اجتماعيات

والاجتماعات التي كتبها فرنكلين تتسم — كسائر كتابته — بسمة السماحة الفطرية التي تنظر إلى الحقائق من وراء حدود الأجناس والألوان، وتعرف في الوقت نفسه حدود الطاقة الإنسانية، فلا تنسى الأعذار وهي تحكم على الذنوب، ولا تجهل الضرورات وهي تتكلم على الواجبات، ونجتزئ من هذه الاجتماعيات بفصلين؛ أحدهما عن الهنود الحمر، والآخر عن المرأة الخاطئة.

قال بعنوان: «في شئون المتوحشين المقيمين بأمريكا الشمالية» نسميهم متوحشين؛ لأن عاداتهم تخالف عاداتنا التي نحسبها غاية الدماثة والأدب، وإنهم ليحسبون عاداتهم كذلك.

وأخالنا لو درسنا عادات الأمم المختلفة بغير تحيز لم نجد شعبًا قط يبلغ من خشونته أن يتجرد من قواعد الأدب والمجاملة، ولم نجد شعبًا قط يبلغ من أوبه ومجاملته أن يخلو من بعض الخشونة.

إن الرجال الهنود في صغرهم صيادون ومقاتلون، وهم في كبرهم نصحاء مستشارون؛ لأن أمور الحكم كلها تجري بينهم وفاقًا لمشورة الحكماء؛ فلا سلطة ولا سجون ولا شرطة تكرههم على الطاعة، ولهذا تراهم يمارسون صناعة الكلام، فأبلغهم أكبرهم نفوذًا بين قومه.

والنساء الهنديات يحرثن الأرض، ويطهون الطعام، ويرضعن الأطفال ويربينهم، ويحفظن للخلف مأثورات السلف.

وهذه الشواغل التي يشتغل بها الرجال والنساء معدودة بينهم من الأمور الفطرية الموقرة. وهم — لقلة مطالبهم الصناعية — يجدون متسعًا من الوقت لتهذيب المحادثة والسمر، وينظرون إلى أسلوبنا المجهد في المعيشة نظرتهم إلى ضعة الرق والخسة، كما ينظرون إلى التعليم الذي نفخر به كأنه تفاهة وعبث بغير جدوى، وقد شهدنا مثلًا على ذلك في معاهدة لانكستر ببنسلفانيا سنة ١٧٤٤ بين حكومة فرجينيا، والأمم الست الهندية. فبعد التفاهم على المسائل الهامة أبلغ المندوبون عن حكومة فرجينيا جماعة الهنود مشافهة أن في وليامبرج كلية ذات رصيد مخصص لتعليم أبناء الهنود، وأن رؤساء الأمم الست إذ راقهم أن يرسلوا إلى الكلية فئة من أبنائهم — ستة مثلًا — فالحكومة هناك على استعداد للعناية بهم وتوفير لوازمهم وتعليمهم كل ما يتعلمه أبناء البِيض.

ومن آداب الهنود المرعية أنهم لا يجيبون مقترحًا عامًّا لساعته؛ إذ يرون في ذلك شيئًا من الاستخفاف به، وأنه غير جدير منهم بالبحث والمراجعة، ويستمهلون المقترح ريثما ينظرون فيه ليدلوا بذلك على اهتمامهم بأمره، ووفاقًا لهذا العرف طلبوا المهلة لليوم التالي كي يجيبوا عن ذلك الاقتراح، فلما كان الموعد أعرب مدرة القوم عن شعورهم العميق بلطف الحكومة الفرجينية في عرض تلك المنحة الكريمة؛ لأنه يعلم أن البيض يكبرون شأن التعليم في الكلية، وأن توفير المطالب لأبناء الهنود في تلك الكلية يكلفها كثيرًا من النفقة، وأن الاقتراح — ولا شك — ينم على حب الخير، ويستوجب منهم الشكر الجزيل.

قال: إلا أنكم — بما لكم من الحكمة والخبرة — تعلمون أن الأمم المختلفة تختلف في النظر إلى الأشياء وتقديرها، وإنكم لا تلوموننا إذا كانت آراؤنا في ذلك النمط من التعليم لا يتفق لها أن تطابق آراءكم. وقد بلونا ذلك بعض الشيء منذ سنوات حيث تخرج نفر من شبابنا من كليات الشمال وحذقوا فيها جميع علومكم، ثم عادوا إلينا لا يحسنون العدو، ولا يعرفون شيئًا عن الحياة في الغابات، ولا طاقة لهم بالصبر على البرد والجوع، ولا دراية لهم ببناء كوخ أو اقتناص غزال أو الغلبة على عدو، وقد ساء نطقهم بلغاتنا فلا هم قادة مقاتلون، ولا هم نصحاء مستشارون، ولا هم على الجملة صالحون لأمر من الأمور.

