خطوبة مدبرة
عزم الأمير بازيل في تشرين الأول عام ١٨٠٥ على القيام بجولة تفتيشيَّة في أربع مقاطعات، وكان قد اعتزم القيام بتلك الرحلة؛ ليتسنى له زيارة ممتلكاته التي كانت أوضاعها المتزعزعة تثير قلقه باستمرار، وكان يُنتظر أنْ يصطحب ابنه آناتول من المدينة التي كانت فرقته مستقرَّة فيها لزيارة الأمير بولكونسكي العجوز، الذي كان يأمل بالفوز بِيَد ابنته، تلك الوارثة الغنية، لابنه المهتار. لكنه كان مصممًا — قبل الاندفاع في تدابيره الجديدة — على الانتهاء من مشكلة بيير، والحقيقة أنَّ هذا لم يكن يغادر مسكنه منذ أسابيع، تبدو عليه في حضرة هيلين الجميلة بوادر الاضطراب والبلاهة والحياء الشديد، وهي الصفات المعروفة عن العاشقين، لكنه ما كان بعدُ قد حزم أمره على التصريح بواقع حاله خلافًا لِمَا كان ينتظر الأمير بازيل.
وفي صباح ذات يوم، حدَّث الأمير بازيل نفسه بقوله: «إنَّ كل هذا جميل ورائع، ولكن ينبغي أنْ أفرغ منه.» وندَّت عن صدره زفرة عميقة سويداوية، والواقع أنَّ بيير ذاك، الذي كانت له عليه التزامات متعددة — ليباركه الله — لم يكن يتصرف تصرفًا سليمًا في تلك المسألة، كان يحدِّث نفسه بقوله: «الشباب … الطيش … ليباركه الله (ويلذ له إشعار نفسه، بطيبته المتزايدة، بتلك البركات التي يستمطرها عليه) ولكن ينبغي أنْ نفرغ من هذا، إنَّ عيد ليوليا (وهو تحريف وتدليل لاسم هيلين ابنته) سيحل بعد غد، ولسوف أدعو بعض الأشخاص، فإذا لم يفهم واجبه فإنني سأقوم بواجبي. إنني على كل حال أبوها.»
كانت ستة أسابيع قد انقضت على حفلة آنَّا بافلوفنا الأخيرة وليلة الأرق تلك، التي قرر بيير فيها أنَّ ذلك الزواج سيسبب له التعاسة، وأنَّ عليه تنكُّب سبيل هيلين والفرار منها مهما كان الثمن، لكنه مع ذلك لم ينفك عن السكنى في منزل الأمير بازيل طيلة تلك المدة، متطلعًا خلالها برعب وذعر إلى أن كل يوم يقضيه هناك يزيده تعلقًا بهيلين، وقربًا منها في عيون الناس، وأنَّ عودته إلى نفوره السابق منها أمر مستحيل. لقد شعر بعجزه التام عن انتزاع نفسه من بين يدي هذه المرأة التي كان يَعتبر ربط مصيره بمصيرها مجازفةً خطيرة، عليه أنْ يتحاشاها، ولعله كان يستطيع رغم ذلك أنْ ينجو بنفسه من ذلك الخطر، لولا أنَّ الأمير بازيل راح يحيي كل يوم — خلافًا لجري عادته — حفلات كان على بيير الظهور فيها إلَّا إذا كان معتزمًا تشويه متعة المدعوين بتخلُّفه، وتبديد أملهم وما ينتظرون. وفي المناسبات النادرة التي كان بيير يجد نفسه فيها في منزله، كان الأمير يهرع إليه فيضغط بقوة على يده مصافحًا، ويقدِّم له وجنته المجعدة لتقبيلها وهو يقول له: «إلى الغد»، أو «تعالَ لتناول طعام الغذاء معنا، وإلَّا فلن أعود إلى رؤيتك»، أو كذلك: «إنني سأنتظرك وأبقى خصوصًا من أجله»، فإنه ما كان يوجه إلى بيير أكثر من كلمتين اثنتين خلال الجلسة كلها، ولم يكن هذا قادرًا على مشاكسته أو الصمود له. وفي كل يوم كان بيير لا يفتأ يردد في سره: «ينبغي أنْ أفهمها رغم كل ذلك، وأنْ أصل إلى حقيقتها لأعرف هل كنتُ مخدوعًا من قَبل أو أنني أخدع نفسي الآن؟ كلا، إنها ليست حمقاء، كلا، إنها فتاة رائعة، إنها لا تأتي مطلقًا أمرًا منكرًا، إنها تتكلم نادرًا، لكن ما تقوله يكون دائمًا مصيبًا وواضحًا، فهي إذن ليست غبية حمقاء، إنها ذات مزاج متزن؛ لأنني لم أرَها مرَّة مضطربة مرتبكة، فهي إذن شخصية ممتازة.» وكان غالبًا يتورط في التفكير بصوت مرتفع أمام هيلين فيلقي ببعض الآراء، فكانت تجيبه إجابة قصيرة تدل — رغم ما فيها من وفرة المعاني — على استخفافها بتلك الأمور إلَّا إذا أعربت، خلافًا لذلك بنظرة أو بابتسامة صامتة، عن تساميها وتفوُّقها، ولقد كانت على صواب إذ ماذا تُجدي تخرصات الناس وآراؤهم أمام تلك الابتسامة التي تنطق ببيان فصيح لا تعبِّر عنه الأحرف والكلمات؟!
