الفصل السابع

نقولا في الحرس الإمبراطوري

في الثاني عشر من تشرين الثاني، كان جيش كوتوزوف الذي كان معسكرًا في ضواحي أولموتز، يستعد للقيام باستعراض كبير غداة اليوم التالي أمام الإمبراطورين الروسي والنمسوي، وكان الحرس الروسي، الذي وصل مؤخرًا، يقضي الليل على بُعد أربعة أميال من المدينة، وكان عليه الظهور في ساحة العرض في الساعة العاشرة صباحًا.

في ذلك اليوم بالذات، تلقَّى نيكولا روستوف كلمة من بوريس يُنبئه فيها بأن فيلق إسماعيل مُعَسْكِر على مسافة أربعة أميال خارج أولموتز، وأنه ينتظر قدومه إليه ليسلِّمه رسالة ومبلغًا من المال أرسلهما ذووه، وكان نيكولا في مسيس الحاجة إلى المال؛ لأن معسكَره كان محاصرًا بعدد كبير من الباعة اليهود النمساويين الذين كانوا يقدِّمون للضباط والجنود سلعًا مختلفة مغرية ومتاعًا وتسلية، وكانت أيام ضباط بافلوجراد تمضي في سلسلة متصلة من الولائم والحفلات والشرب، وهي ميزات خُصصت لهم إبان انتقالهم، فكانوا لا يفتَئُون يترددون إلى أولموتز، إلى حانة أسستها امرأة اسمها كارولين الهنغارية، جعلت مستخدميها كلهم من الجنس الناعم، وكان روستوف قد احتفل منذ أيام بترقيته الجديدة، واشترى حصان دينيسوف (بيروان)، فتورَّط في ديون كثيرة موزعة في غير عدل بين الباعة وزملائه؛ لذلك فإنه ما كاد يتلقى كتاب بوريس حتى بادر إلى الذهاب إلى أولموتز، وهناك تناول طعامه، وجرع زجاجة من الخمر بصحبة زميل، وراح يبحث عن صديق طفولته، لم يكن قد أتم تجهيزاته بعد؛ لذلك فقد كان ممتطيًا صهوة جواد روسي استعاره من أحد القوقازيين، ومرتديًا سترة الجندي القذرة، وقد الْتمع عليها صليب يُمنح للجنود، وسراويل ركوب مرقَّعة، وتَمَنْطَقَ بحسام ضابط في فرسان الدراجون، وغطَّى رأسه بقلنسوة مشوهة أمالها على أذنه بمجون، ولما اقترب من معسكر الحرس، راح يفكِّر في الأثر الذي سيُحدثه مظهره العسكري وحركاتُه التي انطبعت بطابع فرسان الجيش على بوريس والسادة أفراد الحرس.

والحقيقة أن فرقة الحرس كانت قد التحقت بالجيش المحارب، وكأنها ذاهبة إلى نزهة خلوية، لقد كان أفرادها على أوفر حظ من التنظيم وشموخ الأنف، وألْبِسَتُهم نظيفة أنيقة لا تقبل النقد، ولقد كانت المراحل الذي قطفها رجال الحرس قصيرة جدًّا والأمتعة والمهمات والأكياس وما إليها كانت تُنقل على عربات، أضف إلى ذلك أنهم في كل مراحل الطريق كانوا يُطعَمون أفخر الطعام الذي كانت السلطات النمساوية تجهِّزه خصيصًا من أجلهم، فكانت السرايا عند دخولها إلى المدن، تسير على إيقاع الموسيقى وصداحها، وتَخْرج منها على تلك الحال. وكان مقررًا أن يقطع رجال الحرس تلك المراحلَ بنظام السير الإيقاعي؛ الأمر الذي كان يجعل الأفراد شديدي الفخار والاعتداد، فكان الضباط في أماكنهم المقررة بين الصفوف وإلى جانبَيها، يتيهون في أثوابهم الأنيقة. وكان بوريس قد قطع المرحلة كلها إلى جانب بيرج الذي أصبح قائد سرية بفضل دقَّته وعقليَّته النظامية، وكان يتمتع بكل ثقة رؤسائه بوصفه من النوع الذي لا يجب أن يُهمَل شأنه، وكان بوريس من جانبه قد ارتبط بعلاقات مُجدية نافعة؛ نذكر منها تعرُّفه إلى الأمير آندريه بولكونسكي، الذي تلقَّى من بيير بيزوخوف توصية خاصة تدعوه للعناية ببوريس، وكان يعتمد على دعم الأمير وحمايته؛ ليلتحق بأركان حرب القائد العام كوتوزوف.

