الفصل الحادي عشر

مفاوضات فاشلة

أقام ألكسندر في اليوم الثاني في مدينة فيسشو، وأمر باستدعاء طبيب جلالته المرافق فيلبير، فشاع خبر الوعكة الصحية التي ألمَّت بالإمبراطور في القيادة العامة وبين الوحدات القريبة من المكان، كان خُلَّص العاهل الروسي يزعمون أن روحه الحساسة المرهقة تأثرتْ بمشاهد القتلى والجرحى، فضعفت شهيته إلى الطعام، وأمضى ليلة شديدة الإزعاج.

وفي فجر اليوم السابع عشر،١ تقدَّم ضابط فرنسي، يحميه علَم أبيض، إلى الخطوط الروسية الأمامية، وطلب مقابلة الإمبراطور، فنُقل إلى فيسشو. ولما كان الإمبراطور نائمًا، فقد اضطر ذلك الضابط الذي لم يكن إلا سفاري،٢ أن ينتظر حتى يستيقظ جلالته. وحوالي الظهر، مَثُلَ بين يدي الإمبراطور حيث لبث ساعة كاملة، خرج بعدها يصحبه الأمير دولجوروكوف، وسرت بين الصفوف شائعةٌ مفادُها أن نابليون أرسل يلتمس مقابلة الإمبراطور ألكسندر الذي رفض الذهاب بنفسه، وأناب عنه الأمير دولجوروكوف، المنتصر في معركة فيسشو؛ ليبحث مع نابليون في شئون السلام إذا رغب هذا، خلافًا لِما كان يُنتظر منه، وقد قوبل رفض العاهل ألكسندر من قِبل الجنود بسرور بالغ، وأثار في الجيش روح الكرامة والاعتداد.

وحوالي المساء، عاد دولجوروكوف، فمضى قُدمًا إلى مكتب الإمبراطور؛ حيث لبث في حضرته على انفراد وقتًا طويلًا.

وفي يومي ١٨ و١٩ (أيْ ١ و٢ كانون الأول كما أسلفنا) ظلَّت الوحدات الروسية تتقدم والخطوط الأمامية للعدو تتراجع إثر مناوشات بسيطة تافهة، غير أن حركة كبيرة دبَّت في الصفوف اعتبارًا من بعد ظهر يوم ١٩ (٢ / ١٢ / ١٨٠٥)، حركة هائلة بلغت في مداها إلى أعلى مراتب الجيش، واستمرت دائبة حتى صباح يوم ٢٠ تشرين الثاني؛ وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة أوسترليتز التاريخية٣ الخالدة.

كانت الحركة الصاخبة والأحاديث الحارَّة والسعي الدائب، ومهام الضباط المساعدين، محصورةً كلها حتى ذلك اليوم بين حدود مركز القيادة العامة الإمبراطورية. أما في يوم ١٩ تشرين الثاني، فقد تعدَّت الحركة تلك الحدود، فبلغت مركز قيادة كوتوزوف ومركز أركان حرب قوَّاد الكتائب والوحدات. ولم يحلَّ المساء إلا وكانت الصفوف كلها في شغل شاغل بفضل مساعي الضباط التابعين. وفي ليل ١٩-٢٠ تشرين الثاني، اهتزت الكتلة الهائلة التي كان قوامها ثمانين ألف رجل، والتي كانت تنبسط على جبهة طولها يناهز العشرة كيلومترات.

كانت الحركة المركزية التي بدأت ذلك الصباح من مركز القيادة الإمبراطوري، والتي دبَّ بسببها النشاط في كل القطعات، تُذكِّر المرء بالعجلة المحركة التابعة لساعة جبارة كبيرة. بدأت إحدى العجلات تدور ببطء، ثم أعقبتها ثانية فثالثة، ولم تلبث حتى استجابت لها المشابك والعجلات الفرعية وما إليها، فراحت تهتز بدورها، تزداد مشيتها سرعةً دقيقةً بعد دقيقة، فيدوي الجرس وتتحرك التماثيل الصغيرة، وتتقدم الإبر بانتظام إلى الأمام كما هي النتيجة المحتومة للعملية كلها.

كذلك كانت الآلة العسكرية تشبه آلة الساعة في كل شيء، حتى في الغاية، فإذا ما قامت الحركة الأولى، لبثت كل الآلات الأخرى جامدة حتى يصل إليها النشاط الدوري الرتيب، فتصر العجلات على الحوامل، وتتشابك أسنانها، وتتحرك المشابك بفعل السرعة والروتين، بينما تظل العجلة المجاورة ساكنة بانتظار دورها في الحركة، وكأنها تستطيع البقاء في سكونها وجمودها مئات السنين، ولكن عندما تحين اللحظة المواتية، وتشتبك أطرافها في مخلبٍ مشرشر مدبب، تخضع لنظام الحركة فورًا، فتدور ويرتفع صريرها هي الأخرى متماشية مع الحركة العمومية، التي تبقى النتائج المرجوة مجهولة منها.