كانت هيلين تخصه بابتسامة فريدة مرحة مطمئنة، تحمل من المعاني ما لا تحمله ابتساماتها التقليدية الفارغة التي ترسمها على شفتيها في كل المناسبات، وكان كل الناس ينتظرون أنْ ينطق بيير بكلمة، أو أنْ يتخطى حدودًا معيَّنة، وكان يَعرف ذلك تمامًا كما يعرف أنه سوف يتخطى ذلك الحد آجلًا أم عاجلًا، لكنَّ رعبًا غامضًا كان يستولي عليه لمجرد التفكير في تلك الخطوة الآتية، حدَّث بيير نفسه ألف مرة خلال تلك الأسابيع الستِّ، وهو يشعر أنه يُجذب كل يوم أكثر من اليوم الأسبق إلى تلك الهاوية الرهيبة: «ولكن عجبًا، إنَّ الأمر لا يعدو وجوب اتخاذ قرار، فهل أكون عاجزًا عن اتخاذ خطوة حاسمة؟!»
كان بيير — رغم إصراره على اتخاذ قراره النهائي — يحس دائمًا بذعر كلما رأى أنَّ التصميم، الذي كان يعتقد أنه جازم وفي طاقته التمسك به، يتبدد ويهجره في موقفه الحاضر. كذلك هو الحال لدى بعض الأشخاص الذين لا يشعرون بحقيقة قواهم الداخلية إلَّا إذا كان لهم ضمير نقي شديد الصفاء؛ لذلك فإنه منذ ذلك اليوم الذي استولت فيه الرغبة الجامحة عليه بينما كان يعاين علبة السعوط عند آنا بافلوفنا، شَلَّ الخبثُ والمقصد السيئ اللذان نبتا في ضميره كلَّ حركات إرادته.
سيرج كوزميتش، تصلني من كل مكان …
فسألت إحدى السيدات: إذن، إنه لم يستطع الاسترسال في قراءته أبعد من عبارة «سيرج كوزميتش»؟
فأجابها الأمير ضاحكًا: كلا، بل «سيرج كوزميتش، من كل مكان … من كل مكان، سيرج كوزميتش …» لم يستطع التاعس الفكاك من هذه الجملة، لقد همَّ أكثر من مرَّة بمتابعة القراءة، لكنه كان في كل مرَّة لا يكاد يتفوه بكلمة «سيرج» حتى ينفجر باكيًا، وعند «كوز … ميتش» يزداد انتحابًا، أمَّا عند «من كل مكان» فقد يختنق بالعَبرات، فيُخرج منديله من جديد ويعاود القراءة: «سيرج كوزميتش، من كل مكان»، غير أنَّ نحيبه كان لا يلبث أنْ يتعالى أكثر فأكثر، حتى إنه اضطرَّ أخيرًا إلى تكليف سواه بقراءة الكتاب الشاهاني!
كرر أحدهم ضاحكًا: كوزميتش … من كل مكان … وكان يبكي ويرتفع نحيبه!
فهتفت آنا بافلوفنا من الجانب الآخر من المائدة بسبَّابتها: اعقلوا، إنَّ «فيازميتينوفنا» الطيب رجل باسل ممتاز!
