الفصل الأول

الكونت بيزوخوف

لم يكن الأمير بازيل من أولئك الذين يُعِدون خططًا مسبقة للمستقبل، ولا من زمرة الذين يفكرون في الإضرار بالناس لجَنْي ربح شخصي، كل ما في الأمر أنه كان من زمرة النبلاء، لاقَى نجاحًا في حياته واعتاد على النجاح في كل أعماله، لقد كانت تدابيره كلها على اختلاف ألوانها تَدين بوجودها وترتيبها للظروف الطارئة، ولِلَون العلاقات التي تربط كلًّا منها بما يجانسها، فكان مسرح الصخب والتناحر قائمًا في رأسه، فكان يتبع الظروف في اتجاهاتها غير مفكرٍ في أنَّ ذلك كان سرَّ كل وجوده، كان يحتفظ دائمًا بخطط كثيرة تهدف كلٌّ منها إلى غاية معيَّنة، وكان تفكيره لا يكاد يخلو من عشرات من هذه الخطط، فكان بعضها يخفق وبعضها ينجح، والبعض الآخر يتبخر قبل البدء في تنفيذه، لم يكن يحدِّث نفسه مثلًا: «إنَّ فلانًا أو فلانًا قد بلغ مبلغ السطوة والنفوذ، فلأكسبنَّ ثقته علَّني أصل بها إلى نفعٍ ما»، أو مثلًا: «ها إنَّ بيير قد أصبح غنيًّا، فعليَّ إذن أنْ أزوجه ابنتي؛ لأقترض منه الأربعين ألف روبل التي أنا في حاجة إليها»، لكنه ما يكاد يلتقي بتلك الشخصيَّة القويَّة صاحبة النفوذ حتى تحدِّثه غريزته بأن ذلك الرجل يمكنه أنْ يكون ذا نفع عميم له، فيربط بينهما علاقة متينة منتهزًا أول فرصة تعرض له دون تصاميم مسبقة، ويمتدحه ويرضي غروره، مستعملًا معه لهجته الأنيسة التي تُشعر السامع أنه يعتبره من أفراد أسرته، ثمَّ يلمِّح إلى غايته بكلمة عابرة.

ولما كان بيير في تلك الأثناء قريبًا من متناول يده في موسكو، فقد عمل الأمير بازيل على إبلاغه رتبةً تُعادِل رتبة مستشار دولة، وأصرَّ على أنْ يرافقه الشاب إلى بيترسبورج وأنْ يَنزل في ضيافته هناك، لم يكن الأمير بازيل قد نوَّه بغايته أمام بيير بعدُ، لكن كيانه كله وقناعته الشخصية استلزما منه ذلك التصرف، الذي كان الأمير بازيل يبذل كل استطاعته وإمكانياته ليَبلُغ به إلى نتيجة يرتضيها؛ وهي تزويج ابنته بالشاب بيير. ولو أنه كان متدبرًا أمره من قبل لَمَا استطاع أنْ يبدو طبيعيًّا في تصرفاته إلى ذلك الحد، صريحًا في تصرفاته مع رؤسائه ومرءوسيه كما كان عليه حينذاك، لقد كان بازيل مدفوعًا بقوًى خفيَّة إلى الاحتكاك بأشخاص أوسع منه نفوذًا وغنًى، وكان يعرف بغريزته وحواسِّه الفطرية كيف يستخلص من هؤلاء مغنمًا مَهما كان تافهًا.

