السياسي

يعمل في السياسة اليوم أناس كثيرون كلهم له وظيفة سياسية، وكلهم له عمل غير أعمال الآخرين، وقد يقضي الواحد منهم حياة معمرة ولا يشتغل في السياسة بوظيفة غير الوظيفة التي استعد لها بترتيبه وتعليمه.

فالوزير، أو الزعيم، الذي يقود الرأي العام سياسي، والسفير الذي ينوب عن دولته عند الدول الأخرى سياسي، والحاكم الذي يدير الديوان أو يحكم الإقليم يعد من ساسة البلد، والعالم الباحث الذي يدرس النظريات الاجتماعية ومبادئ الحكم عالم سياسي أو خبير مختص بعلم السياسة.

وهذه كلها أعمال محدودة في العصر الحاضر، لا يختلط واحد منها بغيره، وإن كانت كلها تنتظم تحت عنوان السياسة.

ولكنها لم تكن محدودة في عصر فرنكلين، ولم تكن محدودة في وطنه بصفة خاصة إبان حركة الاستقلال؛ لأن الشعب الأمريكي في ذلك العصر كان يتطلع إلى زعمائه البارزين في كل مشكلة، ويتطلب منهم العمل والهداية في كل موقف، وكان يواجه المسائل والخطوب جملة واحدة بكل ما عنده من قوة وقدرة، فهو يندب الرجل الذي يراه أمامه للمشكلة التي يراها أمامه، وينتظر من الفقيه أن ينفعه في تدبير شئون القتال، ومن المقاتل أن ينفعه في تدبير شئون الحكم، ومن التاجر أن يعمل عمل السياسي، ومن السياسي أن يعمل عمل التاجر، ولا يملك الوقت ولا التنويع أو التقسيم الذي يتيح له أن ينتظر لكل عمل صاحبه ولكل رجل رسالته، فكل مشكلة لساعتها، وللرجل الذي يلفت الأبصار ويقرع الأسماع في تلك الساعة، وهذه هي المحنة التي امتحنت كل معدن من معادن الرجال البارزين فأخرجت في معصرة الشدة خير ما فيه.

وأخرجت من هذا فئة صالحة من الزعماء لا تفوقهم فئة من قبيلها في عهد من عهودها التالية، بعد النهضة والتقدم والاتساع والارتفاع.

وكان فرنكلين واحدًا من هؤلاء الزعماء المدخرين للشدائد في أوقاتها، وللسياسة بجميع مقاصدها: سياسة الزعيم، وسياسة السفير، وسياسة الحاكم، وسياسة الباحث في كل سياسة.

ونجح حيث طلبوا منه النجاح، ولم يخيب الظنون في رجاء يناط به أو ناطته به حوادث الأيام.

في عصرنا هذا قد نترجم السياسي ونلتمس أسباب نجاحه في أوائل نشأته ومبادئ تربيته وتعليمه.

وفي عصر فرنكلين نفسه ربما جاز التماس الأسباب — أسباب النجاح — في النشأة والتربية والتعليم.

ولكننا لا نستغني في عمل من أعمال فرنكلين — خاصة — عن الرجوع به إلى الفطرة الموروثة قبل غيرها، فلم تكن في عصره علوم مقررة وبرامج محفوظة لتخريج الساسة الناجحين في كل ضرب من ضروب السياسة، ولو كانت هناك تلك العلوم والبرامج لما فسرت لنا شيئًا من نجاحه في سياسته؛ لأنه — كما قيل — لم يوجد أحد قط كانت فائدته من المدرسة أقل من فائدة فرنكلين.

ولا بد أن تنظر في تكوينه الفطري، وفيما هو من قبيل هذا التكوين، لتفسير كل قدرة له لم يستفدها من المرانة والتعليم.

ولا يستطيع مترجم له أن ينسى في هذا الصدد قوة البنية التي ورثها من أبويه، فإن قوة البنية أصدق أعوان السياسي في كل عمل من أعماله يتطلب الهدوء واعتدال المزاج، وكل عمل من أعمال السياسي يتطلب النفس الهادئة، والمزاج المعتدل.

وحب النظام خصلة يتعلمها الإنسان في المدرسة وفي تجارب الحياة، كما يتلقاها استعدادًا بالوراثة مع البنية الطبيعية، ومهما يكن من فضل التعليم والتجربة في هذه الخصلة، فلا شك في اختلاف الاستعداد لها بالطبيعة الموروثة، فقد يغني قليل من التعليم والتجربة مع الاستعداد الطبيعي حيث يضيع التعليم الكثير والتجربة الطويلة عبثًا مع فقدان ذلك الاستعداد.

ولقد كانت قوة البنية عونًا لفرنكلين على التنظيم وكابحًا لدوافع الخلل والاندفاع والتقلقل بين رأي ورأي، وبين نظام ونظام، وقال عارفوه — بعد الأربعين على الخصوص: إنهم لم يروه قط في ربكة أو عجلة، وهذه أيضًا عدة من عدد النجاح في السياسة لا يُستغنى عنها، ولا يقدر عليها أحد كما يقدر عليها الرجل المكين البنية المستقر على نظام لأعماله وأوقاته يمنع الخلط بينها والارتباك في البدء بها والانتهاء منها، ويمنع الربكة والعجلة تبعًا لذلك، فلا يفقد طمأنينته، ولا يفقد العاملون معه طمأنينتهم إليه.

ويلحق بالاستعداد الفطري أنه كان عاشر أبناء أبيه، فلم ينشأ نشأة الطفل المدلل، ولا نشأة الطفل الوحيد الذي يقضي أيام الطفولة بعيدًا من أمثاله غريبًا عن شعور الزمالة والعشرة الطبيعية. وفتح عينيه على الدنيا وهو يصاحب أطفالًا أكبر منه وأصغر منه بين إخوة وأخوات من الجنسين، فلم يصعب عليه بعد ذلك أن يسلك مع الناس، وعرف الكبار والصغار في أخص حالاتهم وأعمها معرفة البداهة السهلة والفهم الصحيح. وكان له من كل أخ وكل أخت نموذج مختلف ينوع أمامه طبائع النفوس، فلا تخفى عليه حقائق النفس البشرية على تعدد الأمزجة والطباع.