على أننا لا نبخسكم حقكم من الشكر على منحتكم الكريمة لأننا لم نتقبلها، ولكي نعرب عن شعورنا بها، نقترح على السادة الفرجينيين أن يرسلوا إلينا نحو اثني عشر من أبنائهم نعنى بهم، ونعلمهم على نهجنا وندربهم على كل ما تدربنا عليه، ونخرج منهم رجالًا أشداء.

والهنود — لتعودهم عقد المجالس والمجتمعات للمشاورة — قد كسبوا القدرة على حظ عظيم من النظام واللباقة في إدارتها. فيجلس الشيوخ في الصف الأول، ويجلس المقاتلون في الصف الثاني، ويجلس خلفهم النساء والأطفال، وعمل النساء في هذه المؤتمرات أن يعلقن في ذاكرتهن كل ما يجري وكل ما يقال فيها ويحفظنه تراثًا للأبناء؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة.

فالنساء سجلات المؤتمرات، يحفظن من شروط المعاهدات ما قد مضى عليه مائة سنة، ونقارن بينه وبين المكتوب عندنا، فنرى أنه مطابق له كل المطابقة.

وصاحب الدور في الكلام عندهم ينهض قائمًا، فيصغي إليه المستمعون في صمت وسكون، ومتى فرغ من كلامه وجلس مكانه تركوه بضع دقائق يتذكر ويتأنى لعله أن يكون قد نسي شيئًا أو خطر له بعد الجلوس ما يستدركه من مقاله فينهض ثانية ويقول ما أراد، وإنهم ليحسبون المقاطعة — حتى في المحادثة الدارجة — غاية من سوء الأدب والنبو عن المجاملة. فما أبعد هذا مما نشاهده من نظام المناقشة في المجلس المهذب مجلس النواب البريطاني؛ إذ يندر أن يمضي يوم دون أن يعرض فيه ضرب من الاختلاط يبح صوت الرئيس وهو ينبه المتناقشين فيه إلى النظام. وما أبعد هذا مما يحدث في كثير من الجماعات المهذبة على القارة الأوروبية! إذ تحس أنك مضطر إلى إتمام عبارتك على عجل، وإلا قاطعك في وسطها أولئك الذين يحادثونك ولا صبر لهم على كبح لجاجتهم في الحديث، ثم لا يتاح لك أن تعود ثانية إلى إتمامها.

والحق أن مجاملات الحديث عند هؤلاء القوم قد بلغت حد الإفراط؛ لأنها لا تسمح لهم بمناقضة كلام يسمعونه أو تفنيده، وهم بذلك يتجنبون المنازعات، ولكنهم لا يظهرون لك حقيقة ما يريدون، ولا يعربون عن أثر لكلامك في نفوسهم، وقد طالما شكا المرسلون المبشرون من هذه العادة، وعدُّوها إحدى العقبات الكبار في طريق رسالتهم. فإن الهنود ليستمعون في صبر وأناة إلى حقائق الكتاب التي تشرح لهم ويردون عليها ردودهم المعهودة من علامات الموافقة والاستحسان، ويخطر لك أنهم قد آمنوا وصدقوا ولا شيء من ذلك هناك، وإنما هي مجاملات وتقاليد.

•••

ومن أخبارهم في ذلك أن قسًّا سويديًّا جمع زعماء القبيلة المعروفة بسكويهانا، وخطب فيهم شارحًا لهم أسس الوقائع التاريخية التي تقوم عليها ديانتنا، كسقوط أبوينا لأكلهما من تفاح الجنة، وظهور السيد المسيح للتكفير عن هذه الخطيئة، وما عمله من العجائب واحتمله من الآلام. فلما فرغ من كلامه نهض خطيب هندي ليشكره، فقال: «إن ما أخبرتنا به شيء حسن ولا ريب، وإنه لمن القبيح حقًّا أن يؤكل التفاح بدلًا من تخميره واستخراج الشراب منه، وإننا لشاكرون لك ما تجشمت من مشقة لتبلغنا هذه القصص التي سمعتموها من أمهاتكم، ونود في مقابلة ذلك أن نروي لك طرفًا مما سمعناه نحن من أمهاتنا.

