الكاتب

إذا كنا قد عرفنا طبيعة هذا العقل من الإلمام السريع بحياته العلمية، فمن اليسير علينا أن نعرف خطته إذا اشتغل بالكتابة في عصر المطبعة، فإنه على التحقيق لم يكن ليستطيع أن يعفي نفسه من عمل يتصل بهذه الصناعة، وكذلك كان كاتبًا وطابعًا وناشرًا ومديرًا للعمل، وسنرى كيف كان كاتبًا يسهم بقلمه في جميع الموضوعات التي تسهم فيها الأقلام. أما الطباعة فقد كان فيها صفافًا وحفارًا ومديرًا للمكنات ومصلحًا لما يختل منها، ويكاد يحسب مع المهندسين المكنيين في زمانه؛ لأن هذه الهندسة لم تتشعب في ذلك الزمن تشعبًا يصعب عليه أن يحيط به على طريقته في الإحاطة بكل عمل قريب من رأسه ويديه! وأما النشر فلم يترك شيئًا يشتغل به الناشر في عصره دون أن يتولاه ويبلغ به مداه.

ويقول فرنكلين في ترجمته لنفسه: إنه لا يذكر زمنًا لم يكن يقرأ فيه، وهذا مع ذاكرته القوية التي أعانته على حفظ الكلمات وادخار المفردات والعبارات، واستيعاب ذلك المحصول اللفظي، والفكري، الذي يسر له الكتابة المشوقة بأسهل أسلوب.

وقد قيل عنه: إنه لم يوجد في العصر الحديث كاتب كان حظه من التعليم المدرسي أقل من حظه، وكان فضل المعلمين عليه أقل من فضله في تعليم نفسه، وكان عاشر أبناء أبيه فنذره لخدمة الدين، ثم تبين أن التعليم في المدرسة الكهنوتية يفوق طاقته فأدخله مدرسة من مدارس الأجرومية والتربية الأولية، ومكث في هذه المدرسة — مدرسته الثانية — من الثامنة إلى العاشرة، ثم أخرجه أبوه لمساعدته في صناعته.

وكان الصبي المشغوف بالقراءة يلتهم كل ما صادفه من الكتب في داره وعند أقربائه، فقرأ الكتب التي يقتنيها أبوه في مسائل الدين وخلافات المذاهب ومناظرات العلماء اللاهوتيين، ووقعت له نسخة من كتاب «رحلة الحاج» للكاتب المتصوف بنيان Bunyan فقرأها وأعاد قراءتها، ثم باعها ليشتري بثمنها أجزاء من مجموعة المتسببين١  Chapmen Books التي تنشر تباعًا وتلم بالموضوعات المنوعة من التاريخ والجغرافيا والنوادر والسير والعجائب الصناعية أو الطبيعية، وهي قراءة توافق ذهن فرنكلين المشغول بالتوسع والتنويع.

ولم يبلغ السادسة عشرة حتى كان قد استوعب العشرات من أمهات الكتب النافعة من قبيل تراجم بلوتارك، وذكريات زينوفون، ودراسات لوك وشافتسبري، ورسائل ديفوي، ومقالات كوتون ماثر عن فعل الخير، وغيرها من أشباه هذه المؤلفات القيمة التي كانت في متناول يده، وقد أعجب أصحاب أبيه بذكائه وإقباله على القراءة وفهمه لما يقرأ، فتبرعوا بإعارته ما عندهم من الكتب، وشجعهم على إعارته بإعادته كل ما يستعيره في أيام معدودات، ومنهم بائع كتب كان يعيره ما يطلبه كتابًا كتابًا في المساء ليعيده إليه في النهار التالي، ولا يتمكن من البر بوعده إلا أن يسهر على مطالعته طوال الليل إلى الفجر على نور المصباح الضئيل.

والذي قرأه على هذا المنوال كثير ليس فيه كتاب واحد من كتب اللغو والفضول، فبلغ السادسة عشرة، ومعلوماته تزيد على معلومات أبناء الثلاثين من طلاب العلم، والمشتغلين بالاطلاع، وفكر في الكتابة على سبيل التجربة، فأحسن اختيار المؤلف الذي يقتدي به، ويوافق منحاه وثابر على الاقتداء به والطموح إلى محاكاته والتفوق عليه إذا تسنى له سبيل التفوق، حتى أخذ منه كل ما في وسع تلميذ أن يستفيده على البعد من أستاذ.