فعمَّ الضحك المائدة كلها؛ ذلك الضحك الذي ما كان ينفك يتردد لأتفه الأسباب، وكان بيير وهيلين الوحيدين اللذين ظلا في مكانيهما صامتين وعلى شفاههما طيف ابتسامة لم تُستكمل بعدُ، لم تكن لتلك الابتسامة أية علاقة بموضوع سيرج كوزميتش، بل كانت ابتسامة احتشام منبعثة عن عواطفهما الخاصَّة، وعلى الرغم من أنَّ المدعوين لبثوا يتحدثون ويتضاحكون ويتفكهون متلذذين بتذوق خمرة الرين وأطايب الطعام، متظاهرين بعدم الاهتمام بالشابين، فإن نظراتهم المختلسة التي كانوا يوجهونها إليهما من حين إلى آخر، كانت تدل دلالة واضحة على أنَّ فكاهة سيرج كوزميتش والضحكات المدوية والوليمة الحافلة وكل ما يحيط بها ليس إلَّا خدعة أو ظاهرة يراد بها التمويه، وأنَّ الاهتمام العام مُنصبٌّ بكليته على الشفع: هيلين وبيير. وبينما كان الأمير بازيل يقلد سيرج كوزميتش في انتحابه، شمل ابنته هيلين بنظرة محيطة، وعندما كان ينقلب على قفاه ضاحكًا مقهقهًا، كان وجهه ينطق بصراحة: «إنَّ كل شيء على ما يرام، وإنَّ كل شيء سيقرَّر هذا المساء.» وكانت آنا بافلوفنا تدافع عن «فيازميتينوفنا الطيب» وهي تتخذ مظهر المتوعد، غير أنَّ الأمير بازيل كان يقرأ في عينيها خلال تلك النظرة الحادة التي سلطتها على بيير، إنها تهنئه بصهره الجديد المنتظر وبسعادة ابنته المرتقبة. أمَّا الأميرة، فكانت وهي تقدِّم الخمر لجاراتها تُلقي على ابنتها نظرة غاضبة وتزفر زفرة كئيبة، وكأنها تقول: «بلى يا عزيزتي، لم يبقَ لنا الآن إلَّا أنْ نشرب النبيذ الحلو؛ لأن الدور قد أصبح لهذه الشبيبة، وعليها أنْ تنشر سعادة شديدة السفاهة والوقاحة!» وكان هناك سياسي يرقب وجهَي العاشقين المشرقين ويقول لنفسه متسائلًا: «لماذا أتظاهر بالاهتمام بكل ما أروي وما أقصُّ؟ إنَّ كل هذا ليس إلَّا سخافات! والواقع أنَّ هذا وحده هو السعادة الحقيقيَّة!»
وفي غمار ذلك التشاغل التافه الحقير الذي يصطنعه الموجودون ليربط بينهم في تلك الحفلة، انبثق فجأةً شعور جديد طبيعي غريزي، كان ذلك الشعور هو الرغبة التي يحس بها أحدهما في الآخر، مخلوقان فتيِّان نبيلان! كان ذلك الشعور مهيمنًا على كل شيء، وكان متفوقًا على الثرثرات العرضية التي علت جلبتُها في ذلك المكان. فقدت الدعابات مَلَاحتها والأنباءُ الجديدة طرافتَها وأهميتها، وظهرت الحماسة العامَّة على حقيقتها مفتعَلة مصطنَعة، ولقد امتدَّ ذلك الشعور إلى الخدم أنفسهم، الذين كانوا رغم إغفالهم خدمة الشابين متعمدين، لا يَنُوا يتأملون وجه هيلين المشرق الوضَّاح، ووجْه بيير المضرَّج بالحمرة بقسماته الكبيرة التي امتزج البِشر والقلق في الظهور عليها.
كان بيير يحس أنه أضحى محط أنظار الجميع، فكان يشعر بارتياح يشوبه الاضطراب والارتباك، كان لا يصغي إلى شيء ولا يفقه أو يسمع شيئًا شأن الرجل المستغرق في مشاغله، لولا أنه من حين إلى آخر كانت بعض الفِكَر أو المشاعر البتراء الغامضة تعيده إلى الحقيقة دون سابق إنذار.