كان بيرج وبوريس في أبهى زينتهما، يَنْعمان بالراحة بعد المرحلة الأخيرة، ويقضيان الوقت بلعب الشطرنج حول مائدة مستديرة في النُّزُل المريح الذي عُيِّن لهما، وكان بيرج مودعًا غليونه المشتعل بين ركبتيه، بينما كان بوريس يبني أهرامات بالبيادق التي ربحها من صديقه، منصرفًا إليها باهتمامه على عادته، يسويها بيديه الناصعتين الدقيقتين، وهو لا يني يراقب زميله الذي كان عليه أن يجيب على حركته، وكان بيرج — وهو المخْلص لمبدئه القاضي بعدم الاهتمام إلا بعمل واحد حتى إنجازه — منصرفًا بكليته إلى اللعبة غافلًا عن كل ما حوله.

سأله بوريس: هيا، دُلَّني على المخرج الذي ستجده لورطتك الآن.

فأجاب بيرج وهو يلمس بيدقًا لا يلبث حتى يُفلته: سوف نعمل ما في وسعنا.

وفي تلك اللحظة فُتح الباب، هتف روستوف: آه، ها هو ذا أخيرًا! ها إن بيرج موجود كذلك!

وأردف مقلِّدًا لهجةَ مربيِّتهم العجوز التي كانت كثيرًا ما تُضحكهم من قبلُ: هيا يا أطفالي، اذهبوا لتستلقوا وتناموا!

ونهض بوريس لاستقبال روستوف وهو يقول: رباه، كم تبدلت!

تخلَّص من وراء المائدة وهو يسعى بإبقاء أهراماته على حالها، واندفع يريد معانقة روستوف، غير أنَّ هذا تنحَّى عن طريقه ممتنعًا، لقد درج الفتيان الشباب على تنكُّب العادات المألوفة؛ لأنهم يفضِّلون اللجوء إلى أساليبهم الخاصة التي لا تتفق غالبًا مع ما هو مألوف بين الكبار من عادات، لعلها لا تخلو أحيانًا من الأنانية والاصطلاح، وهكذا فضَّل نيكولا أن يحيِّي رفيق صباه على طريقتهما السالفة، معربًا له عن سروره بلقائه؛ تلك الطريقة التي درجا عليها، والتي لا تخرج عن نَكْعة أو قرصة في الأذن. أما بوريس فعلى العكس، لقد اندفع نحوه وقبَّله ثلاثًا دون خجل مصطنع، وبمحبة قلبية واضحة.

لقد مضى على افتراقهما أكثر من ستة أشهر؛ لذلك فقد راح كلٌّ منهما يتأمل التغييرات التي نالت من رفيقه، تلك التغيرات التي يعود الفضل فيها للوسط الذي عاش فيه كلٌّ منهما، وأخذ كلٌّ منهما يبيِّن للآخر المعالم البارزة في تلك التغيرات الجديدة.

قال روستوف بصوته الذي لم يألفه بوريس، وبلهجة عسكرية صحيحة، وهو يشير إلى سراويله: إه أيها الملاعين، ها إنكما على أجمل زينة، وكأنكما في نزهة، خلافًا لحالنا نحن جنودَ الجبهة التعساء!

وأطلَّت صاحبة المسكن الألمانية خلال الباب الموارب مستغربة مثل هذه الصيحات، فغمز لها نيكولا بعينه وقال: ماذا هناك يا جميلتي؟

فقال بوريس: لا تصرخ هكذا، سوف تخيفهم، في الحقيقة إنني ما كنت أنتظر قدومك اليوم؛ لأنني لم أرسل إليك رقعتي إلا البارحة بواسطة أحد ضباط كوتوزوف المساعدين الذي عرفه، إن اسمه بولكونسكي، وما كنت أظن أنك ستتلقى الرقعة بمثل هذه السرعة. ليكن، كيف حالك؟ لقد بلوتَ القتال إذن، أليس كذلك؟

فحرك روستوف صليب سان جورج المعلق فوق سترته العسكرية المخرجة، وأبرز ذراعه المعلقة إلى عنقه، ونظر إلى بيرج باسمًا دون أن يجيب، وأخيرًا قال: أظن أنْ نعم!

