الفصل الحادي والعشرون

هدوء مؤقت

هدأت الريح وراحت سحب من الغيم الأسود تتداعى منخفضة على ساحة المعركة، وتختلط عند الأفق بدخان البارود الكثيف، وكان اقتراب الظلام يزيد الحريقين المشتعلين في مكانين مختلفين حدة وظهورًا، خَفَتَ قصف المدفعية وتضاءل تدريجيًّا، غير أنَّ لعلعة الرصاص ظلَّت على أشدها عند الخطوط الخلفية، وتزداد عنفًا واقترابًا إلى اليمين، ولم يكد توشين يخلص بمدفعيته متخطيًا خطوط الجرحى، منحدرًا إلى الوادي، مبتعدًا عن منطقة النار؛ حتى التقى برؤسائه وبالضباط المساعدين الذين عرف بينهم جركوف والضابط الركن، كان جركوف قد أُرسل مرتين إلى عش المدفعية الذي يقوده توشين، وأخفق في تَيْنِكَ المرتين في بلوغ الغاية، فلم يصل ولم يُبلغ توشين شيئًا، راح رؤساؤه يعنفونه بحدَّة، ويقاطع بعضهم حديث البعض الآخر وهم يوجهون إليه الملاحظات دون أنْ يغفلوا مع ذلك عن إصدار الأوامر وتوجيهها إلى حيث يجب أنْ تصل، ولم يجرؤ توشين على الاعتراض، ولم يردَّ على اللوم الموجه إليه، خصوصًا وأنه كان يخشى أنْ يفتح فمه استعدادًا للنطق بشيء؛ لأنه كان يحس برغبة في البكاء عند أول كلمة تصدر عنه؛ لذلك فقد اكتفى بالصمت وراح يسير في مؤخرة «بطاريته»، ممتطيًا «كديشته» شأن كل ضباط المدفعية.

وعلى الرغم من أنَّ الأوامر قد صدرت بترك الجرحى في أماكنهم، فإن عددًا غير يسيرٍ منهم راح يزحف في أعقاب الجيش المنسحب، طالبين أنْ يُنقلوا على عربات المدافع، وكان ذلك الضابط الجميل طويل القامة — الذي أفلتَ قبل بدء المعركة من كوج توشين محاولًا اللحاق بوحدته — مسجًّى على عربة ماتفييفنا وفي أحشائه رصاصة، وعند سفح التل كان أحد الفرسان التلاميذ يحمل ذراعه بيده السليمة، يبتهل إلى توشين أنْ ينقله وهو شاحب الوجه خائر القوى، هتف ذلك الفارس الشاب متوسلًا بصوت خجِل: أيها الكابتين، ناشدتك الله! لقد رُضَّتْ ذراعي ولا أستطيع متابعة المشي، أستحلفك الله!

كان صوت ذلك الشاب الضعيف الشاحب، بما كان عليه من خور وضعف، يدل على أنَّ صاحبه قد لقي حتى الآن رفضًا متكررًا من كل من استنجد بهم، أردف يقول: دعني أجلس أتوسل إليك.

فهتف توشين: خلُّوا له مكانًا، خلوا له مكانًا.

واستدار نحو جنديِّه المفضل وهتف به آمرًا: هه، أنت أيها «العم» افرش معطفًا، ولكن أين الضابط الجريح؟

فأجاب أحدهم: لقد نُقل؛ إذ إنه مات.

– هيِّئوا له مكانًا، هيئوا له مكانًا، اجلس يا صغيري، اجلس، افرش المعطف يا أنتونوف.

لم يكن ذلك الفارس التلميذ إلَّا روستوف، كان ممتقع الوجه، ترتعد ذقنه من الحُمى، وكان يحمل يده المصابة بيده الأخرى، وضعه الجنود على عربة ماتفييفنا، على تلك العربة بالذات حيث رُفع عنها الضابط الميت منذ حين، كان المعطف ملطخًا بالدماء، فتلوثت به سراويل روستوف ويديه.

قال توشين: لكنك جريح يا صغيري.

– كلا، بل مصاب بكسر أو رضٍّ.