كان يفكر في سره: «إذن لقد انتهى كل شيء! ولكن كيف وقع كل هذا؟ أبِمثل هذه السرعة؟! إنني أرى الآن أنَّ هذا الأمر ينبغي أنْ يتم ليس من أجلها هي أو من أجلي أنا، بل من أجل هؤلاء جميعًا؛ لأنهم ينتظرون حدوثه بتلهُّف، إنهم ينتظرون كلُّهم حدوث «هذا الشيء» بمزيد من القناعة، حتى إنني لا أجد ما يبرر خيبة أملهم، أمَّا كيف سيتم ذلك؟ فإنني لست أدري! غير أنَّ ذلك سيتم، نعم، سيتم حتمًا.»
راح يحدِّث نفسه مواسيًا: «مع ذلك فإن الأمر دائمًا يبدو كذلك، ولا يمكن أنْ يكون على شكل آخر. ثمَّ إنني ماذا عملتُ في سبيل ذلك؟ متى بدأ هذا الشيء؟ إنني عندما غادرتُ موسكو مع الأمير بازيل، لم يكن في الأمر شيء من كل هذا، ثمَّ إنني — ولا شك — ما كنتُ أستطيع رفض النزول في ضيافته، ثمَّ لعبتُ معها الورق والتقطتُ حقيبة يدها مرَّة، ورافقتها في نزهة. فمتى إذن بدأ هذا؟ متى وقع كل هذا؟» وها هو الآن يجلس بقربها وكأنه خطيبها، إنه يسمعها ويراها ويحس بوجودها، يشعر بتنفسها وحركاتها وجمالها. جمالها؟ أوَليس جمالُه هو — وليس جمالها — الذي يجذب كل هذه الأنظار؟ واعتدَّ بنفسه حين بلغ من مناقشته هذا الحد، فاستوى بجذعه ورفع رأسه مغتبطًا بسعادته، وفجأةً خُيل إليه أنَّ صوتًا مألوفًا لديه ارتفع مرتين، لكنه كان مستغرقًا في أحلامه فلم يفهم ما قيل له، ولما كَرر الأمير بازيل سؤاله للمرة الثالثة قائلًا: إنني أسألك متى تسلمت رسالة بولكونسكي، كم أنت ساهم البال يا عزيزي!
وابتسم الأمير فرأى بيير أنَّ الآخرين جميعهم يشاركونه في الابتسام وعيونهم شاخصة إلى هيلين وإليه، فقال في سره: «ماذا بعدُ؟ ما دمتم أنكم جميعًا على علم بالحقيقة. ثمَّ إنها هي الحقيقة الواقعة.» وافترَّ ثغره كذلك عن ابتسامته الهادئة؛ ابتسامة الطفل البريء التي استجابت لها هيلين بابتسامة مماثلة.
ألحَّ الأمير مستفسرًا وقد بدا عليه أنه في حاجة إلى الجواب ليضع حدًّا لنقاش معين: ألا تتكلم؟! متى تلقيت تلك الرسالة؟ هل كانت واردة من أولموتز؟
فأسرَّ بيير في نفسه قوله: «كيف يمكنهم الاهتمام بتفاهات كهذه؟» وأجاب بصوت مرتفع مشفوع بزفرة: نعم، من أولموتز.
وانتهى العشاء، فرافق بيير رفيقته إلى البهو أسوة بالآخرين، وأخذ المدعوون ينسحبون تباعًا، فكان بعضهم لا يودِّع هيلين مطلقًا، والبعض الآخر يتظاهر بعزوفه عن إزعاجها في انشغالاتها الجدية، فيقترب منها قليلًا ثمَّ يستأذن مسرعًا مُلْحِفًا عليها بالبقاء مكانها مُعْفِيها من واجب التشييع؛ فالسياسي انسحب انسحابًا صامتًا ضجرًا لأن حياته كلها بدت لعينيه تافهة إذا قيست بهناء بيير وسعادته، والجنرال العجوز اقتاد زوجته التي كانت تشكو ألمًا في ساقها وهو يحدِّث نفسه قائلًا: «هه! أيها الحيوان العجوز! انظر إلى هيلين فاسيلييفتا، ها هي ذي امرأة تظل محتفظة بجمالها ولو تخطَّت الخمسين!» أمَّا آنا بافلوفنا فقد همست في أذن الأميرة الأم قائلة: أعتقد أنني أستطيع تقديم تهانيَّ منذ الآن.
وانحنت عليها تعانقها وأردفت: لولا إصابتي بالبرد لبقيت وقتًا أطول.