شعر بيير، وهو الذي أضحى بين عشية وضحاها «الكونت بيزوخوف واسع الغنى»، أنه أصبح فجأةً محاطًا بصفوف متراصة كثيفة من الناس، شديد المشاغل والأعمال، وهو الذي كان إلى أمْس القريب في عزلة حياة العزب البريئة المريحة؛ لذلك فإنه لم يكن يشعر بالراحة الحقيقية إلَّا عندما كان يأوي إلى سريره؛ حيث يجد نفسه وحيدًا مع نفسه، كان عليه أنْ يوقِّع على أوراق كثيرة وأنْ يقوم بأعمال المكتب؛ أعمال ما كان يدري عن فائدتها شيئًا، وكان عليه أنْ يحضر الحفلات الراقية المتألقة، وأنْ يهرع إلى استشارة مسجله الرئيسي، أو يزور أملاكه في ضواحي موسكو، ويستقبل عددًا لا يحصى من الناس كانوا إلى عهد قريب يتجاهلون وجوده، وأصبحوا الآن يشعرون بمرارة الخيبة إذا رفض مقابلتهم، وكان كل هؤلاء الناس — بين رجال أعمال وأقارب ومعارف عاديين — يُظهرون استعدادهم القوي لخدمة الوارث الشاب بما يشبه الإجماع، ويعلنون عن قناعتهم المتينة وإعجابهم العميق بصفاته النادرة، كان لا ينفكُّ يسمع أقوالًا تشبه: «بطيبتكم النادرة»، «نظرًا إلى قلبكم النبيل»، «أنت الذي تتمتع بروح عالية»، «لو أنه كان على قدر من ذكائكم» … إلخ. ولما كان يشعر بهاتف داخلي يؤكد له أنه شديدُ الطيبة جمُّ الذكاء، فقد راح يصدِّق ما يغدقه عليه أولئك الناس من عبارات الإطراء والمديح ويؤمن بصحتها، كما يؤمن «بطيبته النادرة وذكائه النادر»، وكان أولئك الذين كانوا من قبل يعاملونه بلامبالاة وإهمال، بل وبشيء من الشراسة، يُعرِبون له الآن عن ميلهم وشعورهم الحاني الرقيق، فكبرى الأميرات مثلًا — وهي تلك المشاكسة العابسة، ذات الجذع الطويل والشعر المنسدل الأملس كشعر اللُّعَب — جاءت إليه بُعَيد الجنازة تدخل إلى غرفته لتعلن عن أسفها الشديد لتنافرهما السابق، وهي خافضة البصر متضرجة الوجه، ولم تقف عند ذلك الحد، بل اعترفت أمامه أنه ليس من حقها منذ الآن أنْ تطلب شيئًا، لكنها تلتمس منه السماح لها فقط بالبقاء بضعة أسابيع أخرى في ذلك البيت، الذي كان عزيزًا على قلبها حتى إنها ضحَّت فيه بكل ما في طوقها، ولم تستطع الامتناع عن البكاء فانفجرت منتَحِبة، وكان ذلك التحول الغريب من جانبها كافيًا ليُحدث أثره في نفس بيير، الذي كان يعرف الأميرة شخصية باردة جامدة كالمرمر، فأمسك بيدها وسألها الصفح دون أنْ يدري عن أي شيء يطلب إليها أنْ تصفح، وراحت كبرى الأميرات اعتبارًا من ذلك اليوم تحيك له «لفحة» مخططة من الصفوف، وتعامله معاملة مختلفة كل الاختلاف عمَّا درجَتْ عليه عادتها.

وجاء الأمير بازيل يومًا يحمل إذنًا مصرفيًّا بمبلغ ثلاثين ألف روبل بِاسم الأميرة، وطلب إلى بيير أنْ يوقِّع عليه وهو يقول: اعمل ذلك من أجلها يا «عزيزي»، ينبغي أنْ نعترف أنَّ المرحوم جعل حياتها قاسية جدًّا.

كان الأمير بازيل يخاف أنْ تفضح الأميرة الدور الذي لعبه في قضية حافظة الأوراق؛ لذلك فقد راح يسعى لإلقاء تلك العَظْمة أمام تلك الفتاة المسكينة ليشغلها بها، فوقَّع بيير على إذن الصرف المخصص للأميرة، وتظاهرَتْ هذه بالمزيد من التودد، أمَّا أختا الأميرة فإنهما لم تختلفا في سلوكهما عن سلوك شقيقتهما الكبرى، أصبحتا شديدتَي الحماسة والاندفاع في سبيل مرضاته، حتى إنَّ صغراهما — تلك التي كانت جميلة وعلى وجنتها حسنة — أقلقت بيير أكثر من مرة بابتساماتها المعبرة والارتباك الذي كانت تتظاهر به كلما وقع بصرها عليه.