كان اختياره للكاتب أديسون صاحب مجلة السبكتاتور دليلًا على ملكة ناقدة مبكرة عرفته بملكات ذهنه ومنهج تفكيره وتعبيره، فليس في الكتاب من تتراءى ملامحه جلية مفصلة في أسلوب فرنكلين مدى حياته كما تتراءى فيه ملامح هذا «الأب» الفكري الذي اختاره لقدوته بين عشرات من الكتاب.

وكان أخوه جيمس في هذه الأثناء قد اشتغل بالطباعة وعهدت إليه صحيفة بوستن جازيت Boston Gazette بإصدارها في مطبعته، فأصدر منها في أواخر سنة ١٧١٩ أربعين عددًا ثم اختلف أصحابها معه، فعهدوا بطبعها وإصدارها إلى مطبعة أخرى، فخطر له أن يستقل بإصدار صحيفة يملكها ويحررها ويدير عليها أعمال مطبعته التي أوشكت أن تتعطل وتخسر سمعتها وعملاءها أمام المطبعة الأخرى التي تنافسها، فأنشأ صحيفة جواب إنجلترا الجديد New England Courant في شهر أغسطس سنة ١٧٢١.

وألحق قرنكلين بالعمل في المطبعة متتلمذًا على أخيه في صناعة الطباعة وهو في الثانية عشرة، فلما استقل أخوه بإصدار صحيفته لم يكن قد جاوز الخامسة عشرة، ولم يبق في الصناعة عمل لم يجرب يده فيه ولم يتقنه غير الكتابة، فأخذ في معالجة هذه الصناعة على منهجه الذي شرحناه إجمالًا في الكلام على طريقته العلمية.

وكان حب الإتقان في هذه الصناعة مطلبًا طبيعيًّا يحسه من أعماق نفسه، فلم يذهب مع الغرور، وتحرى الإتقان من أبوابه الصالحة، وعلم أنه لا يستغني — بعد كل ما قرأه — عن المزيد ثم المزيد من القراءة، فاقتطع من قوته ليشتري الكتب التي لا تستعار، وخيل إليه من بعض مطالعاته أنه آمن بمذهب النباتيين، فاقترح على أخيه أن يعطيه طعامًا بغير لحوم، ويضيف ثمنه إلى أجره القليل، فكان يشتري الكتب بثمن الطعام.

وأدركته حصافته التي لا تغيب عنه وهو يطرق أبواب الشهرة الكتابية فأخفى اسمه واتخذ له توقيعًا مستعارًا باسم سيلنس دوجود Silence Dogood (أي صمتًا واعمل خيرًا أو واصنع معروفًا) وجعله اسمًا لامرأة وصفها في بعض مقالاته، وعني في جميع تلك المقالات بالتشويق واجتذاب القراء بالفكاهة والنقد الاجتماعي الذي يعجب القراء من الرجال والنساء معًا؛ لأنه يلمس شكاياتهم ويحدثهم عن مشكلاتهم وأوجاعهم ولا يحيف على طائفة لمرضاة أخرى، بل يسوي بينهم جميعًا في النقد وملاحظة العيوب. ومن دأب الناس دائمًا أن يعجبوا بهذا التعميم في الملامة والسخرية؛ لأنه يصيبهم كما يصيب الآخرين، ويقيم الكاتب أمامهم مقام الحكم العدل، أو الحكم الحكيم الذي يعرف أحوالهم، ولا يجور على أحد منهم أو يحابيه بإخفاء ما يعرفه عن نفسه وعن صحبه من المآخذ والعيوب.

وأصلح ما يكون لهذا النقد الشامل كاتب مقنع واسم مستعار؛ لأن هذا الاسم المستعار يجرده من «اللون الشخصي» الذي يدعو إلى الاتهام بالحيف والمحاباة، أو يدعو إلى المنافسة والحسد، وتقدير الكاتب بمظاهره الاجتماعية دون مزاياه الكتابية، وقد خطر لفرنكلين حين أخفى اسمه أن مقالاته عرضة للإهمال والاستخفاف قبل النظر فيها، وربما بخسها أخوه، وزملاؤه الذين يراجعون معه موضوعات الصحيفة كل حق لها حتى حق النشر والاستحسان، وصح تقديره بعد انكشاف أمره ومعرفة اسمه. فإن أخاه قد توهم أنه اغتر بالسمعة والإعجاب، وتطلع إلى منزلة أكبر من منزلته في أعمال الصحيفة، فتغيرت معاملته وتعددت مشاجراته واضطر الأخ الصغير بعد حين إلى مفارقة الأخ الكبير ومفارقة المدينة كلها ثم مفارقة الديار الأمريكية إلى العاصمة الإنجليزية.