ولسنا نرى أن المقدرة السياسية كان لها الفضل كله في نجاحه حيث نجح في «وظائفه» السياسية التي لم تنحصر في مجال واحد من مجالات السياسة، فمن قيادة الرأي العام إلى المفاوضة إلى الإدارة والتنظيم إلى مباحث الحكم وفلسفة الاجتماع — كل أولئك كان له فيه أعوان من ظروف الزمن وظروف النهضة الفكرية وظروف المجتمع الأمريكي نفسه في إبان تكوينه قبل الخلاف مع الدولة البريطانية وبعد الاستقلال عنها إلى يوم وفاته.

فالنزاع بين بريطانيا العظمى وفرنسا كان له شأنه في ضم فرنسا إلى جانب الثورة الأمريكية وتحريضها على الانتقام من بريطانيا العظمى لسعيها الحثيث في طردها — أي طرد فرنسا — من أمريكا الشمالية نفسها، وقد كانت رغبة فرنسا في طرد الدولة البريطانية من تلك البقاع لا تقل عن رغبة الأمريكيين الساخطين على حكومة لندن وحكومة المستعمرات.

وهذه معاونة من الظروف لا تهمل في تقدير مساعيه وتقدير أسباب نجاحه، ولكنها إذا وضعت في الميزان وجب أن توضع أمامها عوامل أخرى في السياسة الأوروبية، كانت تميل بفرنسا إلى الحذر والأناة في تشجيع الثوار الأمريكيين، بل كان من هذه العوامل التي تدعو إلى الحذر والأناة أمور ترجع إلى فرنسا داخل حدودها، ولا تمتد إلى ما وراء الحدود في القارة الأوروبية أو القارة الأمريكية، وتلك هي مخاوف القصر والنبلاء من بوادر الثورة الفرنسية التي كانت تهددهم بالنذير بعد النذير حتى قضت على لويس السادس عشر — ملك فرنسا — الذي استقبل في بلاطه فرنكلين.

ومن الظروف التي أعانت على النجاح ما لا يحسب لفرنكلين في ميزان القدرة السياسية، ولكنه يحسب له راجحًا مرجحًا في غير ذلك الميزان، وشهرته العلمية ظرف من أكبر هذه الظروف، وسجاياه المحبوبة ظرف آخر لا يقل في تمهيد الطرق أمامه وفتح الأبواب له عن الشهرة العلمية.

وهنا أيضًا ينبغي أن نعادل بين الكفتين ونضع شيئًا في كل كفة منهما، ولا نقصر المرجحات على كفة واحدة.

هنا أيضًا ينبغي أن نعلم أن الظروف المؤاتية تصادف الساسة في كثير من المهام الكبرى والصغرى ولا يحسنون الاستفادة منها، بل لعلهم يعكسونها ويضيعون فرصتها بالغلطات التي يستغلها الخصوم ويحسبونها في جانبهم من الظروف المؤاتية!

وقد كان خليفة فرنكلين في تمثيل بلاده عند الدولة الفرنسية رجلًا من مشاهير الأمريكيين، بلغ إلى رياسة الجمهورية وعده المؤرخون الأمريكيون والأوروبيون من آحاد الرؤساء النابهين، وكانت له فلسفة سياسية ومبادئ ديمقراطية تدرس الآن بين أصول الحكم الدستوري والحرية الفكرية، وحل هذا الخلف العظيم محل سلفه العظيم فأحس بالعبء الفادح من اللحظة الأولى، وكتب إلى قومه يقول: إنه يحل محله ولكنه لا يغني غناءه، ولم يكن جفرسون ممن يتلطفون أو يمدحون على حساب الحقيقة والعدل باسم التواضع المكذوب.

والظروف المعاونة في استنباط قواعد الفلسفة السياسية تشبه هذه الظروف وأمثالها في مسائل المفاوضة الدبلوماسية. فقد كان أذكياء العصر يرقبون هذه الفلسفة وهي تولد وتترعرع وتنمو مع الحوادث والمطالب الشعبية من جانب الطلاب وجانب المعارضين والمنكرين، وكان له رأي عن التمثيل النيابي وحقوق الدولة في تحصيل الضريبة، وحقوق المحكومين في المحاسبة عليها، وحقوق الطبقات في المساواة أو الامتيازات الموروثة — قضية قائمة مسموعة الحجج من طرفيها منجمة على حسب الحوادث، بل على حسب الأفراد والأقاليم في كثير من الأحوال، وكان صاحب الرأي الفلسفي يعمل «فلسفته» عملًا وينفذها تنفيذًا ولم يكن قصاراه منها أن يقرأها على الصفحات ويناقشها بالبراهين، وكان جو الدولة البريطانية من أقصاها إلى أقصاها يتماوج ببقايا الثورة الدستورية، ويردد الأصداء القريبة التي يسمعها الحاكمون كما يسمعها المحكومون، وكانت فرنسا تتنسم الأنفاس من هذا الجو وتنفثها في صرخات فولتير وزملائه المتمردين المتحفزين، ولم تسمع نظرية واحدة من نظريات الفلسفة السياسية التي شاعت في ذلك العصر، إلا وهي لاحقة بحادثة تؤيدها، أو سابقة لحادثة يوشك أن تتجسم للحس والعيان، وهذه هي النظريات التي تستجيب لها طبيعة فرنكلين ويتقبلها ذهنه ويقيم عليها أفكاره وأعماله في وقت واحد، فليست الأفكار فيها إلا أعمالًا مفسرة، وليست الأعمال فيها إلا أفكارًا مطبقة، أو في انتظار التطبيق.