كان آباؤنا الأولون ولا غذاء لهم إلا من لحوم الحيوان، وكانت حبالاتهم في الصيد لا تنفع، فجاعوا وأوشكوا أن يهلكوا جوعًا، وإنهم لكذلك إذ أفلح اثنان من شباننا في اقتناص غزال، فأوقدوا نارًا في الغاب ليشويا بعض لحمه، ثم جلسا يأكلان منه، فلاحت لهما على تلك القمة التي تلمحها بين جبالنا الزرقاء فتاة حسناء هبطت من السماء واستوت على ذلك المكان، فقال أحدهما لصاحبه: لعلها قد شمت رائحة الطعام، فجاءت تلتمس نصيبًا منه تأكله، فلنعطها إذن ذلك النصيب. وقدما لها اللسان فالتذت مذاقه وقالت لهما: إن الهدية التي تفضلتما بها لمجزية أحسن الجزاء. فتعاليا إلى هذا المكان بعد ثلاثة عشر شهرًا تجدا فيه شيئًا ينفعكما في الطعام وينفع أبناءكما إلى الجيل الأخير، فعادا كما قالت وأدهشهما أن يجدا في المكان نباتًا لم تقع عليه أعينهما من قبل، ولم يزل ذلك النبات ينمو بيننا وننتفع به أحسن انتفاع. وقد نبتت الذرة حيث مست يمينها الأرض، ونبت اللوبياء حيث مست الأرض بشمالها، ونما التبغ حيث جلست عليها.»

وامتعض القس الطيب من سماع هذه القصة الفارغة وقال لهم: إن ما حدثتكم به هو الحق المقدس، وأنتم تحدثونني بعد ذلك بالترهات والأباطيل. وساء الهندي أن يسمع منه هذه الكلمة الجافية فقال له: إن أصحابك يا أخانا لم ينصفوك بحقك من التعليم، ولم ينشئوك النشأة الحسنة في آداب العرف والمجاملة. ولقد رأيت أننا سمعنا أقاصيصك فصدقناها، فما بالك أنت لا تقابل منا ما سمعت بالتصديق؟

ويفد الواحد منهم إلى مدننا، فيتكوف الناس حوله ويحملقون في وجهه، ويتطفلون عليه حيث يحب أن ينفرد بنفسه، وهم يعيبون ذلك ويعدونه من الخشونة وسوء الأدب والنقص في عرف التحية والمجاملة، ويقولون: إننا نتطلع كما تتطلعون ونحب الفضول كما تحبون، بيد أننا نختبئ لنراكم وراء الآجام، ولا نعترضكم في الطريق، أو نتطفل باصطحابكم حيث تسيرون.

وإن لهم لآدابًا متبعة في دخول القرى التي يفدون عليها، فلا يستحسنون من القادم أن يدخل إلى القرية فجأة بغير استئذان، وهم لهذا يقفون على مرأى من أهل القرية ويصيحون ولا يتقدمون خطوة حتى يأتيهم من يدعوهم للدخول، وقد جرت عاداتهم أن يستقبل القادمين اثنان من شيوخ القرية يهديانهم الطريق إلى بيت خالٍ يسمونه بيت الغرباء. ثم يذهبان من خص إلى خص يبلغان القوم بمقدم الضيوف، وأنهم ربما كانوا في حاجة إلى طعام وراحة، فيرسل كل منهم ما في وسعه من زاد ومن جلود يستريحون عليها، فإذا استوفوا راحتهم جاءوهم بالتبغ يدخنونه، وبدءوا بالحديث سائلين عنهم وعن وجهتهم وما هم قادمون من أجله، وينتهي الأمر أحيانًا بعرض الخدمة عليهم لاصطحابهم وتموينهم مسافة الطريق بغير أجر ولا ثمن.

وهذه الضيافة التي يعدونها بينهم من الفضائل العالية مطلوبة من آحادهم، كما تطلب من جماعاتهم، وقد أخبرني مترجمنا «كونراد ويزر» بالقصة التالية فقال أنه نشأ بين الأمم الست وحذق لغة الموهوك، وأنه في رحلة من رحلاته بين بلاد الهنود يحمل رسالة من حاكمنا إلى مجلس «أوننداجا» زار مسكن «كناستيجو» أحد أصدقائه الأقدمين، فعانقه الرجل وفرش له الفراء ليجلس عليه، ووضع أمامه فولًا مسلوقًا ولحمًا وقدحًا من شراب الروم مشعشعًا بالماء، فلما استراح وأخذ في التدخين بدأه «كناستيجو» بالحديث وسأله عن أحواله في السنوات التي افترقا فيها، وعن وجهته والمكان الذي أقبل منه، والغرض الذي خرج من أجله، فأجابه مونراد عن هذه الأسئلة حتى أوشك الحديث بينهما أن يفتر ويتعثر، فقال له الرجل: إيه كونراد. إنك عشت طويلًا بين البيض وعرفت شيئًا من عاداتهم، وقد زرت أنا إقليم «ألباني» ولحظت أنهم يغلقون دكانينهم يومًا في كل سبعة أيام، ويتجمعون في منزل عظيم. فهلا حدثتني عن ذلك الاجتماع ما مقصدهم منه، وماذا يصنعون فيه؟

قال كونراد: إنهم يجتمعون هناك ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورة!