ومن يقرأ البقية الباقية من مقالات «سيلنس دوجود» يشعر أن النواة كلها كامنة فيها، فقد برزت فيها ملامح الرجل التي يراها قارئه لأول وهلة في كتاباته بعد الستين وبعد السبعين والثمانين، وكل ما جد عليها فإنما هو من قبيل النمو الطبيعي للبنية المتكونة أو الصقل والتركيب للجوهر النفيس.

وقد تعلم الفرنسية بعد سن الكهولة وكتب بها أو ترجم إليها بعض كتاباته الإنجليزية، وأخلصت أستاذته فيها — مدام بويون — في امتحان أسلوبه الفرنسي فقالت: إنه «واضح إن لم يكن صافيًا» وقال غيرها: ما يشبه هذا في كتاباته الفرنسية والإنجليزية على السواء، فهي واضحة سهلة محكمة، والنقاد متفقون على دقتها وجلائها وصحة تعبيرها عن معانيها، ولكنهم يختلفون فيما عدا ذلك من محاسن البلاغة ومقاصد الكتابة، ولا سيما القدرة على النفاذ إلى الأعماق أو التحليق في القمم، والآفاق.

وقد لخص آراء النقاد فيه كتاب مدرسي وجيز في تاريخ الأدب الأمريكي لثلاثة من أساتذة الأدب في الجامعات الأمريكية. يغربل هذه الآراء من مصادرها المتعددة، ويجتهد في أمانة النقل كما يجتهد في حسن الموازنة والترجيح.

فذكر من محاسن هذه الكتابة وضوحها وسلامتها وقوة تعبيرها وما يتخللها من الصور الخلابة والفكاهة السائغة والقدرة على جوامع الكلم مع سلامة الإدراك وإيراد الحقائق التعليمية في صياغة ترضي وتشوق.

وذكر من عيوبها أنها تفتقر إلى جزالة الخيال والرشاقة التي اتسم بها أسلوب أستاذه أديسون، والإفراط في النزعة العلمية المادية التي لا ترتفع إلى القيم العليا.٢

ونعتقد أن هذه الموازنة تلخيص عادل لما قيل في محاسنه وعيوبه الكتابية، وأن فرنكلين نفسه لم يكن يجهل هذه العيوب ولم يشغل باله بمحوها أو إنكارها، وألقى باله كله إلى محاسنهم المحققة فاحتفل بتحسينها وحافظ عليها.

وكل ما كتبه عن البلاغة الكتابية يعزز تلك الآراء عن «نزعته العملية المفرطة» وإخضاعه كل فكرة تجول في ذهنه لحدود التقرير والتطبيق.

وفن الكتابة عنده كغيره من مزاولات الحياة وضروب الأعمال وسائر الفنون؛ فكرة تتجمع من البحث في الغرض المقصود منها، ثم نظرية يتأدى إليها من ذلك التفكير، ثم تطبيق يصححه بالتجربة والمراقبة وتقدير التقدم فيه بمقياس من مقاييس الواقع المحسوس.

ومن الحوار التالي نتبين مذهبه في الفكرة النظرية عن الكتابة وعن التطبيق العلمي الناجح لتلك الفكرة النظرية.