فاستطرد بوريس وهو يبسم بدوره: طبعًا، طبعًا، بديع! أما نحن، فإننا قمنا كذلك برحلة بديعة، إنك تعرف أن سُموَّه ظل يقطع الطرق تواكبه كَتيبتنا، وبذلك أتيحت لنا كل أنواع المتعة؛ ففي بولونيا لم نشعر بالوقت يمضي ونحن نتنقل من حفلة راقصة إلى وليمة حافلة إلى حفلات استقبال فخمة، ولقد كان التسيزاريفيتش — لقب يعطى رسميًّا لابن القيصر البكر الذي سيخلفه في تسلُّم العرش — شديدَ العطف على الضباط جميعًا.

وراح الصديقان يطريان أعمالهما؛ الأول يمتدح الفرسان، ويطنب في وصف شجاعتهم في الحرب، ويثني على حياة التقشف التي يحيونها، والآخر يعدد الميزات والاعتبارات الكثيرة التي يَنعم بها أولئك المنتسبون إلى سلاحٍ يكون قواده محط أنظار الناس واحترامهم.

قال روستوف: آه، إننا نعرفكم معشرَ رجال الحرس! ماذا يا عزيزي لو أرسلتَ من يأتينا بزجاجة؟

فعبس بوريس ثم قال: إذا كنتَ تُصرُّ، فلا بأس.

وأخرج كيس نقوده المخبأ تحت الوسائد النظيفة، وأصدر أمْره بإحضار الشراب وقال: وبهذه المناسبة، سأعطيك الرسالة الواردة باسْمك والمال.

أخذ روستوف الرزمة، فألقى بكيس النقود على الأريكة، واتكأ بمرفقيه على الطاولة، وراح يقرأ الرسالة، ولم يكد يطالع الأسطر الأولى حتى راح يحدق بيرج بنظرات التضجر، لقد شعر أنَّ عيون بيرج شاخصة إليه، فجعل من الرسالة ستارًا يحجب نفْسه وراءه.

قال بيرج وهو ينظر إلى كيس النقود الفارغ في الأريكة: إنهم أرسلوا إليك مبلغًا كبيرًا على ما يبدو، مساكين نحن يا كونت؛ لأننا لا نملك إلا راتبنا الحقير نتبلغ به، وأنا من أفراد هذا الحرس.

فهتف روستوف: اسمع يا بيرج، إذا وقع لك أن تسلَّمتَ أمامي رسالة من ذويك، وكان إلى جانبك أحد المقرَّبين إليك يرغب في أن يطرح عليك ألف سؤال وسؤال، فَثِقْ بأنني أكفيك مئونة التخلص من بقائي، فاعمل إذن كما كنتُ سأعمل لو كنتُ في مثل موقفك، واذهب إلى حيث تشاء. وليكن إلى الشيطان!

وعلى حين فجأةً استدرك نفسه، وخفض صوته، وقام إلى بيرج يمسك بذراعه، ويُصلح بنظرة متورِّدة ما أفسده بكلماته القاسية، أردف بلطف: لا تغضب يا عزيزي، أرجو أن تعذر صراحتي، لكنني أعاملك معاملة الصديق القديم الودود.

فقال بيرج بصوت محتبس وهو ينهض: لا تبتئس يا كونت، إنني أفهم شعورك.

وقال بوريس من جانبه: أتدري أن مضيفينا دعَوْك إلى البقاء؟

حمل بيرج سترته النظيفة الخالية من كل شائبة، وأصلح شعره أمام المرآة، وسوَّاه فوق صدغيه على طريقة الإمبراطور ألكسندر، وخرَج باسمًا راضيًا بعد أن دَلَّتْه نظرة ألقاها على روستوف أن مظهر ثوبه الأنيق قد أحدث الأثر المطلوب في نفس الفارس المخشوش.

تنهَّد روستوف وهو يعود إلى قراءة رسالته: آه! يا لي من حيوان!