ويوضع كل هذا في كفتي الميزان حيثما وزنت قدرة فرنكلين ومعونة الظروف في مساعيه السياسية وفي قيادة الرأي العام إلى الفلسفة الاجتماعية، ويوضع في الميزان قبلها وبعدها تقدير واحد ينبغي ألا ينساه من يزن عملًا من الأعمال أو سيرة من السير، وربما كان هذا التقدير سؤالًا يلقيه المؤرخ على نفسه ويجيبه ثم يفترض جوابه المعقول في حساب المسئولين الآخرين: فإذا كان صاحب السيرة لم يعمل عمله بفضل قدرته وحدها دون غيرها، فهل عملته الظروف وحدها بفضل قدرتها دون غيرها؟ وهل كل عامل ينجح مثل هذا النجاح إذا وجد في هذه الظروف؟

إن كانت الظروف لا تغني عن العامل، فذلك هو الفضل الذي يوضع له في ميزانه، وإذا كانت الظروف المؤاتية لا تنقطع عن الدنيا ولا تتجرد منها حادثة من الحوادث العظمى، فهي لا تعلو ولا تهبط بكفة ميزان.

كانت قيادة الرأي العام من «وظائف» السياسة العامة التي نهض بها فرنكلين أو أنهض لها — على الأصح — لأنه لم يطلبها بأدواتها ولم تكن لديه أدواتها في البلاد التي تنال فيها قيادة الشعب بالتأثير في الجماهير. فلم يكن خطيبًا يملك عواطف السامعين ويثيرها ويلعب بها على هواه، ولم يكن من عاداته أن يسرف في الوعود، وأن يقول ما لا يعمل ولا ينوي أن يعمله ساعة الوعد به في ساعة من ساعات الحماسة وهياج الخواطر والأفكار، ولم تكن الحماسة من طباعه في علاقة من علاقاته بالناس خاصة أو عامة ومهتاجين أو هادئين، وكان فصيحًا مبينًا في الإعراب عن رأيه والإقناع بحجته وشرح أفكاره التي استقر عليها والتي لا تزال بين التردد والاستقرار، ولكن هذه الفصاحة المبينة ليست بالعدة الماضية في قيادة الجماهير من منصة الخطابة، وليست على الأخص بالعدة الماضية في عصر النزاع واضطراب الأهواء وجماح المطالب إلى غير وجهة ثابتة يتفاهم عليها القادة والمفكرون فضلًا عن الأتباع المنقادين بغير تفكير.

فلما نهض فرنكلين بقيادة الرأي العام أنهض لها على الأصح من غير سعي لها وغير تدبير مقصود للوصول إليها، اللهم إلا أن نحسب نتيجة عمله غاية مقصودة يناط بها التدبير.

فقد كانت ثقة الناس به من نتائج شهرته بالتقويم السنوي الذي سماه تقويم ريتشارد المسكين وكاد يحمل اسمه والإعجاب به إلى كل بيت في الولايات، وكانت هذه الثقة في موطنه وبين عارفيه من نتائج الاطمئنان إلى حسن إدارته وأمانة يده وضميره، ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الشدائد والأزمات بما يلائمها من الرأي الحاضر والفكر الهادئ والتصرف المريح الذي يرتضيه أطراف الخصومة بعد سكون الزوبعة وانقضاء النزاع والخلاف.

ولم يحاول قط، ولا كان في قدرته، أن يثير الجماهير بفصاحة الشارع وارتجال الدعوى الكاذبة التي لا تسأل عما تقول ولا يذكرها أحد بما قالت ولا يذكر أحد ما سمع منها بعد حينه، ولكنه كان يقدر على ما هو أصعب وأخطر في مخاطبة الجماهير: كان يقدر على تهدئة الجماهير الثائرة، وهي قدرة لا طاقة بها لأقدر الخطباء على إثارة الجماهير الهادئة، وكانت عدته النافعة في هذه المواقف رباطة جأشه وطيبته المرتسمة على سيماه ونظرته الأبوية التي تعدي الناظرين بما يقابلها، فلا يملكون إلا أن ينقادوا له طائعين، كما ينقاد الأبناء للآباء.

ومن هذه المواقف الثائرة أن بعض الأغرار على الحدود سمعوا بمعركة بين السكان البيض، والهنود الحمر فهجموا على قبيلة من القبائل الهندية للاقتصاص منها، وفر أبناء هذه القبيلة وبناتها إلى فلادلفيا يحتمون بها من مطاردة الناقمين المتعطشين إلى الثأر والانتقام، فثار بهم غوغاء فلادلفيا وتعقبوهم في الطرقات ليفتكوا بهم وينتقموا منهم على السماع بغير تمييز بين المعتدين والمسالمين، وطلب الحاكم من فرنكلين أن يقمع الفتنة بفرقة من الجند الرديف، فلم يعمل فرنكلين بالأمر وآثر التجربة بالحسنى قبل الوثوب إلى السلاح، وذهب إلى الثائرين منفردًا أعزل لا يحمل في يده شيئًا حتى عصاه، وكانت رؤيته كافية لتوقف الجمهور الهائج في ثورة غضبه للإصغاء إلى الأب فرنكلين، وكتب هو عن هذا الحادث إلى صديق له في لندن يقول: «في خلال أربع وعشرين ساعة كان صديقك القديم جنديًّا ومستشارًا ودكتاتورًا على نوع ما وسفيرًا إلى الغوغاء. ثم عاد إلى منزله نكرة كما كان.»