وكان بيير من جانبه يعتقد أنَّ حب الناس — كل الناس له — أمر طبيعي جدًّا، وأنَّ عكس ذلك مستحيل، حتى إنه ما كان يفكر لحظة واحدة في الارتياب بإخلاص الأشخاص المحيطين به، أضف إلى ذلك أنه لم يكن يجد متسعًا من الوقت للتساؤل عن صراحة المحيطين به أو أنانيتهم، لم يكن لديه الوقت ليعمل شيئًا ما، لقد كان يعيش في لون من ثمل دائم فيه نشوة وفيه نشاط، كان يشعر أنه محور حركة عامة دائبة مهمة، وأنهم ينتظرون دائمًا معلومات جديدة عنه، ويتوقعون منه أمرًا إذا لم يفعله فإنه يسيء إلى عديد من الناس ويحزنهم ويخدعهم فيما ينتظرونه منه، وأنه إذا فعل ذلك الأمر، فإن كل شيء — على العكس — يسير في الطريق الصحيحة التي يجب أنْ يسير فيها، فتعم السعادة ويعم الرخاء.

لم يُشرف أحد على رعاية شئون بيير رعاية مستمرة متيقظة، كما أشرف عليها الأمير بازيل في بدء المرحلة، ولم يتوقف ذلك الإشراف عند حل المصالح، بل تعداه إلى بيير نفسه؛ ذلك أنه منذ أنْ توفي الكونت لم يترك بيير لحظة واحدة، كان يتظاهر بمظهر الرجل الذي تُوقِر الأعمالُ والمشاغلُ كاهِلَه، وينهكه التعب ويضنيه، ومع ذلك لا يستطيع لشدة حدبه على بيير أنْ يترك مصيره للأقدار تتلاعب به وفق هواها، ويترك ذلك الشاب البريء الطيب فريسة سهلة لكل نصاب زنيم، وهو المحروم من كل أسلحة الخبث والدهاء، خصوصًا وأنه ابن صديقه الودود، ومالك ثروة هائلة لا تُقدر. واستمرَّ طيلة الأيام التي قضاها في موسكو عقب الجنازة، يستدعي بيير أو يذهب بنفسه إلى جناحه؛ ليشير عليه بما ينبغي عمله، وفي كل مرة كانت لهجته المعبرة عن إنهاك شديد تكاد تحدِّثه قائلة: «إنك تعرف أنني مغمور بالعمل والمشاغل، وأنني إذا كنت أهتمُّ بشئونك فما ذلك إلَّا على سبيل الإحسان الصِّرْف، ثمَّ إنك تعلم أنَّ ما أعرضه عليك هو الأمر الوحيد الذي يمكن عمله في هذه المناسبة.»

وذات يوم، أعلن الأمير بازيل قراره وهو يُرَبِّت على ذراع بيير، ويسدل جفنيه على حدقتيه: وعليه يا صديقي، سنرحل غدًا ولن يكون رحيلنا قبل أوانه.

كانت لهجته تدل على أنَّ الأمر الذي اتفقا عليه منذ أمد طويل لا يَحتمل أي اعتراض، أردف يقول: نعم، سنرحل غدًا ولسوف أحملك في عربتي، وسأكون مرتاحًا لوجودك معي، لم يعُد لدينا هنا عمل هام يستبقينا، وكان علينا أنْ نغادر موسكو منذ فترة طويلة. آه! لقد تلقيت جوابًا من مستشار الدولة الأول، لقد سُميتَ بناءً على طلبي نبيلًا إداريًّا، وستكون مرتبطًا بالسلك السياسي، لقد أصبح المستقبل مفتوحًا أمامك الآن.