– كيف؟ ماذا هناك؟

فكرَّر مزمجرًا، وقد احمر وجهه بغتة: آه! يا لي من حيوان إذ لم أكتب لهم مرة من قبلِ أن أسبب لهم كل هذا الخوف! آه! يا لي من حيوان! ولكن أيها الغليون المحترق، هل أرسلتَ تابعك يأتينا بالخمر؟

– نعم.

– إذن من الخير أن نتناول قدحًا.

كانت الكونتيس روستوف قد أضافت إلى رسالتها الشخصية إلى ابنها رسالةَ توصية للأمير باجراسيون، حصلت عليها بواسطة صديقتها آنا ميخائيلوفنا، وكانت تتوسل إلى ابنها أن يستفيد منها إلى أقصى حدود الفائدة.

هتف روستوف وهو يلقي بكتاب التوصية أسفل المائدة: يا للغباء! لست في حاجة إلى مثل هذا أبدًا!

سأله بوريس: لماذا ألقيتَ بهذه الرسالة؟

– إنها كتاب توصية! يا لَلوسيلة المناسبة! لست أبالي بها!

فقال بوريس وهو يلمُّ الرسالة، ويقرأ ما جاء فيها: كيف لا تبالي؟! يمكن أن تفيدك هذه الرسالة كثيرًا.

– لن تفيدَني في شيء؛ فلن أكون ضابطًا مساعدًا لأحد.

– ولماذا من فضلك؟

– لأن هذا مِن عمل الخدم لا الجنود!

فقال بوريس وهو يهزُّ رأسه: لا زلتَ ذلك الحالم الساهم كما أرى.

– وإنك لا زلت ذلك «الدبلوماسي» المعهود، ولكن دعنا من هذا، قل ماذا أصبحتَ وما هي أخبارك؟

– الواقع أنني بخير حتى الآن، لكنني أعترف لك بأنني لا أرغب في البقاء في الجيش العامل لفترة طويلة، لك أن تثق بأنني لن أخجل أبدًا لو أصبحتُ ضابطًا مساعدًا.

– ولماذا؟

– لأنني إذا كنتُ اخترت الجندية سبيلًا، فما ذلك إلَّا لأخلق لنفسي مركزًا لامعًا.

فقال نيكولا الذي كانت أفكاره تبدو في مكان آخر: صحيح!

كانت عيناه تحدقان في عينَي صديقه، وكأنه يبحث عبثًا عن جواب لسؤال معين.

وجاء التابع العجوز بالخمر، فقال بوريس: لعلَّنا نستطيع استدعاء ألفونس كارليتش، سوف تفرغ الزجاجة معه؛ لأنني امتنعت عن الشراب أخيرًا.

فسأل نيكولا مشفعًا سؤاله بضحكة مزدرية: لا بأس، لا بأس. قل لي أيُّ نوع من الناس هو هذا الألماني؟

– إنه فتًى باسل لطيف جدًّا وعظيم الاستقامة.

حدج روستوف صديقه بوريس فترة، وأطلق زفرة طويلة.

لم يلبث بيرج أن عاد، وكانت الخمر قد حلَّت عُقد اللسان، فراح الحديث يتشعب بحماسة، أخذ ضابطا الحرس يرويان لروستوف الحوادث التي وقعت لهم خلال الطريق، وينهيان إليه تفاصيل الاستقبالات التي نُظمت لهم في روسيا وبولونيا والخارج، وَصَفَا له تصرفات رؤسائهم وحركاتهم وبصورة خاصة تصرفات الغراندوق، وقصَّا عليه عديدًا من النوادر والفكاهات حول سلامة طويَّته وثورات غضبه. ومن الطبيعي أن بيرج لم يكن يتحدث إلا إذا كان الموضوع يتعلق بشخصه بالذات، ولكن ما إن دار البحث حول الغراندوق ونوبات غضبه، أعرب عن فخاره؛ إذ استطاع أن يتحدث معه في جاليسيا،١ خلال جولة تفتيشية قام بها سُموه للقطعات في الميدان، وبدا عليه أنه غير راضٍ عن تحرُّكات الجنود. قال بيرج موضحًا وعلى شفتيه ابتسامة منتصرة إن التسيزاريفيتش اندفع بحصانه نحوهم وصاح: «يا لكم من عصبة باشيبوزوك!» — وهي السبة المفضلة لدى سُموه عندما يكون غاضبًا — وسأل بإلحاح أن يتقدم قائد السرية منه، وأردف: لَعمري أيها الكونت، إنني لم أشعر قط بالخوف؛ لأنني كنت أعرف عدم مسئوليتي في الأمر، أنا لا أمتدح نفسي يا كونت، لكنني أؤكد لك أنني أحفظ عن ظهر قلبٍ كلَّ الأوامر اليومية الصادرة وأتمسك بها، كما أحفظ عن ظهر قلبٍ صلاةَ «أبانا الذي …» وهكذا فإنني في سريتي لا أتحول قطُّ عن النظام؛ ولهذا السبب كنت دائمًا مرتاح الضمير هادئ البال؛ وإذن فقد تقدمتُ ممتثلًا (ونهض بيرج يُمثل حركاته، حينما تقدَّم من الغراندوق رافعًا يده بالتحية إلى حافة خوذته، فاتخذ وجهُه طابعًا امتزجت فيه اللامبالاة بالاعتداد بالنفس والرضى عنها إلى أقصى حدودهما) فبدأ يشتمني ويكيل لي السباب حتى غسلني فيها غسلًا كما يقال، وتحدَّث فوصفَني بكل الصفات، وأدرجني في كل الفئات: «منحط، باشيبوزوك، طريدة سيبيريا!» فلم يترك كلمة إلا وقالها.