وكما أنَّ الحركة المعقدة في الساعة لا تنتهي إلا بانتقال الإبرة المشيرة إلى الوقت من مكانها على الميناء ببطء وانتظام، فإن النشاط الذي دبَّ في أعصاب مائة وستين ألف رجل بين روسي وفرنسي، واصطدام تلك الرغبات واختلاط تلك الشهوات، والحسرات والمخاوف والآلام، وبوادر الكبرياء والذعر والحماس؛ لم يكن لها من نتيجة إلا خسارة معركة أوسترليتز بالنسبة إلى أحد الجانبين المتحاربين؛ تلك المعركة التي أُطلق عليها اسم معركة الأباطرة الثلاثة: إمبراطور روسيا والنمسا وفرنسا؛ وبمعنًى أصح، لقد كانت حركة إبرة التاريخ العام على ميناء تاريخ الإنسانية.

كان الأمير آندريه في الخدمة ذلك اليوم، فلم يفارق الجنرال الأعلى كوتوزوف لحظة واحدة. وفي الساعة السادسة مساءً، وصل كوتوزوف إلى مقر القيادة الإمبراطورية، وبعد لقاء قصير مع الإمبراطور، قصد إلى الكونت تولستوي، الذي كان ماريشال البلاط الأكبر. شعر بولكونسكي أن كوتوزوف لم يكن على ما يرام، بل إنه لاحظ عليه الاغتمام والاستفزاز اللذين كان مردهما الاستقبال الفاتر الذي قُوبل به من قِبل السادة أعضاء الحاشية في القيادة العامة، واللهجة التي يخاطبونه بها، والتي توحي بأنهم يعرفون أشياء يجهلها الآخرون. وأراد بولكونسكي معرفة كلمة السر في هذه المعضلة، فمضى إلى دولجوروكوف منتهزًا فرصة الفراغ القصير الذي عرض له أثناء مقابلة كوتوزوف للكونت تولستوي.

قال له الأمير، وكان يتناول الشاي مع بيليبين: إه! مرحبًا يا عزيزي، نعم إن غدًا موعد العيد، تُرى ماذا يقول عجوزك؟ إنه ليس حسن المزاج أليس كذلك؟

– ليس الأمر مقتصرًا على مسألة مزاج، إنني أعتقد أن الجنرال يطلب أن يُصغى إلى ما يقول.

– لقد أصغينا إليه عندما انعقد المجلس الحربي، ولسوف نصغي إليه كلما عزم على التحدث بتعقل، أما أن نتمهل في حين أن بونابرت لا يخشى شيئًا مثل خوفه من معركة عامة لتُشن على قواته، فذلك مستحيل.

– صحيح، بمناسبة الحديث عن بونابرت، حدِّثني عن انطباعاتك، لقد رأيتَه وتحدثتَ معه، ماذا وجدتَ فيه؟

– لقد رأيتُه واستخلصت من تلك المقابلة أنه ما من شيء يخيفه أكثر من معركة عامة تُشنُّ عليه.

كرَّر دولجوروكوف هذا القول وهو شديد الفخار؛ إذ استطاع استخلاص ذلك الرأي. أردف يقول: لو أنه لم يكن خائفًا من المعركة، فلماذا أثار هذه المباحثات، ورغِبَ في المفاوضة؟ ثم لماذا يتراجع باستمرار، وهو الذي عُرف عنه أن التراجع ليس في برامجه؟ صدِّقْني إنه خائف، إنه يخاف المعركة العامة، لقد دقت ساعته أؤكد لك، فثقْ في قولي.

لكن بولكونسكي ألحَّ يسأله: لكن خَبِّرني، كيف وجدتَه؟

– إنه رجل يرتدي «الرودنجوت» الرمادي، ويرغب من كل قلبه أن يناديه الناس ﺑ «يا صاحب الجلالة»، لكنني — لِشديد حزنه واكتئابه — لم أطلق عليه أيَّ لقب، هذا هو الرجل ولا شيء أكثر من هذا.

وابتسم دولجوروكوف لبيليبين ابتسامة شيقة، وأردف: إنني مع مزيد احترامي لكوتوزوف العجوز، أعتقد أننا لو تمهَّلنا وترددنا، فإننا نعطي فرصة كبيرة لنابليون تُمكِّنه من الإفلات، وبذلك نكون من أكرم المحسنين! إنه الآن بين أيدينا، لا تنسَ مبدأ سوفوروف العتيد: «لا تسمح لخصمك بمهاجمتك، بل كن أنت المهاجم»، صدقني يا عزيزي إنَّ حيوية الشباب في الحرب تمتاز ببُعد نظرٍ يفوق خبرةَ المخضرمين العجائز.

فقال بولكونسكي معترضًا على نظرية دولجوروكوف، راجيًا أن تتاح له في هذه المناسبة فرصة عرض خطته الشخصية التي وَضَعَها لذلك الهجوم: ولكن في أيِّ اتجاه سنهاجم، وعلى أية وضعية؟ لقد ذهبتُ بنفسي منذ حين إلى خطوطنا الأمامية، وتأكدت من استحالة تحديد مركز قواته الرئيسية.

