وتتسابق في التقتيل والتدمير.

وداعًا يا صديقتي الطيبة العزيزة، وليحرسْكِ مخلِّصنا الرباني وأمه الشديدة القدسية برعايتهما القوية المقدسة.

ماري

قالت الآنسة بوريين الضاحكة بصوتها الرخيم الألثغ: آه! هل ترسلين رسالة يا أميرة؟ لقد أرسلت بريدي، لقد كتبت إلى أمي المسكينة.

كانت المرافقة، الآنسة بوريين، فتاة لعوبًا تجر في أعقابها عالمًا من المرح والبهجة يبدد الجو الثقيل المشحون بالأسى الذي تعيش الأميرة فيه.

أردفت الآنسة بوريين، وهي تخفض صوتها: ينبغي أن أخطرك يا أميرة أن الأمير تعرَّض اليوم لنقاش حادٍّ مع ميشيل إيفانوف، وهو الآن متعكر المزاج شديد التضجر والتبرم، وقد رأيت أن من واجبي أن أخطرك بالأمر.

كانت الآنسة بوريين تجد لذة فائقة في التحدث عن مزاج الأمير، حتى إنها عندما كانت تروي للأميرة ماري موضوع النقاش، كان صوتها الرخيم العذب ينطق بالسرور الفائق، غير أن الأميرة لم تكن من رأيها؛ إذ قالت تجيبها: آه يا صديقتي العزيزة! لقد رجوتك من قبل ألَّا تحدثيني أبدًا عن مزاج أبي والحالة النفسية التي يكون عليها، إنني لا أسمح لنفسي أن أنتقده ولا أريد أن يفعل غيري ذلك.

وألقت الأميرة نظرة إلى المنبه، أنبأتها بأنها قد تأخرت خمس دقائق في تطبيق برنامجها العملي، فانطلقت إلى البهو بوجه فَزِعٍ؛ فقد درجت عادة الأمير على نشدان الراحة من الظهر وحتى الساعة الثانية، وكان على الأميرة ماري أن تُمضي ذلك الوقت في دراسة الموسيقى الوترية وتطبيق دروسها على «البيان» الذي في البهو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