قال: «كيف نحكم على جودة الكتابة؟ أو ما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر للكتابة كي تعد من الكتابات الجيدة التامة في نوعها؟

والجواب أن الكتابة تكون جيدة إذا جنحت إلى إفادة القارئ بزيادة قسطه من الفضيلة والمعرفة، وبغير نظر إلى نية الكاتب ينبغي أن يكون المنهج محكمًا يستطرد — على انتظام — من الأمور المعلومة إلى الأمور المجهولة في تحديد وتوضيح وبغير لبس ولا اختلاط، وينبغي أن تكون الكلمات المستخدمة أقواها تعبيرًا عن معانيها على شريطة أن تكون كذلك أشيعها وأدناها إلى الأفهام، ولا ينبغي أن يقال في كلمتين ما يمكن أن يقال في كلمة، ولا حاجة إلى المترادفات إلا نادرًا، وعلى أن يكون وقعها في جملته سائغًا في الأسماع، ونوجز فنقول: إنها ينبغي أن تكون سلسة واضحة موجزة؛ لأن الصفات التي تناقض هذه الصفات لا تروق. وننظر إلى المسألة من ناحية أخرى فنقول: إن الرجل السيئ قد يكتب المعنى السيئ كتابة جيدة، وإنه إذا ساءت نيته قد يستخدم أصلح الأساليب والبراهين على حسب القراء للوصول إلى بغيته، وعلى هذا الاعتبار نقول: إن أجود ما يكتب هو أجود ما يصيب به الكاتب مرماه.»

فالكتابة الناجحة هي الكتابة الجيدة في تقدير فرنكلين، ومقياس النجاح هو «التطبيق العملي» لفكرة مقررة ووجهة مرسومة، وهذا هو فرنكلين كله مرة أخرى يتمثل في صناعة القلم وفي كل صناعة.

ويصادفنا في تراجم فرنكلين رأي متفق عليه بين الواقعيين العمليين والنظريين المثاليين، وهو هذه الغاية الواقعية العملية التي يرتادها في كل مطلب يعنيه، وربما لمسنا في كلام الواقعيين العمليين شيئًا من الإعجاب في التنويه بهذه الصفة، وربما لمسنا من الجانب الآخر شيئًا من الغضاضة في تصريح النظريين المثاليين بها أو تلميحهم إليها، ولكنهم لا يختلفون في وصفه بهذه الصفة واعتبارها إحدى صفاته البارزة، بل كبرى صفاته العقلية والنفسية بين سائر الصفات.

على أننا نرى أن النزعة الواقعية والنزعة المثالية فيه تتقاربان، أو أنهما على الأقل لا تتنافران ولا تتعارضان؛ فإنه يستقصي العمل إلى غاية مداه ولا يستطيع أن يدخر جهدًا من جهوده يتسع أمامه المجال لبلوغ الكمال الواجب في عمل من الأعمال.

وقد نجح في الكتابة الصحفية وقرر مكانته فيها وأصبح في مجالها علمًا فردًا لا يدانيه أحد من معاصريه، وكان هذا النجاح خليقًا أن يقنع غيره بالوقوف عنده والاكتفاء به في صناعة الصحافة وصناعة الطباعة، ولكنه لم يقنع به ولم يقف عنده، ولم يدع شيئًا يقدر عليه في هذه الصناعة، إلا حاول أن يبلغ منه ما يعينه على الاستقلال والكفاية، حتى سبك الحروف للمطبعة، ولم يكن في بلاده يومئذ سباكون للحروف.

وديدنه في هذه الخطة هو ديدنه في كل مطلب، فإنه يفكر في الشروط التي ينبغي أن تتوافر للصحفي ثم يأخذ نفسه بتحصيلها وتوفيرها ولا تثنيه عقبة ترصد له في طريقها، مما ينثني أمامه النظريون المثاليون ولا يتجشمه كل عامل من المجتهدين الواقعيين، وعلى هذه الخطة أخذ نفسه بالاطلاع على المعلومات الفلكية الضرورية لإصدار التقويم، وفهم أن الإلمام باللغات مزية واجبة للصحفي الذي يريد أن يتقن عمله بين زملائه، وبخاصة في ذلك الزمن الذي تعددت فيه لغات النازلين بالولايات الأمريكية، ولم تنتشر فيه لغة واحدة للكتابة والكلام كما حدث بعد حرب الاستقلال، فتعلم من الأسبانية والإيطالية والألمانية ما يكفيه، وتوسع بعض التوسع في اللغة الفرنسية، وجرى في تعلم اليونانية واللاتينية على مذهبه في التعليم المدرسي متوسطًا بين الإهمال والإلزام، فهو لا يهملها ولا يرى أن تفرضا على الطالب فرضًا إن لم يكن يشعر بالحاجة إليهما في مطالبه الثقافية، وأحق منها بالفرض في البرامج لغات الأحياء أو اللغات الحية الشائعة بين أمم الحضارة، وبين أبناء وطنه على التخصيص.