وبهذا الوقار على أسلوب آخر كان يؤدي أمانة القيادة بين كبار القادة من فطاحل الزعماء، فلما عهد إليه مع فئة من هؤلاء الزعماء أن يكتب إعلان الاستقلال لم يرض عن كلمة جفرسون التي قال فيها عن حقوق الأمريكيين «أنها مقدسة لا تنكر» واقترح بديلًا منها «إنها ثابتة بذاتها» لأن القول بأنها لا تنكر لا يطابق الدقة العلمية مع وجود من ينكرونها ويقاتلون في سبيل إنكارها، ولأن القداسة في الحقوق العامة قد ابتذلت بدعوى الملوك الذين يزعمون أنهم يتلقون السلطان من السماء، ودعوى رجال الدين الذين يزعمون أن القداسة مستمدة منهم، وقد يتسللون من وراء هذه الكلمة إلى المطالبة بالرقابة على حقوق الشعب «المقدسة»، فكانت قيادته للأمة لا تستغني عن وقار تفكيره بين الدهماء ولا بين الزعماء.

والسياسي المفاوض يلي السياسي الزعيم في القدرة والخبرة بأساليب المفاوضة في كل ظرف من ظروفها، وهي تلك الظروف التي تتناقض بين يوم ويوم، وبين خصم وخصم، وبين قضية وقضية.

فتولى المفاوضة في بلده بين البيض والهنود الحمر، وبين أبناء الولايات وأبناء كندا الفرنسية، وتولى المفاوضة في إنجلترا نائبًا عن بعض الولايات الأمريكية.

وتولى المفاوضة في فرنسا ليستعين بها على مقاومة بريطانيا العظمى، ويعقد معها معاهدة تعترف فيها باستقلال الولايات، وتسجل لهذه الولايات كيانها «الرسمي» في عالم السياسة الدولية.

وكانت عدة «السياسي المفاوض» لديه أكمل من عدة السياسي الزعيم أو السياسي الذي يقود الجماهير بالأقوال والوعود.

كانت المسالمة طبيعة فيه، وكان من مبادئه «العلمية» صيانة الجهود عن التبديد، فلا يقدم على نضال يستطاع اجتنابه بوسيلة من وسائل التراضي، أو حيلة من حيل المجاملة والتفاهم على أواسط الأمور، وعنده أنه «لا حرب حسنة ولا سلم سيئة»، بل السلم خير من الحرب ما دامت المسالمة تغني عن القتال.

وفاوض الهنود الحمر فنجح؛ لأنهم يحسون منه دخيلة شعوره في مسألة الفوارق بين الأجناس، وقد كان يقول: إن الفتك بأبناء قبيلة هندية انتقامًا من أبناء قبيلة أخرى جور قبيح كانتقامنا من الهولنديين مثلًا لعدوان يصيبنا من الفرنسيين واعتذارنا من ذلك بأنهم «كلهم بيض الوجوه».

ولم يسمع الهنود منه هذا الرأي، ولكنهم كانوا يحسونه من شعوره ومعاملته، وإيثاره للتراضي والمصافاة.

ولما ذهب للمفاوضة في إنجلترا كان في رأسه كل حل وكل محاولة قبل القطيعة وإعلان العداء.

كان في ذهنه أن تتعاون أجزاء الإمبراطورية على نمط «الكومنولث» الذي اهتدى إليه الساسة البريطان بعد الحرب العالمية الأولى، وكان في ذهنه أن تختار للإمبراطورية عاصمة في الولايات تتبعها الجزر البريطانية، كما تتبعها الولايات الأمريكية وغير الأمريكية، وكان في ذهنه أن تنفض الخصومة بتقرير حقوق الهيئات النيابية في كل بلد، وتقرير حقوق التاج على المساواة بين الجميع، فلا يكون لبرلمان إنجلترا حق في فرض الضرائب مع وجود البرلمانات المحلية، ولا يشترك التابعون للتاج في هذه المساواة.

وهذا المفاوض الذي كان من طبعه أن يذهب مع المفاوضة إلى الحد الأقصى، لم يكن يذهب بها إلى غير حد ولا نهاية، فلما جاء العدوان في بلده من الهنود الحمر وظهر من العدوان أنه استضعاف وسوء فهم لمعنى المسالمة والمداراة، كان هو المقاتل المصر على القتال إلى أن يتبدد هذا الفهم وتزول من نفوس المعتدين مظنة الاستضعاف. ولما فتح كل باب للمسالمة مع الساسة البريطان ويئس من كل حل وكل حيلة، كان هو في طليعة الدعاة إلى المقاومة بالسلاح وعلى رأس العاملين على توفير الأسلحة وتجنيد الفرق واتخاذ الحيطة في مواضع الهجوم والدفاع.

أما المفاوضة في فرنسا فقد كانت في نصف الطريق أكبر مجازفة، وكانت في النصف الآخر أكبر نجاح.

برح الديار الأمريكية سرًّا في السادس والعشرين من شهر أكتوبر (١٧٧٦) مع ثلاثة من الزعماء لمفاوضة الدولة الفرنسية في عقد معاهدة مع الدولة الأمريكية المستقلة تمهد لغيرها من المعاهدات مع الدول الأخرى، وتبدأ الاعتراف بالدولة المستقلة الجديدة في المعاهدات الدولية، وكان سفره على سفينة صغيرة لا تحتمل زعازع المحيط الأطلسي في تلك الآونة، وأخطر من زعازع المحيط الأطلسي رقابة الأسطول البريطاني على السفن التي تفارق الشواطئ الأمريكية، ومن عسى أن يكون فيها من الثوار العاملين في خدمة الثورة ومناجزة الدولة الحاكمة، ولا خفاء في الجزاء الذي ينتظر فرنكلين لو وقع في قبضة الأسطول المنتشر في عرض البحار، فإنه لا ينجو من الشنق بتهمة الخيانة العظمى قصاصًا منه وعبرة لأمثاله، وما كان هذا الجزاء الرابض له ليخفى عليه قبل سفره، فقد كان جون هانكوك Hancock يوقع إعلان الاستقلال ويقول والقلم في يده: «علينا يا صحاب أن نتعلق جميعًا بعلاقة واحدة» وهي عبارة باللغة الإنجليزية ترادف الكلمة العربية التي تعبر عن هذا المعنى «بالاعتصام» بحبل واحد، فقال فرنكلين: نعم، وإلا تعلقنا بحبال كثيرة متفرقين!