فلم تُجِب الأميرة، لقد كانت تغبط ابنتها، بل وتحسدها على سعادتها.
وبينما كان الأمير وزوجه يقودان الضيوف الذاهبين ويشيِّعانِهِم، بقي بيير منفردًا بهيلين في البهو الصغير دون رقيب، لقد ظلَّ وحيدًا معها عدة مرات خلال الأسابيع الستة المنصرمة، لكنه لم يحدثها قط عن الحب، لكنه كان يشعر أنَّ مثل هذا الحديث أصبح الآن ضرورة مُلحَّة، غير أنه ما كان يعرف كيف يبدأ الخطوة الأولى. كان يشعر بالخجل، لقد كان يرى أنه يحتل مكانًا قرب هيلين معَدًّا لغيره من الناس، وكان هاتِفٌ داخلي يهيب به قائلًا: «إنَّ هذه السعادة لم تُخلق من أجلك، إنها خُلقت لأولئك الذين لا يملكون ما تملكه في نفسك من مشاعر.»
مع ذلك فقد شعر بضرورة التحدث بشيءٍ ما — أيِّ شيء — وحزم أمره على الكلام، سألها عمَّا إذا كانت مسرورة من تلك الحفلة، فأجابته بطهرها وبراءتها المعهودين أنَّ ذلك اليوم كان أجمل أعياد الأعياد في حياتها كلها.
كان بعض الأقرباء المقربين لا زالوا يجالسون الأميرة الأم في البهو الكبير، فجاء الأمير بازيل إلى حيث جلس الشابان يسترِقُ الخطى، فنهض بيير عند قدومه، وأعرب عن تأخره لأن الوقت قد أصبح متأخرًا، غير أنَّ الأمير أظهر بنظرة قاسية مستفسرة أنَّ مثل ذلك القول غريب وفي غير محله، لكنه تمالك نفسه على الفور وأمسك بذراع بيير فأجلسه، وابتسم له ابتسامة وديعة باشَّة.
قال يسأل ابنته بلهجة ماجنة طبيعية لدى الآباء الذين أنشَئوا أولادهم في النعيم والدلال؛ لهجةٍ كانت غير واضحة لديه كما ينبغي: وإذن يا لوليا؟
ثمَّ الْتفتَ إلى بيير وقال وهو يفك أزرار صدارته: «سيرج كوزميتش، من كل مكان.»
ابتسم بيير، لكن ابتسامته — والتي تعني — للأمير على أنه يفهم تمامًا أنَّ أقصوصة سيرج كوزميتش ليست هي التي تستأثر بانتباهه إلى هذا الحد في تلك اللحظة، وفهم الأمير كذلك أنَّ بيير لم يكن غبيًّا كما كان يعتقد، فانسحب وهو يمضغ كلمات غير مفهومة، ولم يفُت بيير اضطراب هذا النبيل العجوز ذي الوجه الجامد، وأثر ذلك الارتباك فيه، فالتفت إلى هيلين فبدت هي الأخرى مرتبكة تنظر إليه نظرة ناطقة تقول: «إنها خطيئتك على أية حال!»
خاطب بيير نفسه قائلًا: «لا شك أن عليَّ أنْ أُسرع في بلوغ النتيجة لكنني لا أستطيع، لا أستطيع.» وعاد يتحدث في أمور تافهة. سألها عن حقيقة أقصوصة سيرج كوزميتش التي لم يكن قد استوعبها، فاعترفت له هيلين باسمةً أنها هي الأخرى لا تعرف عنها أكثر مما يعرف.
ولما عاد الأمير بازيل إلى البهو الكبير، كانت الأميرة تتحدث عن بيير مع سيدة في سن ناضجة: صحيح إنها صفقة موفقة، لكن السعادة يا عزيزتي …
فأجابتها السيدة المُسنَّة: إنَّ أمر الزواج بيد الله.
بدا على الأمير بازيل أنه لم يسمع تلك المحاورة، وراح يتهاوى على أريكة في أحد الأركان، ولم يلبث أنْ أغمض عينيه وكأنه أغفى، ولما سقط رأسه على صدره تمالك نفسه وقال لزوجته: آلين، اذهبي وانظري ماذا يفعلان.
نهضت الأميرة واجتازت الباب وعلى وجهها طابع الخطورة واللامبالاة، فألقت نظرة على البهو الصغير، حيث كان بيير وهيلين يتحدثان، فقالت لزوجها: إنهما لا زالا ينسجان على منوال واحد: الحديث!