قال الهندي: لست أشك في أنهم أخبروك بما تقول؛ لأنهم أخبروني بمثله. غير أنني أشك في مقالهم وأصارحك بأسباب شكي، ثم استطرد قائلًا: ذهبت إلي «ألباني» كي أبيع جلودي وأشتري ما أحتاج إليه من الأغطية، والسكاكين، والبارود، وشراب الروم، وأنت تعلم أنني تعودت أن تكون معاملتي مع هانس هانسون، ولكنني في هذه المرة أردت أن أجرب غيره من التجار. على أنني زرت هانسون بادئ الرأي، وسألته بكم يشتري جلد السمور؟ فقال أنه لا يزيد في تقديره عن أربعة شلنات للرطل الواحد، غير أنه لا يستطيع أن يتحدث إليَّ في أمور المعاملة؛ لأنه اليوم الذي خصصوه لتعلم الآداب والطيبات المأثورة، وأنه سيذهب إلى الاجتماع إذ كان لا يقدر على مباشرة عمل من الأعمال.

قال الهندي: فذهبت معه، وألفيت ثمة رجلًا يلبس السواد، أخذ يخاطب الناس في غضب شديد، فلم أفهم ما قال، ولكنني رأيته ينظر إليَّ وإلى هانسون، فظننت أنه غاضب لرؤيتي هناك، فخرجت وجلست إلى جانب الدار، وأشعلت قصبتي لأدخن منتظرًا حتى ينفض الجمع، وظننت كذلك أن الرجل قد ذكر شيئًا عن السمور، وخطر لي أن الاجتماع كله يدور على هذه الحكاية، فلما انصرف المجتمعون لقيت تاجري وقلت له: إيه يا هانس! أظنك قد فكرت في الأمر وزدت في تقديرك على الشلنات الأربعة. فأجابني قائلًا: كلا! أنا لا أستطيع أن أعطيك هذا الثمن ولا أزيدك على ثلاثة شلنات وستة بنسات. وانطلقت أتحدث إلى غيره من التجار، فألفيتهم جميعًا يعيدون هذه النغمة بعينها؛ ثلاثة وستة بنسات، ثلاثة وستة بنسات، ووقر في خلدي من ثَمَّ أنني على حق في شبهتي، وأنهم مهما يزعموا من سبب لتلك الاجتماعات، وأنهم يلتقون فيها ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورات، فإنما السبب الصحيح أنهم يجتمعون ليخدعوا الهنود عن ثمن السمور، وإذا تأملت قليلًا — يا كونراد — فلا شك أنك تثوب إلى رأيي وتعلم أنهم لو كانوا يجتمعون ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورات، لكانوا قد تعلموا طرفًا منها قبل ذلك، إلا أنهم على جهلهم القديم، وأنت تعلم عاداتنا معهم إذا قدم منهم أحد إلى أكواخنا كيف نعامله كما نعاملك ونجفف ثيابه إن كان بها بلل، وندفئه إن كان به برد، ونبسط له الطعام من اللحم والشراب ليفثأ ظمأه، ويشبع جوفه، ونفرش له الفراء لينام ويستريح ولا نتقاضى أجرًا على شيء من هذه الأشياء. ولكننا إذا ذهبنا إلى بيت من بيوت البيض في «ألباني» والتمسنا لحمًا أو شرابًا سألونا: أين نقودك؟ فإن لم تكن معي نقود طردوني وصاحوا بي: اغرب من هنا أيها الكلب الهندي!

فأنت تبصر إذن أنهم لم يتعلموا تلك الطيبات الصغار التي نتعلمها نحن بغير حاجة إلى اجتماعات وخطابات؛ لأن أمهاتنا يعلمننا إياها ونحن أطفال، ومحال أن تكون اجتماعاتهم هذه لغرض من تلك الأغراض التي يدعونها، أو أن يكون لها أثر فيما يزعمونه، وكل ما فيها أنها حيلة يحتالونها لخداع الهنود عن ثمن السمور.١
١  من كتاب الخزعبلات المتقدم ذكره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