– إذن لِمَ هذه الدماء على المعطف؟

فأجاب أحد المدفعيين — وكأنه يعتذر عن المكان القذر الذي هيأه للفارس الشاب: إنه الضابط يا صاحب النبالة، لقد ترك دماءه هنا.

وراح يمسح الدماء بكم معطفه.

استطاع توشين بعد جهد خارق، وبعد اللجوء إلى مساعدة المشاة، أنْ ينقل مَدافعه إلى ضفة الوادي المقابلة؛ حيث بلغ الجيش المنسحب ضواحي جونترسدورف Ganthersdorf، وهنا توقف عن السير، كان الظلام قد هبط بحلكته حتى تعذَّر على الرجال تمييز ثوب الجندي على بُعد عشر خطوات، وكانت طلقات البنادق قد خمدت نهائيًّا، ولكن لم تمضِ فترة حتى عاد الرصاص يئز فجأةً على الجناح الأيمن مصحوبًا بصياح وضجيج، وكانت النيران المنطلقة تضيء الظلام كلما قَذفت البنادق ما في أجوافها، كان سبب ذلك الرصاص المفاجئ الهجومَ الأخير الذي قام به الفرنسيون، والذي أجاب عليه الجنود الروسيون المحتمون في المنازل، هرع الجنود كلهم خارج القرية باستثناء توشين ومدفعيته، ذلك أنَّ توشين أضحى عاجزًا عن الحركة؛ لشدة الإعياء الذي أصابه ذلك اليوم، راح الضباط والمدفعيون والفرسان يتبادلون نظرات قلقة دون أنْ يتفوهوا بكلمة، ولم تلبث البنادق أنْ صمتت، وارتفع صخب وضجيج مرتفعين، أحدثهما سيلٌ عرم من الجنود العائدين عبر زقاق في القرية، وهم يتناقشون باحتداد ويتدفقون على شارع القرية الرئيسي.

كان أحدهم يسأل زميله: ألستَ جريحًا يا بيتروف؟

وآخر يقول: يا لها من ضربة أليمة تلك التي أنزلناها بهم! إنهم لن يعودوا بعدها إلى الاحتكاك بنا.

وثالث يقول: لا يرى المرء شيئًا في هذا الظلام. لسنا ندري كم ذبحنا منهم، يا للشيطان! أليس مزعجًا ألَّا يرى المرء شيئًا؟ هل من سبيل إلى شرب جرعة خمر أيها الرفاق؟

رُدَّ الفرنسيون نهائيًّا على أعقابهم، ومن جديد راحت مدفعية توشين تحف بها إطارات متراصة من المشاة، تشق طريقها وسط ذلك الليل البهيم، أشبه بملكة النحل وسط ثَوْل حافل كبير.

كانت تلك الرحلة في ذلك الظلام، تشبه تدفق مياه نهر عرم، بما تحدثه حوافر الجياد ولفظ الحديث، وعجلات العربات، ووقْع الأقدام من ضجيج مكتوم، وكانت تأوهات الجرحى وزمجراتهم تطغى على كل ذلك اللفظ الأصم، فكانوا وحدهم يشكِّلون مع تلك الظلمات وحدة متينة العرى، وكأنهم خُلقوا منها وفيها. وفي فترةٍ ما، وقع صخب بين جماعة من السائرين، ومرَّ فارس على صهوة جواد أبيض يتبعه حرس مواكب وهو يتلفظ بكلمات غير واضحة، فانتثرت الأسئلة من كل مكان؛ أسئلة متلهفة طافحة بالتساؤل والفضول: «ماذا قال الفارس؟ هل وجَّه إلينا التهاني على ما عملناه؟ إلى أين نمضي الآن؟ هل نتوقف هنا؟» وأعقب ذلك تدافُع وازدحام دلَّ على أنَّ الصفوف الأمامية قد توقفت، فشاعت بين الصفوف همسات تقول إنَّ الأمر قد صدر بالتوقف، وعندئذٍ توقفت الكتلة البشرية الكبيرة وسط ذلك الطريق الموحل.