وهنا ابتسم بيرج وأعقب: ولما كنتُ واثقًا من براءتي مما يُنسب إليَّ، فإنني لم أتفوَّه بكلمة، ألستُ على صواب يا كونت؟ فصرخ لي: «هل أنت أبكم يا هذا؟» لكنني لبثتُ صامتًا لا أجيب، لك أن تصدقني إذا شئتَ يا كونت، حينما أقول لك إنه في صباح اليوم التالي عند اجتماع الصباح لم يُذكر شيء عن حادثة أمس في التقرير اليومي ولم أعاقَب، وهذا يرجع إلى تمالكي أعصابي في ذلك الموقف.

وجذب مِن غليونه نَفَسًا عميقًا، وراح يطلق حلقات الدخان من فمه بانتظام، وابتسامةُ الظفر لا تفارق شفتيه.

قال روستوف مبتسمًا ابتسامةً غامضة: نعم، هذا عين الصواب وفيه كل الكمال!

شعر بوريس أن روستوف على وشْك جعْل بيرج هدفًا لسخريته وهَزْئه، فقطع عليهما الطريق بمهارة بأن سأله أين ومتى وكيف جُرح، وكان هذا الموضوع طليًّا، وعلى روستوف الذي راح يتحدث بحماس آخذ في التزايد كلما أوغل في سرد التفاصيل، قصَّ عليهما مسألة شوينجرابن كما درج الجنود عادةً على التحدث عن مجيد الأفعال التي قاموا بها؛ أي واضعًا الأمور كما كان يريدها أن تكون لا كما كانت في واقع الأمر، أو كما سمعوا غيرهم يصفها، ولا شكَّ أن روستوف — وهو الذي تُعتبر الصراحة جزءًا من طبعه — كان يتحاشى تشويه الحقيقة، ومع ذلك، فإن روايته التي بدأت صحيحة تمامًا، لم تلبث أن اختلطت، وتداخلت تدريجيًّا دون أن يشعر حتى أصبحت ادعاءً واضحًا ومبالغات تبهر العيون، كان يتعذر عليه التصرف على غير ذلك الشكل، وكان رفيقاه قد سمعا من قبلُ وصفًا لبعض المعارك، وكوَّنا على ضوء ما سمعا فكرةً حول الموضوع، فباتا ينتظران منه أن يأتي وضعه مصداقًا لفكرتهما، فلو أنه لم يُوشِّ قصته ولم يزينها؛ لاعْتقد كلاهما أنها بعيدة عن الحقيقة أو — وهنا أخطر ما في الأمر — لَعَزَوْا إلى خطيئةٍ ما صادرة عنه بالذات تلك المخالفات الواضحة في روايته عن حملةٍ يقوم بها سلاح الفرسان؛ لذلك فإنه ما كان يستطيع القول إن سريته قنعت بالأدباء بأقصى ما في طاقة الخيل، وأنه سقط عن جواده أثناء الجري، فتحطمت ذراعه، وفر بعدها بكل ما أوتيَتْ ساقاه من قوة هربًا من الفرنسيين.