فأجابه الأمير وهو ينهض واقفًا، ويبسط خريطة على المائدة: وماذا يهمُّ ذلك إذا كانت في برونُّو؟

وراح دولجوروكوف يشرح بسرعة وبوضوح حركة الالتفاف التي وضع خطوطها فيروذر.

شرح بولكونسكي اعتراضاته، وعرض خطته الشخصية التي كانت تبدو في مثل قيمة الخطط التي وضعها فيروذر، مع فارق واحد في غير صفه، وهو أنها جاءت متأخرة، ومنذ أن حاول إبراز محاسن خطته ومساوئ الأخرى، توقف دولجوروكوف عن الإصغاء إليه، فلم يعُد يلقي إليه إلا بنظرة ساهمة دون أن ينظر إلى شروحه على الخريطة.

وأخيرًا قال له: حسنًا، سيقام هذا المساءَ مجلسٌ حربي في مكتب كوتوزوف، وبإمكانك الدفاع عن وجهة نظرك هناك.

فقال بولكونسكي وهو يبتعد عن الخريطة: وهذا ما أنوي عمله.

وهنا تدخَّل بيليبين الذي ظل صامتًا حتى تلك اللحظة، ينظر إلى المتحدثين بهدوء مترقبًا الفرصة الملائمة للإلقاء بإحدى كلماته المأثورة: ماذا يفيدكم مثل هذا القلق الذي تسومونه أنفسكم أيها السادة؟! سواء جاءنا الغد بالهزيمة أو بالنصر، فإن عظمة الجيوش الروسية لا يمكن أن تُمس، إننا إذا استثنينا كوتوزوف، فإننا لن نجد قادة روسيين على رأس جيوشنا، إن القواد هم كالتالي: هر جنرال ويمبفن، الكونت دولانجيرون، الأمير دوليشتنشتاين، الأمير دو هوهنلوه، وأخيرًا برشد … برشد … وهلم جرًّا، كما هو حال كل الأسماء البولانية.

فصاح به دولجوروكوف: اصمت يا لسان السوء! ثم إن هذا غير صحيح؛ فهناك قائدان روسيان هما ميلورادوفيتش ودوختوروف، وكان يمكن أن يكون هناك ثالث أيضًا؛ وهو آراكتشيئيف لكن أعصابه ضعيفة قليلًا.

قال بولكونسكي: أعتقد أن مقابلة ميخائيل لاريونوفيتش قد بلغت نهايتها، فإلى اللقاء أيها السادة، وحظًّا سعيدًا.

وصافحهما وخرج.

وبينما كان عائدًا بصحبة كوتوزوف إلى مقر القيادة العامة دون أن ينطق هذا بكلمة، لم يستطع كبح جماح نفسه، فألقى عليه سؤالًا ينشد رأيه في معركة صبيحة الغد.

فحدجه كوتوزوف بنظرة صارمةٍ، وأجابه بعد لحظة صمت: إنني أعتقد أننا سنخسر المعركة، وهذا ما قلته للكونت تولستوي راجيًا أن يُبلغ الإمبراطور رأيي، فهل تَعْرِف ماذا كان جوابه؟ لقد قال لي: «إيه يا عزيزي الجنرال، إنني لا أهتم إلا بالرز والضلع المحشي، فاهتموا أنتم بالحرب»، نعم هذا هو الجواب الذي حصلتُ عليه منه!

١  ينبغي ألَّا يغرب عن البال أن التقويم الروسي تقويم شرقي، وهو يتأخر عن التقويم الميلادي الغربي بثلاثة عشر يومًا؛ لذلك إذا شاء القرَّاء تتبُّع هذه الحوادث حسب التقويم الشائع عندنا، فعليهم أن يضيفوا هذا الفرق، وعلى هذا الأساس فإن السابع عشر من تشرين الثاني حسب التقويم الشرقي يوافق الثلاثين منه عندنا وهكذا … (المترجم)
٢  رونيه سافاري، دوق دو روفيجو، جنرال فرنسي وُلد عام ١٧٧٤ وتوفي عام ١٨٣٣، ظهرت مواهبه في معركة أوسترولنكا، وتقلَّد منصب وزير البوليس في عهد بونابرت. (المترجم)
٣  Austerlit مدينة في مورافيا، اسمها بالتشيكية: سلافكوف. هَزم نابليون النمساويين والروس فيها يوم ٢ / ١٢ / ١٨٠٥ هزيمة منكرة، وقد ظل ذلك الانتصار أروع نصر حصل عليه نابليون في حياته العسكرية، حتى ظل ذِكر تلك المعركة يواكب اسم نابليون حتى اليوم. ومما يروى عنها، أن نابليون صاح بجنوده صبيحة يوم معركة موسكوفا التي وقعت عام ١٨١٢: «أيها الجنود، إنها شمس أوسترليتز!» وقد سُميت تلك المعركة أيضًا بمعركة الأباطرة الثلاث. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