ومما يدخل في هذه الخطة العملية المثالية أنه يجتنب تبديد الجهود ويأبى الإسراف بطبعه فيما يبتغيه من الكماليات أو الضروريات، وهو لا يجور بذلك على حق الكماليات؛ لأنه كذلك لا يسرف ولا يبدد الجهد في طلب الضروريات.

ولا يخفى على الذين اختبروا تعلم اللغات أن الصعوبة فيها درجات؛ أولاها درجة الفهم من الكلام المكتوب، وتليها درجة الفهم من الكلام المسموع؛ لأنه يرتبط بلهجات النطق الذي لا يسهل التقاطه على السمع ساعة النطق به، كما يسهل التقاط الحرف المكتوب ثم التأمل في الكلمات على الإجمال، وتلي هذه الدرجة في الصعوبة درجة السماع والإجابة عليه بالكلام المفيد، ولا سيما الكلام المصطلح عليه فيما جرت به تقاليد أبناء اللغة من المثقفين وغير المثقفين.

وفرنكلين لم يبدد جهده في لغة من اللغات التي تعلمها لغير ضرورة، وقد عاش في فرنسا زمنًا، واتصل فيها بصفوة العلماء والمتعلمين، وعالج الكتابة وأحسنها إلى حد الرضا من طبقة المتكلمين بالفرنسية النقية في زمانه، ولكنه ظل إلى آخر أيامه بين الفرنسيين يفهم الكلام في المجلس، ولا يفهم الكلام في الخطابة العامة، ولا سيما الخطابة السريعة التي لا تجري مجرى الحوار على حسب المفهوم من السؤال والجواب، والتي يترتب على فوات معنى من معانيها فوات المعاني التالية لها إلى آخر الخطاب.

ومن طرائفه في هذه المآزق — وهي طريفة تدل على لطف الحيلة كما تدل على حب المجاملة — أنه حضر اجتماعًا عامًّا تعاقب فيه الخطباء وتعذر عليه أن يتابع فهم الخطب، وعز عليه أن يهمل واجب التحية وينفرد بهذا الإهمال بين المستمعين، فاحتال على الخروج من هذا المأزق بمراقبة إحدى السيدات الحاضرات ممن يثق بذوقهن وفهمهن وبعدهن من الغرض في مهب الأهواء السياسية، وجعل يتابعها بالتصفيق كلما صفقت، وبالسكوت كلما سكتت، وهو يحسب أنه قد أحسن الحيلة، وتخلص من المأزق، وأدى واجب المجاملة للمتكلمين والمستمعين، ثم علم بعد ذلك أنه كان يجامل نفسه على غير قصد منه، وقال له حفيده: إنه كان يصفق للثناء عليه والتنويه بمآثره! وإنه كان يكثر من التصفيق كلما أكثر الخطباء من الثناء والتنويه، وكان لا يكتفي بتصفيق السيدة، ومن يصفقون معها بل يحب دائمًا أن يزيد عليه فضلة من عنده … ولعله لم يخسر بهذا الموقف الطريف الذي ساقه إليه جهله باللغة وحبه للمجاملة، فإن أذكياء الباريسيين والباريسيات لا تفوتهم حيلته التي كشفها لهم على الرغم منه، ولا تضيره عندهم ولا تحرمه لديهم من ابتسامة العطف والتسلية! … وقد روى الكثيرون ممن سمعوه يتكلم الفرنسية مع صفوة المجتمع الباريسي من العلماء والنبلاء أن الخطأ في كلامه كان أحب إليهم من الصواب؛ لأنهم يتفكهون به ويكشفون ما ينطوي فيه من حسن الاحتيال على التعبير.