أُوقدت النار في مكانين ووضحت الأصوات، وبعد أنْ أصدر الكابتين توشين التعليمات اللازمة لاتخاذ التدابير الملائمة المتعلقة بقضاء الليل في ذلك المكان، أرسل من يستقدم عربة إسعاف أو طبيبًا لمعالجة الفارس التلميذ، وجلس قرب نار أوقدها الجنود على الطريق، فزحف روستوف حتى بلغ مكان توشين، كان قشعريرة الحُمى تجتاح كل جسده؛ بسبب الكسر الذي أصيبت به ذراعه، والبرد والرطوبة اللذان تعرَّض لهما، وكانت ذراعه تؤلمه ألمًا شديدًا أطار النوم عن عينيه، رغم شديد حاجته إليه، فكان يغمض عينيه حينًا ويحدق بالنار المشبوبة التي كان يُخيل إليه أنها مصبوغة باللون القرمزي حينًا آخر. وبين الحين والحين، كان ينقل بصره إلى توشين الجالس على الأرض على الطريقة التركية محدودب الظهر، ينظر إليه بعينيه الكبيرتين المتوقدتين الطيبتين نظرات مفعمة بالعطف والإشفاق. كان روستوف يشعر في قرارة نفسه أنَّ توشين يود من صميم فؤاده لو يستطيع مساعدته، وأنه يتألم لعجزه عن ذلك.

جلس الجنود المشاة في حلقة دائرية حول النار، فكانت خطواتهم وأصواتهم ترتفع من كل مكان ممتزجة بوقع حوافر جياد الفرسان الذين كانوا يمرون بالقرب منهم. كانت تلك الأصوات والخطوات، ورَدَيَان الخيول في الوحول، وفرقعة الأخشاب المشتعلة في النيران المشبوبة القريبة منها والبعيدة؛ تُشكل إلى حدٍّ ما صوتًا أشبه بتلاطم الموج في محيط لَجِبٍ في ليلة عاصفة، توقف السيل الخفي العرم عن التدفق وسط ذلك الظلام الحالك، وأصبح الحال في تلك الأثناء أقرب شبهًا بالبحر الزاخر المعتكر، الذي يعود إلى السكون والتماوج الهادئ بعد عاصفة عاتية هوجاء.

راح روستوف ينظر ويسمع ما يدور حوله وأمامه دون أنْ يفقه منه شيئًا، واقترب أحد المشاة، فَقَعَى بالقرب من النار ومد يديه يصطلي الدفء وهو يشيح بوجهه قائلًا لتوشين: أتسمح نبالتك؟ إنني كما تراني نبالتك قد أضعتُ سريَّتي فلا أدري أين تركتُها، آمُل ألَّا يزعجك وجودي.

وفي تلك الأثناء، جاء رئيس من سلاح المشاة معصوب الوجه يوجه الحديث لتوشين، طلب إليه أنْ يُبعد مدافعه قليلًا؛ لأنها كانت تعرقل سير عربات مهماته، ثمَّ أعقب ذلك مَقْدم جنديين يتنافسان على مِلكية حذاء يدَّعي كلٌّ منهما أنه له ويَكِيل للآخر السباب.

كان أحدهم يصيح بصوت أجش: هل التقطتَه أنت؟ إنك — ولا شك — أسوأ من ذلك حتى تدَّعي ملكيته!

وجاء جندي هزيل شاحب الوجه، يلف عنقه بجورب ملطخ بالدم، يطلب ماء للمدفعيين بلهجة غاضبة، كان يغمغم بانفعال: إنكم لن تدَعوني على كل حال أنْفُق ككلب حقير!

أمر توشين أنْ يجاب طلبه، وجاء بعدئذٍ أحد المهزارين، جاء يطلب شعلة نار بقوله: «أريد نارًا صغيرة شديدة الاحمرار لفِتيان الصف.» فلما أجيب إلى طلبه قال: شكرًا يا أبناء البلد، الْبَثوا في أماكنكم دافئين، أمَّا النار فلا تقلقوا من أجلها، سوف نردها لكم … عندما تلد أطفالًا صغارًا!