سافر من بلاده في السبعين وهو يعلم هذا الخطر الذي يترصد له في الطريق، ولكنه لم يصل إلى «نانت» ليهدأ بعض الشيء على أثر هذه الرحلة المقلقة في السفينة المضطربة حتى أحس طوالع النجاح بعينيه، وعلم أن الحفاوة التي سيلقاها من الأمة الفرنسية تفوق كل ما خطر على باله وبال أصحابه، وانقضى اليوم السابق لدخوله باريس دخول الفاتحين في التساؤل عن الموعد وعن الطريق والتسابق إلى أقرب الأمكنة لرؤية السفير المنتظر، فلم يبق رجل ولا امرأة من المشتغلين بالسياسة والمطلعين على أخبار الثورة الأمريكية، إلا خف إلى طريق من الطرق التي قيل: إنه سيعبرها إلى مقره أو إلى البلاط، وأقبل «الدكتور» في قبعته الفرو المعهودة والكساء الساذج يحيي المستقبلين على جانبي الطريق بابتسامته الطيبة ونظرته الوديعة في غير إكثار من الإيماء والحركة، وغزا المجتمع الباريسي من اللحظة الأولى، ولا سيما مجتمع العلية وذوي الثقافة من أقطاب الآداب والفنون، وكان العصر عصر التنافس بالأندية، أو الصالونات، فكانت السعيدة من عقيلات النبلاء من تظفر بزيارة من «الدكتور» ومن تضمن دعوة الضيوف الكبار لمحادثته عندها حين تشاء، وساعدته الشهرة السابقة والقدرة السهلة على كسب الأنصار والأصدقاء من ذوي الجاه والمنزلة العالية بين قادة الآراء، وعلم أن هذا النجاح الأدبي غنيمة لا يستهان بها كائنًا ما كان موقف البلاد والدواوين الرسمية، ولكنه كان يعلم من باطن هذا الموقف أنه يناصره، ويتمنى له التوفيق، وأنه — مع التحفظ الشديد في الظاهر — يملي له ويعينه في الباطن ويستمهله فترة من الزمن ريثما تسنح الفرصة التي يرتقبها الساسة المسئولون، فيعلنون الاعتراف بالدولة الجديدة آمنين عاقبة العداء الصريح للدولة البريطانية، فإن هذه الدولة نفسها ستعترف لا محالة بالحكومة الثورية متى يئست من قهرها وإكراهها على الخضوع.

ولم يأت هذا الأمل المرتقب بغير عناء وبغير شك وبغير تردد مخيف بين الأمل الضعيف في النصر، والخوف القوي من الهزيمة. إلا أن السفير المتفائل لم ينقطع قط عن الرجاء وعن بث الرجاء في قلوب المتشائمين، ولم يتخذ له الجواب السريع في حالة من حالات الشك والحيرة، أو حالة من حالات الهزيمة الظاهرة التي تلجم الألسنة وتبلبل الأذهان. فلما قيل له يومًا: ما الخبر يا دكتور، إن هاو Howe قد أخذ فلادلفيا، لم يلبث أن أجاب على الأثر: عفوًا ياسيدي؛ إن فلادلفيا هي التي أخذت هاو.
ثم وصل الخبر المرتقب بعد عام، وانهزم الجنرال برجوين في ساراتوجا تلك الهزيمة المنكرة التي تقرر بعدها مكان الدولة الحديثة، وكان وصول الخبر إلى باريس في الرابع من شهر ديسمبر ودعوة الوزير فرجين Vergenne وزير الخارجية الفرنسية لسفير الثورة الناجحة بعد يوم واحد من وصول الخبر، وطلب الوزير في هذه المرة فتح باب الكلام في المعاهدة، فأرسل فرنكلين نصوصها إليه بعد يوم، ولم يأت شهر فبراير حتى كانت المفاوضة كلها مفروغًا منها، وكانت المعاهدة معدة للتوقيع، فسميت معاهدة التجارة والتحالف، واشتملت على الاعتراف باستقلال الولايات، وعلى التعهد بالاتفاق على مقاتلة بريطانيا العظمى والاستمرار في القتال إلى أن يتفاهم الفريقان على قبول الصلح، ولا يعقد أحدهما صلحًا مع بريطانيا على انفراد.

وأقام فرنكلين أيامه بفرنسا خلال الحرب محفوفًا بالأصدقاء والمعجبين من صفوة السادة والسيدات، وكان قصر «باسي» الذي أقام فيه قبلة القصاد من الأدباء والساسة المقيمين بالعاصمة الفرنسية والوافدين إليها من الأقاليم أو الأقطار الأوروبية، وأقل من هذه الحفاوة الشاملة يثير حسد الحساد، ويوغر صدور النظراء والأنداد، ولكنه نجح هنا نجاحه الذي لم يسعد به قط عظيم ناجح مشهور، فكان نصيبه من حسد الحساد أقل نصيب، وكانت سقطاته التي عدوها عليه أهون السقطات.