ولم يكتب فرنكلين لغير الصحافة إلا القليل، وأطول مؤلفاته ترجمته التي كتبها لنفسه ولم يتمها إلى نهايتها ولم تظهر في حياته، وله رسالة في الأخلاق كتبها في إنجلترا وسماها «مبحث في الحرية والضرورة والسرور والألم» غلبت فيها عليه فلسفة العصر كله، وذهب فيها مذهب القائلين بأن الفضيلة والرذيلة لا وجود لهما في الطبيعة التي تسيرها قوانين الضرورة وتدار وفاقًا لتلك القوانين كما تدار الآلات، ثم عدل عن هذا الرأي أو عدله تعديلًا يبقي للفكرة قالبها ويغير جوهرها، فكان مذهبه الذي صمد عليه بقية حياته أن الفضيلة أهل لأن يفضلها المختار لو أنه أحسن الاختيار، وأن الخبثاء الدهاة لو عرفوا قيمتها لأصبحوا باختيارهم فضلاء بوحي من الخبث والدهاء، وتعود بنا هذه المصالحة بين الضرورة والاختيار إلى تلك النزعة الواقعية التي تلاقي النزعة المثالية في منتصف الطريق، فتتقاربان، أو هما على الأقل لا تتنافران.

وفيما عدا الترجمة والرسالة الأخلاقية، لم يفرغ لتأليف الكتب مع اشتغاله بالصحافة والتجارب العلمية ووظائف الحكومة التي وكلت إليه بعد اشتهار اسمه وذيوع مخترعاته وعلومه. وقد كان عمله في الصحافة أعمالًا متشعبة كما تقدم، فإنها كانت تشمل التحرير والطباعة والنشر وإنشاء الصحف وتوزيعها وبيع الكتب التي يطبعها أو يستوردها من البلاد الإنجليزية، وكانت الطباعة التي يتولاها تشمل سبك الحروف. وإدارة المكنات وحفر النقوش وكل صناعة طباعية يحتاج إليها الصحفي والناشر في عمله. وقد عقد النية منذ فارق أخاه على أن يشتغل بإنشاء صحيفة يملكها ويتصرف في إدارتها وتحريرها، فبدأ بعد عودته من لندن إلى فلادلفيا بشراء مطبعة نجحت في إتقان مطبوعاتها وتوفير عملائها، ثم اشترى في سنة (١٧٢٩) صحيفة بنسلفانيا جازيت، وأصدر تقويم ريتشارد المسكين بعد ذلك بثلاث سنوات، وضم إلى الصحيفة مجلة سماها المجلة العامة The General Magazine and Historical Chronicle صدرت في سنة (١٧٤١) وكانت ثانية المجلات التي صدرت في الولايات الأمريكية، وحاول في أثناء ذلك إصدار صحيفة ألمانية يكتبها أستاذ من أساتذة اللغات، فصدرت منها أعداد قليلة، ولكنها لم تعمر طويلًا لقلة القراء باللغة الألمانية، ومكنته سمعته الحسنة في الصحافة والطباعة من المشاركة في بعض صحف الجنوب، ثم أرادت الجماعة النيابية بكارولينا الجنوبية أن تشجع الطباعين على إنشاء مطبعة فيها، فتبرعت بألف جنيه لمن يقيم مطبعة كاملة في الولاية، فاتفق فرنكلين مع أحد زملائه على إقامة المطبعة مشتركين في إدارتها وأرباحها، وحيل بينه وبين الحصول على المعونة الموعودة فلم يكف عن السعي حتى حصل عليها بعد وفاة الطباع المزاحم له (سنة ١٧٣٢) وأصبح هو وشريكه مستقلين بإصدار صحيفة الولاية باسم «سوث كارولينا جازيت» أي صحيفة كارولينا الجنوبية.

وكان فرنكلين كفؤًا لكل صعوبة تعترضه في أعماله الصحفية، ولا سيما أعمال النشر والتوزيع، ومن أخطر هذه الصعوبات التي تغلب عليها أنه مني بمزاحمة أندرو برادفورد مدير البريد يوم كان البريد «التزامًا» يتولاه المدير لحسابه، ولا يدخل في عداد المصالح الحكومية، فمنع برادفورد سعاته من توزيع صحيفة فرنكلين وأوشك أن يشل حركتها لولا ذلك الخلق المطبوع الذي أسعد فرنكلين بالأنصار والأعوان في جميع المآزق المحرجة، وهو خلق الكياسة، وطيب المعاشرة، وحسن التفاهم مع الناس من كل طبقة، فلم يلبث أن تفاهم مع السعاة، واسترضاهم بالهدايا تارة والإقناع تارة أخرى، فأقبلوا على توزيع صحيفته على غير علم من مديرهم، ونجح حيث أخفق مدير البريد.