وعلى الرغم من الحزم الذي كان في لهجة الأمير المنهكة المترفعة؛ تلك اللهجة التي فاهَ بها بتلك الكلمات، فإن بيير — الذي كان قد فكَّر طويلًا في مستقبله — كاد أنْ يصيح محتجًّا، غير أنَّ الأمير بازيل قاطعه ملتجئًا في تلك المرة إلى لهجته الغريدة المنخفضة؛ تلك اللهجة التي ما كان يعمد إليها إلَّا في الضرورات القصوى، عندما يريد اجتناب كل إمكانيات للرفض: ولكنني يا عزيزي لم أعمل ذلك إلَّا من أجل نفسي، من أجل إرضاء ضميري، فلا أطلب منك أنْ تشكرني على صنيعي، ثمَّ إنني لم أرَ بعدُ أحدًا يشتكي من كثرة محبة الناس له، ثمَّ إنك حر وليس هناك ما يمنعك مِن طرْد كل الناس ورفْض كل شيء منذ صباح الغد، إذا راق لك ذلك بنفسك عندما نبلغ بيترسبورج، كذلك فإنني أعتقد أنَّ الوقت قد أزف لتبتعد نهائيًّا عن هذه الذكريات الأليمة.

أنهى الأمير بازيل كلامه بتلك الجملة، وأشفعها بزفرة وأردف: لقد اتفقنا، أليس كذلك يا صديقي؟ سوف يركب تابعي في عربتك. آه! كدت أنسى؛ إنك تعلم أنني كنت على علاقات مالية مع المرحوم، ولقد قبضتُ مبلغًا على أجور أملاكك في ريازان، لستُ في حاجة إلى ذلك المبلغ، سوف نتفاهم عليه.

كان ذلك المبلغ الذي تحدَّث عنه الأمير بازيل موهمًا أنه مبلغ تافه، أجور مزارع الكونت التي تبلغ عدة آلاف من الروبلات، استملكها الأمير بازيل معتبرًا أنَّ من حقه التصرف بها.

رأى بيير نفسه في بيترسبورج قِبلة أنظار الناس، كما كان شأنه في موسكو، لم يلقَ إلَّا كل من يغدق عليه الإطراء ويمتدحه ويتدلسه، ولما كان لا يعمل شيئًا فإنه لم يستطع رفض المركز الاجتماعي الذي أوجده له الأمير بازيل، وتهافتت عليه الدعوات وكثرت واجباته الاجتماعية، حتى فاقت ما أحاطت به في موسكو؛ لذلك فإنه أحسَّ من جديد أنه يطير في دوامة هائلة تبشِّر بسعادة عميقة، تبدو قريبة منه وإنْ كانت في كل مرة تنأى عن متناول يديه.

لم يجد في بيترسبورج عددًا كبيرًا من أصدقاء مرحه السابقين، فقد كانت فرقة الحرس في جبهة القتال، وكان دولوخوف قد نُزعت رتبته وآناتول في الجيش، أمَّا في الضواحي فإن الأمير آندريه كان كذلك متغيِّبًا؛ لذلك فإن بيير لم يستطع قضاء ليالٍ جميلة كما كان يفعل عندما كان أولئك الأصدقاء مجتمعين، ولا أنْ يكشف عن دخيلة نفسه من حين لآخر لذلك الصديق الذي يكبره سنًّا، والذي كان يحترمه ويقدِّره كل التقدير، كانت كلها تتبدد بين الولائم والحفلات الراقصة، وفي معظم الأحيان لدى الأمير بازيل في صحبة الأميرة الضخمة وهيلين الجميلة.

ولم تتخلف آنا بافلوفنا شيرر عن تتبُّع الركب، فأظهرت لبيير أنَّ تحوُّلًا كليًّا قد طرأ على وجهة النظر التي كانت تتمسك بها بصدده، كان يشعر من قبل أنَّ كل ما كان يتفوَّه به في حضرتها يعوزه الإحكام وتنقصه اللباقة أو المناسبة أو التجانس، فكانت كل كلماته، رغم ما كان يحس به في قرارة نفسه من وجاهتها وإحكامها، تبدو سخيفة حالما ينطق بها بصوت مرتفع، بينما كانت بلاهات هيبوليت وحماقاته تُعتبر مقبولة ومعبِّرة عن بديهةٍ وتوقُّدِ ذكاءٍ، أمَّا الآن فقد انعكست الآية، لقد أصبحت أتفه كلمة يفوه بها «رائعة»، حتى إنَّ آنا بافلوفنا إذا لم تعرب عن ذلك بتهافت ومبادرة، فإنه كان يلاحظ أنَّ صمتها ليس إلَّا عزوفًا منها عن إخجال تواضعه.