من هذه السقطات أنه لم يحترس كما ينبغي أن يحترس من الجواسيس والعيون، وأفرط هنا في سجية السماحة وكراهية التضييق، وأخذ الأمور كلها على هينة وميل إلى المغفرة والاعتذار، وتفلسف بهذا التهاون كأنه يقصده ولا يقع فيه على غير علم وانتباه. فكتب إلى صديقته جوليانا ريتشي يقول: أتراني لو تحققت من تجسس خادمي أستغني عنه لهذا السب إذا كنت راضيًا عن خدماته الأخرى؟ ولا جرم تتسرب الجاسوسية إليه من هذه الثغرة، ويثبت بعد ذلك أن مساعده المقيم معه في الدار — إدوارد بنكروفت — كان في خدمة الحكومة البريطانية لنقل أخباره ومراسلاته ولو لم تكن على صلة بالسياسة والمفاوضات الحكومية، ويشاء الحظ الحسن لهذا الرجل المجدود أن تكون معاذيره على الدوام راجحة على سيئاته في أظهر السقطات. فكم له من معذرة ظاهرة في هذه السقطة التي لا مراء فيها؟ لقد كان من معاذيره أن الجاسوسية لم تضره، ولم تضر دولته في كثير ولا قليل، وكان من معاذيره أنه يريد أن يعرف العالم أجمع أن قضيته بينة جلية كالشمس في رائعة النهار، فلا حاجة بها إلى تقية أو مداراة، وكان من معاذيره أنه عامل نفسه كما عامل دولته في هذه السماحة التي جاوزت حدودها بغير مراء، لأنه لم يكن يأمن على حياته، ولم يكن ثمة خطر على مصالح دولته أعظم من الخطر الكبير الذي كان يتربص به حيث أقام وحيث سار أيام تلك السفارة، ومن الحظ الحسن ولا ريب أن تحسب للإنسان المعاذير كلما حسبت عليه أمثال تلك السقطات.

ويستوفي هذا السياسي الزعيم والسياسي المفاوض وظائف السياسة العامة بآرائه في شئون الحكم وقضايا الاجتماع، وهي آراء لا تحيط بالمسائل والقضايا إحاطة المذهب الجامع للقواعد والفصول، ولكنها تعرض علينا حلًّا عمليًّا لكل مشكلة أو فكرة تجريبية عن كل واقعة، ويؤلف منها الباحث مذهبًا مجملًا إذا أراد أن يعرضها معرض الترتيب والتبويب.

ولا حاجة إلى القول بغلبة الفكرة الديمقراطية على كل رأي من آرائه في الحكم وفلسفة الاجتماع والسياسة، فربما كانت الديمقراطية شعورًا عنده قبل أن تكون تفكيرًا ودراسة، وقد كان أخوه — صاحب الصحيفة التي نشر فيها كتابته الأولى — ثائرًا متطرفًا، وأوشك أن يعاقب بالسجن الطويل على حملاته العنيفة، وكانت السخرية بالألقاب من أوائل الآراء التي نشرها الصبي فرنكلين باسمه المستعار بين الخامسة عشرة والعشرين، وكان من سخرياته في مسألة الألقاب أن يتخيل أسماء التوراة مصحوبة بألقاب النبلاء كاللورد آدم، واللادي حواء، والبارون أرميا، والكونت حزقيال، وكان يقول بعد نضجه وتقدمه في تجارب الحياة أن الحسب الموروث لا يورث الخير ولا الإنصاف، وقد كره ازدواج المجالس التشريعية؛ لأن المجلس الأعلى في رأيه إنما يختار لتغليب سلطان الأغنياء على المجتمع، وهو لا يكره الثورة ولا يعارض حقوق الملكية، ولكنه يكره سيادة الطبقة الغنية على سائر الطبقات، ويؤمن كل الإيمان بوجوب حرية التجارة وإطلاق القيود للمعاملات؛ لأنها لازمة للحضارة الإنسانية لزوم حرية الفكر أو هي ألزم لها في جملة أحوالها، ولكنه على هذا الإيمان القوي بحرية المعاملة، كان يرى من حق المجتمع أن يشرف على تنظيم الملكية واقتناء الثروة؛ لأنها كلها من صنع يديه، فليس في طاقة الفرد إذا انفرد بنفسه أن يحرز ملكًا مصونًا يزيد على ضروريات المعيشة الموقوتة، فإذا أحرز شيئًا يزيد على ذلك فإنما يحرزه بفضل المجتمع وضماناته الطبيعية أو الموضوعة، فلا يحق له أن ينكر على المجتمع سلطان الإشراف على التنظيم والتشريع في هذه الأمور، وإنما يشترط لذلك أن يكون كل حامل عبء من الأعباء الاجتماعية شريكًا مسموع الرأي في شرائع التنظيم.

وليس إنكاره لسيادة العلية الغنية إنكارًا لرياسة العلية التي ترفعها إلى مكان الزعامة فضائل العقل والأخلاق، بل هو يذهب في الإصلاح الاجتماعي مذهب كنفشيوس الذي يقول بإصلاح الرؤساء وهم قدوة طبيعية للأتباع والمرءوسين، وقدوتهم هذه هي التي تخلق العرف وتروض السواد على اتباعه وتجعلهم على حسب المعهود من عاداتهم يحذرون الخروج على العرف أشد من حذرهم دخول الجحيم حيث يلقون العقاب على الخطايا والذنوب.

وتكاد عقيدة المساواة الديمقراطية تكون عنده إنسانية عامة لا يخصصها بوطن ولا قوم ولا قبيل، فلما لاحظ أن العبيد المحررين ظلوا في حياة الحرية فقراء يحترفون الحرف الوضيعة عقب على ذلك قائلًا أنه لا يعتقد أن العيب أصيل في الطبيعة أو دائم لا يتغير بتغير الأحوال، وإنما يرجح أنه من نقص التعليم والمرانة، وأن الزنجي ذو ملكات حسنة واستعداد كامن للفنون، ولذلك يحذق الموسيقى ويبرع فيها، ولو تعلم فنًّا غيرها لما قصر فيه.

ومن رأيه — بل من آرائه الكثيرة — أن الرق مفسدة للمجتمع الذي يشيع فيه؛ لأنه يركن بالسادة إلى الكسل، ويغري الأطفال بالكبرياء والتجبر في الأسر التي تملك الرقيق، وقد أوصى بالاعتماد على العمل المأجور، وتنبأ بشيوع ارتفاع الأجور في العالم تبعًا لارتفاعها في الولايات الأمريكية بعد إلغاء الرقيق.