وابتعد مازحًا وهو يلوِّح بيده قطعة من الخشب المشتعل، وبعد قليل مرَّ أربعة من الجنود كانوا يحملون شيئًا ثقيلًا في معطف تعاونوا على حمله، فتعثَّر أحدهم وتمتم محنقًا: لا بأس، ها هم قد زرعوا الطريق كلها بقطع الحطب، يا للملاعين!

فقال آخر: ما دام أنه ميت، فأية فائدة نجنيها في نقله؟

– إه! لِيحملْكَ الشيطان!

وابتلعتهم الظلمات وحملهم الثقيل.

سأل توشين روستوف بصوت خفيض: وإذن، هل تؤلمك ذراعك؟

– نعم.

تقدَّم أحد الحرَّاقين في تلك اللحظة يقول: إنَّ الجنرال يطلب من نبالتك المثول بين يديه، إنه هنا في الكوخ على مقربة.

فنهض توشين وزرَّ معطفه وهو يقول: على الفور يا صديقي.

وابتعد وهو يُصلح هندامه على قدر استطاعته.

كان الأمير باجراسيون يتحدث مع قواد الأسلحة المتفرقة في كوخٍ أقيم على عجَل لإيوائه قرب حظيرة المدفعيين، كان هناك ذلك الكهل قصير القامة، ذو العينين نصف المغمضتين، يلتهم ضلع خروف مشوي بِنَهَم، والجنرال الذي أمضى في الخدمة اثنين وعشرين عامًا وهو في أحسن هندام، وقد أشرق وجهه أثر العشاء اللذيذ الذي تناوله وأقداح الفودكا التي تلذذ بارتشافها بعد ذلك، وكان هناك كذلك الضابط الركن ذو الخاتم الماسي، وجركوف الذي كان يجعل حوله نظرات كئيبة قلقة، والأمير آندريه ممتقع الوجه تلتمع عيناه ببريق محموم.

وفي زاوية من المسكن المتواضع، أسند علَم اغتصبه الروسيون من العدو، كان المدني الضخم يلمس القماش الذي صُنع منه ويهز رأسه بسذاجة على عادته، لم يكن واضحًا إذا كان مهتمًّا حقيقةً بتحسس قماش العلَم، أم أنه كان مرغمًا على ذلك بسبب حرمانه من ذلك العشاء الشهي الذي لم يُدعَ للمشاطرة فيه. وفي الغرفة المجاورة كان الضباط الروسيون يتفحصون بشوق ضابطًا فرنسيًّا برتبة زعيم أسَرَهُ فرسان الدراجون، كان الأمير باجراسيون يهنئ قواد القطعات ويسألهم تفاصيل المعركة التي دارت رحاها ذلك اليوم، ويستعلم عن الخسائر التي مُنِي الجيش الروسي المنسحب بها، وكان قائد السرية التي استعرضها كوتوزوف قرب برونُّو يروي للأمير أنه عند بدء المعركة أخلى الغابة من جنوده الذين كانوا يجمعون الأخشاب، وأنه نظَّم صفوفهم؛ حتى إذا مرَّ الفرنسيون انقضَّ عليهم بِلِواءين كاملين، فقذف بهم إلى الوراء ضربًا بالحراب، وأعقب قائلًا: ما كدتُ أرى لوائي الأول في حالة بلبال وفوضى حتى قلت لنفسي: «دعهم يمرون واستقبِلْهم بعد ذلك بنار حامية الوطيس»، وهذا ما عملته يا صاحب السعادة.

والحقيقة أنَّ ذلك كان ما يريد صُنعه، فكان شديد الأسف لأنه لم ينجح في مسعاه، حتى إنه كان مؤمنًا كل الإيمان بصدق تقريره عن الحوادث، ولعله لم يكن مخطئًا كل الخطأ؛ إذ مَن الذي كان يستطيع في مثل ذلك الظرف العصيب من الفوضى والاختلاط تمييز الحقيقة عن الخيال؟!