تلقَّى بيير في مطلع شتاء عام ١٨٠٥-١٨٠٦، بطاقة آنا بافلوفنا المعهودة، تدعوه فيها إلى وليمةٍ أقامتها، وقد ذيِّلَت البطاقة بالملاحظة التالية: «لسوف ترى عندي هيلين الجميلة التي لا يملُّ أحد من طول التحديق في فتنتها.»

شعر بيير لأول مرة عند قراءته تلك الجميلة أنَّ علاقةً ما قامت بينه وبين هيلين؛ علاقةً تقبَّلها كل الناس ولكنها كانت تُرهبه وتخيفه؛ لأنها تفرض عليه التزامات لا يستطيع تأديتها، مع ذلك فإن تلك الفكرة كانت تروق له على اعتبارها طارئًا مسلِّيًا.

لم تختلف حفلة آنا بافلوفنا عن سابقتها إلَّا في الوجه الجديد الذي راحت تُفكِّه به مدعوِّيها، لم يكن في تلك الليلة مورتمارت كما كان في المرَّة السابقة، بل دبلوماسي وصل حديثًا من برلين يحمل معه آخِر الأخبار عن إقامة الإمبراطور ألكسندر في بوتسدام وتفاصيل التحالف المتين الذي تَعاهَد عليه العاهلان الصديقان للدفاع عن قضية الإنسانية وحقوقها ضد عدو الجنس البشري، استقبلت آنا بافلوفنا بيير وعلى وجهها سحابة من الحزن سببتها — ولا شك — الخسارة القاسية التي مُني بها الشاب؛ إذ إنَّ كل الناس كانوا يتظاهرون بإيمانهم الشديد بحزن الشاب على أبيه الذي لم يعرفه، ولم يقضِ معه إلَّا طفولة قصيرة، كان ذلك الحزن البادي على وجهها يشبه إلى حد بعيد الخطورة الكئيبة التي تعلو وجهها كلما تحدثتْ عن سيدتها الجليلة الإمبراطورة ماري فيودوروفنا، فشَعَر بيير بشيء من التِّيه لهذا الاستقبال. وَزَّعَت آنا بافلوفنا ببراعتها المعهودة مدعويها على جماعات، فكانت الجماعة الرئيسية تحيط بالأمير بازيل والجنرالات الذين كانوا يتلذذون بالتندر والبحث في الشئون السياسية، وكانت جماعة أخرى تحيط بمائدة للشاي، وكان بيير يودُّ من صميم قلبه لو انضمَّ إلى جماعة المتحدثين بالسياسة، غير أنَّ آنا بافلوفنا لم تكد تراه وتقدِّر عزمه، حتى هرعت إليه مبتهجة مستبشرة وكأنها رئيس في ساحة معركة اشتهر بحسن توجيهاته ودقة آرائه، فلمستْ ذراعَه بيدها وقالت وهي تلقي نظرة إلى هيلين وتبسم له بنفس الوقت: انتظر، إنني أشملك هذا المساء بعنايتي.

وقالت تخاطب هيلين: يا هيلينتي الطيِّبة، ينبغي أنْ تكوني محسنة ﻟ «ماتانت»، فما قولك في الذهاب إليها والبقاء معها بضع دقائق؟ إنني أقدِّم لكِ عزيزَنا الكونت الذي لن يرفض صحبتك خلال هذا الوقت كي يُبعد عنك السأم.

مضتْ هيلين للقاء «ماتانت»، بينما أمسكت آنا بافلوفنا بذراع بيير من جديد واستبقته برهة، متظاهرة بأن عليها قبل أنْ تطلق يده أنْ تزوده بنصائحها وتوصياتها الضرورية.