قطب الأمير بازيل حاجبيه فتقلص جانب من فمه، واهتزت وجنتاه وانطبع وجهه بذلك الطابع البشع الفظ، وانتفض ونهض واقفًا، وألقى برأسه إلى الوراء ومرَّ بالسيدات غير عابئ بهنَّ، واتجه نحو البهو الصغير بخطوات مصممة ثابتة. مضى من فوره إلى بيير الذي ما إنْ شاهد خطورة قسمات وجهه حتى انتصب واقفًا مذعورًا.
قال الأمير: حمدًا لله، لقد حدثتني زوجتي بكل شيء.
ثمَّ طوَّق بيير بإحدى ذراعيه وهيلين بالأخرى وأعقب: ليوليا يا فتاتي، إنني سعيد، شديد السعادة … (واختلجت نبرات صوته من الانفعال) وأنت يا بيير، لقد كنت أحب أباك … لسوف تكون رفيقة جديرة بك … ليبارككما الله!
وضمَّ ابنته إلى صدره ثمَّ عانق بيير الذي شعر بأنفاسه الكريهة تحجب وجهه، ومن الغريب أنَّ دموعًا حقيقيَّة كانت تبلل جفنيه.
هتف متابعًا: تعالَي يا أميرة.
وهرعت الأميرة وراحت بدورها تبكي، ثمَّ تبعتها السيدة المُسنَّة التي راحت تمسح دموعها بمنديلها أيضًا، معانقتين بيير الذي قبَّل بدوره يد هيلين أكثر من مرَّة، وبعد قليل خرجوا نساءً ورجالًا تاركين الشابين وحدهما.
راح بيير يحدِّث نفسه: «كان لا بُدَّ من وقوع هذه الكارثة، فمن العبث إذن أنْ أتساءل عمَّا إذا كان الأمر حسنًا أم سيئًا، والآن وقد حُلَّت القضية فقد تخلصتُ من شكوكي المتزايدة المقلقة، ولعلَّ في هذا وحده ربحًا كافيًا.» أمسك بيد مخطوبته بصمت وراح يمعن النظر في حنجرتها البديعة التي كانت تهتز بانتظام.
شرع يقول فجأة: هيلين.
وأُرْتِجَ عليه، راح يفكر: «إنَّ الإنسان ينبغي أنْ يقول شيئًا في مثل هذه المناسبات.» لكنه لم يتذكر كلمة واحدة من ذلك الشيء الذي يجب أنْ يقال. حدق في وجهها، فاقتربت منه متضرجة الوجه، قالت وهي تشير إلى نظارتيه: آه! ارفع هذه اﻟ… هذه اﻟ…
فأطاعها بيير ونزع نظارتيه فبدت عيناه مروعتين مستفسرتين إلى جانب التعبيرات الأخرى التي كانت مرتسمة فيهما؛ تلك التعبيرات المألوفة الأخرى التي كانت مرتسمة فيهما، تلك التعبيرات المألوفة عند الذين درجوا على استعمال النظارات عندما ينزعونها، أراد أنْ ينحني ليقبِّل يدها، لكن هيلين، بحركة عنيفة من رأسها سريعة غير منتظرة، قرَّبت شفتيها من شفتيه وضغطت بهما عليهما، انقلبت سحنتها بشكل غريب، حتى إنَّ بيير شُدِهَ لذلك التحول.
قال في نفسه: «ليكن، لقد توغلنا كثيرًا حتى تتيسر لنا العودة أو التراجع، ثمَّ إنني أُحبها بعد كل شيء»، نطق بقوله: أُحبك.
لقد تذكَّر أخيرًا أنَّ هذه الكلمة ومثيلاتها جديرة بالترديد في تلك المناسبة، لكن تلك الكلمة التي تفوَّه بها خلفت صدًى مؤثرًا مخزيًا، حتى إنه خجل من تلفُّظه بها.
وبعد ستة أسابيع أخرى تزوج بيير، لقد أصبح المالك السعيد لأجمل امرأة ولعدة ملايين — أو على الأقل هذا ما كان يشاع عنه — فانتقل إلى قصره المنيف الذي أُدخل عليه الكثير من التحسينات والإصلاحات؛ قصر كل كونت من آل بيزوخوف.