أردف القائد الكبير معقبًا وقد تذكَّر لقاءه القريب مع دولوخوف، وما قصه هذا عليه من عطف الأمير باجراسيون عليه: ولا يفوتني في هذه المناسبة أنْ أُشِيد ببسالة الضابط السابق دولوخوف؛ تلك البسالة النادرة التي شهدتُها بأم عيني، لقد أسر ضابطًا فرنسيًّا يا صاحب السعادة.

وتدخَّل جركوف في الحديث قائلًا، وهو يجيل حوله نظراته القلقة: وفي تلك اللحظة يا صاحب السعادة أتيح لي أنْ أشاهد بإعجاب هجوم الفرسان؛ فرسان بافلوجراد.

كان على حق في قلقه؛ لأن في ذلك اليوم لم يلتقِ بأي فارس من الفرسان، بل كان يعتمد في حديثه بكل سذاجة على أقوال أحد ضباط المشاة. أردف يقول: لقد رأيتهم يشتتون مربعين من الأعداء.

ابتسم بعض الحاضرين عندما شرع جركوف في الحديث، متوقعين منه دعابة مستملحة يطلقها على عادته، لكنهم عندما سمعوه يعقِّب بجملته الأخيرة مضفيًا إكليل غار جديد على هامة الجيوش الروسية، عاد الاتزان إلى قسمات وجوههم رغم أنَّ معظمهم كان يعرف سلفًا أنَّ تقرير جركوف لم يكن إلَّا كذبة صارخة جريئة وقحة.

قال باجراسيون وهو يختص الكولونيل العجوز بمعظم ثنائه: أشكركم جميعًا أيها السادة، لقد تصرَّف الجنود من مختلف الأسلحة، بين مشاة وفرسان ومدفعية، تصرفًا يدل على بطولتهم.

ثمَّ أجاب الطرف حوله باحثًا عن شخصٍ ما وقال: ولكن كيف حدث أنْ تركنا قطعتين من مدفعيتنا في الجبهة الوسطى؟

لم يكن باجراسيون يستفسر عن مدافع الجناح الأيسر كلها؛ لأنه كان يعرف من قبل أنها سقطت جميعها في أيدي العدو منذ بدء المعركة؛ لذلك فقد أعقب موجهًا حديثه إلى الضابط الركن: ألم أكلفْكَ بالإشراف على انسحاب المدفعية من الجناح الأيمن؟

فأجاب الضابط الركن: لقد كان أحد المدافع معطلًا، أمَّا الآخر فإنني لا أدري على الضبط سبب تركه. لقد اتخذتُ كل الإجراءات اللازمة، ولم أترك «البطارية» إلَّا في اللحظة الأخيرة.

وأردف بشيء من التواضع: الحقيقة أنَّ المدفع كان شديد الحرارة.

فهمس بعضهم أنَّ الكابتين توشين، آمرًا المدفعية في الجناح الأيمن، يعسكر قريبًا من مركز القيادة، وأنهم أرسلوا في طلبه. وعندئذٍ قال باجراسيون للأمير آندريه: ولكن أنت؟ لقد كنتَ هناك أيضًا على ما أعتقد.

فبادر الضابط الركن يقول مشفعًا كلامه بابتسامة لطيفة وجَّهها إلى بولكونسكي: بلا ريب يا صاحب السعادة لقد مررنا ببعضنا.

فأجاب الأمير آندريه ببرودة: لم يحصل لي شرف رؤيتك.

وأعقب ذلك صمت عام، وفي تلك اللحظة ظهر توشين على عتبة الباب، فبدا شديد الاضطراب كعادته كلما التقى برؤسائه، وبينما كان يتسلل بخجل وراء الجنرالات في تلك الغرفة الضيقة، تعثَّر بسارية العلَم التي لم يكن قد لاحظ وجودها لشدة ارتباكه، فتعالت بعض الضحكات.