قالت وهي تشير إلى الجمال الصارخ المتجسم في شخص هيلين التي كانت تتجه باعتداد ناحية «الماتانت» بخطوات جليلة مهيبة: ألستَ تراها رائعة الحسن؟ ثمَّ يا لجمال هندامها! ويا لكياستها ووفرة علمها واتزانها رغم سنها الصغيرة وشبابها المتدفق! إنَّ هذه الميزات طبيعيَّة عندها وهي تدل على جمال قلبها، كم هو سعيد ذلك الذي سيمتلكها! إنَّ أقل الأزواج خبرة في الأوساط الراقية لن يجد نفسه معها إلَّا وقد أصبح في أوج المجتمع، ألستَ من هذا الرأي؟

وأطلقتْ آنا بافلوفنا بيير الذي راح يُنعم النظر بإخلاص في مظهر هيلين الأنيق، ولهجتها الحانية المتزنة، لم يكن يفكر — إذا أراد التفكير فيها — إلَّا في جمالها فحسب، في ذلك الفن النادر الذي تمكنتْ منه حتى راحت تتخذ مظهرًا هادئًا صامتًا ومعتدًّا في كل الأندية.

استقبلت «ماتانت» الشابين وهي في زاويتها بتصرُّف كان يوحي بشديد خوفها من ابنة أخيها آنا بافلوفنا، أكثر مما ينبئ بحبها وتقديسها لهيلين الجميلة، اختلست نظرة إلى ابنة أخيها كأنها تستشيرها في السلوك الذي يجب أنْ تسير عليه معها، ولما انسحبت آنا بافلوفنا، لمست كُم بيير من جديد، وقالت ملمحة وهي تنظر إلى هيلين: آمل أنْ تكُف عن القول بأن الإنسان يشعر بالسأم في حفلاتي!

أمَّا هيلين فقد أعربت بابتسامة وادعة عن أنها لا تتوقع ألَّا يُعجب كلُّ مَن يراها ويفتتن بجمالها، سَعَلَتْ «ماتانت» برهة وابتلعت ريقها ثمَّ أعلنت لهيلين عن سرورها لرؤيتها، ثمَّ وجهت إلى بيير مثل ذلك القول بعد أنْ سعلت وابتلعت ريقها كذلك، وسلك الثلاثة في حديث لا طائل تحته ولا معنى له، راحت هيلين خلاله تلتفت نحو بيير وتقطعه ابتسامتها المشرقة الصافية؛ تلك الابتسامة التي كان من عادتها منْحها للجميع، وكان بيير قد ألِف تلك الابتسامة، حتى إنه لم يعُد يشعر بها؛ لأنها كانت غير معبرة بالنسبة إليه، وإذا كانت تعبِّر عن شيء، فإنما عن تفاهة لا طائل تحتها، وفي تلك اللحظة راحت الماتانت تمتدح علب السعوط التي كان الكونت بيزوخوف المرحوم يقتنيها. وبتلك المناسبة، أخرجت علبتها تعرضها على الشابين، فطلبت هيلين رؤية صورة زوج السيدة الفاضلة التي كانت منقوشة على غطاء العلبة تزينه.

قال بيير: إنها — ولا شك — من صُنع فينيس (ويقصد بذلك النقَّاش اليدوي الشهير).

وانحنى على المنضدة لالتقاط العلبة وهو يصيخ السمع إلى الحديث الدائر حول المائدة المجاورة.

همَّ بالنهوض ليدور حول المنضدة ويلتقط العلبة، غير أنَّ «ماتانت» مدت يدها بها من وراء ظهر هيلين التي رأت من واجبها — تسهيلًا لحركة العجوز — أنْ تنحني قليلًا نحو بيير، فانحنت والتفتت نحوه باسمة. كانت ترتدي ثوب سهرة حاسر العنق يُبرز الصدر وجزءًا كبيرًا من الظهر، كما كانت عليه أزياء ذلك العصر، فكان جذعها اللدن الذي كان بيير يتخيله دائمًا منحوتًا في الرخام، شديدَ القرب منه حتى إنه رغم قصر بصره لم تغب عن عينيه حركات الجِيد العاجي والكتفين المرمريتين، كان شديد القرب حتى إنه كان يكفي أنْ ينحني قليلًا حتى يلامس بشفتيه ذلك الجسد الشهي، أحسَّ بدفء ذلك الجسد الفتي واستنشق عبيره، وأصغى إلى فرقعة حمالة النهدين الخفيفة، وبدلًا من أنْ يرى ذلك الجمال والتكوين المرمري الذي كان متحدًا مع الزينة الخارجية، أتيح لبيير بتلك الانحناءة أنْ يرى ويخمن ما تحت ذلك السِّتر الرقيق من الثياب، ويقدِّر أنَّ وراءه سحر جسد رائع شديد المفاتن، ومنذ أنْ وُفق إلى ذلك الاكتشاف، استحال عليه أنْ يرى شيئًا آخر كما يستحيل على كل إنسان التعلق بخيالٍ مرَّة ثانية بعد أنْ يكتشف حقيقته.