وأعانه هذا الخلق على اجتذاب العملاء، فأقبلت دواوين الحكومة على طبع أوراقها عنده، واختاره تجار الكتب لطبع الكتب التي يوزعونها، وكان هو يطبع من التصانيف السلفية ما يقدر له الرواج في كل زمن، كالمجاميع القانونية، ومجاميع الصلوات، ودساتير الماسونيين، ومفكرات التطبيب، والإسعاف، ودواوين القصائد التي تصلح للمناسبات، ونصائح الإرشاد في مشكلات الأسر، وأصحاب المعاملات، ومراجع الصناعة التي تجمع بين العلم والفائدة، غير ما كان يستورده من المطبوعات الأدبية الي يقبل عليها قراء الشعر والنثر من خاصة القراء، ولم يكن يستورد منها غير العدد الذي ينفد لساعته، ويضمن له ثقة الخاصة من قراء الإقليم وتعويلهم على مطبوعاته ووارداته.

ومن المحرجات في صناعة الطبع والنشر ما يحسه فرنكلين بصفة خاصة؛ لأنه على إيمانه بحرية الرأي يكره العداوات، ولا يميل إلى إغضاب المخالفين ما استطاع أن يرضيهم بالكلمة الحسنة والصراحة المقبولة، وليس من اليسير على طابع أو ناشر أن يقصر مطبوعاته ومنشوراته على ما يرضي الناس جميعًا ولا يسوء أحدًا منهم، وأعسر ما كان ذلك في عصر المجادلات السياسية والدينية بين أناس من مختلف الأقدار والعقائد والميول، فاجتهد فرنكلين في اجتناب ما يمكن اجتنابه مما يسوء القارئ لغير ضرورة، ولم يبال بعد ذلك أن ينشر ويكتب ما يخالف أناسًا ويوافق آخرين، وكتب دفاعه عن صناعة الطباعين توضيحًا لمسلكه بين الآراء المتضاربة، فكاد يرضى الجميع به لو كان إلى إرضاء الجميع من سبيل.

إلا أنه — مع حرصه على المجاملة حرص الإفراط في بعض الأحيان — لم يجامل أحدًا فيما يشذ عن آداب المناظرة أو يقحم المثالب الشخصية بين مباحث النقد ومناقشات الآراء، وكان يقول كما ذكر في ترجمته: «إنني أتحاشى في تحرير الصحيفة كل إساءة شخصية من تلك الإساءات التي وصمت بلادنا في السنوات الأخيرة. وكلما ألح الملحون عليَّ لنشر كلام من هذا القبيل واحتجوا كعادتهم بحرية الصحافة، وشبهوا الصحيفة لتسويغ طلبهم بالمركبة الحافلة التي ينبغي أن تتسع لكل راكب وكل مشترك — كان جوابي لهم أنني على استعداد لطبع كلامهم على حدة ولهم أن يطبعوا منها النسخ التي يريدونها ويباشرون توزيعها، ولكنني أنا غير مسئول أن أشترك معهم في عمل لا أرضاه.»

ولا نخاله كان بحاجة خاصة إلى مطبعة خصوصية لطبع رسائله في باريس، فربما كان حكم العادة وحب الصناعة التي شب عليها سلواه في أيام الشيخوخة وباعثه الأول إلى اقتناء المطبعة الخصوصية قبل كل باعث من بواعث الأعمال السياسية أو الأدبية، ولكن مطبعة «باسي» على هذا قد أخرجت له نخبة من الرسائل والنشرات لم تخرج مطابعه الأولى نظيرًا لها أيام الشباب، ولو سقطت هذه المطبوعات من مجموعته الكاملة لاختفى باختفائها أجمل ما كتب من الفكاهة والنقد بعد تهذيب السن وحنكة الشيخوخة والاطلاع.

وفقًا للخطة المقررة.

هذه عبارة شاعت أيام الحرب الأخيرة، في بلاغات القيادات العسكرية، وتعود القراء بعد تكرارها أن يفهموا منها أنها تكتب في البلاغات التي تنذر بالارتداد من غير اعتراف بالهزيمة! فإذا سمعوا خبرًا يبتدئ بالتراجع والارتداد بادروا إلى تمامه متهكمين: نعم. وفقًا للخطة المقررة.