سأله الأمير باجراسيون وهو يقطب حاجبيه برسم الضاحكين الذين كان جركوف أشدهم ضوضاء، أكثر مما عنى توشين بذلك التقطيب: كيف حدث أن أُغفل مدفع في ساحة المعركة؟

وفي تلك اللحظة فقط — إزاء جبين القائد العام المقطب — أدرك توشين أنه ارتكب خطيئة كبرى، وأحسَّ بالعار يلحقه؛ لأنه فقد مدفعين وظلَّ بعدهما على قيد الحياة، لقد كان شديد الاضطراب، حتى إنه لم يفكر في هذا الموضوع قبل تلك اللحظة، وقد سببت ضحكات الضابط الساخرة انهيار تجلُّده التام، فلبث واقفًا دون حراك مرتجفَ الذقن ينظر إلى باجراسيون بارتباك، وأخيرًا استطاع بعد عناء شديد أنْ يغمغم: لست أدري يا صاحب السعادة، لم يبقَ لديَّ عدد كافٍ من الرجال يا صاحب السعادة.

– كان يمكنك أنْ تأخذ حاجتك من جنود التغطية.

وعلى الرغم من أنَّ الحقيقة الصارخة كانت تفسر السبب، فإن توشين لم يجرؤ على القول إنه لم يكن هناك جنود تغطيه قط، كان يخشى إذا صرَّح بتلك الحقيقة أنْ يسيء إلى بعض الرؤساء الذين أمروا بانسحاب التغطية؛ لذلك فقد راح يتأمل باجراسيون بصمت دون أنْ ينطق بحرف واحد، شأن الطالب الذي لا يعرف كيف يجيب على أسئلة فاحصة.

ران الصمت فترة غير قصيرة، كان باجراسيون — ولا شك — يتجنب الظهور بمظهر القاسي الصارم؛ لذلك فإنه لم يجد ما يقوله، وكذلك المجتمعون الآخرون فإنهم لزموا الصمت المطلق متحاشين الشروع في الحديث، وكان الأمير آندريه يختلس النظر إلى وجه توشين ويداه ترتعدان، وفجأةً شقَّ صوتُه الصارم السكون المخيم فوق الرءوس وقال: لقد تفضلتم سعادتكم بإرسالي إلى «بطارية» توشين، ولما ذهبتُ إلى هناك وجدت أنَّ ثلثَي رجاله وخيوله بين قتيل وجريح، وأنَّ مدفعين من مدافعه الأربعة كانا معطلين، ولم يكن لديه جندي واحد من جنود التغطية.

راح باجراسيون وتوشين يحدقان معًا في وجه بولكونسكي الذي كان يتكلم بحماس متئد، أردف هذا يقول: وإذا تفضلتم سعادتكم بالسماح لي بإبداء رأيي، قلت إنَّ جانبًا كبيرًا من نجاح معركة اليوم راجع إلى تدخُّل بطارية توشين، وإلى البطولة والبسالة والحزم التي أبداها الرئيس توشين ورجاله في هذا اليوم.

لم ينتظر بولكونسكي جوابًا، بل نهض واقفًا وانسحب عن المائدة، فعاد باجراسيون بأبصاره إلى توشين، ولما كان راغبًا عن إظهار تشكُّكه في حكم بولكونسكي الحاسم، فقد أشار برأسه إلى توشين وقال إنه يستطيع الانسحاب، فخرج الأمير آندريه في أعقابه.

قال له توشين: شكرًا لك يا صديقي، لقد أنقذتَني.

فشمله بولكونسكي بنظرة حالمة وغادره دون أنْ يتفوه بكلمة. كان يشعر بحزن يُوقِر صدره ويعصف بقلبه، لقد كان ما رآه وسمعه شديد الغرابة، مخالفًا كل المخالفة لآماله وأحلامه.

راح روستوف يسائل نفسه وهو يراقب الأشباح التي كانت تمر أمامه: «من هم هؤلاء الناس؟ ماذا يعملون هنا؟ ماذا يبتغون؟ ومتى ينتهي كل هذا؟» كان الألم يزداد عنفًا في ذراعه، وكان جفناه مثقلان بنعاس قاهر، فراحت عيناه تريه حلقات حمراء آخذة في الاتساع، تتراقص أمامه بين دنو وابتعاد، كانت تلك الأصوات المتلاحقة، وتلك الوجوه المختلفة، وذلك الشعور بالوحدة القاتلة، تتحد في نفسه فتزيد من آلامه وأوصابه، كان أولئك الجنود — بين جريح وسليم — هم الذين يثقلون عليه ويسحقونه، ويقطِّعون أعصابه ويرهقونها، ويحرقون بشرته بنار وئيدة تلتهم ذراعه المحطمة وكتفه، كان يشعر أنهم أسُّ البلاء، ولما كان يود من صميم نفسه الابتعاد عن ذلك الخيال المخيف الذي يعذب تنكيره، فقد ظنَّ أنَّ من الخير له أنْ يغمض عينيه.

figure
ألكسندر الأول قيصر روسيا.