ثم إنه لا يمكن في سرد قصة طويلة أن يتحاشى المتحدثُ الخروج عن جادة الصدق إلا إذا بذل مجهودًا خارقًا لكبْتِ عواطفه؛ الأمر الذي قلَّ أن استطاعه شابٌّ حديث العهد بالجندية، كان بيرج وبوريس ينتظران منه أن يحدثهما بأنه انقضَّ على فيلق كامل من فيالق العدو، وهو يتقد حماسًا واندفاعًا فراح يفتك بهم، ويضرب بحسامه يمينًا وشمالًا، والأشلاء تتناثر في كل حدب وصوب حتى أعياه التعب فسقط أخيرًا … إلخ … إلخ. وقد رسم لهما روستوف لوحة مماثلة تقريبًا عن بطولته وسبب جرحه.

وبينما كان في غمرة تحمُّسه لحديثه يقول: «لا يمكنك أن تتصوَّرَ السعار الغريب الذي يصيب المرء خلال الهجوم.» دخل الأمير آندريه بولكونسكي الذي كان بوريس ينتظره، وكان بولكونسكي يحمي الشباب الجدد مُرضيًا بذلك نزعته الشخصية التي كان يُرضيها لجوء هؤلاء إلى حمايته، خصوصًا وأنه كان على أتم استعداد لخدمة بوريس الذي راق له أمسِ واستلطف صحبته، فلما كلَّفه كوتوزوف أن يحمل أوراقًا معينة إلى التسيزاريفيتش، انتهز الفرصة لزيارة بوريس، وهو يعتقد أنه سيجده على انفراد، غير أنه انزعج عندما شاهد فارسًا يتبجح ويروي طرائف شجاعته؛ وهو الأمر الذي ما كان يطيق احتمال، فابتسم ببشاشة لبوريس وحيَّا روستوف بتقطيبة خفيفة مشفعة بطرفة من عينيه، أعقبهما سلام مقتضب، ومضى يجلس بإرهاق على الأريكة، كان يخشى أن يحتكَّ مع أشخاص ويتناقش معهم بلغة غير مناسبة، وقد حدس روستوف ما في خاطره، فتضرج وجهه خجلًا، لكنه ما عتم أن حدَّث نفسه قائلًا: «ولكن ماذا يهمني منه؟ إنني لا أعرف هذا المخلوق!» مع ذلك فإنه ما كاد يرفع أنظاره إلى بوريس حتى شعر أنه هو الآخر مرتبك من تصرفاته المقتبسة عن فرسان الجيش. وعلى الرغم من أنْ مظهر الأمير آندريه الفاتر المتهكم، وعلى الرغم من ازدرائه الشخصي العميق الذي يحس به بوصفه من الجنود المحاربين حيال كل هؤلاء الأدنياء الحقيرين التابعين للأركان، والذي لا بدَّ أن يكون هذا الوافد الجديد منهم؛ فإن روستوف لم يتمالك نفسه عن الاضطراب، أو يكبح اندفاع الدم الغزير إلى وجهه. وهكذا فقد صمت مرغمًا، وعندئذٍ استفسر بوريس عن حوادث الأركان العامة وأخبارها، غير أنَّ الأمير بولكونسكي ما كان يستطيع التصريح أمام هؤلاء الغرباء بأمور على جانب كبير من الخطورة والأهمية؛ لذلك فقد أجاب: أعتقد أننا سنسير إلى الأمام.

وامتنع عن التعقيب على هذا القول بأية كلمة.

وانتهز بيرج الفرصة ليسأل بلهجة ملؤها الاحترام عما إذا كانت النية منصرفة حقًّا إلى زيادة العلف ومضاعفته لرؤساء السرايا كما كان يشاع، فأجاب بولكونسكي بأنه لا يستطيع احتمال البت في أمور على مثل هذه الأهمية؛ مما جعل بيرج يتقبَّل هذا الرد بضحكة مرحة.

وقال بولكونسكي لبوريس وهو يختلس نظرة إلى حيث جلس روستوف: أما قضيتك أنت، فسنتحدث فيها في مناسبة أخرى، لاقِنِي بعد العرض، ولسوف نعمل جاهدين على إرضائك.