وكان من رأيه أن العمل هو معيار الثروة، فليس الذهب والفضة معيارًا ثابتًا لها؛ لأنهما سلعة تتقلب بها الأسعار كما تتقلب بسائر السلع، وإنما تقاس ثروة الأمة بمقياس الأعمال التي تحصل عليها، وليست هذه الأعمال وقفًا على الصناعات البدنية وما إليها، بل هي تشمل أعمال الحضارة بأجمعها، وكلما اقتدر المجتمع على توفير تلك الأعمال كانت قدرته هذه مقياسًا لغناه.

ولهذا كان يشجع إصدار عملة الورق ويقول: إنها رمز للعمل وإن الأغنياء يعارضونها لأنهم يملكون الذهب والفضة، ويحبون أن يقيسوا الثروة بمقياس ما يملكون.

ولا يعادي فرنكلين صناعات الترف؛ لأنها على اعتقاده حافز للهمم، وسبيل إلى دوران الثروة بين العاملين والمترفين، ورب شلن يخرج من يد أحمق يذهب إلى يد عاقل أحق منه باقتنائه، فيستفاد منه في الحالتين، وأفضل من الصناعة في قياس الفائدة على العمل أن تقوم الثروة في أساسها على المحصولات الزراعية والعمال الزراعيين.

وكان إيمانه بحق الحكم يقوم على قاعدة واحدة وهي التي نسميها اليوم قاعدة تقرير المصير. فإذا نفرت الأمة من حكومة وطالبت بحكومة غيرها، فلا حاجة لها إلى سند غير هذا الطلب، ومن ثم سخريته بدعوى الدولة البريطانية أنها صاحبة الحق الذي لا ينازع في حكم الولايات المتحدة؛ لأن الأكثرين من أبنائها رعايا بريطانيون ينتقلون إلى تلك الولايات، ولأن الدولة البريطانية تولت حماية الولايات من عدوان فرنسا المجاورة لها، فكتب رسالته الساخرة بلسان ملك بروسيا وجعل ذلك الملك يدعي مثل ذلك الحق على الجزر البريطانية؛ لأن سكانها رعايا جرمانيون انتقلوا إليه وحكمهم فيها أمراء من الجرمان، وتولت بروسيا حمايتهم بقمع فرنسا ومحاربتها الحين بعد الحين!

وقد كانت مبادئه الدستورية والقانونية تتسم بسمة يستطيع القارئ أن يقدرها بغير اطلاع عليها؛ لأنها سمة الاعتدال والسماحة واجتناب الشطط في الأحكام وإلقاء الفروض والتكاليف على عواتق الناس، فكان ينكر العقوبة التي تجاوز قدر الجريمة في الضرر أو قدرها في الضلالة وسوء الخليقة، وكان يؤثر في الدستور قلة القيود والموازنات، ولكنه لم يعلن مخالفته للمبادئ التي عارضها؛ لأنه وازن بين دستور يصدر بالإجماع، ودستور يؤيده فريق ويخالفه فريق ولو في سبيل التصحيح والتنقيح، فرجع عنده أن الإجماع على الدستور أجدى وأثبت لدعائمه من إعلان المخالفة له في خطواته الأولى على الخصوص.

وإذا كان هذا رأيه في حسم الخلاف على الرأي، فحسم الخلاف الذي يريق الدماء أحق منه بالجهد والحيلة؛ لأنه كان يسمي الحرب لصوصية وغيلة، وهكذا كان برنامجه الداخلي في سياسة الولايات، وعلى هذا البرنامج استقامت أعماله في كل سياسة داخلية أو خارجية ترتبط بالأمم الأخرى، ومن عجائب دقته في تقدير الأمور بأحوالها وأزمانها أنه تنبأ عن عصبة الأمم، وأن العالم ربما شهد بعد مائة وخمسين أو مائتي سنة هيئة يجتمع فيها المندوبون عن دول أوروبا جميعًا لفض المشكلات وتوطيد السلام، وكان باينز Baynes، وروملي Romilly في شبابهما قد زاراه سنة ١٧٨٣ وتحدثوا في مساوئ الحروب العالمية فقال فرنكلين: إنه يظن أن إقناع الملوك بإرسال مندوبيهم إلى مكان واحد لا يزال عسيرًا، وإنهم مع الصبر قد يتفق بعضهم على منع العدوان، ويرى الآخرون نفع هذا الاتفاق فينضوون إلى الهيئة شيئًا فشيئًا، ولا يبعد أن تضمهم الهيئة الواحدة أجمعين بعد مائة وخمسين سنة أو مائتين.١
وله غير هذه الآراء في مذاهب السياسة والاجتماع خطرات متفرقة بين الرسائل والأحاديث. أما أكثرها فقد ورد مشروحًا أو مقتضبًا في رسالته عن العملة الورقية ورسالته عن زيادة السكان وتعمير البلاد: Observations Concerning the Increase of Mankind and the Peopling of Countries.

ومسحتها الغالبة عليها هذه النظرية العملية التي تتقبل التطبيق والتنفيذ في حينها أو بعد حين، اللهم إلا خاطرة واحدة أوشكت أن تسلكه في عداد الطوبيين الأفلاطونيين، وتلك هي استغناؤه عن الأحزاب السياسية بتأليف حزب واحد من الشبان العزاب يسميهم حزب الفضيلة ويدربهم على نظام خاص يشبه نظام الماسونيين واليسوعيين، ويرجو منهم لخير المجتمع ما لا يرجى من سائر الأحزاب.