لم يفقد حواسه إلَّا لحظة خاطفة، مع ذلك فقد حلم خلال تلك اللحظة بعدد لا يحصى من الوجوه والأشخاص؛ رأى أمه بيديها البضتين الكبيرتين، وسونيا بكفيها الناحلتين، وناتاشا بعينيها الباسمتين، ودينيسوف بصوته الخشن وشاربيه الكبيرين، وتيليانين وكل قصته الطويلة التي وقعت له مع تيليانين وبوجدانيتش. كانت تلك الحادثة اللعينة متحدة مع الجندي ذي الصوت القاسي، وذَيْنِك الشبحين اللذين حطما ذراعه دون رحمة، ولبثا يشدان عليها في اتجاه واحد، تُشكِّل معهم وحدة لا تتجزأ، بذل جهدًا خارقًا للتخلص من الجندي والشبحين الغامضين القاسيين وتلك القصة كلها، لكنهم لم يُفلتوا كتفه ولا ذراعه دقيقة واحدة، ولم يبدلوا مواقع أيديهم على تلك الذراع قيد أنملة، ولعلَّ الشفاء كان قريبًا لولا أنهم حطموا ذراعه بتلك الوحشية، أمَا وأنهم لا زالوا يجذبونها، فإن كل أمل بالشفاء بات وهمًا، وكل محاولة للخلاص من أيديهم أصبحت فاشلة.

فتَّح عينيه وراح ينظر إلى الفضاء، كانت حلكة الليل البهيم مخيمة بشدة على المكان، حتى إنَّ النار المشبوبة ما كانت لِتُبدد من الظلمة إلَّا على ارتفاع قدمين أو ثلاثة أقدام فوقها وحولها، رأى منفذًا من الثلج تتدافع فوق تلك الشعلة الملتهبة، أمَّا توشين فإنه لم يعُد بعدُ، وكذلك الطبيب فإنه لم يصل، لم يكن أمامه إلَّا جندي واحد عارٍ عن الثياب يجففها على النار، كان شاحب الوجه هزيل البنية، ضعيف التكوين أصفر اللون.

فكَّر روستوف في سره: «لن أجد أحدًا يهتم بشأني، لا يوجد أحد يسعفني ويطببني أو يشفق على مصابي، كيف يمكن أنْ أنسى أنني منذ وقت جد قصير كنت في منزلي ممتلئًا حيوية وبِشرًا، يحبني كل من حولي!»

أطلق زفرة انقلبت بالرغم عنه إلى زمجرة قبل أنْ تتبدد في الهواء، فسأله الجندي وهو ينفض قميصه فوق النار: هل تشعر بألم؟

ولم ينتظر جوابًا إذ أضاف وهو يكح: لقد أصابوا أناسًا كثيرين اليوم! آه، يا للتعاسة!

لم يكن روستوف يصغي إلى قوله، كانت عيناه شاخصتين إلى نُتف الثلج المتراقصة فوق اللهب، فتذكَّرَ شتاء روسيا والمنزل الدافئ المضيء، والفراء الناعمة والزحافات السريعة، كان يرى نفسه بعين الخيال ممتلئًا صحة، محاطًا بالعطف والحب ورعاية أسرته، فتمتم يخاطب نفسه: «يا لها من فكرة، تلك التي قادتني إلى هنا!»

لم يجدد الفرنسيون هجومهم صبيحة اليوم التالي، وهكذا استطاع الناجون من جيش باجراسيون بلوغ مواقع كوتوزوف، والالتماق بجيشه الناجي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