وأجَالَ بصره في أنحاء الغرفة، ثم أوقفه على روستوف متظاهرًا بأنه لم يدرك بلباله وارتباكه الصبوي المشوب بالغيظ، وقال له: أعتقد أنك كنت تتحدث عن مسألة شوينجرابن، فهل كنت هناك؟

فأجاب روستوف معتقدًا أنه سيجرح شعور الضابط المساعد بإجابته: نعم، لقد اشتركت فيها.

لكن ذلك الجواب لم يأتِ بالمفعول المنتظر، لقد تلقَّاه الأمير بابتسامة ساخرة، كان يجد متعةً في مراقبة مزاج هذا الفارس الشاب، قال معقبًا: نعم، ثم إنهم يروُون عن هذه الموقعة صنوفًا من الروايات.

فهتف روستوف وهو يلقي على بولكونسكي تارةً، وعلى بوريس تارةً أخرى، نظرة نارية مشتعلة بغضبة مفاجئة: صنوفًا من الروايات! نعم، بالطبع، لكن روايتنا نحن الذين بلونا نار العدو هي وحدها الحقيقة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء السادة الأنيقين الذين يَحشرون أنفسهم في زوايا الأركان والقيادة وينالون الأوسمة وهم مكتوفو الأيدي.

فأعقب بولكونسكي بلهجته الهادئة وابتسامته الوديعة متممًا: والذين تعتبرني واحدًا منهم، أليس كذلك؟

خلق ذلك الهدوءُ الذي اتَّسم به بولكونسكي احترامًا في نفس روستوف نحوه رغم أنه ضاعَف سخطه وغضبه، فقال: إنني لا أقول هذا عنك، إنني لا أعرفك، ولا أريد بكل صراحة أن أتعرف عليك، إنني أتحدث عن رجال القيادة العامة بصورة عامة.

فأجاب بولكونسكي بثبات وبلهجة حازمة: وأنا أقول لك ببساطة إنك تهدف إلى إثارتي وإهانتي؛ الأمر الذي لن يعييك فعله إذا توقفتَ عن احترام نفسك، ولكن اعترفْ معي أن المكان والزمان غيرَ ملائمَين لمثل هذا العمل، لسوف ندخل جميعًا بعد أيام قريبة آتية في مبارزة جدية من نوع آخر، ومن جهة أخرى إذا كان وجهي لم يرُق لك — وهذا من سوء حظي — فإن دروبتسكوي، الذي يدَّعي أنه من أصدقائك القدماء، لا دخل له في الموضوع.

وأردف وهو ينهض واقفًا: ثم إنك تعرف اسمي، وتعرف أين تجدني، مع ذلك حاذر أن تعتقد بأنني أعتبرك مهانًا أكثر مما تقدِّر أنت نفسك الموضوع. اتفقنا، أليس كذلك يا دروبتسكوي؟ إنني أنتظرك يوم الجمعة بعد العرض.

وانسحب بعد أن حيَّا الشابين.

لبث روستوف مذهولًا فترةً ما، ولما وجب الجواب المناسب كان الآخر قد خرج؛ الأمر الذي ضاعف غضبه الجامع، فاستقدم جواده، وسلَّم على بوريس بلهجة جافَّة تقريبًا، وعاد إلى معسكره، كان صراع داخلي مرير يستعِرُ في نفسه طيلة الرحلة، كان يتساءل: هل يجب عليه الذهاب في الغد إلى مقر القيادة ليتحدى ذلك الصعلوك؟ هل كان من الأفضل الامتناع عن مثل هذا الأمر؟ كان يتذوق أحيانًا اللذة التي تنتظره لرؤية ذلك الدعي مذهولًا أمام فوهة مسدسه المصوَّب إلى صدره، وأحيانًا أخرى كان يعترف، رغم كل ما في نفسه، أنه لم يجد بين كل معارفه، رجلًا جديرًا بصداقته كهذا الضابط المساعد الهزيل اللعين.

١  جاليسيا: مقاطعة بولونيَّة، كانت حتى عام ١٩١٨ جزءًا من النمسا، وكانت مركز الحكومة، وتضم كراكوفيا ولوو Lwow وستانيسلا وو وتاررنوبول، وعدد سكانها ٨ ملايين نسمة، وقد أصبح الجزء الشرقي: لوو Lwow، تابعًا لأوكرانيا عام ١٩٤٥. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