والأداة التامة في الوظائف السياسية إنما هي أداته في أعمال التنفيذ والتطبيق، وهي التي تعرف الآن باسم الوظائف الديوانية ويفرق المعاصرون بينها وبين السياسة فيسمونها بالإدارة Statesmanship أو بولاية الحكم Administration ولا يعتبرونها من وظائف السياسة في الصميم فهي على الأقل شيء غير الدبلوماسية، وغير البوليطيقا، وغير عمل السفير وعمل الوزير وعمل الزعيم المطالب بقيادة الجماهير.

وحيثما كان هنالك تدبير للتنفيذ العملي، فصاحبنا في عنصره على تعبير الغربيين، أو في مجاله ومعدنه كما نقول نحن الشرقيين.

وليكن ذلك التدبير من صناعته أو غير صناعته، ومن مألوفاته قبل ذلك أو غير مألوفاته، فما دام في وسعه أن يعرف ما هو العمل المطلوب ففي وسعه أن يعرف ما هي وسائل التنفيذ، وأن يدبر هذه الوسائل أصح تدبير.

والإدارة خطة وتنفيذ، وليس أطبع من ذهنه على وضع الخطط وترتيب الأعمال، ثم على تنفيذها بالأدوات اللازمة لها بغير إسراف وبغير إهمال.

وأكثر ما يصاب المديرون بالفشل من عجزهم عن الانتفاع بأدوات التنفيذ حين تكون هذه الأدوات من الآدميين!

فليس أكثر من المديرين الذين يستخدمون الوسائل الآلية ويحاولون أن يعاملوا المشتغلين معهم من الآدميين معاملة الآلات.

ولكن فرنكلين كان يحفظ هذه الأدوات الحية جيدًا، ويعرف كيف يسلك معها وكيف يسلك بها في طريقه، ولهذا كان يفلح في كل إدارة تحتاج إلى التنفيذ بالأدوات الآدمية، ولو لم تكن من صناعته ولا من سوابق عمله كإدارة معارك القتال.

أراد الجنرال برادوك Braddock قبل كارثته الحربية في موننجهيلا Monogahela أن ينقل معداته في مائة وخمسين مركبة، وظن أن المسألة كلها مسألة أمر للفلاحين وسوق للمركبات بالخيل، وعنده الأمر وعنده من يسوق، فلم يحصل بعد الجهد الجهيد على أكثر من خمس وعشرين مركبة، وفزع إلى فرنكلين فحصل له على المركبات المطلوبة كلها بخيولها قبل انقضاء أسبوعين.

وتحدث الجنرال وفرنكلين في «الخطة» الحربية، فحذره فرنكلين من مفاجآت الكمائن ونبهه إلى قلة جدوى الخطط النظامية في اتقاء هذه المفاجآت مع امتداد خط القتال، فسخر منه الجنرال وقال له: «إن هذا الحذر ضروري للكتائب التي تقودونها من الجنود المرابطة، ولكن هؤلاء الهمج لا ضير منهم على جنود الملك المنظمين.»

ووقعت الكارثة فبادت الفرق التي كان يقودها وقتل ثلاثة وستون ضابطًا من تسعة وثمانين، وأدرك فرنكلين الخطر الداهم، فجند من السكان نحو ستمائة للدفاع عن الحدود وإقامة المتاريس، وأصاب في القيادة حيث أخطأ القائد المغرور، ولم يغفل عن عمل لازم في أشد أيام الشتاء وقد ناهز الخمسين، وكان الجنود والسكان يسمونه الجنرال فرنكلين، ثم أبى جنوده بعد عودته إلى فلادلفيا أن يفارقوه حتى يؤدوا له التحية عند منزله، وصحبوه — كما قال في ترجمته — إلى الباب، ثم أعلنوا تحيتهم بالطلقات النارية في الهواء، فهزت الدار، وحطمت أجهزة الكهربا وهي من زجاج!

وإذا كان مقام الكلام عن الخبرة باستخدام الأدوات حين تكون هذه الأدوات من الآدميين، فليس ما ينسى في هذه الحملة نفسها مشورته على الواعظ الذي شكا إليه إعراض الجنود عن حضور الصلاة والاجتماع للدعاء، وكان من جراية الجنود أقداح من شراب الروم للتدفئة في الشتاء القارس، فلما سمع شكوى الواعظ المكروب وأشفق عليه من خوفه للهزيمة بعد هذا الإعراض، تبسم مطمئنًّا للواعظ الخائف وقال له: لا عليك من إعراضهم، خذ على عاتقك توزيع جراية الشراب ولا توزعها إلا بعد أداء الصلاة، فلم يتخلف بعدها جندي واحد عن موعد الصلاة!

وهذه الخبرة بالإدارة في الشئون التي لم يتدرب عليه، تغني عن الإفاضة في دقائق التنظيمات التي كان يبتدعها باجتهاده كلما أدار عملًا من الأعمال التي يتصدى لها أمثاله ولا تستغرب من مدير مطبعة أو مدير صحيفة؛ لأنها جميعًا أعمال من نمط واحد، ومنها تنظيم البريد، وتنظيم الإضاءة في المدينة، وتنظيم فرق المطافئ، وتنظيم مكاتب الهيئات النيابية والهيئات العلمية التي أسهم في أعمالها، فكل أداة لازمة لهذه التنظيمات فهي على متناول اليد من تفكيره وسجاياه؛ فهم صحيح، وتقسيم متقن، وتنفيذ مرتب، وخبرة باستخدام الأدوات الحية والأدوات الصناعية على السواء.

«سياسي بالطبع» إذا صح هذا التعبير. والسياسي بالطبع يصنع السياسة على يديه، ويصنع لكل ساعة سياستها التي تمليها الحوادث عليه.

ولا يختم الكلام عن فرنكلين السياسي قبل أن يقال: إن بلاده قد أصبحت أمة متحدة بفكرة جريئة واسعة هي فكرة الاتحاد، وقد كان فرنكلين صاحب الدعوة الأولى إلى هذا الاتحاد.

١  الجزء الأول من كتاب علماء أمريكا المشاهير لمؤلفه «كروثر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