كان يبدو على وجه هيلين تعبير من تقول: «إنك ما كنت ترى أنني غدوت امرأة ناضجة؟ نعم، امرأة تريد أنْ تصبح مِلكًا لهذا أو لذلك، لك كما لسواك من الناس»، وعندئذٍ أحسَّ بيير أنَّ هيلين لا يمكنها أنْ تكون زوجته فحسب، بل إنها يجب أنْ تكون زوجته ولا شيء غير ذلك.

لقد أدرك ذلك منذ تلك اللحظة بمثل التأكيد والاطمئنان الذي يشعر بهما لو كان واقفًا معها بين يدي القس يبارك زواجهما، أمَّا كيف سيتحقق ذلك ومتى سيتحقق؟ فإنه كان يجهل التفاصيل، بل إنه ما كان يعرف إذا كانت تلك النهاية المنتظرة ستكون حدثًا سعيدًا أم عكس ذلك — وكان ينتظر الحل الثاني بشكل غامض مبهم — لكنه كان متأكدًا من أنَّ ذلك سيتم بالفعل.

خفض بيير أبصاره ثمَّ رفعها وهو يتمنى لو أنه رآها كتلة جمال صارخ حي ناءٍ عنه صعب المنال، كما كان يراها في الأيام السابقة، لكنه ما استطاع إقناع نفسه بوجاهة ذلك وما قنع به، بل إنه كان يستحيل عليه رؤيتها كذلك، كما يستحيل على المرء الذي ظنَّ تحت تأثير الضباب الكثيف أنَّ حزمة من الحشيش إنْ هي إلَّا شجرة سامقة، أنْ يرى بعد انقشاع الضباب الشجرةَ حزمةً من الحشيش، أو أنْ يخدعه نظره من جديد، لقد كانت شديدة القرب منه، وقد أثرت في شخصه واستولت على لُبه، فلم يبقَ بينهما منذ ذلك الحين من عقبات إلَّا ما تغرسه في طريقهما إرادته الشخصية.

ارتفع صوت آنا بافلوفنا يقول: حسنًا، سأدَعُكُما في زاويتكما، أرى أنكما على أحسن ما يرام فيها.

وعندئذٍ راح بيير يتساءل بشيء من الارتياع عمَّا إذ لم يكن قد ارتكب فعلًا مشينًا يستوجب اللوم، فاحمرَّ وجهه وراح يسرِّح الطرف حوله بنظرات مكتئبة قلقة، كان يُخيل إليه أنَّ كل المدعوين باتوا يعرفون ما وقع له في تلك اللحظة مثل معرفته تمامًا.

ولما انضمَّ بعد فترة إلى الجماعة الرئيسية قالت له آنا بافلوفنا: يقال إنك تجمِّل منزلك في بيترسبورج، وتُدخل عليه تحسينات جديدة.

والواقع كان كذلك؛ إذ إنَّ ببير — دون أنْ يعرف السبب لذلك — نزل عند رأي مهندسه الجازم، فأمر بإجراء إصلاحات وإدخال تحسينات جمَّة على قصره الفخم المنيف في بيترسبورج.