ترى هل كان أصحاب هذه البلاغات من قراء فرنكلين؟

لا نظنهم قرءوه. ولكنه قد سبقهم إلى هذه العبارة وأمثالها، وعود قراءه قبلهم أن يتوقعوا كل حركة كبيرة من حركات سيرته الحافلة، وفقًا للخطة المقررة! وعودهم أن يبتسموا لهذه الخطة التي ترسم كل حركة من حركاته سلفًا حتى حركات الأفكار والأخلاق! ولكنهم يبتسمون هنا لتلك العادة المزمنة التي لا تتغير ولا تذكر إلا مقرونة بأخبار النجاح، فليس في ابتسامتهم المتوالية شيء من التهكم أو السخرية على إخفاء الفشل بالدعوى، بل هي ابتسامات العطف التي ترتفع إلى الشفاه كلما نظر الناظر فرأى أمامه وجهًا قديمًا يطالعه من جديد، ويرجع إليه في كل مرة على ديدنه وهجِّيراه.

قال فرنكلين يصف مقدمات سيرته الطويلة: «إن الذين يكتبون عن فن الشعر يعلموننا أننا لا ننظم شيئًا جديرًا بأن يقرأ إلا إذا رسمنا له من البداءة خطة مفصلة عن مقاصده، وإلا تورطنا في السخف والإطالة، وأراني أعتقد أن هذه الخطة تصدق على الحياة برمتها، خلافًا لمنزعي الأول إذ كنت لا أتبع في حياتي خطة موحدة، ولا أرى الحياة على هذه الحالة إلا شتيتًا من المناظر لا تربط بينها رابطة. وإنني الآن لمقدم على حياة جديدة، ولا بد لي من عزائم أمضي عليها ومسالك في الأعمال أتوخاها؛ كي أعيش من جميع الوجوه عيشة مخلوق عاقل. فليكن لزامًا عليَّ إذن أن أتحرى القصد زمنًا لأبرئ ذمتي من كل زيف، وأن أروض نفسي على قول الصدق في كل موقف، فلا أدع إنسانًا يتوقع من كلامي أملًا لا يتحقق، ولا أحيد عن سنة الإخلاص في كل كلمة أفوه بها أو عمل أعمله، وهي أحب السنن في مناقب العقلاء، وأن أفرغ نفسي بجهد وعناية لكل شاغل أقدم عليه، فلا أنصرف بذهني عنه سعيًا وراء الأمل الخادع في الثروة العاجلة؛ لأن الاجتهاد والمثابرة أضمن وسائل الثراء، وعليَّ ألا أنبس بكلمة مسيئة عن إنسان من الناس ولو في سياق الإفضاء بالحقيقة، بل أحاول أن ألتمس المعاذير لما أسمعه من أخطاء الناس، وأن أذكرهم بالثناء في كل مقام.»٣

وعلى هذا البرنامج سار فرنكلين في حياته الكتابية وحياته الصحفية، فلم يقصر عن غاية كان في وسعه أن يبلغها، وتقدم إلى الطليعة بين كتاب عصره في وطنه وغير وطنه، ونظم من حياته قصيدة لا اختلال في أوزانها على النحو الذي رواه عن فن الشعر في رأي معلميه. ولا ريب أن هذه القصيدة الحية، بل هذه الملحمة الوافية، أبدع قصائده من منظوماته وأناشيده، فلم ينظم من الشعر ما أبقاه أو تركه للبقاء، ولم يطاوع هواه مع عروس الشعر إلا ليستعين بها على حفظ كلمات المنثور أو توقيع الأناشيد في مجلس من مجالس الحبور، فلم تبق له غير قصيدة واحدة ذات قواف متعددة، هي الحياة على هذا الوزن الرتيب، ومن قوافيها المتعددة قافية الكاتب الأديب.

١  المتسبب كلمة يطلقها العامة على الرجل الذي يلتمس الرزق من الحرف المختلفة؛ كالبيع والشراء، والصناعة والوساطة، ولها أصل فصيح إذا ردت إلى التماس الرزق من أسبابه المتيسرة، ولهذا ترجمنا بها الكلمة الإنجليزية التي تفيد هذا المعنى.
٢  Outline History of American Literature by Crawford, Kern, and Needleman.
٣  الفصل الرابع من ترجمة «ڨان دورن».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