أردفت وهي تبسم: إنَّ هذا حسن، ولكن لا تترك منزل الأمير بازيل، إنَّ من الخير أنْ يكون للمرء صديق كالأمير بازيل، ألا تراني أعرف شيئًا ما؟ ثمَّ إنك شاب في مقتبل العمر ولا زلتَ بحاجة إلى النصح، أرجو ألَّا تغضب إذا كنت أسيء التصرف في الحقوق المخولة إليَّ بوصفي من العانسات المسنَّات.

وتوقفتْ قليلًا بانتظار عبارة الاحتجاج المألوفة في مثل هذا الموقف عندما تعترف سيدة بتقدمها في السن، ثمَّ أردفت: لكنك إذا تزوجت فإن الأمر يكون مختلفًا.

وأشفعت قولها بنظرة شملت الشابين معًا.

لم ينظر بيير إلى هيلين ولم تنظر هذه إليه كذلك، لكنها كانت أبدًا شديدة الالتصاق به لدرجة مرعبة، غمغم ببضع كلمات غير مفهومة وقد اندفعت الدماء إلى وجهه.

ولما عاد إلى غرفته، جفاه الكرى طويلًا ونأى النوم عن عينيه، ظلَّ يفكر فيما وقع له، تُرى ماذا حدث له ذلك المساء؟ لا شيء، لقد فهم وأدرك أنَّ تلك المرأة التي كان يعرفها منذ طفولتها، والتي كان يقول بلامبالاة كلما تحدَّث عنها أو رد على أولئك الذين يُطْرون جمالها: «آه نعم، إنها لا بأس!» أدرك أنَّ تلك المرأة يمكن أنْ تصبح له.

راح يحدِّث نفسه قائلًا: «لكنها حمقاء، لقد اعترفتُ بنفسي بذلك مرارًا، هناك شيء من الانحطاط والرداءة في الشعور الذي تلهمه، لقد زعموا أنَّ آناتول أخاها قد أُغرم بها، وأنها كانت كذلك مغرمة به تعشقه؛ وقد يكون إبعاد آناتول راجعًا إلى هذا السبب، ثمَّ هناك أخوها الآخر هيبوليت وأبوها الأمير بازيل … هم! إنَّ كلَّ هؤلاء لا يروقون لي.»

وبينما كان يناقش نفسه على هذا النحو دون أنْ يندفع بأحكامه إلى المدى الأقصى، أحسَّ بابتسامة تلعب على شفتيه، واعترف أنَّ هناك مناقشات أخرى كانت تتغلب في نفسه على تلك الاعتراضات. لقد كان يحلم بجعل هيلين زوجة له رغم اعترافه بتفاهة شأنها ومعرفته الأكيدة لذلك؛ لعلها كانت تستطيع أنْ تحبه في المستقبل، لعلها كانت خلافًا لكل ما ظنَّ بها من سوء، ولعلَّ كل ما قيل عنها ليس مرتكزًا على أُسس متينة وتعود ابنة الأمير بازيل تخطر في خياله ليس بوصفها ابنته، بل على اعتبارها المرأة التي لا يكاد الثوب الأشهب يغطي جسدها الفاتن. «ولكن لِمَ لمْ تراودني أفكار مماثلة من قبل؟» ومن جديد راح يؤكد لنفسه استحالة ذلك، وأنَّ ذلك الزواج لن يخلو من شيء مَقيت كَريه؛ شيء ينقصه الشرف وتأباه الطبيعة، تذكَّرَ كلماتها ونظراتها كما تذكَّر كلماتِ أولئك الذين كانوا يرونهما معًا ونظراتِهم، تذكَّر عبارة آنا بافلوفنا عندما حدَّثَتْه عن منزله في بيترسبورج، وتذكَّر ألف تلميح وتلميح صدرت كلها عن الأمير بازيل في مناسبات متعددة وعن أشخاص آخرين، وعندئذٍ استولى عليه ارتياع شديد؛ ألَمْ يقذفْ بنفسه في مغامرة تجلب عليه النقد واللوم دون شك، وعليه تحاشيها والتخلص منها؟! لكنه في ذات الوقت، في أحلامه الكثيرة تلك الليلة كانت صورتُها هي تُبعث بين ألوف الأشياء الأخرى وتطالعه بكل إغرائها الأنثوي البديع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